د . صالح هويدي

 

 

 

   صالح هويدي ناصر .

-         دكتوراه في الأدب الحديث ونقده (جامعة بغداد ) .

-         ماجستير في البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن (جامعة القاهرة ) عام 1980 .

درّس في الجامعات العراقية والليبية وشغل مهام رئيس قسم للغة العربية .

 *شغل مهام رئيس قسم للغة العربية في كلية الآداب / زوارة (جامعة السابع من أبريل).

-         يعمل موجها تربويا للغة العربية بوزارة التربية والتعليم بالإمارات منذ عام 2000.

-         عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق .

-          عضو رابطة نقاد الأدب في العراق .

-         أمين الشؤون الثقافية ورئيس نادي القصة في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق من1991- 1993.

-   عضو في عدد من لجان التحكيم الأدبية كلجنة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ولجنة غانم غباش للقصة القصيرة ولجنة أندية سيدات الشارقة ولجنة جائزة الشارقة للإبداع ،الإصدار الأول وجائزة الصدى الأدبية لأدب الشباب.

-         عضو هيئة تحرير مجلة شؤون أدبية لاتحاد الكتاب والأدباء الإماراتيين منذ 2003.

-          عضو هيئة تحرير مجلة الثقافة التربوية ( محكمة ) التي تصدرها وزارة التربية والتعليم بدبي .

-          عضو لجنة التأليف والنشر في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات منذ 2003.

-         عضو لجنة قبول العضوية باتحاد الكتاب والأدباء، بالإمارات منذ عام 2005.

-         عضو هيئة تحكيم جائزة الشيخ حمدان بن راشد للمعلم المتميز والمعلم فائق التميز للأعوام من 2001 – 2006.

-         شارك في عدد من المؤتمرات والندوات المحلية والعربية .

-          نشر بحوثه ودراساته في معظم الدوريات العربية .

-          أصدر عدداً من الكتب والمؤلفات منها :

·    الترميز في الفن القصصي العراقي الحديث : دار الشؤون الثقافية العامة ، وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد 1989 م .

·  التوظيف الفني للطبيعة في أدب نجيب محفوظ : دار الشؤون الثقافية العامة ، وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد 1992 م .

·  بنية الرؤيا ووظيفتها في القصة العراقية القصيرة : دار الشؤون الثقافية العامة ، وزارة الثقافة والإعلام ، سلسلة الموسوعة الصغيرة ( 386 ) ، 1993 م .

   النقد الأدبي الحديث ، قضاياه ومناهجه ، منشورات جامعة السابع من أبريل ، ليبيا 1998 م .

  تحليل النصوص الأدبية بالاشتراك مع د. عبد الله إبراهيم دار الفكر الجديد ، بيروت 1999 م .

·  نازك الملائكة أميرة الشعر الحديث بالاشتراك مع عدد من الباحثين ، كتاب الصدى ( 4 ) سلسلة غير دورية ، دار الصدى للصحافة والنشر ، الإمارات العربية المتحدة ، دبي 2001 م .

    صفحات من كتاب التراث : دائرة الثقافة والإعلام ، الشارقة 2002 م .

    العبور إلى أزمنة التيه : دائرة الثقافة والإعلام ، الشارقة ، 2003 م .

·    صورة النوخذة في الرواية الإماراتية الحديثة، مركز زايد للتراث والتاريخ، العين، الإمارات العربية المتحدة 2005.

 sfayad54@yahoo.com

 

ملكوت

شعر : صالح هويدي

 

( 1 )

يمضي الغيمُ قريباً من نافذتي

ومن نافذتي ..بعيداً عنها تلهو الريح 

أُناغيها

تسخر من لغتي

أمدّ لها رأسي ويديْ

تقلبُ لي شفتيها

يدخلُ سعيي للامساك بها

صندوقَ العبث الأبدي

فأرى في الأفقِ طيورَ اللهِ محلقةً

وبعضَ غبار

تنفضهُ امرأة

في الدورِ الثالثِ من شرفةِ شقتها

وأنا في الدور الحادي والعشرين

أقبعُ للعقد الثاني منفيا

أتأملُ في مرآةِ الروح سخاما

يصّاعدُ من أعطافي

لا يلوي في الأفق على شيء

(2)

كلّ دوّمَ في ملكوتِ اللهِ وآبْ

إلا أنتْ

كلّ يفزعُ من دنياه .. يضيقُ بها

ليؤوبَ إلى عشّ أو بيتْ

إلا رجلاً يقبع في الدور الحادي والعشرين

يحادثُ مَن مرّ ومن لم يسعفهُ الحظّ بلقياه

يتأملُ كفّينِ محملة بسخامِ العالم ِ

يرنو في الأفق ، عسى أن تعثرَ عيناه

على ما ضيّعهُ – في زحمةِ هذا العالمِ – من ملكوتْ

 

ملوك سبأ

شعر: صالح هويدي

 

 

 

أيها الطاعن في التيه

المتلبث عند دخان المواجع

لم يبق في موقد الروح جمر

أرني وجهك

قم بنا نحتسي ذهبا من عروق الحياة

قم بنا ساعة، ندخل التيه، ننسى الممالك

سيدي يا سليل الزمان المضيء

أيها المالكون

تخلينا لكم عن حبيباتنا.. في زمان الصبا

سرقتم لذاذاتنا في الطفولة

أحلامنا في الشباب

مواطئ أقدامنا

في البلاد التي ضاقت بنا

البلاد التي تركنا لكم أفياءها

نسيم أماسيّها.. هسيس النخيل، ورائحة الطلع والأمهات

البلاد التي للدعاة فتحتم ثياب حبيباتنا

ليشرب ما شاء من دنّها الظامئون

ويلعق أفخاذهن ملوك الطوائف

وها نحن ذا، نمرّغ جبهاتنا في وحول الزمان

نمرّغ أرواحنا كل يوم

بترب الأزقة في الحلم

نشرئب بأرواحنا إلى سدرة المنتهى

ونعود بها كومة من رماد

معزوفة من نشيج ودم

لا نصدق هذا الذي نسمع من، ظلمات الزمان وغدر المكان

أما زالت الحرب بينكم بين كرّ وفر؟

أما زلتم أيها المحترفون

تنوسون بين الغنائم

تطوفون بالخلق أسرى وهم

فاغرون حيارى

تجولون بين القبائل، بعد الطواف

بأوثان ذاك الزمان

وزيرا، وكيلا، أميرا

وإلا فلن يتعافى الوطن!

