الشاعر أديب كمال الدين ل"أوراق ثقافية":

 

أبحث بأصابع دامية عن نهاية

لضياعي وسط الظلام

 

حوار: محمد غازي الأخرس

 

 

ثمة بين الشعر والتصوف خيط واهٍ، أحدهما فناء في الجمال والآخر فناء في الحق. ورغم هذا الفصل التعسفي الذي يحتمه تاريخ الخطابين وهما خطابان يظهران وكأنهما منفصلان دائماً، رغم هذا  الفصل فإنّ الخطابين ظلا دائماً عرضة لمحاولات الدمج في خطاب جمالي واحد، غير أن هذا الدمج كان يحمل جينات قصوره الذاتي المتأتية من أن الشاعر الذي يتلبس خطاب المتصوف وإنما يتلبسه لغة ورؤى فقط دون أن يتحول إلى ذات عارفة

الشاعر أديب كمال الدين  يطرح تجربة مختلفة يغاير بها تلك المحاولات السابقة، إذ انه، منذ الثمانيات، سلك سلوكاً عرفانياً عملياً غاص به في أعماق هذا العالم الجمالي والمعرفي المثير،  فنتج عن هذا السلوك تجريب شعري متماه مع هذا العوالم الباطنية المؤسطرة، كان ديوانه (جيم) أولاً عام 1986 حيث أفاد من القرآن الكريم  لغةً ورموزاً وإيقاعاً، ثم صار للحرف ملكوته السريّ في ديوان (نون) عام 1993 . في الأخير جاء ديوانه (النقطة)  عام ليعيد الانتباه لعوالم كمال الدين الشاعر والعارف، والذي انشغل كل الانشغال بهمه الشعري دون أن تأخذه هموم أبناء جيله. ما يجدر ذكره هنا أن للشاعر ديوانين آخرين سبقا هذه التجربة: ففي عام 1976  نشر (تفاصيل) وفي عام 1981 نشر ديوانه (ديوان عربي). من الحرف وملكوته السري إلى قصيدة النثر وانزواء الشاعر عن أبناء جيله وانتهاء بدور المؤسسة  الثقافية  في ابراز وتهميش الانماط والشعراء كان هذا الحوار الممتع والمفيد مع الشاعر أديب كمال الدين 

بدءاً نقول: ترى هل أثرت مفاهيم العرفان والتصوف في اتجاهكَ نحو إلغاء اللغة في رمزيتها؟ لنصل، من ثم، إلى سؤال يقول: هل جاء الحرف في تجربتكَ كنايةً عن الحق؟

 

نعم، كان الحرف كناية عن الحق والتحاماً بنوره ورقصاً تحت سماء نجومه وشموسه، ومحاولة لا تنتهي لمعرفة سرّه، وفي الحرف وفي كينونته التي  تتماهى مع كينونة العربي، لأنّ معجزة العربية كلّها، لغةً وحضوراً وشخصية، جاءت من الحرف العربي، من معجزة الخالق المصور، المعجزة  الدائمة (القرآن الكريم). في هذا العنوان مارست شعريتي عبر مستويات الحرف التي ينتمي إليها حامل المعجزة: المستوى الروحي، الخارقي، التراثي، الطفولي، الإيقاعي، الأسطوري، الدلالي، القناعي، الطلسمي، التشكيلي، السحري، الترميزي

 

أيعني اتجاهك نحو تأويل حقيقة الحرف العربي، بشكل ما، اتجاهاً مضاداً لتغييب حقيقته الظاهرية، أي هل أن اتجاهكَ نحو التأويل الباطني للحرف يعبر عن رؤية عدمية لظاهريته؟

 

