في حوار مع الشاعر العربي المعروف أديب كمال الدين:

 

 

متعة القصيدة تكمن في كشف أعماق شاعرها

 

 

حوار: ياسر عبد الباقي- اليمن

 

 

هل النون معنى أو لا معنى؟

ذهب أم تراب؟

عري أم تستّر؟

زندقة أم توحيد؟

زنبقة أم أفعى؟

عرش أم منفى؟

 للشاعر العراقي المعروف أديب كمال الدين بهجة وحب وصداقة مع الحروف، لعله أكثر الأدباء قربا منها. ولأننا نعشق الحروف، ونعشق حروف أديب .. أجرينا معه هذا الحوار .

 - لماذا الشعراء أكثر الأدباء هجرة، وأكثرهم إبداعا ونشراً؟

* إذا كان المقصود بسؤالك الشعراء العرب، فالجواب سهل: الشعر هو المهيمن الأساس على المنتج الأدبي العربي، والشعراء، على هذا، هم المتسيّدون للمشهد الإبداعي برمته. ولابد أن يكونوا أكثر الأدباء هجرة وإبداعاً ونشراً وحضوراً..الخ. ذلك أن الرواية، وقبلها القصة القصيرة والمسرحية، هي أنواع كتابية عرفها العرب في العقود الأخيرة، ولا تملك – كما هو معروف- ذلك الحضور الأخّاذ والخطير والمهيمن الذي امتلكه الشعر عربياً منذ آلاف السنين.

  أما إذا كان المقصود بالشعراء هنا: الشعراء بصفة الإطلاق، أي شعراء العالم، فسيكون الجواب مختلفاً بالتأكيد. فالرواية كُتبت قي الغرب وفي العديد من أصقاع العالم منذ زمن طويل- وكذا الحال مع المسرحية والقصة القصيرة- وأعداد الروائيين وكتاب الفن القصصي والمسرحي على هذا لا يستهان بها. ولذا فهجرتهم قد حدثت بوضوح تاريخي وجغرافي، وإبداعهم محلياً وعالمياً بارز، وسيطرتهم على ما يُنشر ويُباع في سوق الكتاب غالبة. هذا لا يعني أن شعراء العالم لم يهاجروا بالطبع. فلقد هاجروا وأبدعوا جنباً إلى جنب أقرانهم الروائيين والقصاصين وكتّاب المسرح. لكن ميزة الهيمنة في الحضور لم تكن مقتصرة عليهم كما هو الحال مع الشعراء العرب.

 

- تقيم في أستراليا منذ سنوات، هل تجربتك  الشعرية اختلفت بعد الإقامة فيها؟

* بالتأكيد. فلقد اختلف عليّ المكان فاختلف عليّ الزمان! واختلف الهواء والماء مثلما اختلفت اللغة والقوانين والعادات والتقاليد. واختلفت وسائل العيش والطعام والشراب والنقل والاتصال بل اختلف معنى الموت والحب والجنس والعمل. واختلف- قبل ذلك وبعده- المنجز الإبداعي وطرق عرضه وقبوله وتلقّيه. كل هذا حصل وحضر وتحقق فكيف لا تختلف التجربة الشعرية التي هي انعكاس وتفاعل وتمازج ما بين المحيطين الخارجي(الجغرافي والاجتماعي واللغوي) والمحيط الداخلي (الروحي)؟

  نعم، اختلفت التجربة واغتنت بالجديد والعجيب والغريب الذي واجهته وتواجهه كل يوم على مختلف الأصعدة. وصار عليّ لزاماً أن أتكيّف على نحو ما مع ما تقدمه الحضارة الغربية من معطيات إبداعية وتكنولوجية واتصالية وثقافية ضمن قوانين مادية صارمة.

  هذا التكيّف ليس سهلاً أبداً بل هو نوع خطير من التحدّي المستور والمبطّن والمؤلم أحياناً كثيرة، خاصة وأنني أنتمي وبقوة إلى القيم الشرقية والعربية والإسلامية والصوفية والحروفية!

  ففي داخلي لم تزل الأسئلة الروحية الصوفية الحروفية حيّة بل شديدة الحياة. مثلما بقيت أسئلة الموت والحياة هي الأخرى شديدة النبض وعنيفة اللون. وكل هذا يتم في أرض لا تهتم إلا بالجسد، ولا تقيم وزناً إلا للذة، ولا تعبد إلهاً سوى  الدولار!