أيهذا الوطن

كم ارتكبوا باسمك المتعالي الكبائر تلو الكبائر!

أيها الوالغون صباح مساء

بدم الأهل والأصدقاء

يا من فقأتم عيون الحمائم

يا من قصصتم ضفائر أوروك

هددتم معابد سومر

ملأتم بلادي رمادا

افيئوا

فلم يبق في موطني منزع للوتر

  

مشهد ليلي

شعر: صالح هويدي

 

عجيبٌ هذا الذي يحدثُ لي كلّ يومْ

أُغلقُ الباب في ثقة بيديْ

بعد ليلٍ طويلْ

خلوةٍ من زجاجْ

وأُهيلُ الستائرَ

أُسدِلها

أكتمُ نأمةَ يومي الأخيرْ

أقولُ أخيرا نجحتْ

وذي فرصةٌ للوئامْ

ألوذُ بها بينَ روحي وبيني

فمن أينَ تأتينَ سيدتي

تخرقينَ الحصارْ

كلّ ما صمّمتْهُ يدايْ

في اللواذِ بنارِ التوحدِ

بردِ الخديعةِ

صار وهما

تهدمينَ الجدارْ

بصورتكِ العذبةِ

دفءِ يديكْ

نبضِ وريدكِ

غمّازتيكْ

صخبِ جوانحكِ

ها هي ذي صورةُ الجسدينِ

يشتعلانِ في جسدٍ واحدٍ

أتأملُها

لهبا من نُضارٍ مضيءْ

أتقرّى تفاصيلَ مشهدها المدهشِ

صورةُ مَن هذه يا صاحبي؟

أتفرّسُها مرتعشا في وجومْ

في وهدةِ الليلْ

يُتعتعني تعبٌ وارتخاءٌ غريبْ

كيفَ يمرقُ طيفُكِ عبرَ هذي الحواجزِ

يمزّقُ ما بيننا

من سُدفٍ وعهودْ

كيف ينبثقُ الشوقُ من داخلي

لينامَ معي

كلّ يومْ

يقرأُ في صفحاتِ الكتابِ..الوحيدِ

الذي أقلّبهُ

يقلّبُ صفحاتهِ

ويتركُ أنفاسَهُ

فوقَ طاولةٍ للنبيذْ

فوق أوراقيَ البيضاءِ

حلمِ عمري الجميلْ

يتركُ أنفاسَه

على بضعةٍ من ثيابي التي أرتديها

شرشفٍ من سريريْ

جداري الذي أُسنِدُ ما تبقى منّي إليهْ

فمن أينَ لي أنْ أروغَ وأينْ؟

ليس لي من مهربٍ إلهي سواكَ.. وشِعري

عجيبٌ هذا الذي يحدثُ لي كلّ يوم هنا

في ساعةٍ للهزيعْ

وحيدا

يُتعتعني لَغبٌ واشتياقْ

جارحٌ

فأُهرعُ منّي إليْ

  

توظيف المعطى التشكيلي في النص الشعري

 

  تبدو قصيدة (إشراق)* للشاعر ياسين طه حافظ، في شكلها الظاهري، فقرة واحدة، لكن التمعن في واقع بنية القصيدة وحركة نموها وزوايا تعبير الشاعر المختلفة، عن موضوعه فيها، يكشف لنا عن حقيقة اشتمالها على مقاطع أربعة .

  يضم المقطع الأول السطرين الأولين اللذين يمثلان مطلع القصيدة .

  ويضم المقطع الثاني السطور التالية لهما، بدءاً بالثالث (لم تكن نجمةالخ) وانتهاء ب "وعرائش غافية فوقها الثلج والظلمات " .

   أما المقطع الثالث فتمثله السطور التي تبدأ ب (كان مصباح غرفتها واطئاً الخ)، وتنتهي بالقول (ذهب ساطع واشتعال مدار )، وما تبقى من القصيدة إنما هو المقطع الرابع والأخير فيها.

   المشهد التشكيلي : يبدو المشهد الأول في القصيدة، أقرب في عناصره وطريقة تقديمه، إلى اللوحة التشكيلية، وهو معطى تؤكده اللمسة التي تجسد المشهد، مجمدة فيه الحركة الزمنية ، فثمة في المشهد هدوء أبدي مرين على عرائش غافية،ومسافات مقيمة على انتظار :

  "تهدأ الأبدية فوق عرائش غافية

   وتظل المسافات صامتة بانتظار"

     المشهد السينمائي : في الوقت الذي يقدم فيه الشاعر المشهد الأول،من لحظة زمان تقع في الحاضر، وتدل عليها الأفعال المضارعة (تهدأ ، تظل)، نراه ينتقل بعد هذا انتقالة مفاجئة إلى أحداث وقعت في الماضي ولحظات تصرمت، وذلك من خلال أسلوب الارتداد(الفلاش باك) :

   لم تكن نجمة في السماء

 .…الخ

    وعلى الرغم مما يوحي به مشهد الافتتاح، من سمت رومانتيكي وهدوء وقور، فإن قدراً من الحياد في ملامح الصورة، هو الذي يبدو واضحاً للعين، ممثلا في هيئة الأعراش الغافية أبدا،والمسافات الصامتة المنتظرة دوماً، انتظار ما ستفصح عنه القصيدة في مقاطعها اللاحقة .

   وإذا كان ما يلاحظ على المقطع الافتتاحي للقصيدة تحقيقه الانطباع الكامل لدى القارئ من واقع إكماله الصورة لفظاً ومعنى ، فإن أول ما يلاحظ على البنية اللفظية للمقطع الثاني ميل الأسلوب فيها إلى الإضمار والحذف،في أخبار الأفعال الماضية الناقصة، التي لا بد من تقديرها بكلمة (حاضرة) أو (ماثلة) أو (حاضر) أو (موجود) وأضرابها لإتمام المعنى :

    "لم تكن نجمة في السماء

    كان برد الشتاء

    ودروب الشتاء

    كانت الغرف المغلقات

    وعرائش غافية فوقها الثلج والظلمات" .

