الشاعر العراقي أديب كمال الدين:


لتجربتي الحروفية عدة أوصاف من وجهة نظر النقاد



زهير الجبوري - ناقد


قدّم الشاعر العراقي أديب كمال الدين خلال تجربته الشعرية التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود الشيء الكثير في الكتابة الشعرية، واستطاع
أن يؤسس له أسلوباً منفرداً في القصيدة الحديثة والتي تمثلت بـ(القصيدة الحروفية) وأيضا ب(قصيدة النقطة)، وهذه الاستخدامات شكّلت أنموذجا مميزاً لخصوصية هذا الشاعر.. كما ولديه تجارب جيدة في ميدان النثر الشعري وما يحمل من مميزات حديثة.

وعبر كل المسافات الطويلة لبلدان الكرة الأرضية.. التقيت بالشاعر أديب كمال الدين عبر وسائل الاتصال (الانترنت) وأجريت معه هذا الحوار . ومما لاشك فيه فهو من الشعراء الذين يتأثرون بالوقائع المكانية ويرسم في مخيلته كل الانعكاسات المباشرة لذلك، إذ هو الآن يسكن القارة الأسترالية، هذه القارة المملوءة بالمشاهد والمناظر الساحرة والحالمة.. لتتشكل لديه العديد من الصور الشعرية التي كتبها في دواوينه.


* الصورة الشعرية هل تختلف عندك بين مكان وآخر، أي من مكان ولادتك.. والمكان الذي تعيشه الآن، فما هو مفهومك للصورة الشعرية لكلا الطرفين؟

 

- الصورة الشعرية هي تجسيد لغويّ جماليّ للفكرة أو النفثة أو الومضة الروحية التي يريد الشاعر ايصالها إلى المتلقي. وهي - رغم أهميتها البالغة - ليست الهدف من كتابة الشعر. ومَن يعتقد بخطأ هذا الرأي يقع في وهم كبير.

الصورة الشعرية مهمة جداً لأنها ركن من أركان القصيدة، وبخاصة القصيدة الحديثة. وينبغي أن تُكتبَ بمهارة عالية وتركيز واضح وتدقيق شديد. وهكذا ينبغي أن يحترم الشاعر مبدأ الاقتصاد في الصورة الشعرية بعيداً عن الهذيان والإطناب والاستطراد وتأكيداً لمبدأ النمو العضوي وتعميقاً لوحدة القصيدة لأجل خلقها بهيئة كيان متكامل مترابط الأجزاء لا يحتمل الحذف والاضافة، فإن أضفتَ اليه تشوّش وإن حذفتَ منه انهار. لم يتغير هذا الفهم للصورة الشعرية بتغيّر المكانّ، لكن الخبرة في كتابة الصورة - ومن ثم القصيدة ككل - تعمّقت عندي بفضل التراكم الكمّي، أي ان الخبرة في خلق الصورة تطوّرت وتعمّقت بفضل الممارسة والتجريب والقراءة والاطلاع على تجارب كتابة الشعر في العالم.


 * إصرارك الدائم على تمركزات الحرف حول مفاهيم المعنى وانعكاسات القراءة المحايثة له داخل نصوصك جعل منك شاعراً وصِفَ في أكثر من مكان كونه (شاعراً حروفياً).. هل يمكن أن يكون هذا الرأي حقيقياً؟


- نعم هو حقيقي. ولقد منحني النقاد والكتاب الذي تناولوا تجربتي الشعرية ألقاباً أو أوصافاً غير (الشاعر الحروفي) فقالوا: (شاعر النقطة) و(ملك الحروف) و(المنوّن) و(النقاطي) و(شاعر الحرف والنقطة ) وغيرها.