 

- حسناً وكيف كانت مشاركتك في الحياة الأدبية في أستراليا؟

* رغم الصعوبات والتحديات تلك، فلقد شاركت في أكثر من قراءة شعرية في المدن الأسترالية وتم تضييفي في جمعية الشعر في مدينة أديلايد عاصمة ولاية أستراليا الجنوبية عام 2004 وغاليري (De la Catessen)  عام 2006 ونشرتُ قصائدي- ولم أزل مستمراً- في أكثر من مجلة أسترالية مهمة، مثلما اختيرتْ قصيدتي "أرق"     Sleeplessness كواحدة من أفضل القصائد الأسترالية لعام 2007 ونُشِرتْ في أنطولوجيا خاصة أعدّها الشاعر الأسترالي والروائي المعروف بيتر روز Peter Rose.

لقد أحبّ أدباء استراليا شعري ربما لأنهم وجدوا فيه حساً تراجيدياً يفتقدوه، ووجدوا فيه خلاصة إنسانية مرّت بحريق أثر حريق حتى صفا جوهرها ولمع بريقها الماسي المأساوي.

هذا بالنسبة للمشاركة الإنكليزية، أما العربية فقد نشرت مجموعتين شعريتين هما: (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) و(شجرة الحروف) صدرتا عن دار أزمنة. وقد لاقت المجموعتان صدى نقدياً طيباً- ولله الحمد- من نقاد وكتاب وشعراء من العراق ولبنان ومصر وتونس والمغرب واليمن والسعودية وفلسطين. فشكراً من الأعماق لكل من كتب ويكتب. أذكر منهم د. عبد الإله الصائغ، عيسى حسن الياسري، د. حاتم الصكر، زهير الجبوري، جمال حافظ واعي، محمد العشري، عبد الرزاق الربيعي، علي الإمارة، صلاح زنكنة، رياض عبد الواحد، فاروق سلوم، وجدان عبد العزيز، عادل الشرقي، كريم الثوري، عبد اللطيف الحرز، د. مصطفى الكيلاني، صباح الأنباري، مالكة عسال، د. خليل إبراهيم المشايخي، وديع شامخ، نور الحق إبراهيم، فرات إسبر، عبد الغني فوزي، صالح محمود،  سوف عبيد، حسب الله يحيى، علي حسين عبيد، نصر جميل شعث، عدنان حسين أحمد، شوقي مسلماني، ود. عدنان الظاهر.  وقد كلل هذا المنجز النقدي الناقد د. مقداد رحيم بكتابه (الحروفي) الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر والذي اختار فيه ما أبدعه 33 ناقداً تناولوا تجربتي الشعرية بالدرس والتحليل عبر مجاميعي (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)، (حاء)، (النقطة)، (أخبار المعنى)، (نون)، (جيم).

 

- ما قصتك مع الحروف، تحمل عناوين لكتبك وقصائدك. أقرأ لك جملة تقول فيها:  اتخذت الحرفَ وسيلةً شعريةً وملاذاً إبداعياً؟

 * كان الحرف ولم يزل سبباً في خصوصيتي الأسلوبية الشعرية. بيد أن الوصول إليه لم يكن سهلاً البتة. لكنني عشقته فسهّل العشق عليّ الوصول ثم القبول ثم المثول في حضرته حدّ الهيام والتماهي. وربما، وبخاصة، وقت الحريق الشعري أعني وقت كتابة القصيدة، يصل الأمر إلى درجة نسيان السبب والمسبب في رحلة الحياة.

  ثم تعرّفت إلى أسراره فكانت (النون) بهجة المحبّ وحليب العصفور وهلال العيد والحلم والنوم والجمال المهلك والهالك والحرمان والارتباك والدوران والقمع والإحاطة والسيطرة. كانت النون رمزاً لمحبة كلّ شيء قريب وفي متناول اليد كما القمر في متناول المجنون وهو يرى صورته منعكسة فوق سطح الماء! وقبله كانت (الجيم) إشارة الجنون والجثة والجحيم والجند والحرب والدم. لكن (النقطة) كانت هي الكينونة دون شك. ففيها السرّ الأعظم وفيها الطلسم الذي لا يفكّ رموزه أحد وإن ادعاه الجميع لقداسته وعمقه ولطفه الذي لا يعرفه سوى الخواص وخواص الخواص. وستكون (الحاء) حاء الحبّ والحرية والحنان دون شك، لكنها حاء الحرب والحريق  قبل ذلك وبعده. وهي حاء الحلم الجبار الذي يكاد أن يختصر الشعر كله ومعناه كله وغموضه الذي لا حدود له.