    ولو حاولنا الوقوف على سر هذا التغير، في البنية الأسلوبية للمقطع الثاني، ولجوء الشاعر فيها الى الإيجاز الشديد والحذف ، لوجدناه كامناً في المنطق النفسي للشاعر فالشاعر هنا واقع - كما يبدو من القصيدة - تحت وطأة سيطرة الذكرى على حواسه، وإلحاح الماضي، الذي يبدو أكثر هيمنة وأشد سطوة على ذهنه ، فهو ينفلت عقب مطلع القصيدة القصير بطريقة الارتداد الذهني، إلى أسطر طويلة نسبيا، ليفصح لنا عن جانب من تجربة ذلك الماضي القابع تحت سطح الذاكرة .

    وما إن يدخل الشاعر في عالم  الماضي وذكرياته، حتى ينفلت فيض، لا قبل له بشرح مفرداته وبيان تفاصيله وسرد أحداثه، فالذات لهفى والأنفاس متقطعة، لا تقوى إلا على التلميح والإيماء .

   من هنا كان الحذف والإيجاز الشديد يتخذ ملامح عين الكاميرا السينمائية التي تقتنص الصور عبر حركة الانفتاح السريع المتتالي لفتحة عدستها، مما يجعل منها صورا سريعة متخاطفة ، تؤكدها الجمل القصيرة المتقطعة، وما يعتورها من حذف وإيجاز شديد. وهي صور تختلف عن صورة الافتتاحية المتمايزة بطول جملتها، وبطء إيقاعها، وامتداد حروف بعض الجمل في مفتتح القصيدة، وما يعمق هذا الامتداد الصوتي لكلمتي (الأبدية) و(المسافات) من إحساس بالبطء .

   وإذا كان ما يميز ملامح صورة الافتتاحية وألوانها، جو الحياد الذي يبدو واضحا في ما توحيه العرائش الغافية والمسافات الصامتة في انتظار، فإن أبرز ما يميز ملامح الصور التي ضمها المقطع الثاني، هو الإيحاء بالأجواء السلبية التي تمثل الطبيعة الخارجية، في هيأتها التي تقف في الضد مما يتمناه المرء فيها. فثمة شتاء بارد ودروب موحشة وسماء ليس فيها نجم واحد، لا شيء سوى غرف مغلقات توحي بالمجهول والغموض وانسداد طريق المرء، أكثر مما توحي بالطمأنينة واليقين ، ثم أخيرا، لا شيء سوى عرائش غافية ، لكنها ليست العرائش التي طالعنا بها مفتتح القصيدة، فقد تغيرت العرائش هذه المرة وتبدل سمتها المحايد لأنها عرائش الأمس (الذكرى)، لا عرائش الحاضر التي بدت في مفتتح القصيدة ، بعد أن أضيفت إليها ملامح انتقلت بمعطياتها من جو الحياد الى جو السلب، الممثل في الظلمات التي اكتنفتها والثلوج التي جللتها. وفي الظلمة عتمة وضياع وعمى وانسداد طريق ، وفي الثلج برودة تطرد الدفء وصقيع يوقف الحياة :

   " لم تكن نجمة في السماء

    كان برد الشتاء

    ودروب الشتاء

    كانت الغرف المغلقات

    وعرائش غافية فوقها الثلج والظلمات .".

    مشهد الرواية : إذا كان الشاعر في المقطع الثاني قد انتقل بالقصيدة من أسلوب اللوحة التشكيلية التي تعمق ملامح المشهد الثابت، ليتخذ دور العدسة السينمائية التي تقذف إلينا باللقطات السريعة، التي تفترض بالمتلقي قدرة على الربط والتركيب والفهم، فإن المقطع الثالث من القصيدة يجعل من الشاعر راوياً، يحكي لنا  بطريق السرد ، جانبا من تفاصيل الأحداث غير المفهومة، والإشارات التي سبق أن مرت أمام ناظرينا، والدلالات التي ما تزال بحاجة إلى استكشاف :

   "كان مصباح غرفتها واطئاً

    والجمال الذي أخفت السنوات

    يتكشف في خلوة

    وردة الروح وهاجة تهب الجسد

    المتهيب جرأته       

    والعيون التي تتوهج خضرتها

    ذهب ساطع واشتعال مدار" .

    في هذا المقطع ، يخلد الشاعر الى الراحة ويلتقط أنفاسه المتقطعة، فلا يبخل علينا، بقدر ما يطل علينا، بمعلومة هنا وأخرى هناك ، يكشف فيها عن واقع تجربته الشعورية والباعث عليها، لنكتشف امرأة خلف الستار الذي كان مسدلاً من قبل، ولنحس بتفاصيل تلك التجربة وطبيعتها

   ولأن الشاعر قد التقط أنفاسه واستبدل بأسلوب العدسة السينمائية أسلوب الرواية الشفوية ،جاء أسلوب روايته بعيداً عن الحذف والإيجاز، فالمبتدأ في الجملة لا بد له من خبر يوضحه ، بما لا يقبل الشك والتأويل، واسم الفعل الناقص لا بد له من خبر موافق له أيضا، يكمل معنى الجملة في تفاصيلها الضرورية .

   وفي هذا المقطع الجديد نفاذ إلى أشياء العالم الخاص الذي شهد تجربة الشاعر ، بموجوداته المادية والبشرية، وانتقال من المرحلة التي اقتصرت على وصف عالم الطبيعة التي أريد لها ، من خلال ما أضفاه الشاعر عليها من ملامح جديدة، أن تؤدي دور الممهد للحدث الرئيس وهو في ذروة نموه .

