التناص مع القصص القرآني

 

 

 في شعر أديب كمال الدين

 

 

 

 

د. فاضل عبود التميمي           د. نجلاء أحمد نجاحي

 

 

منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق- بغداد 2021

 

 

 

 

الإهداء:

 

 

إلى الشاعر أديب كمال الدين

 

 

فهرس:

 

 

 

 

المقدمة...................................................................................

 

الفصل الأول (طوفان نوح) ............................................................

 

الفصل الثاني (قصّة يوسف) ...........................................................

 

الفصل الثالث (قصص أخرى) .........................................................

 

الخاتمة....................................................................................

 

المصادر والمراجع.......................................................................

 

ببلوغرافيا الشاعر........................................................................

 

  

 

مقدمة

 

    يريد هذا الكتاب أن يقف عند ظاهرة تناص شعر أديب كمال الدين مع القصص القرآني، وأن يقترب منها برؤية الدراسات الثقافيّة، وفي ذهنه أن التناص أحد مصطلحات ما بعد الحداثة؛ لم يجف بعدُ، ولم تحترق عروقه، فهو بحسب (جوليا كرستيفا) ترحال للنصوص، وتداخل بينها، وامتصاص لنص آخر، وقد أثرى الخطاب النقدي المعاصر بما قدّم من خطوات أعادت الحياة إلى قسم من الأدب القديم، وأسهم في دفع عجلة النقد المعاصر إلى الأمام.

  والتناص الثقافي الذي سيكون الممارسة النقديّة لهذا الكتاب يراد به الدخول إلى نصوص الشاعر المتناصة مع القصص القرآني ، والبحث في السياقات الثقافية بعيدا عن الهمّ الجمالي الذي اعتادت الدراسات البلاغيّة: النقديّة الوقوف عنده، فالكتاب يعتقد أن الدراسات الثقافيّة بما تمتلك من رؤى معنيّة بالخطابتتمدّد أذرعها نحو الشعر بروح تقتربمن إيقاع الحياة، فهي نشاطٌ خاص معنيٌّ بتقصّي الثقافة في قراءاتها، وطرائق اتّصالها بالنصوص، والتشكيلات المختلفة ، والمظاهر، بوصفها من نتائج تحوّلات ما بعد الحداثة التي ضربت المركزيّات في عقر دارها، وأدارت الرؤوس نحو هوامش كانت مقصيّة عن التناول والدرس، ولها ان تتّجه صوب التناص ومتعلّقاته، بمعنى أنّ ثمّة قاسما مشتركا يجمع بين الإثنين ويؤطّر العلاقة بينهما، والتناص في النهاية فسيفساء نصوص تجمع بين نصّين مختلفين ومبتعدين زمانا ومكانا، أمّا الدراسات الثقافيّة فتنفتح على فسيفساء نقد بينيّ لا يقتنع برؤية واحدة بل هدفه حزمة من الرؤى التي تشكّل محتوى الخطاب.

 وإذا كانت(الدراسات الثقافيّة) تنفتح على عدد غير قليل من مجالات القراءة الخاصّة في الصراع، وثقافة العنف،وأنواع السرود،والشعر،والملاحم، والظواهر المختلفة، فإنّ التناص قادر على  امتصاص ذلك الصراع، وتلك الثقافة من الآيات القرآنية المباركة وهي تنفتح على صراع (نوح) عليه السلام ، وقومه، وصراع (يوسف) عليه السلام وأهله ، فضلا عن صراع الأنبياء الكرام مع ثقافة أقوامهم العنيفة، وهذا ما أتاح للكتاب أن يقرأ (التناص) من زاوية علاقاته بالأفكار، والتأريخ، والرؤى الاجتماعيّة، وما يتّصل بها من تأثير يتّسع إلى مزيد من الدلالات التي تخضع لسلطة الثقافة بعيدا عن معطف البلاغة، ومظاهر القيم الجماليّة التي تظهر فوق قشرة النصوص.