وقد صدرت لي أخيراً (شجرة الحروف) فكان الثمر غريباً والرحلة التي قطعها الغريب أكثر غرابة. وكدتُ أسمّيها "شجرة اليأس" لولا إخلاصي الذي لا حدود له للحرف، ولولا محبّتي التي لا يساورها الشك لشجرة الأمل وإن بدت صغيرة جداً وشاحبة جداً ومتعبة جداً لشدة العاصفة التي تحيط بها وبي. وكان عليّ أن أوثّق لما جرى لي بلغة الاعتراف الجميل الذي سيراه بعضهم لذيذاً والآخر مليئاً بالغموض والثالث عذباً والرابع...أو بلغة الفاصلة الجسدية والزمكانية التي تغني القصيدة وتزيد، ربما، من سعة آفاقها لتحتوي الحياة كلها في لحظة نادرة.

الرحلة لا تنتهي بالموت ذلك عجب الدنيا العجاب، لأنّ الحرف لا ينتهي وتأويله شعراً لن ينتهي، وفي هذا بعض العزاء لي بأن سكني في لحاء الحرف قد أنار لي ظلمةَ وداعي وأعانني على الوصول إلى شيء ما وإن كان سرّ هذا الشيء مجهولاً للطفه العميق.

لقد عالجتُ كوارث الدنيا وظلامها الكثيف بالحرف وداويتها به. وكان العلاج شافياً للوهلة الأولى لكن الظلام كان مزمناً فصار عليّ - أنا المنسيّ المنفيّ في جسده قبل وطنه وفي وطنه قبل جسده- أن أعيد العلاج المرّة تلو الأخرى. ولذا أبدلتُ الحرف من (الجيم) إلى (النون (إلى (الحاء) إلى (النقطة) إلى (ما بعد الحرف..ما بعد النقطة) وإلى (شجرة الحروف) أخيراً، ثم حاورت النقطة والحرف وجعلتهما يتحاوران في كلّ شيء ويتناغيان ويتساءلان ويكتشفان بعضهما بعضاً وينصهران إلى حد التلاشي والذوبان. ثم جعلتُ النقطة تعترف وترقص وتبكي وتغني وتعشق وتهيم وتجنّ وتشطح وتشرق أبداً في البر والبحر والنهر.

ما أعانني في ذلك أنني لم أكن مفتعَلاً ولا مفتعِلاً. فكان حرفي صادقاً ولسانه رطباً أبداً بالدعاء والغناء والهذيان، وكانت النقطة طيبة كدمعة طفل يتيم.  لذا لا عجب أن رأيتِ البحرَ والطفل والساحر يهبطون من الحرف ليأخذوا بيدي أنا المتأمل المهووس بالجسد والنار والموت لأسير خطواتي المرتبكة وسط القساة والأجلاف والقَتَلة، ولأتجنب، ولو لبعض الوقت، ذكرَ حيرتي الكبرى وضياعي المكتوب.

وبلغة التصوّف فسترى النقطةَ  هي الكينونة ومركزَ الكون والعالم الأكبر، وقد بدت مُجسَّدةً في مجموعتي (النقطة) ويمكنك اعتماد قصيدة (محاولة في أنا النقطة) مثالاً واضحاً:

أنا النقطة

أنا بريقُ سيفِ الأصلعِ البطين

أنا خرافةُ الثورات وثورات الخرافة

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية مَن لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم

أنا ألف جريح

ونون فتحتْ لبّها لمن هبّ ودبّ.

هذه هي النقطة كرمز صوفي. لكنني انطلقتُ إلى استخدامات أخرى عديدة للنقطة ولم أكتفِ بهذا الترميز فقط، فبدت النقطة في القصائد الأخرى لمجموعة (النقطة) مركزاً للقلب ومركزاً للروح ومركزاً للجسد ومركزاً للرؤيا. هكذا تعاملت مع النقطة أما مع الحرف فقد كتبت قصيدتي ضمن مستوياته.

 

- أيّة مستويات تقصد؟

* أعتقد أن للحرف مستويات هي: الدلالي، الترميزي، التشكيلي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، القناعي، الإيقاعي، الطفولي.