   إن السمة المهيمنة على صور هذا المقطع، إنما تبدو واضحة، في حال الانبهار التي يعيش فيها الراوي، والتوهج الذي تشهده روحه وتتخلق من جديد، بفعل هذا اللقاء الحميم والاندماج بالآخر الى حد التوحد . وهذا هو الذي يفسر تفشي الضياء ولوازمه وما يتصل به في هذا المقطع ، فالتجربة هنا لا تعدو كونها حالة تجل واحتراق وتألق .

   (مصباح ، يتكشف ، وهاجة ، تتوهج ، ساطع ، اشتعال) .

   لقد بدا كل شيء في عيني الراوي واضحاً أشد ما يكون الوضوح، جليا كما لم يكن في أي وقت مضى . انه جمال يتكشف له أول مرة في خلوة وهناءة، مجليا محيا المرأة الوضيئة وقسماتها، التي لم تحل السنون دون التقاطها . وما انخفاض مصباح الغرفة سوى وسيلة فنية تحايل بها الراوي على قارئه ليفسر له سر التجلي وباعث هذا الاكتشاف الجديد والتوهج الآسر الذي سيستمر متواصلاً، من خلل عدد من المفردات التي تقذف بها المخيلة، على طريقة التداعي اللفظي .

    ولا ريب في أن التوهج الذي يحس به الراوي،يتعدى هنا حدود جزئيات العالم المادي وأعضاء الجسد البشري، ليمتد الى الروح ؛ المحرك الأول للجسد (في الفن والحياة)، والباعث على الجرأة التي صار عليها هذا الجسد وآل إليها من حركة، في لحظة تألقه.

   في السطرين الأخيرين من المقطع الثالث يقترب الشاعر ، الذي يتخذ دور الراوي في هذا المقطع، في معطيات الصورة التي يعمد إلى البوح بها، من نقطة الفن الرمزي، وذلك حين يمزج ما هو حسي من ملامح بما هو معنوي ، ممثلا في وصفه توهج خضرة العين بالاشتعال المدار، وكذلك حين يعمد إلى كسر واقع العلاقات المنطقية التي يقوم عليها التشبيه الصوري، حين يشبه خضرة العين بالذهب الساطع :

  " والعيون التي تتوهج خضرتها

  ذهب ساطع واشتعال مدار"

  إن الشاعر هنا،يتعالى على العلاقات المنطقية المتحكمة بالصورة ويتجاهلها عن عمد وإصرار، ليكشف عن إيمانه بمنطق النفس ان صح التعبير واللحظة الشعورية التي يعيش الراوي في أجوائها وتجعله يرى ما لا يراه الآخرون، ويحس به كما لا يحسون هم به. ومن الطبيعي أن يرى الراوي خضرة عيني الحبيبة والحالة هذه (ذهب ساطع واشتعال مدار)، بعد أن حل في أتونها واكتوى بنار توهجها فكانت اشتعالاً في اشتعال .

  ها نحن إذن، ندلف أخيراً مع الراوي في هذا المقطع، الى الغرفة ذات المصباح، بعد أن إذن لنا في الدخول إليها، وكان من قبل ضنينا علينا بمعرفتها، موصدا بوجهنا بابها : 

  كانت الغرف المغلقات

  (المقطع الثاني)

  كان مصباح غرفتها واطئاً

  (المقطع الثالث)

    مشهد المناجاة : في المقطع الرابع (الأخير) من القصيدة، يعود الراوي من زمن المضي والذكريات (كان، كانت) إلى زمن الحضور، الذي يتطابق في لحظته مع زمن افتتاح القصيدة (الزمن المضارع)، ليبدو الراوي في حالة تأمل، يفصح عن امتلاكه العبرة ويكشف عن استشعاره أثر الزمن ودورته فيه .

   في هذا المقطع، توحد مع النفس ومناجاة لها، وانسحاب من المشاركة في الأحداث إلى حيث الذات، إذ لا يعدو الحديث الذي يشكل مادة هذا المقطع كونه (مونولوجا) داخليا يتنبه الراوي فيه الى كل ما سبق أن رواه لنا وصوره ورسم ملامحه، من أحداث تجربة حميمة تمايزت بحيويتها وسخونتها، لكنها استحالت الى ركام من الجليد، الذي لم يكن يتوقع له الانهيار يوما، ليتدافع تحت اثر النار المشتعلة، ولينهار متدافعا سريعا، يجعل الراوي يقف منه موقف المتأمل للمشهد المنبهر به في آن معا ، بعد أن لم يكن يظن أن ما تحت الجليد من مشاعر الشباب وذكرياته له القدرة على التوهج والانبعاث مجددا، ليهبه لحظات الإشراق المستعصي اللذيذ :

   "تتدافع أزمنة شبت النار في ثلجها

   وأنا أتأمل منبهراً

   وهجات الشباب الذي ادخرته السنون

   وانهيار الثلوج القديمة في ساعة

   وشروق النهار"

   لقد بدا الراوي أول مرة في هذا المقطع، منفصلاً عنه، متجرداً عن واقع الأحداث، متأملاً في تفاصيلها وتلونها وتغير حالاتها، إلى انفتاح الأفق وإشراقه .

   والحق أن لجوء الشاعر الى استحضار صورتي (النار) و(الثلج) قد تجاوز هنا حدود تجاور المتناقضات والوجود المنفصل، بعد أن وضعهما في إطار علاقة جدلية نامية، انتهت في صالح العنصر المذيب المشرق ، ليجعل فعل التوهج والتألق متضمنا دلالته المادية والمعنوية في آن معاً .

   وإذا بدا جو القصيدة ملفعاً في أول أمره بالبرد والثلج والاستيحاش والظلمات ، فان نهايتها قد شهدت انهيار الثلج القديم وشروق نور النهار المضيء، بعد أن لم يكن الظن يقوى على تصور حدوث ما وقع للشخصية وتحقق .

   إن انتصار القصيدة للحظة الشروق، وابتعاثها الحيوية والألق، لم يأت عرضا، فهو عنصر بناء القصيدة الأساس وهمها الرئيس. يؤكد هذا اتخاذ القصيدة الإشراق عنوانا لها، وبما يؤكد وعي الشاعر بالمعطيات الدالة التي أشاعها في القصيدة، من خلل تشكيلها الفني .