إن هذه الأوصاف التي أطلقها نقاد من مختلف المدارس والاتجاهات الأدبية لم تأتِ من فراغ. لقد انتبهوا إلى استبطاني الحروفي المتواصل عبر سنوات طويلة ومجاميع عديدة بدأتها بمجموعة (جيم) التي كتبت قصائدها منذ بداية الثمانينات واستمرّت حتى يومنا هذا . وهكذا كتبتُ مجموعة كاملة عن (النون) صدرت عام 1993 وأخرى عن (النقطة) صدرت بطبعتين: 1999 و2001 مثلما حاولت أن أسبر أسرارالعديد من الحروف عبرمرآة المعنى في مجموعة (أخبار المعنى) الصادرة عام 1996 وأن أعمّق تجربة البحث عن الحرية كما في مجموعتي (حاء) الصادرة عام 2002 وأن أطوّر حضور الحرف والنقطة عبرحوارهما المتواصل لكشف أسرارالروح والجسد والحياة والمنفى في مجموعتي الجديدة (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) الصادرة عام 2006. وأنا مستمر في قَدَري الحروفي للتماهي مع الحرف في قصائدي الجديدة والتي لم تُنشر بعد في مجموعة مستقلة.

هكذا ففي الحرف العربي: هذا الحرف الذي حمل معجزة آخر الأنبياء بحق، بدأتُ - ولم أزل - رحلتي لأمسرح عويلي وأمارس احتجاجي وأطلق اشاراتي وأخلق مسرّاتي ونبؤاتي وَمَتعي وأكتب شاهديتي على تيار الزمن الذي يجرفنا جميعاً منذ الصرخة الأولى حتى آخر اشارة شاحبة نطلقها من الفم أو الكفّ قبل الرحيل الأخير. وكلّ هذا أحققه أو أود أن احققه من خلال مستويات متعددة ينتمي اليها الحرف أو أريد أن ينتمي اليها ليعطي ثمار شعر مدهشة، جريئة، مثيرة. والمستويات كما أرآها هي: المستوي الدلالي للحرف والمستوي الترميزي للحرف والمستوي الايقاعي للحرف والمستوي التشكيلي والمستوي الأسطوري والمستوي الروحي والمستوي التراثي والمستوي الخارقي والمستوي الطلسمي والمستوي السحري والمستوي القناعي والمستوي الطفولي للحرف.


* إنّ فلسفة الحرف في الثقافة الإسلامية قد أخذت مجالاً واسعاً في فضاءات الاشتغال الفكري  للصوفيين العرب، إلى أيّ مدى استطعت أن توظّف هذه الرؤى الصوفية داخل نصوصك؟


- النقطة بوصفها مركز الكون والعالم الأكبر بدت مُجسَّدةً في مجموعتي (النقطة) ويمكنك اعتماد قصيدة

( محاولة في أنا النقطة ) مثالاً واضحاً:

 
أنا النقطة

أنا بريقُ سيف الأصلع البطين

أنا خرافةُ الثورات وثورات الخرافة

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم

أنا ألف جريح

ونون فتحتْ لبّها لمن هبّ و دبّ.


هذه هي النقطة كرمز صوفي. لكنني انطلقتُ إلى استخدامات أخرى عديدة للنقطة ولم أكتفِ بهذا الترميز فقط، فبدت النقطة في القصائد الأخرى لمجموعة (النقطة) مركزاً للقلب ومركزاً للروح ومركزاً للجسد ومركزا للرؤيا.

إنّ ما يميز تجربتي الحروفية عن الاستخدام الإسلامي الصوفي الحروفي هو ان الاستخدام الإسلامي الصوفي الحروفي كان ذهنياً على الأغلب، وأحيانا طلسمياً لا يفهمه الاّ خواص الخواص. وقد حاولتُ جاهداً أن أجعله شعرياً عبر الصورة المجسدة، ذلك ان الذهنية برأيي هي أشد أعداء الشعرية ضراوة. وحاولتُ أيضاً أن أجعل استيعاب هذا الاشتغال مشاعاً للكلّ دون أن أفقد الخواص ولا خواص الخواص . وفي ذلك يكمن التحدي الجمالي: الشعري: الفلسفي لتجربتي الحروفية.

كذلك حاولتُ بقوة أن أستخدم الحرف للتعبير الحيّ عن الأعماق الجوّانية لي ولمجتمعي في زمن القمع وتكميم الأفواه ذلك أن الحرف هو من يتكلم وينتقد والنقطة هي من ترفض وتحتج. وهذا تحقق لأنّ للحرف تأويلات وإشارات عديدة لايمكن للرقيب محدود الفهم والذائقة من الاحاطة بها أو ببعض تفاصيلها.