وهكذا، يا صديقي العزيز، يبدو لي الحرف هو التعويذة  الوحيدة  التي لا ترتبك وهي تواجه جنون عالمنا المعاصر،  بل هي  تتماسك. وهي لا تمّحي بل تمحو،  حاملة إرث كل ما هو  عربي  وإسلامي، عميق وعظيم، قديم  ومعاصر في الوقت  ذاته. الحرف حرب  ضد الرداءة، فيه أغوص لأصطاد ثروة المعاني وأشتري  ثياب المعرفة وأتعمم بنور العلم. فيه أسترد طفولتي  المحطمة  وشبابي  القاسي  وكهولتي الأقسى. الحرف،  كما أرى، شبكة لصيد البهجة، والحلم، والشمس، والفجر، والألم العظيم.

الحرف سر عظيم  لا يعرفه حق المعرفة إلا القلة، وكلما ازدادوا معرفة به ازدادوا معرفة بالعالم، وكلما ازدادوا معرفة بالعالم ازدادوا جهلاً بأنفسهم وبالشعر،  وبالحرف حتى!

 

-  هل فكّرت في كتابة الرواية؟

 *  كتابة رواية ما هي نوع من الحلم المستحيل بالنسبة لي في الوقت الحاضر على الأقل. فبعد أن أنفقتُ أكثر من ثلاثين عاماً في كتابة الشعر ونشرتُ  خلالها تسع مجاميع شعرية بقي هذا الحلم المستحيل يراودني من حين إلى آخر.

 

- لماذا؟

*  لأنّ كتابة الرواية تبدو أقرب إلى روح الكتابة بمعناها العميق: خلق الشخصيات ورسم ملامحها وتسيير حياتها وتنظيم صراعاتها وتحديد نهايتها وبثّ ما يريد الكاتب من خلال الشخصيات وصراعها ما يريد أن يبثّه كرسالةٍ إلى العالم إنْ كان يؤمن أن هناك رسالة ما يجب إعلانها. فإنْ لم يؤمن بهذا يمكنه من خلال حياة الشخصيات وكشف دواخلها أن يعرّي الإنسان وخرافاته المستترة وأحلامه المغيّبة ورغباته المجنونة واحتجاجه العبثي. وكلّ ذلك يتمّ من خلال التفاصيل الحيّة والدقيقة والتي توثَق لحياتنا المنكوبة بالحروب والحصارات والمنافي!

وعمل كهذا يجعل من الكتابة صلاة إبداع يومية، وحرفة تتطلب الصبر والسهر والكتمان، ولغة ينبغي تطويعها باستمرار. وفي هذا متعة لا تشبهها متعة أخرى. في حين أن كتابة الشعر مختلفة تماماً. نعم، فالقصيدة تكتب شاعرها أنّى تشاء! وما عليه- أي الشاعر- سوى أن يستسلم لزيارتها المباغتة وحضورها الجميل. ما يحتاجه الشاعر هو الورقة والقلم لكي يلوذ إلى أعماق نفسه ويتماهى مع قصيدته الجديدة إلى الحد الذي يفقد فيه إحساسه بالزمان وبالمكان. فإذا ما انتهت القصيدة وانسكبت روحها وروح الشاعر على الورقة، أفاق فإذا الساعات قد مرّتْ عليه كأنها الدقائق المعدودات، وإذا بالمكان أليفاً رغم حركة الناس وحضورهم وغيابهم وضجيجهم!

  إذن، فالقصيدة تباغتُ شاعرها، والرواية لا تحبُّ المباغتة والمواعيد غير المتفق عليها مسبقاً. القصيدة عمل مفاجئ، والرواية عمل مستمر ومنظم. القصيدة شمس تشرق بين ساعات ممطرة ومليئة بالبرد والكآبة والغيم فتملأ الروح بهجةً وسعادةً بحضورها الذي يشبه السحر. والرواية شمس صيف حار، صيف عراقي لا يشبهه أيّ صيف في العالم، أو صيف أفريقي ملآن بالأعاجيب، أو صيف أسترالي معروف الصفات والملامح والدرجات!