    لقد اتخذ اللاشعور دورا واضحا في هذا المقطع، بعد أن شهدنا ظهور بذرته في المقطع السابق عليه، ممثلا في سيادة منطق التداعي اللفظي وتحكمه في واقع بنية القصيدة. فإذا كان المقطع الثالث متضمنا الإرهاص بالاشتعال في الأوصاف الآتية:

    (وردة الروح وهاجة ، والعيون التي تتوهج خضرتها ، ذهب ساطع واشتعال مدار)، فان المقطع الرابع (الأخير) قد تضمن إشاعة جو الاشتعال، في عدد من صوره الدالة على الشبوب والاحتراق من مثل :

   ( تتدافع أزمنة شبت النار في ثلجها، وهجات الشباب الذي ادخرته السنون، وشروق النهار)

     ولعل في طبيعة التجربة الوجدانية التي ترسمها لنا القصيدة، ما يفسر لنا هذا الحرص على الإيقاع النغمي فيها، وما اتسمت به من تركيز شديد وطبيعة خاصة في البناء، جعلت القصيدة تبدو أقرب إلى ما يمكن تسميته بقصيدة الدفقة، وأحسب أنها كتبت في جو محدد وجلسة واحدة.

     إن إنهاء الشاعر ياسين طه حافظ قصيدته بالزمن الحاضر، الذي بدأها به، تجاوز زمن  الذكريات، الذي احتل حيزاً من ذهن الشخصية ووجدانها، ومساحة كبيرة من واقع القصيدة، إنما ينتصر لزمن الحضور، ويعلى من شأن الرؤية المتفائلة، منقذاً القصيدة من التسمر عند حدود الماضي الأثري، أو الوقوع في براثن الندب والحسرة والتأوه، وسواها من المعطيات التي عرفتها القصيدة الرومانتيكية، حين تقف عند حدود الزمن الماضي وأحداثه المرتبطة بالنفس ارتباطاً لا تستطيع منه فكاكا.

   يبتعد الشاعر في قصيدة (إشراق) عن المزاوجة بين دائرتي الشعر والنثر، التي يعمد إلى الإفادة من معطياتها في عدد من قصائده السابقة ، لتبدو القصيدة عنده هنا مخلصة لتجربة الإيقاع الشعري الذي ينتظم مقاطعها جميعا، في تنغيم لا تخطئه أذن، إلى جانب التكثيف المركز للقصيدة، وإحكام وحدتها الشعورية، التي جعلت مقاطعها تأخذ برقاب بعض . هكذا يفيد الشاعر في هذه القصيدة من معطيات الفنون المختلفة، موظفاً إمكاناتها في صالح بناء القصيدة وتعميق الانطباع المحدد في ذهن القارئ، والإيحاء بالدلالات المختلفة للمشاهد التي اعتمدت عليها القصيدة، للإيحاء بجوها وتشكيل ملامح عالمها الخاص، من خلل اللوحة المعبرة عن جو القصيدة، مروراً بصورة الطبيعة المتخاطفة الموحية، ثم بسرد تفاصيل بعض الأحداث الأساسية، وانتهاء بانفصال الراوي عن الحدث وتأمل ما ترسب في نفسه واستقر في وجدانه، عقب عودة من الماضي الذاهب إلى الحاضر القائم .

 الإحالات:  v   القصيدة منشورة ضمن المجموعة الشعرية (قصائد السيدة الجميلة) ، ياسين طه حافظ ، شعر ، دار الشؤون الثقافية العامة ، وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد ، العراق .

 

 إشراق

شعر: ياسين طه حافظ

تهدأ الأبدية فوق عرائش غافية

وتظل المسافات صامتة بانتظار

لم تكن نجمة في السماء

كان برد الشتاء

ودروب الشتاء

كانت الغرف المغلقات

وعرائش غافية فوقها الثلج والظلمات

كان مصباح غرفتها واطئاً

والجمال الذي أخفت السنوات

يتكشف في خلوةٍ

وردة الروح وهاجة تهب الجسد

المتهيبَ جرأته

والعيون التي تتوهج خضرتها

ذهب ساطع واشتعال مدار

تتدافع أزمنة شبّت النارُ في ثلجها

وأنا أتأمل منبهراً

وهجات الشباب الذي ادخرته السنون

وانهيار الثلوج القديمة في ساعة

وشروق النهار

شعرية التأمل في الخطاب الشعري المعاصر

("دلال الوردة" نموذجاً)

صالح هويدي

يعود الشاعر يحيى البطاط إلى إصدار مجموعته الشعرية الجديدة “دلال الوردة” بعد ثماني عشرة سنة من صدور مجموعته الشعرية الأولى “تموت الشظايا” في عام ،1988 وهو زمن يتجاوز كما يبدو حدود التريث الطبيعي أو المراجعة الذاتية، ليثير أسئلة مشروعة، ربما يتولى المتن الشعري الجديد الإجابة الضمنية عنها. تكشف المجموعة الشعرية الجديدة عن عدد من الأساليب والاتجاهات والملامح المختلفة المتنوعة التي أريد لها التعايش فيما بينها، وبما يوحي بتمثيلها مراحل زمنية مختلفة، حال دون التحقق منها إغفال الشاعر ذكره تواريخ كتابتها.
على مستوى التلقي، تتفاوت القصائد فيما بينها، ما بين وضوح سافر وانكشاف للموضوعة، مرورا بالغموض الشفيف الموحي بما وراءه للقارئ المدقق، وانتهاء بضروب التجريب المختلفة، ممثلة في الإفادة من معطيات الفانتازيا وعوالم السريالية.
من هنا وجدنا التعبير عن العالم الواقعي في قصائد الشاعر يبرز إلى جانب تشييده عوالم وهمية. بل إن ذلك لم يمنع من رؤيتنا قصائد بعينها، تزاوج في معطياتها، بين العالم الواقعي والعالم التخييلي.
وكما جمعت المجموعة الشعرية بين عدد من الاتجاهات والأساليب المختلفة وجدنا لغتها، وإن غلب عليها الطابع الإيحائي، تتفاوت بين لغة ذات استخدام خاص ومظاهر انزياح ثر في معظمها، وأخرى واضحة، وثالثة وصلت إلى حواف اللغة الإشراقية:

“أقرؤني فيك
لماذا لا أقرؤك فيّ
أنت مرآتي التي لا أراني فيها
(...)
لا أرى غيري
وكل غير سواي”.