ليس بهذه الصورة تماماً، فالانزياح الشعري المتحقق عندي يحدث عبر مستويات الحرف التي ذكرتها لك في سؤالك السابق، وقد عمدتُ في مجاميعي الشعرية: (جيم)، (نون)، (أخبار المعنى)، (النقطة) إلى إجراء  حواريات بين هذه المستويات التي يمتلكها الحرف، وخلطها، أحياناً، لاستخراج تركيبات جديدة من المستويات أو استخراج مستويات جديدة في الصور الشعرية أو معناه الملغز. إن هذا الحوار أو الخلط أو التركيب سيؤدي إلى كشف مستويات إبداع شعري  تندمج فيها طفولة الحرف بطفولتي  وطلاسم الحرف بطلاسمي، ورموزه برموزي، وروحه بروحي، وتراثه بتراثي، وسحره بسحري، ودلالاته بدلالاتي، وهيئته بهيئتي، وخوارقه بخوارقي،  وقناعه بقناعي، وإيقاعه بإيقاعي، وأساطيره بأساطيري

 

ماهي طقوس ولادة الحرف لديك؟

 

للحرف طقوسه في روحي، إنه يولد لديّ في ولادات شتى. مرّة أراه صيحة غضب، ومرّة صيحة جمال وثالثة صيحة من أجل الحرية الضائعة، والأحلام التي تيبست وتآكلت في زمن القمع العراقي،  مرّة أتعرّف عليه كطلسم عجيب لا يمكن الافصاح عن أسراره، ومرّة أتأمله حتى أتيه تماماً

 مرّة أغني لأتلمّس روحه المعجزة وأتبارك بها مفتوناً لأعالج جروحي الكبرى وخيباتي واندحاراتي، ومرّة أذوب في انحناءات شكله وأضيع في محتواها وأنا أبحث باصابع دامية عن نهاية لضياعي اليومي وسط الظلام والقمع واللاجدوى الذي لفّ بغداد وأحاط بها،  في زمن الديكتاتور، من كلّ حدب وصوب 

 

 

ما علاقة الشاعر أديب كمال الدين  بالمؤسسة الثقافية في العراق؟ من المؤكد أن صوتاً شعريا متميزاً ومخلصاً مثله قد تعرض إلى التغييب والتهميش، ما نوع هذا التغييب؟ وكيف تخلص من نتائجه؟ أكان خروجه من العراق هو اعلان عن موقف مضاد من هذه السلطة  الثقافية القمعية؟

 

يا صديقي هذا سؤال مؤلم بحق. إذ يكاد يكون تأريخي الشعري كله عبارة عن تغييب وتهميش. فمنذ ظهوري في السبعينات شاعراً بدأت المؤسسة  الثقافية بممارسة هذا الدور معي، لأنني ببساطة شديدة، لم أكتب كما تريد المؤسسة، لم أكتب القصيدة  بمقاسات المديح مطلقاً، ومقاسات البحث عن  تكريم (القائد الضرورة)  بل كتبتها بمقاسات الروح التي تعرف عمق الكلمة ومسؤولياتها الإلهية والأخلاقية، بمقاسات  الروح التي تحلم، بل تقاتل من أجل هواء نقي لوطن يمشي المرء على  أديمه غير مرعوب. هكذا كانت قصيدتي، منذ البدء، قصيدة  مشاكسة  وتشير بشجاعة إلى موقع الخلل،  تشير إلى القمع الذي طال كل شيء وقتل كل شيء،  كتبتُ في قصيدة (محاولة  في الرثاء)

 

في الصيحةِ الأربعين

قلتُ : أيها الحلم

يا مَن  يظهر ورقُ اللعبِ صورته

يميناً و يساراً

يسارا ًويميناً

كم افتقدنا ركوبكَ الخيل والمساءات

سائلاً هنا نحن الحروف التي بلا نقاط

والنقاط التي بلا مستقبل

والمستقبل الذي بلا معنى

والمعنى الذي بلا مغزى

والمغزى الذي يقودنا بوحشيةٍ إلى ساحةِ الموت.

 

قصيدة مثل هذه كنت أدور بها على الصحف والمجلات العراقية  علّـني أجد محرراً لم تزل في قلبه ذرة شجاعة، قادراًعلى نشرها. إن ثلاثة من دواويني الشعرية هي (تفاصيل) و(نون) و(النقطة) قد طبعتها على نفقتي الخاصة، ويعلم الله سبحانه وتعإلى إنني طبعت (نون  و( النقطة) وقت الحصار وأنا أكاد لا أجد ما آكله أنا وأطفالي. ثم خذ مسألة  الدعوات، لقد وجهت إليّ العديد من الدعوات للمشاركة في المهرجانات الشعرية والثقافية من قبل اتحادات الأدباء في تونس، والأردن، واليمن أكثر من سبع دعوات رفضت جميعاً من قبل وزارة الاعلام  أو اتحاد الأدباء و حجتهم في ذلك معروفة أنني  إن سافرت  فلن ارجع إلى العراق!