متعة القصيدة تكمن كذلك في كشف أعماق شاعرها. وقد تتعدّى موهبة الشاعر مياهه الإقليمية الداخلية ليستكشف أعماق الآخرين ومخابئ أرواحهم وكهوفهم المخيفة. لكن ذلك يبقى متعلّقاً بالخطوط العامة. أما التفاصيل فهي مهنة الروائي الرائعة! إنه الموثِّق لأصغر التفاصيل وأكثرها واقعية وعبثية وسوداوية: تفاصيل الآخر وأسراره وزواياه العميقة ومياه روحه وصبوات قلبه وصيحات رغباته وأحلامه المغيّبة  وصيحات أعماقه!

قلتُ: إنّ حلم كتابة الرواية يراودني من حين إلى آخر ولكنه حلم أراه قريباً من الاستحالة. هذا صحيح. وقد راودني في العراق أكثر من مرة، وفي الأردن حيث أقمت أكثر من سنتين، وفي أستراليا. لكنني كنت أجيد فن الهروب منه. ولي في ذلك أسباب:

أنا ابن العراق الذي أُبتلي بالطغيان والطغاة والحروب والحصارات والأحزاب التي يقودها الانتهازيون والأنانيون وأنصاف المثقفين والأدعياء وحثالة المجتمع، مثلما أبتلي بالتقاليد العجيبة والعادات الاجتماعية التي صيّرت الحياة طامة كبرى! العراق الذي لم تزل تتصارع فيه بعنفٍ عجيبٍ قيمُ البداوة والحضارة، وقيم القرية والمدينة، وقيم المؤمنين والملاحدة، وقيم العنف والسلام، وقيم اللصوص والزهاد، وقيم العسكر والمدنيين، وقيم البرجوازية والفقراء، وقيم الشرق والغرب، وقيم الشمال والجنوب، وقيم المسلمين والمسيحيين، وقيم العرب والأكراد، وقيم علي ابن أبي طالب والحجاج!

أنا ابن العراق الذي أُبتلي بالانقلابات العسكرية التي سوّدت وجه العراق وجاءت بالعسكر الذين حولوا البلد إلى ثكنة عسكرية لا تنتج سوى فن الرشوة وفن السلب والنهب، وفن المحسوبية والمنسوبية.

أنا ابن العراق الذي أُبتلي بالأحزاب التي تولّي وجهها نحو المشرق والمغرب دون أن تولّي وجهها على الإطلاق نحو ابن البلد المنكوب، المحروم، المعذّب!

أنا ابن العراق الذي أُبتلي بالأميّة الثقافية التي عمّقتها الديكتاتورية ووسعتها حتى شملت النخبة الثقافية نفسها إلاّ ما رحم ربي، والذي أُبتلي، قبل ذلك وبعده، بالأميّة في مفهومها الأصيل!

في أرضٍ كهذه يكون الشعر هو الفن المطلوب ويكون كاتب هذه الأرض هو الشاعر. إنه، أي الشعر، الفن الذي يستجيب بسرعةٍ مدهشةٍ إلى الأحداث العجيبة والحروب العبثية والصراعات الزلزالية التي لا تكفّ عن  التناسل والحضور، كما يستجيب بالسرعة ذاتها إلى صيحات الروح وسط الزلزال العنيف وصبوات القلب وسط الحرمان الأسطوري ودموع الروح وهي تنتقل من فاجعةٍ إلى أخرى. في حين تكاد الرواية أن تتهاوى إزاء عنف الزلزلة والصراع  الوحشي، لأنّ فن كتابة الرواية، كما هو معروف، فن حضاري يستلزم، ضمن ما يستلزم، أرضاً ذات حد أدنى من الثبات والاستقرار حتى يستطيع الروائي أن يعرف أين تقف قدماه  ليؤدي دوره المناط به. فكيف يمكن كتابة الراوية في بلد ينزف أبناؤه حدّ الموت دماً وحزناً وألماً نتيجة للصراعات الخرافية التي لم تعرفها أرض سوى أرض الرافدين، ونتيجة للانقلابات العسكرية التي نسفتْ مؤسسات العراق الحديث نسفاً، ونتيجة للأحزاب ذات وذات، ونتيجة للأمية الثقافية والأمية الاجتماعية؟

كيف للروائي أن يمارس مهمّته النقدية في مجتمع سحريّ وغرائبيّ من هذا النوع؟  بأيّ هامش مفقود أو ضحل أو ميت للحرية سيكتب الروائي إبداعه وهو الذي مهنته كشف التفاصيل الصغيرة لشخصيات المجتمع بشجاعة وشفافية وعين ذكية، وكذلك التقاط التفاصيل العميقة لأسرار هذا المجتمع المتناقض والعجيب؟ كيف له أن ينجز هذه المهمة المقدّسة دون أن يغامر بقطع رأسه أو بتكفيره أو نبذه أو تهميشه أو احتقاره؟!