   لم يحتف الكتاب بمصطلح التناص،وتطور فاعليته على يد النقاد اعتقادا منه أنّ كتبا قد شُغلت بهذا الأمر، ومن هنا صرف النظر عن تلك المسألة، وعينه تتجه صوب إجراءات تعتمد على طبيعة التناص، ومدّخراته الثقافيّة المسربة من النصوص الكبرى، والحياة إلى متن الشاعر الذي كان على دراية بالمصطلح وفاعليّته، فقد جعل منه عنوانا لأكثر من قصيدة مثل :(التناص مع الموت) م3: 138،و(التناص مع الحرف) م3: 159، و(التناص مع النون)م5: 209، فضلا عن(تناص مع الجواهري)م6: 226، وهذا دليل معرفة مسبقة بالمصطلح، وثقافته، واجراءاته.

   لقد انفتح شعر (أديب كمال الدين) على القصص القرآني تناصيّا بهدف تلوين تجربته الشعريّة بأنساق القصص التي مصدرها الكتاب الأول في حياة العرب والمسلمين، بعد أن أدرك أنّ تلك القصص باتت ضروريّة في التلقي المعاصر،فضلا عن أن للقصة القرآنيّة تأثيرا نفسيّا في قلوب المتلقين، فهي قصص مبتوت بواقعيّتها، وجمال سردها، وصدق تمثيلها، وتمكّن إعجازها من نفوس طالبيها،ولا سيّما أنّ الحياة المعاصرة بدأت تنزع نحو التجرّد من المثل العليا لتعيشالصراع المرير بين الحق والباطل ، وتوطّن ثقافة العنف في قلوب قسم كبير من البشر،  وهمّها  الاستحواذ على الملذّات تحت عنوانات  كبيرةتختزل بها ثيمات التعسّف بحق الآخر.

 ومّما هو جدير بالملاحظة أن الشاعركان على صلة بالقرآن الكريم تمتد جذورها إلى سنوات طفولته، وتعوّده على قراءته، وحفظ قسم من آياته، وليس ذلك بغريب على شابّ شغله الكتاب الكريم منذ ذلك العهد، ورافقه في منفاه البعيد: أستراليا، وهو يرتقي شجرة الحروف بسلّم الشعر الذي ورثه عن عائلة أعرف كم كانت منحازة إلى الفكر، والكلمة، وجوهر الأدب، والاعتدال.

إنّ المتلقي يستطيع أن يكتشف حضور النص القرآني في شعره بدءاً من استهلال الصفحة الخامسة من المجلد الأول من أعماله الشعريّة التي تشرّفت  بالنصّ القرآني :

((ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)) القلم: 1، وهو ما تكرّر في استهلال المجلد الثاني، والثالث، وكان المجلد الرابع قد استهل بقوله تعالى:((اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))النور: 35، وصولا إلى استهلال المجلد السادس الممهور بقوله تعالى:((قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ))يوسف:86، التي جعلها الشاعر استهلالا بعد صفحة (المحتويات) مباشرة ليعلن من خلالها لحظة البدء التي يشرع منها المتلقي في قراءة الأشعار، وتلقي جمالياتها.

   لهذه الاستهلالات وظيفتان: يتمثّل في الأولى جلب انتباه المتلقي، وشدّه إلى موضوعات القصائد التي لا تخلو من إحالة إلى القرآن الكريم، والأخرى التلميح بأوجز القول إلى فضاء التجربة الشعريّة عند الشاعر بعد أن تواجه عينا المتلقي (آيات من سور القرآن الكريم) حاملة شحنات إشراقيّة متدفّقة الدلالة تحيل على تجربة تستحق القراءة والتحليل.