إذن، فقد منحتني القصيدة الحروفية فضاءً للحرية أعانني على الكتابة والابداع والمواصلة بعيداً عن جوقة المطبّلين والمداحين رغم انني كنت في قلب العراق بغداد وليس خارجه، في قلب المأساة التي تشظّت فوزّعت الملايين منا ذات اليمين وذات الشمال.


 *الشعرية الحديثة هي اقتراح لغة ضمنية داخل النص كما يقول الناقد (سعيد الغانمي) ونجد هذا التعريف ينطبق على مجمل الشعر الحديث. بوصفك شاعراً سبعينياً، كيف تفردتَ من بين اقرانك في الخوض في مضمار هذه الشعرية؟


_ لكي تكون شاعراً متميزاً ينبغي أن تمتلك قاموسك الخاص. ليس هناك من شاعر مبدعٍ متفرّدٍ في الكون قديماً أو حديثاً دون قاموس خاص به. تذكّر من القدماء أبا نؤاس والمعريّ والشريف الرضيّ، و تذكّر من المعاصرين السياب والبريكان ونزار قباني. هذا ما حاولتُ تحقيقه بصبرٍ ودأبٍ وكدحٍ طيلة أكثر من ثلاثين عاما من ممارسة الشعر و دراسته وفهمه وترجمته حتى استقام لديّ شيء من ذلك القاموس. أقول ذلك بتواضع وأشكر لله فضله.

أما عن السبيعنات فأقول لك بصراحة متناهية انني لم أكن سبعينياً الا من حيث تأريخ كتابتي للشعر. لم أندمج بالأسماء السبعينية التي كانت مثيرة للقلاقل أكثرمن إثارتها لاسئلة الشعر الكبرى. كانت عدة "الأصدقاء السبعينيين" الروحية والثقافية والشعرية - على الأقل في البدء - عدّة بسيطة ومحدودة. لكنهم كانوا يمتازون بقابلية فذة في اشعال الحروب الاعلامية والنقدية، وهذا شيء جميل جدا! ولكن ماذا بعد هذه الحروب التي ألقت الضوء الأعلامي عليهم؟ لقد جاء وقت كتابة الشعر الحقيقي وليس وقت الاستمرار في إطلاق بالونات الادعاء الفارغة. لقد جاء ، إذن ، الوقت الصعب! اكتشفتُ منذ البدء هذه الحقيقة المرّة، فحاولتُ الابتعاد لأنّ بضاعتي الشعرية والروحية كانت متميزة كما أظن. وكنتُ أعتقد ولم أزل ان الشاعر الحقيقي هو الشاعرالذي يكتب القصيدة المتميزة، وليس الشاعر الذي يجيد الوقوف خلف المايكرفون ليسفّه الجميع ويمنح نفسه، دون وجه حق، أوسمةَ المجد!

 الآن بعد أكثر من ثلاثين عاماً علي ظهور الجيل السبعيني، مَن الذي تألق ومَن غادر الساحة رغم انه كان الأكثر ضجيجاً؟ أين هو المنجز الحقيقي؟ ومَن الذي كتبه؟ الإجابة الآن سهلة ولا تحتاج إلى كبيرعناء للوصول إليها. الخريطة السبعينية الآن متألقة فقط بمَن واصل العطاء والابداع ، بمَن بقي متواضعاً يكتب ويؤسس لعمارته الشعرية دون جعجعة إعلامية أو لؤم أخلاقي أو رغبة ثأرية لنبذ وتهميش وإقصاء مَن لا يدور في فلكه " الشعري" أو " الأيديولوجي" المريض.