ثم مَن سيقرأ رواية الروائي هذا بنسخها التي لا تتجاوز الألف؟  أهي النخبة المختارة أو المنافقة- سمّها ما شئت- والمتجسّدة بهيئة أصدقاء الروائي ومعارفه فقط؟ وهل سيدفع، كذلك، مِن جيبه للناشر "مصاص الدماء" لينشر له روايته التي أنفق في كتابتها السنوات، وعانى من أجلها ما عانى من صنوف الحرمان والمعاناة وشظف العيش؟

هنا يبدو الشاعر أفضل حالاً من أخيه الروائي بعض الشيء. فهناك صحف ومجلات تنشر القصائد وتدفع مكافآت لشاعرها. والقصيدة لا تطلب حيزاً كبيراً لنشرها. ترى مَن ينشر فصول الرواية؟ أيّة مجلة تغامر في أن تفرد لفلان الروائي عشرات الصفحات لنشر فصل من رواية تعرف حقاً أن القارئ المتعب، لا يعيرها انتباهاً إلا إذا كانت لاسم  مشهور جداً أو كانت رواية ذات توابل جنسية؟!

لهذا كله تبدو كتابة الرواية، للأسف، حلماً مستحيلاً أو  قل هو المستحيل بعينه!

 

- أتعتقد أن عصرنا هذا هو عصر الرواية؟ في العقد الأخير شهدنا تطوراً كبيراً في النشر الروائي العربي ، هل تعتقد أن هذا سيأتي على حساب الشعر؟

* حسناً يا صديقي العزيز، لقد نُشرت في السنوات الأخيرة روايات كثيرة في العديد من البلدان العربية، لأسماء مختلفة وبمضامين إنسانية متميزة، وهذا شيء مفرح حقاً. لكن هذا لا يعني أننا الآن في عصر الرواية.

 فقبل أن ينتقل الغرب إلى عصر الرواية كانت قد انتقل إلى عصر المؤسسات التي تنظم حركة المجتمع وتنظم عملية تداول السلطة فيه بشكل سلمي وسلس. أما في المجتمعات الزلزالية كالمجتمع العربي حيث يتم القمع بطريقة ممنهجة، وحيث تُغيّب الحرية وتُضيّع أبسط حقوق التعبير والعيش والانتخاب عن القسم الغالب من المجتمع، وبخاصة حقوق الفقراء والمعدمين والنساء والأطفال والأقليات، وحيث تنتشر الأمية ويكافح الإنسان مستميتاً ليحصل على ما يسد رمقه من الخبز والدواء، وحيث يصول العسكر على المؤسسات الهشّة أو الضعيفة، في مجتمعات كهذه تكون الكتابة الروائية ضربا من الترف. فالروائي لا يمتلك قاعدة من القراء تستطيع شراء رواياته لتكتمل عملية الإبداع المعروفة. إنه يكتب لنفسه ولأصدقائه! هل يُعقَل هذا؟!

 

- هل تعتقد في زمن التطورات العلمية والتكنولوجية والاتصالية والكتابية أن الشعر قد انتهى أو أن مهمته قد انتهت؟

* لا الشعر انتهى ولا مهمة الشعر انتهت. الشعر كما أراه هو اكتشاف الحياة في ومضة نادرة وبأقل عدد من الكلمات. كيف ينتهي إذن؟ كيف تنتهي مهمة اكتشاف الحياة، والحياة نفسها، منذ قدمها السحيق، تتجدد كل يوم؟ ربما يكون مبعث سؤال كهذا هو ندرة الشعر الحقيقي. وهذه مسألة غير جديدة. الشعر الحقيقي والعميق نادر على الدوام. والغلبة في الظهور، على الأكثر، للنماذج غير الأصيلة، للنماذج التي تعوزها الومضة النادرة في اكتشاف الحياة أو تعوزها قدرة الشاعر على تجسيد هذه الومضة بشكل عميق ومبتكر دونما تعقيد أو تغميض. وبالتغميض أعني الغموض المفتعل وليس الأصيل.