بُني الكتاب من ثلاثة فصول، وخاتمة،ومسرد للمصادر والمراجع،كان الفصل الأول من الكتاب(طوفان نوحقد سعى إلى الوقوف عند التناص الذي داخل بين قصّة الطوفان التي روتها الملحمة العراقيّة القديمة (كلكامش)، فضلا عن الكتب السماويّة الثلاثة: التوراة، والإنجيل، والقرآن الكريم، وقصائد الشاعر، ليحدث ذلك التداخل نوعا من التعدد الدلالي الذي سمح بتراكم المعنى في النص الثاني بدءا من الجملة، وانتهاء بالخطاب عابر الشكل الواحد إلى حواريّة لسانيّة متعددة الدلالات انفتحت على ثيمتين اثنتين: الصراع بوصفه مواجهة بين نوح وغيره، وثقافة العنف التي بدت ظاهرة في كثير من نصوص الشاعر.

والفصل الثانيكان قد وسم بـ(قصّة يوسف)وهو معنيّ بالكشف عن تناصات الشاعر أديب كمال الدين مع تلك القصّة القرآنية وقد بنى الشاعر من خلاله صرحا من لبنات متعددة وجدناها في ذلك الاستدعاء للقصّة التي أسهمت في شحن قدراته التناصيّة، وهو يتّخذها وسيلة للتعبير عن الحالات الشعوريّة التي تعتريه، وصورة صادقة لمجتمعه، وبيئته، ووطنه، ومرآة لما يتصارع فيه الخير والشر، وذلك ما أكسبه تعدديّة سياقيّة مع تمركزه في سياقه الخاص أيضا.

أمّا الفصل الثالث (قصصٌ أخرى) فقدسعى إلى قراءة تناصات الشاعر أديب كمال الدين مع عدد من القصص القرآني التي وقفت عند ذاكرة الشاعر، ولا سيّما قصص الأنبياء: آدم، وموسى، وعيسى بن مريم، وإبراهيم الخليل، وأيوب، ويعقوب، وداوود، وسليمان، وزكريا، والخضر، وذو النون، عليهم السلام، فضلا عن قصّة أهل الكهف، وشخصيّة بلقيس، ليميط اللثام عن فحوى التناص وعلاقته الثقافيّة بالشاعر،والمتلقي، وكان للخاتمة أن رغبت في اظهار الاستنتاجات التي توصّل إليها متن الكتاب، وتتعلق كلّها بطرائق التناص وعبوره الدلالات الماضية إلى دلالات معاصرة.

   وبعد: فقد رأىالمؤلّفان أنّ من الواجب عليهما أن يشيرا إلى إسناد كتابة الفصول، وملحقاتها طمعا في الدقّة، واحقاق الحقّ، فقد كان الفصل الأول من نصيب د.فاضل، والفصل الثاني من نصيب د.نجلاء، أمّا الفصل الثالث فقد كان مشتركا شأنه شأن المقدمة والخاتمة، والمصادر والمراجع.

 

 

 

                                                                                        المؤلّفان

15/ 12/ 2020

 

 

 

الفصل الأول

(طوفان نوح(ع))

 

 

مقدمة:

    يسعى هذا (الفصل) إلى الوقوف عند التناص الذي داخل بين قصّة (الطوفان) التي رواها القرآن الكريم، ونصوص أديب كمال الدين الشعريّة، وهو يرى أن التناص نوعٌمن التراكم الدلالي الذي يسمح بتعدّد المعنى في النصّ الثاني بدءا من الجملة، وانتهاء بالخطاب عابر الشكل الواحد إلى حواريّة لسانيّة متعددة الدلالات تنفتح على ثيمتين اثنتين: الصراع بوصفه مواجهة بين نوح(ع) وغيره، وثقافة العنف التي بدت ظاهرة في كثير من نصوص الشاعر.