وإذا كان طول القصائد في المجموعة الجديدة يتفاوت في عمومه بين (1-3) صفحات، بوصفه ملمحا غالبا على جل القصائد، فإن هذا الملمح لم يخل من استثناءات تمثلت في قصائد تراوحت صفحاتها بين (5-6) صفحات، كما في “غراب” و”سيرة مرآة”، في حين لم يتجاوز النص الشعري”ندم” ثلاث عبارات “6 كلمات” فقط:

“لك أنت
وليس لسواك
تتألم النظرة”.

لا ريب في أن هذا التمثيل البانورامي للملامح والأساليب في مجموعة الشاعر يحيى البطاط لا يعبر عن انتماء قصائدها إلى مراحل زمنية مختلفة وحسب، وإنما يعبر، في جانب منه، عن رغبة الشاعر في التحرر من أسر المواقف الجاهزة أو الانحياز إلى أسلوب دون سواه، في محاولة لجعل بنية القصيدة معادلا وفيا لتجربتها المعيشة ومضمونها الدال عليها.

أولا: مستوى البناء الفني:
1 تقنية الحوار الداخلي:

لعل من أبرز ملامح البناء الفني في قصائد المجموعة اتخاذها تقنية الحلم وسيلة فنية للتعبير عن رؤية الشاعر. ففي هذه الوسيلة- كما هو معلوم- فرصة للنفاذ إلى مساحات العقل الباطن وتجلياته التي جاءت مزيجا من التهويمات والعوالم المستندة إلى منطق النفس أكثر من استنادها إلى منطق العقل، ما أكسبها قدرا من الشفافية لا تخطئه عين القارىء:

“كم أراني..
أحلم بهذه اليد
تشبه فزاعة
أراها تلوّح من بعيد
لكم أيها الموتى
وأنتن تنقّرون
في حقل أحلامي”.

لقد قادت تقنية الرؤيا(الحلمية) في مجموعة “دلال الوردة” إلى شيوع أسلوب (المونولوج) الذي احتوى مناجاة الشخصية المنكفئة على ذاتها، المغلبة مساحة البوح على لغة الحوار الخارجي(الديالوج):

“الوجوه التي لا تعنيني
التي ألفت تقلباتها،
تشاركني كل ليلة أحلام نومي،
وكل يقظة،
أحلام يقظتي”.

ومما يؤكد انطواء الشخصية على ذاتها، اقتران تقنية الحلم بملمح فني آخر، لا يعدو كونه وجها آخر لهذا الانطواء، ونقصد به ملمح التساؤل الذي شاع في عدد غير قليل من قصائد المجموعة ووسمها بطابع تأملي.
من هنا يمكن القول إن أبرز ما يميز البنية الشعرية للشاعر أنها بنية متمحورة حول الشخصية المأزومة التي بدت الظاهرة الأبرز، وبدت تساؤلاتها وتأملاتها الملتحفة بها تعبيرا عن محاولات جاهدة لفهم ما حولها من أسئلة وظواهر وإشكالات، تتصل بالعصر والحب والعالم والموت والصداقة والحياة والغربة والوطن..الخ. وقد تكشفت هذه التساؤلات أحيانا عن حالة من الرفض لدى الشخصية، لما حولها من تحديات:

“لماذا علي أن أشكر الآلهة،
وأذبح خيالي
تحت نظرها الحسود؟
لماذا علي أن أسقط
كلما مرّ سفاح
واستباح دمي؟”.

لقد قادت تقنية المونولوج وما حفّ بها من أسلوب تأملي وتساؤلات لدى الشخصية إلى تعميق الإحساس بالعري والوحدة التي تقرب من حالة الفصام مع الواقع المحيط بها. وقد عبر الشاعر عن حالة الفصام من خلال عدد من الأساليب الفنية غير ما ذكرناه، من بينها لجوء الشاعر إلى تجريد صوت من داخل الشخصية، في صورة أقرب إلى الانشطار، بغية خلق حالة من الحوار المعبر عن أزمة الشخصية:

“أنت أيها الغريب الذي يشبهني جدا
بوجهك الصقيل في المرآة،
حتى متى ستطاردني؟
أراك تعبت كثيرا..
وشخت كثيرا
كم أخاف عليك من الملل
عندما لا أعود”.

واضح أن الإحساس بالوحشة قد قاد إلى ظهور مظاهر فنية وأساليب تعبير، تعمق من الإحساس بها، مؤكدة حالة الفصام، منها ظهور ثيمة (القرين) التي يعكس توظيفها غربة الشخصية وانقسام وعيها، فضلا عن تماشيها مع حالة البوح التي تتسم بها الشخصية الإشكالية المهمومة، إذ تمهد لتفعيل حالة الحوار وتجاوز مشاعر الوحدة والوحشة والاغتراب، كما في “رؤى” و”الغراب” و”الوردة” و”ولا أمل لا أحد”.
ولعل هذا ما قاد أيضا إلى بروز مشاعر الإحساس بالعبث والاغتراب، وبفقدان الأشياء معناها لدى الشخصية. بل إن الشعور بالعبث واللامعنى يبدو رابضا حتى في عمق العلاقات الحميمة للشخصيات أحيانا:

“أركض في المتاهة
أركض في الفراغ الذي يتناسل في صوتك
(...)
وأنا أركض
خلف لا شيء”.

إن ثيمة الشعور بالعبث واللامعنى تبدو معطى متوزعا في جسد النص الذي يكتبه الشاعر، لصيقا بتجربة الألم والمعاناة التي تعيشها الشخصيات في التجربة الشعرية:
كلاكما بلا سبب بلا معنى ولا سلام
إن التمعن في أسلوب تقديم الشاعر للشخصية من شأنه الكشف عن حالة التأمل التي بدت ملازمة لها، وذلك من خلال مراقبة الشخصية للعالم المحيط بها، بهدف فهمه واستكناه معناه، وإدراك ملابساته:

“أبدا
للثقوب يتدفق النمل
مستمتعا بلوامسه التي لا تخطئ،
منحدرا من السقف،
يمضي إلى الجهات التي لا تحصى..”.