  نعم، إنّ معادلة الإبداع في الشعر صعبة حقاً، وتتطلب من الشاعر خبرة حياتية وثقافية ولغوية وشعرية، مع مران مستم ، وإيمان حقيقي بالشعر ودوره الإنساني الخلاق، مع الحرص الصادق على عدم ابتذال الشعر بأي شكل من الأشكال.

 

- ترجمتَ قصائد ومقالات وقصصاً قصيرة للعديد من الأسماء الأدبية المعروفة في الولايات المتحدة وأستراليا وبلدان أخرى.. ما هي برأيك صفات المترجم الناجح، وكيف تختار العمل لتترجمه؟

* صفات المترجم الناجح كثيرة، أولها تمكنه من فهم أسرار وتفاصيل اللغتين (المترجم عنها والمترجم إليها) وتفاعله بشكل إيجابي مع النص المترجم وإحاطته بظاهره وباطنه. وكذلك تمسّكه بمبدأ الأمانة في الترجمة فلا يغادره إلا مضطراً للسبب لغوي أو جمالي، مع تمسّكه بمبدأ الوضوح والسلاسة واللطف في كتابة النص في اللغة الجديدة (المترجم إليها) بعيداً عن التقعير والارتباك والالتباس. ويحتاج المترجم الناجح إلى سعة في الإطلاع في تخصصه. فلترجمة الشعر مثلاً ينبغي على المترجم معرفة أساليب الشعر المختلفة عالمياً وكذلك معرفة حقيقية في الشعرية لدى اللغتين بحيث يتمكن من اختيار المفردة الأقرب إلى روح النص المترجَم وكتابتها على نحو يحفظ لها أكبر قدر من روحها الأصلية وأكبر قدر من الشعرية فيها، ولذا قيل إنّ أفضل من يترجم الشعر هو الشاعر وهذه حقيقة لا لبس فيها!

أؤكد - بشكل عام - في ترجمتي لشعري أو لشعر سواي على الأعمال التي تعتمد في حضورها الإبداعي على "الثيمة" أكثر من اعتمادها على مفارقات اللغة والتلاعب بالألفاظ. ذلك أن "الثيمة" يمكن أن تجتاز صعوبات الترجمة بنجاح  ويبقى العمل محتفظاً بزبدة جدواه الفنية. أما العمل الفني الذي يعتمد في حضوره على مفارقات اللغة فذلك لا سبيل إلى ترجمته البتة. كذلك أؤكد، قدر المستطاع، على الأمانة في الترجمة، مع منح القصيدة ما تستحق من شعرية دون الإساءة إلى هذه الأمانة بل الحفاظ عليها بكل الوسائل الممكنة. هذه هي الخطوط العامة لأسلوبيتي في الترجمة أما التفاصيل فإنها تتطلب حديثاً له بداية وربما لا نهاية له.

 

إنّ أهمية امتلاك الشاعر لناصية لغة حية إضافة إلى لغته الأم هي مسألة أصبحت في حكم البديهيات. كيف يمكنك أن تتطور شعرياً دون لغة ثانية تتيح لك الإطلاع الحقيقي والمتواصل على منابع الشعر في العالم؟ كيف يمكنك أن تتواصل مع التطور الحضاري في العالم دون لغة تعينك على الاتصال المباشر مع هذا التطور أولاً بأول؟ بل كيف يمكنك أن تتعامل مع مفردات الحياة اليومية وبخاصة المفردات التكنولوجية والعلمية التي أصبحت تُنطَقُ بلغة ثانية دون أن تعرف أسرار هذه اللغة الثانية؟

والمشكلة بالنسبة للشاعر العربي- وللقارئ العربي قبل ذلك- أكثر وضوحاً وأكثر حدة حين نتذكر أن مجموع ما تُرجِمَ إلى اللغة العربية من آداب وعلوم ومعارف الشعوب الأخرى لا يتجاوز2-3 بالمائة من المجموع العام لتلك الآداب والعلوم والمعارف! يحدث هذا والبلدان النفطية العربية تئن من فائض ملياراتها النفطية! ويحدث هذا والمترجم العربي شبه عاطل والمليارات تئن إلى يوم يبعثون!

 

- هل كانت طفولتك سعيدة؟ وكيف كان أثرها شعرياً؟

* لم تكن طفولتي سعيدة، بل على العكس كانت مليئة بالحزن والحرمان. وقد ترك ذلك أثراً في الروح لا يّمحي!