تمهيد:

   ممّا لا شكّ فيه أنّ(الطوفان) كان ((حدثا تأريخيّا واقعيّا حدث في طيات الماضي البعيد، وكان من جسامة التأثير، وفداحته أنّ ترك أثرا بليغا في عقول الأجيال المختلفة فتناقلته بالروايات الشفويّة، وشُوّهت تفاصيله الواقعيّة))([1])، والأهم من ذلك كلّه كان الطوفان حديث الأدب السومريّ في أهمّ ملحمة شعريّة تركها التأريخ لنا أعني: ملحمة كلكامش؛ فضلا عن كتب الأديان السماويّة، وهذا يعني أنّ (الطوفان) قد تكرّر الحديث فيه من خلال نسقين مهمين : ثقافيّ، ودينيّ ليصير (ظاهرة) عبرت حدود الزمان  والمكان، والمعتقد لتكون (نصّا) عابرا جغرافيّات بعينها، وثقافات، وتصوّرات نقلت النصّ من مجاله الواقعي إلى مجال آخر بدا كأنه جزءٌ من السرديّات الكبرى، تلك التي تشكّل مرجعيّة عامّة للشعوب، والحضارات الشرقيّة بعيدا عن فكرة تفكيك أسسها، وتناقضاتها، ودلالاتها الواصفة.

   كان(الطوفان) قد أخذ موقعا مهمّا في نصّ ملحمة (كلكامش) التي دوّنت قبل أكثر من (4000) عام في وادي الرافدين للبرهنة بلغة بابليّة قديمة ذات نفس شعريّمؤثر على حتميّة الموت للبشر، واستئثار الآلهة بالخلود([2])، وبهذا تكون الواقعة سابقة في ظهورها، وانتشارها لما جاء عن أخبارها في التوراة، والعهد الجديد، والقرآن الكريم.

   وردت أخبار(الطوفان) في اللوح الحادي عشر من ملحمة (كلكامش) بشكل تفصيليّ أحاول إيجازه في التدوين الآتي:

(أيّها الرجلُ(الشروباكي)([3])، يا ابنَ (أوبار توتو).

قوّض البيتَ، وابن لك فلكا (سفينة)

انبذ الملكَ، وخلّص حياتك

واحمل في السفينة بذرةَ كلّ ذي حياة

عليك أن تضبط َمقاسها

ليكن عَرضها مساويا لطولها

..................................

وفي اليوم الخامس أقمتُ بنيتها(هيكلها)

ووضعتُ فيها (المرادي)([4])،وجهّزتها بالمؤن.

وتمّ بناء السفينة في اليوم السابع

وحملتُ فيها كلّ ما أملك، أركبتُ في السفينة جميع أهلي، وذوي قرباي

أركبتُ فيها حيوانَ الحقل، وحيوانَ البر

وجميعَ الصنّاع أركبتهم فيها

وضربَ لي الإله (شمش) موعدا معيّنا بقوله:

"حينما ينزلُ الموكل بالعواصف في المساء مطر الهلاك

فادخل في السفينة، واغلق بابك"

وفي الليل أنزلَ الموكل بالعاصفة مطرا مهلكا

وبلغتْ رعودُ الإله (أدد)عنانَ السماء

وفتكت بالناس كأنّها الحرب العوان

ولمّا حلّ اليوم السابع خفّتْ وطأةُ زوابع الطوفان في شدّتها

واستقرّ الفلكُ على جبل(نصير)

ولمّا حلّ اليوم السابع أخرجتُ حمامة، وأطلقتها (تطير)

طارت الحمامةُ، ولكنّها عادت

وأخرجتُ السنونو وأطلقته

 ذهب السنونو، وعاد؛ لأنّه لم يجد موضعا يحطّ فيه

ثمّ أخرجتُ غرابا، وأطلقته

فذهب الغرابُ، ولمّا رأى المياه قد قرّت، وانحسرت

أكلَ، وحامَ، وحطّ، ولم يعد)([5]).

   وجاء الطوفان في سفر التكوين في التوراة: الاصحاح السادس:((فقال الله لنوح: نهاية كلّ بشر قد أتت أمامي، لأن الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض، اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخل، ومن خارج بالقار، وهكذا تصنعه: ثلاث مئة ذراع يكون طول الفلك، وخمسين ذراعا عرضه، وثلاثين ذراعا ارتفاعه، وتصنع كوا للفلك، وتكمله إلى حدّ ذراع من فوق. وتضع بابَ الفلك في جانبه. مساكن سفليّة، ومتوسطة، وعلويّة تجعله.

فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كلّ جسد فيه روح حياة من تحت السماء.كلّ ما في الأرض يموت، ولكن أقيم عهدي معك، فتدخل الفلك أنت ، وبنوك، وامرأتك ، ونساء بنيك معك، ومن كلّ حيّ من كلّ ذي جسد، اثنين من كلّ تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى، من الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كلّ دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كلّ تدخل إليك لاستبقائها، وأنت، فخذ لنفسك من كلّ طعام يؤكل واجمعه عندك، فيكون لك ولها طعاما، ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الله. هكذا فعل))([6]).

  وجاء في الاصحاح السابع: وقال الربّ لنوح: ادخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك، لأني إياك رأيت بارّا لدي في هذا الجيل، من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكرا وأنثى، ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة: ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه كلّ الأرض، لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كلّ قائم عملته))([7]).

    وورد (الطوفان) في القرآن الكريم مقرونا بقصّة نوح (ع)، فبعد أن اشتكى إلى الله سبحانه من عناد قومه، وطغيانهم، أمره الله ببناء سفينة عظيمة ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ))([8]).

   فكان أن فتح الله ((أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ))([9])، و((وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًا فَٱلْتَقَىٱلْمَآءُ عَلَىٰٓ أَمْرٍۢ قَدْ قُدِرَ))([10])، ((حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ))([11]).

  وسارت السفينة ((بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا))([12])، ليتخلّف عن الرحلة (كنعان) ابن نوح ،وزوجته (واعلة)، والسفينة ((وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ))([13]) لكن الابن عصا وتمرد ((قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ))([14]).

    وبعد حين قدّر الله :((وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))([15])، ثمّ ((قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ))([16])، ثم أخبرنا القرآن الكريم بالخاتمة:((وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ))([17]).

   إنّ القراءة الدقيقة التي تمرّ على نصوص الملحمة، والنصوص التوراتيّة القديمة والحديثة، فضلا عن نصوص القرآن الكريم تفضي إلى وجود مشتركات دلاليّة، واختلافات نصيّة لسنا في موضع الإشارة إليها، لكنّ الإشارة توجب -هنا- أن نؤكّد أن (واقعة) الطوفان قد تحوّلت بفعل تكرارها إلى (ظاهرة) ستأخذ مداها الأبعد في الشعر، وهذا ما سنقف عندها في الآتي من التفصيل.

طوفان نوح في الشعر العربي:

     ورد (الطوفان) مقرونا بشخصيّة نوح(ع) في أشعار عربيّة قديمة كثيرة متناثرة عند شعراء كثر، ولكن بشكل موجز، لكنّه جاء في شعر أمية بن أبي الصلت بشكل لافت للنظر، فقراءة الأبيات الشعريّة التي استلهمت قصّة الطوفان عنده تبين مدى تأثره الواضـح بـالقصص الـقرآني الـذي سرد هـذه الحادثـةالكونيّة من قبل، وكان الشاعر قد أتى في شعره بأشياء لا تعرفها العرب، فقد استطاع أن يوظّف التراث الديني للآخر السماوي (التوراة) فيما يخصّ قصّة الطوفان نفسها([18]):

 

تجـــــري ســفينةُ نـــــوحٍ فــي جوانبـــــه 

                                        بكـــلّ مــــوج ٍ مـــن الأمـــواجِ تقـــــــــتحمُ

نـــــودي قــــــــمْ واركــــبن بأهلـــــك أن  

                                           االلهَ مـــوف لكلّ النـــاس مــا زعمــــــــوا

مشـحونةٌ ودخــانُ المــــوج يرفعٌهـــــــــا

                                              مـلأى وقــد صُـرعت من حولهـا الأُمـمُ

حتى تسوتْ علـــى الجـــودي راســـــية

                                             بكـلّ مـــــــا اسـتوعبت كأنهـــا أُطُـــــــمُ([19])

 

     هذه الابيات، وغيرها دليل على أنّ الشاعر العربي القديم كان على دراية ثقافيّة بشكل الطوفان ودلالاته، فقد استقى أخباره من القرآن الكريم، وربّما من مصادر شفاهيّة أخرى تناقلها الناس جيلا عن جيل.     