وفي المربد، وهذا  مثال آخر للتغييب، شارك أحد شعراء جيلي السبعيني عام 1974 أما أنا فلم أدع إليه إلا عام 1994 أي بعد عشرين عاماً بالتمام والكمال. وحتى بعد أن شاركت فيه، كانت الدعوة  توجه إليّ لأقرأ فقط،  في أماكن وأوقات لا يحضرها من الجمهور إلاّ النزر اليسير

 

وماذا كانت النتيجة؟

 

إن شاعراً بتلك المواصفات التي ذكرتها قبل قليل لا حظ له، بالطبع، من مكرمات  القائد أو (رواتب الأدباء)  أو أيّ منصب كان شكله أو لونه أو مستواه بل له حظ وافر من التجويع والإهمال والتغييب والتحجيم حتى، هذه هي (المكرمات) التي كنت أنالها كل يوم 

 

وكيف واجهتَ هذا التغييب؟

 

واجهته بالصبر والصدق والبحث المخلص عن القصيدة التي تمثل العراقي وهو يواجه الظلام والكبت واللاجدوى، وكانت الصحف العربية  في لبنان وتونس والامارات ولندن خير عون في مواجهة ما أعانيه، كانت قصائدي وترجماتي تجيء من هناك إلى بغداد  لتشهد على إنني حيّ وإنني أمشي ولكن على حروف من الجمر.  لكن  في الشهور الأخيرة  صارت عزلتي ضخمة  فأصدقاء الكلمة المخلصة  توزّعوا على أرصفة العالم وبقيت  وحدي وقلة قليل من الشعراء المخلصين  نصرخ من خلال القصيدة  المغيبة على هذا الخراب  العجائبي الذي طال كل شيء في الوطن، لذلك كله كان لابد من إعلان الموقف الرافض للسلطة ورموزها وقمعها بشكل صريح، لابد من الرفض القاطع للمارسات التي حولت العراقي إلى جثة متحركة دون حلم أو أمل أو معنى 

 

أنتَ شاعر سبعيني بارز لكنك لم تنشغل بمهاترات أبناء جيلكَ حول موضوعة الأجيال وقصيدة النثر، أكان هذا العزوف قصدياً أم انه جاء عرضاً ودون  قرار مسبق وواع؟

 

بالطبع كان العزوف مقصوداً،  فأنا أعتقد انّ الشاعر الحقيقي هو (جيل) بحد ذاته. إنه (الإنسان)  بمعناه الأسمى والأكمل والأعمق . إنه (بناء الله ملعون من هدمه) .إنه الموقف من الكون، من الحياة  والموت، من الحرية والقمع، من المعنى واللامعنى، من الوطن والمنفى.

هكذا تصورت الشاعر منذ البدء، ولأنني عشت حياة بالغة الصعوبة ـ على المستوى الشخصي ـ  شديدة  التناقض، عظيمة الألم والاختلاف عن حياة الآخرين، لذا أحسستُ أنّ حياة كهذه ينبغي أن يعبّر عنها بشكل مختلف ومتميز وينبغي أن أؤكد ذلك شعراً، وهكذا  كان الحرف ـ وليس قضية الجيل أو قصيدة  النثر على  أهميتهما  الفنية ـ هو عنواني الجمالي الذي حمل  بإخلاص عذاباتي  وأحلامي وانكساراتي، وحمل آمالي في مستقبل أكثر جمالاً 

 

 

مجلة (أوراق ثقافية) –  ثقافية شهرية تصدر عن حركة الوفاق الوطني العراقي- عمان- الأردن – العدد الرابع – السنة الثالثة- آذار 2001

 

الصفحة الرئيسية