كما كان هذا الأثر دون شك محفّزاً لكتابة ما لا نهاية له من القصائد الحروفية التي تتساءل ببراءة عن سرّ الحياة ومغزاها. نعم، فالطفولة كالبئر التي يحدّق الشاعر في مياهها العميقة علّه يجد نفسه أو يفهم سرّها. هكذا يبدو الشعر محاولة لاستعادة طفولة ضائعة والبحث عن شموسها التي غرقت في الأنهار أو البحار، أو ضاعت في تجاويف الزمن ورحلته الأبدية العبثية.

ربما تختصر قصيدتي "طائرة ورقية" الجواب، وتجيب على سؤالك بلغة الشعر:

(في طفولتي

صنعتُ من حرفي طائرةً ورقية

طائرة ما أن رآها الأطفال

تطيرُ عالياً في السماء

حتّى سرقوا خيطها الطويل.

لم أعر انتباهاً لما حصل

وصرتُ أحملُ طائرتي بيدي

وأمشي فرحاً في الأسواق.

وحين أصبحتُ شابّاً

قبّلتْني امرأة أجملُ من اللذة

لتسرق ذيلَ طائرتي وتمضي.

لم أعر انتباهاً لما حصل

لأنَّ الحربَ بانتظاري

لتسرق هي الأخرى

لتسرق العودَ الصغيرَ في وسطِ الطائرة.

هكذا أصبحتْ طائرتي مجرّدَ ورقة

ليس إلاّ

حملتُها ومضيتُ لأعبر البحر.

لكنّ البحر،

بحركةٍ عنيفةٍ ومفاجئة،

أسقطَ طائرتي في مائه المالح.

ولكي أُخرجها منه

كُتِبَ عليَّ أن أموت كلّ ليلة

لأربعين عاماً

حتّى أُخرجها في آخرِ المطاف

ورقةً مبلّلة

ليس فيها من مباهج الطفولة

سوى لونها

سوى لونها الباهت المّمزَّق!).

 

-  نعود إلى كتاب (الحروفي)  الذي تناول 33 ناقداً فيه تجربتك بالدراسة وصدر بإعداد وتقديم د. مقداد رحيم.. مَن هم هؤلاء النقاد الذين شاركوا فيه؟ وهل عمّق لديك أهمية النقد للإبداع؟

*  النقاد المشاركون فيه هم: أ. د. بشرى موسى صالح، أ. د. مصطفى الكيلاني، أ. د. عبد العزيز المقالح، أ. د. عبد الإله الصائغ، أ. د. حاتم الصكر، د. ناظم عودة، د. حسن ناظم،  أ.د. عبد الواحد محمد، د. عدنان الظاهر، عبد الرزاق الربيعي، صباح الأنباري، علي الفواز، وديع العبيدي، عيسى حسن الياسري، د. خليل إبراهيم المشايخي، زهير الجبوري، د. محمود جابر عباس، صالح زامل حسين، هادي الربيعي، فيصل عبد الحسن، د. إسماعيل نوري الربيعي، نجاة العدواني، د. حسين سرمك حسن، رياض عبد الواحد، واثق الدايني، ريسان الخزعلي، أ. د. محمد صابر عبيد، عيسى الصباغ، عدنان الصائغ، يوسف الحيدري، ركن الدين يونس، معين جعفر محمد، ود. مقداد رحيم الذي أعد الكتاب وقدّم له ليصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت.

وبالطبع فقد أفادني الكتاب عبر ملاحظاته النقدية العميقة، الكثيرة، المختلفة. وأكدّ لديّ أن تجربتي الشعرية ذات حضور وقبول رغم اختلاف النقاد في توجّهاتهم وأفكارهم ومدارسهم ومشاربهم وانتباهاتهم ولقطاتهم.

 

- هل من مشاريع شعرية في الطريق؟

* نعم، هناك أكثر من مجموعة شعرية في الطريق، لكنني لا أحبذ الإعلان عنها قبل صدورها. فأنا لا أحب استباق الأحداث ولا الحديث بلغة المستقبل. أميل إلى الحديث عن الأحداث بلغة الماضي أو الحاضر فقط!

...................

 

 

 

 

نُشر الحوار في موقع جدارية: مجلة ثقافية اليكترونية تصدر من مدينة عدن بتاريخ 23-3-2009 .

 

  

 الصفحة الرئيسية