     وفي الشعر العربي الحديث ورد(الطوفان) في شعر كلّ من: أبو القاسم الشابي، وعلي محمود طه المهندس، وأدونيس، ومحمود درويش، وأمل دنقل، وعبد العزيز المقالح، وسامي مهدي،وممدوح عدوان، وقاسم حداد، وغيرهم، ولكن الواقعة تظهر في شعر (أديب كمال الدين) بشكل متميّز يلفت نظر المتلقي،والباحث معا.

الطوفان في شعر أديب كمال الدين:

    بدءا لا بد من التذكير أن تناصّات الشاعر أديب كمال الدين مع واقعة (الطوفان) تنتمي في الأساس إلى قانون تناصي يتّكئ على مرجعيّات ثقافيّة، ودينيّة: ملحمة كلكامش، والتوراة، والقرآن الكريم، فضلا عن مرجعيّة تفاسيره أيضا، وهي جميعا تعتمد في بناء متونهاوأشكالها، ومضامينها، سرديّة الطوفان من خلال جملة آليات تأخذ شكلا حواريّا، وامتصاصيّا في دراسة التناص، وتتبّع قوّته.

   يبدو لي أنّ الشاعر كان على معرفة تامّة بالمرجعيّات التي حفل بها القرآن الكريم تلك التي جعلت من الطوفان ثيمة لها؛ وقد تكرّرت تناصاتها في قصائد الشاعر بشكل واضح، فضلا عن حضورها في بعض عنوانات القصائد، فقد كان (نوح) عنوانا متناصّا في نصّ (جاء نوح ومضى)([20])، ونصّ (موقف نوح)([21])، فضلا عن عنوان نصّه الأخر(إشارة نوح)([22]).

والعنوان بحسب السيميائيّات علامة لغويّة تنفتح على دالّ يتضافر مع مدلول، وهو بشكل عام كتلةٌ مطبوعةٌ على صفحة غلاف الكتاب الأول حاملة لمصاحبات أخرى مثل: اسم المؤلف، أو دار النشر، أو غيرهما، والمهم في العنوان سؤال الكيفيّة، أي كيف يمكننا قراءته بوصفه نصّا قابلا للتحليل والتأويل؟([23])، فالعنوان -والحال هذه- بصمة المؤلّف الأولى المكتنزة بسؤال المدلول، والمفتقرة إلى رحابة التفصيل، ذلك الذي يحضر في المتن حاملا صورة الطوفان، وممّا هو جدير بالملاحظة أنّ الشاعر تعامل مع واقعة الطوفان تعاملا مرنا بمستويات تناصيّة مختلفة ، منها:

1- التناص الحواري:

    وهو أعلى مراحل قراءة النصّ المثال، يعتمد على الحوار أساسا له، والتغيير في بنية النص الغائب طمعا في تقديم رؤية تناصيّة ذات أفق نقديّ للواقع([24]) ليأخذ بالنص الجديد إلى آفاق معاصرة يريد من خلالها الشاعر أن يكون شاهدا، وناقدا.

  يدخل تناص النفي ضمن التناص الحواري؛ أي نفي الإخبار المتعلق بالنصّ المثال كما في نصّ الشاعر الذي نفى فيه أن يكون نوحا، وأن تكون عنده سفينة في عصرنا الذي يزخر بالموبقات، والسوءات؛ كي يتحرّر من المسؤوليّة الشخصيّة أمام الزخم الهائل من الأحداث التي تتربّع على صدر الحياة موغلة في قتلها، وتغييبها، ففي النص الآتي يضمر الشاعر الإعلان عن هدفه بنفي المعرفة بنوح كي يتيح للمتلقي قبول التفتيش عن (نوح) آخر، و(سفينة) أخرى تنقذ الجمع المعاصر من محن الحياة، وأن يشارك الشاعر الجميع في البحث عن منقذ:

(لكنّي لم أكنْ نوحا

ولم تكنْ عندي سفينة

لذا طافَ جسدي فوقَ الماء

طاف، وطاف حتى مللت من الطوفان)([25]).