2 كسر النسق التقليدي في بناء الصورة:

يغلب على بناء الصورة في قصائد المجموعة مفارقتها النسق التقليدي، إذ يعمد الشاعر فيها إلى هدم العلاقات المنطقية للصورة، مخرجا إياها من سياقها المألوف تارة، مستبدلا بعض علاقاتها ببعض تارة أخرى. وهو ملمح يكاد يطغى على جل نصوص المجموعة التي تبدو الصور والعلاقات الأسلوبية فيها وهي تمارس خروقا وانتهاكات لأنساقها القارّة في ذهن المتلقي:

“.. يحصي فراسخي، ولا يقوى على عدّي، أمضي وإياه من دوني
وأنت نائمة في بيت أقفالي، بعينين من غبار، تغزلين من نهاري جثة
(...) بيدي هاتين سفحت بهجتي على بهجته”.

إن خلخلة البناء الفني للصورة، ممثلا في تبادل علاقاتها؛ بعضها ببعض، أسهم في توليد حالة من المفارقة، كشفت عن حضور مظاهر الانزياح. وهي مظاهر قادت إلى توليد جملة من الصور المبتكرة غير المألوفة:
“أيتها الشمس، وأنت تمشطين شعرك على مرأى الألم، كان البرق مصلوبا تحت أسوارك العالية”/ نكاية بالوداع، ترك كفه تتدلى من سماء الوطن، يقشر حماقة اللغة، ويقتسمها مع نفسه!/ “يرتقون بالدخان ثقوب سهرتهم، وعلى أصابعهم ريش الطفولة”.

مع هذا اللون من القصائد المخلخلة للنسق التقليدي للصورة، المعتمدة على تقنية الانزياح ومعطيات العالم الداخلي للشخصية، لن تكون مهمة القارىء سهلة في النفاذ إلى العالم الدلالي للتجربة الشعرية وإدراك تحولاتها الفنية، إذ هي بحاجة إلى قارئ مؤمن بقيم الحداثة، مدرب على استكناه البنية العميقة للقصيدة، صابر على مراوغتها ومغالقها، بما فيها من انزياحات وفجوات واستباقات ورؤى باطنية. وهو أمر يستدعي قارئا متجاوبا مع التحدي الذي يفرضه هذا النوع من الشعر المحرض للمخيلة، المحفز للوعي، المثير للمشاركة الإيجابية القادرة على إعادة إنتاج المقروء، إعادة خلاقة في ذهن المتلقي.

3 أسلوب التتابع المشهدي:

يغلب على طريقة بناء الصورة في مجموعة (دلال الوردة)، انتماؤها إلى المنطق النفسي، واتصالها بدخيلة الشخصية. لذا فإن صورها تبدو أقرب إلى صور الحالة منها إلى الصور المعبرة عن مرجعياتها الموضوعية. ولعل هذا ما جعل هذه الصور تبدو غائمة، من غير انطفاء، ومنطوية على قابلية إيحائية، يمكن أن تمنح معها نفسها لمن يسعى إلى افتضاض أسرارها بحب وصبر وتأمل. إنها المعطيات التي تخاطب المتلقي القادر على النفاذ إلى بياضات النص وردم فراغاته؛ لإعادة إنتاجه.
إن من بين تجليات المنطق النفسي في بناء الصورة، عزوف آلياتها عن اعتماد بنية النسق الخطي للمعنى، إذ هي تسعى بدلا من ذلك، إلى تعمد خلخلة هذا النسق واللعب عليه، عن طريق اعتماد أسلوب مراكمة المشاهد المتتابعة التي تأخذ شكل لقطات سريعة لمشاهد جزئية، يتجاوز بعضها العالم الواقعي إلى فضاء الفانتازيا، ليس على مستوى البنية الدلالية فحسب، وإنما على مستوى الصور (دلالات ومفردات وتراكيب). بل إن ولع الشاعر في ابتداع الصور الغريبة، غير المألوفة يبدو مهيمنا على الأجواء الشعرية لتجربته، حتى ليبدو ملمحا لا تخطئه عين القارىء:
“سألفق غيمة، وأتوسد وهما”/ “أنا الكمين الرابض، في تأوهات الشوك”/ ذات حرب، أدخلوه جثة جندي (..) ثم أغلقوا الجثة دونه/ ظهري مقوس، يسبقني رمادي إلي، وتضيء في قلبي شجرة/ ليس لكم سوى خدعة البقاء، على روائح مرورنا/ أي يأس يليق بك أيتها المقصلة، يا غبار الجسد/ يرتقون بالدخان ثقوب سهرتهم/ والماضي يفتش في جيوبهم، عن تابوت لأخطائه/ وحتى تصير الغابة غزالا، والخطوة وطنا سيعلق رأسه على مشجب الغبار.. الخ.

ثانياً: مستوى البنية الدلالية.
4 المرأة.. بنية للرمز والتضاد:

يثير حضور المرأة في مجموعة الشاعر الجديدة أكثر من قضية. فعلى الرغم من الحضور الطاغي للمرأة في النسيج الفني، فإن صور توظيف هذا الحضور لدى الشاعر تكشف عن غلبة المستوى التجريدي له تارة، والرمزي أخرى، فلا يكاد حضور المرأة يطل في المتن الشعري إلا من خلل الاستحضار الذهني لصورتها “زمن المضي”، أو الحلم بها “المستقبل”. وفيما عدا ذلك، فإننا لا نكاد نقف على صورة للعلاقة الحية المتشكلة عبر إرادة طرفين:
و”حتى يطل نهارك، سأحلم، بوطن لا يضيق بي”/ أهتف بك خذيني بدال وردتك.. اتبعيني، إلى وهمي بك/ منذ أربعين وهما، تعلم أن يمسك بالمرايا، ليأسر بها طفلة الشمس/ لماذا لا أقرؤك فيّ، أنت مرآتي التي لا أراني فيها.. يثلمني امحاؤك، ويعشش البوم على لساني.. الخ.
وإذ يؤثر الشاعر اتخاذ الوردة رمزا للتعبير عن المرأة وعلامة دالة عليها، مرادفة لحضورها، فإن ذلك يضعنا مثلما يضع نصه، في مواجهة السؤال عن إمكانات الطاقة الإيحائية لهذا الرمز التقليدي الذي استهلكته قرائح الشعراء ورددته متونهم الشعرية على مر العصور، فتحول من صورته الرمزية إلى صيغة نمطية جاهزة.
لقد اكتسبت المرأة في قصائد المجموعة سمات نموذجية، إذ بدت على الدوام محط إعجاب الرجل بها، والتفكير فيها، والحلم بلقائها.
وقد قاد تعلق الرجل بالمرأة وإعجابه بها إلى تثبيت هذه السمات النموذجية التي منحتها بعدا تجريديا(مطلقا)، في مقابل البعد النسبي الذي يمثله الرجل. بل إن تأملنا في طبيعة العلاقة فيما بينهما من شأنه أن يقودنا إلى اكتشاف حالة التضاد. فإذا كان الرجل يمثل ما هو نسبي وهامشي وهابط وواقعي وطيني، فإن المرأة تبدو في المقابل رمزا لما هو أزلي وأصل ومطلق وحلمي:
“.. أنت في أزلك، وأنا في طيني، كلانا واحد”/ أما أنا فسأضع نظاراتي لأراقب تحليقك البهي/ هكذا أنت، هائلة من شدة غيابك، أبدية كصحراء..نبيلة، آسرة، نقية/ لماذا أضيق باتساعك، لماذا عاطل ظل أشجاري/ حين أبصر، لا أرى سواك سلالة للماء.. الخ.
إن هذا التصعيد النموذجي لصورة المرأة هو ما يفسر استمرار غيابها وبقائها متلألئة، في شكل وعد تارة، وحلم أخرى، ووهم باعث على الشعور بالفقد والخسران حينا آخر.
ويحتل الانشداد إلى المكان المفتقد والحنين إليه، بوصفه الحاضنة الأولى والماضي المعطوب والمهاد الذي يأتي فراقه قسريا، يحتل مكانة مهمة في التداعيات النفسية التي تعرضت لها الشخصية وقادتها إلى مسارب الوحشة والاغتراب:
“أحن إلى الأزقة، إلى ضجيج الخطوات الطفلة.. أحن إلى نظرات حارس ليلي مرتاب بظلي”/ حسنا أيتها الشمس كيف حال طرقاتنا هناك، أما تزال خطواتنا تنبض فوق وجهك/ وحدك الآن، يا صولجان الهباء، تراود جمر المنافي بجمر خطاك، وتحرث رمل الفيافي برمل رؤاك.
بل إن الفراق يتجاوز حدود المكان لدى الشخصية، ليبدو ثيمة تمتد إلى الأصدقاء والأحبة والمرأة. ولعل من الطبيعي أن يستحضر ذكر الفراق واحدا من أكثر مظاهره في المتن الشعري للمجموعة، ونريد به حضور ثيمة (الموت). لكن اللافت في حضور ثيمة الموت في نصوص مجموعة الشاعر أنها لا تقف عند حدود المعاني الجزئية له، كما أنها تتجاوز حدود فقد الناس، من أحبة وأصدقاء، إلى موت المعاني والأشياء فيما حول الشخصية، وفقدانها معناها:
“.. اليوم لست معنيا بكل ذاك الرنين، فليست لدي شظية مرآة”/ بعيدون.. بعيدون، يفكرون بلا قلب، ويموتون بلا حكمة، يتبعهم عويل، وتفتقدهم ذكرى.
يلوح لقارئ مجموعة (دلال الوردة) أن عنوانها لم يكن العنوان القادر على احتواء طبيعة التجربة الشعرية للشاعر أو البوح بها، وأن ما ورد من استخدام لرمز الوردة للتعبير عن المرأة الحلم، في المجموعة، لم يشكل سوى بعد واحد(تجريدي) لثيمة لم تستطع أن تتجاوز التساؤلات الفكرية الكبرى والتأملات الإنسانية الشفيفة التي شكلت أساس التجربة الشعرية والملمح الرئيس في هذه المجموعة، فضلا عن أنه يبدو أدخل في آليات التسمية التقليدية منه إلى روح التجربة الحداثية التي عبرت عنها نصوص المجموعة.
لقد أضحت العنونة تقنية ذات دور وظيفي متسع الأبعاد والدلالة، إذ ترتبط مع بنية النص بوشائج وعلاقات تسهم في نمو النسيج الدرامي له، حتى ليبدو الحديث عن القصيدة بمعزل عن عنوانها ضربا من ضروب العبث والنقص. فالعنوان هو العتبة الأولى الممهدة للكشف عن عالم القصيدة، أو ثريا النص كما يرى دريدا.
لقد بدت نصوص يحيى البطاط في مجموعته الجديدة(دلال الوردة)، على اختلاف همومها وتعدد مستوياتها، نازعة نحو الإخلاص للقصيدة التأملية، الملحفة في السؤال، الملفعة بغلالة الحزن والانكسار، وإن بدت بعض تساؤلاته وتأملاته وقد اتخذت شكل الأمشاج المتعددة واللوحات المتفرقة في نصوصه المطولة نسبياً.
وأحسب أن الشاعر متجه في تجاربه اللاحقة نحو السعي لجعل النص الشعري بكليته بما في ذلك نصوصه المطولة تعبيرا عن فكرته الرؤيوية الموحدة التي تتجاوز المعطيات الجزئية للنص وتقنية المشاهد، لصالح البنية الموحدة. ويزداد الأمر أهمية إذا علمنا أن أكثر نصوص الشاعر أهمية وتعبيرا عن اشتغاله الجديد في المجموعة هي تلك التي امتازت بالامتداد وطول النفس، أمثال: الغراب، أمطار النائم، مفازة.. الخ.

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home