 * ما هو تقويمك للنقود التي كُتبتْ عن تجربتك الشعرية التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود؟

- اجتهد أغلب النقاد الذين كتبوا عني - كلّ حسب علمه وفنه - في إنارة زاوية من زوايا شعري من حيث اللغة والقاموس والبناء والرموز والمواضيع والعناوين، واستطاعوا، إنارة الكثير من هذه الزوايا الشعرية بشكل قادني إلى المزيد من الكتابة والإبداع. لهؤلاء النقاد اقدم كلمة الشكر من الإعماق، فهم حين كتبوا عني لم يحلموا بالحصول على مكسب مادي أو منفعة ما الا مكسب الإبداع الخالص. وأنتَ يا صديقي تعرف "سوق" الثقافة العراقية - وحتى العربية - وما فيها من النفعيات والأخوانيات. وأكثر من ذلك فلقد تعرض بعض هؤلاء النقاد - كما أسرّ إليّ - إلى مساءلة لئيمة من قبيل: لماذا تكتب عن أديب كمال الدين مثل هذه الدراسة الطويلة الجادة؟ لماذا لا تحوّل جهدك النقدي وتكتب عن فلان أو سواه من الشعراء المسؤولين والمتنفذين في الإعلام والدولة فتفيد وتستفيد؟

نعم، فلقد كان الجهد النقدي مكرسا للكتابة عن الأسماء المتنفذة في الإعلام والدولة لا الأسماء التي تريد الكتابة بأساليب شعرية مبتكرة وجديدة من أمثالي. ولا تنسَ يا صديقي ان شعري الإنساني النزعة والصوفي المحتوى كان خارج الخطاب الشعري والإعلامي المطلوب، فلم أكتب الشعر الايديولوجي في السبعينات ولا الشعر الحربي في الثمانينيات ولا الشعر التمجيدي في التسعينيات. كان شعري ولم يزل معنياً بخطاب الإنسان وهو يحاول أن يفهم أسرار العالم وأن يكشف عن النفس البشرية في وحشتها ووحدتها وحبها ومحنتها وغربتها وبحثها عن النور وسط الظلام والأمل وسط الحطام. وكان شعري يبحث في المسكوت عنه ليعبّر، بالرمز الحروفي عن التراجيديا التي سيطرت على الحياة العراقية لسنوات طوال.


 * هل يمكن عدّك أول من اخترق منطقة الحرف العربي شعرياً ولا ننكر بأن هناك اشتغالات محايثة؟


- نعم، لا يمكن إنكار ان هناك من اشتغل على الحرف العربي شعرياً. لكن تعامله كان سطحياً أو عرضياً أو مؤقتاً . لم تكن إقامته في مملكة الحرف إقامةً دائمةً مثلي ليكتب مئات القصائد الحروفية وينشرها في مجاميع عديدة، ولم يكن سبره لأسرار الحرف، كما أعتقد، سبراً عميقاً كما يتطلب الحرف ممن يسبر أغواره وجماله وأسراره.

لقد أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين حتي أصبح قَدَري الذي سيلازمني للنهاية. لقد أخلصتُ له حتى أكرمني وأدخلني في قاعة عرشه وقبّلني مابين عينيّ وأجلسني إلى جانبه وخلع عليّ رداء حكمته وأفصح لي عن أسراره وخَطَرات قلبه بلطفٍ نادرٍ وجمالٍ عجيب ومنحني- وأنا الفاني الضائع المنفيّ المنسيّ- كأسَ البهجة والمسرّة والخلود. وليس الكرم بغريب عن الحرف البتة! فلقد تركتُ من أجله الكثير الكثير، ناسياً كلّ شيء وزاهداً في كلّ شيء، ذلك ان الحرف - كما خبرتُ ذلك ومحّصته - لا يُحبّ أن يُشرك به ! هو يحبّ - أن يُحَبَّ لنفسه، لروحه وجسده.

 إنّ حبّ الحرف هو المعنى الوحيد للحبّ، فإنْ لم تؤمن بهذا فلا بدّ لكَ أن تؤمن بأنّ حبّ الحرف هو المعنى الوحيد للحبّ والشعر والحياة!

 

************************

 نُشر الحوار في صحيفة الزمان اللندنية  20 نوفمبر- تشرين الثاني2006


زهير الجبوري - ناقد عراقي - العراق - بابل

 

 

الصفحة الرئيسية