 فالتناص هنا وإن كان حواريّا مستترا قائما على نفي الخبر إلا أنّنا لا نستطيع انكار مرجعيّته القرآنيّة، مع ملاحظة قدرة الشاعر على عصرنة الحدث، واضافة ملحقات سرديّة له، ولأنّ تجربة الشاعر الحروفيّة أمست علامة فارقة في تأريخ الشعر العراقيّ الحديث، فقد كان له أن أسبغ على شخصيّة (نوح) جزءا منها، وهو يتأمّل حرف (الحاء):

(فتّشتُ بعينين دامعتين عن حاء الحلم 

فتّشتُ أوراقَ قصائدي القديمة،

لم أجد إلّا حاء نوح

وحاء الحرمان

وحاء الحرب

وحاء الحنين)([26]).

  وفي نصّ(موقف نوح)([27])الذياستعار الشاعر فيه لفظ (موقف) من كتاب (النِّفَّريّ) شائع الصيت :(كتاب المواقف)([28])، ليكون الجزء الآخر من عنوانه متناصّا مع حضور اسم نبي الله (نوح) الذي افتتن الشاعر بجماليّة قصّته، وسرديّة سفينتهانفتحت التناصيّة على مصراعيها، وهي تعلن العودة إلى ينابيع الثقافة الأولى التي تُحضر تجارب موغلة في سردياتها، وأفكارها، وحضورها المعاصر.

    و(كتاب المواقف) الذي صارت الإشارات إليه تتوالى من النقاد ،والشعراء الساعين إلى بلورة أسلوب للحداثة الشعريّة ليس في العراق وحده، إنّما في الثقافة العربيّة كلّها، كان الشاعر المفكّر(أدونيس)قد ذهبفيه مذهبا خطيرا حينما بحثفيدراسةرائدة عنالتشابهالنصيّ بينالصوفيّةوالسرياليّة، فأخذ بالنِّفَّريّوأدخلهفيفضاء الحداثة المعاصرة  مشيرا إلى أنّأسلوبالنِّفَّريّفي(المواقفأوالمخاطبات) يدخل في باب الشعر من أوسع أبوابه،وهو أَهَمَّ مَصَادرِ قَصِيدَةِ النَّثرِ :((لا أعْرفُ كَيْفَ أصِفُ دَهْشَتِي - حِيْنَ قَرَأتُهُ - ؟ أعْرفُ أنَّني شَعَرْتُ ـ وَأنَا أقْرؤهُ - أنْ لِمَا أقْرؤهُ فِعْلَ القَتْلِ : قَتْلِ مُعْظَمِ الشِّعرِ الَّذي سَبَقَهُ ، وَمُعْظَمِ الشِّعرِ الَّذي أتَىَ بَعْدَهُ ، هَكَذَا أدْرَكْتُ أنَّني أمَامَ شَاعرٍ عَظيْمٍ)) ([29]).

وكان الشاعر أديب كمال الدين ممّن حمل لواء الشعر متجها به نحو تجربة (النِّفَّريّ) الصوفيّة، فجملته الشعريّة :(اقتبست من النِّفَّريّ جملة البدء)([30]) تحيل على ذلك، وتكرار ألفاظ الصوفيّة يؤكد ذلك أيضاً، وكان النِّفَّريّ في كتابه (المواقف) قد عنون مواقفه كلّها بهذا اللفظ مضيفاً إليها ألفاظاً أخرى استلّها من عوالم تجربته الصوفيّة.

وعنوانات(النِّفَّريّ) السابقة، وغيرها بأنساقها الشكليّة، والمضمونيّة أخذت طريقها إلى: عنوان (موقف نوح) ولكن بروح قرآنية تناصيّة مائزة، وكان(النِّفَّريّ) قد استهل مواقفه كلّها بعبارة كانت لازمة نصيّة تكرّرت في الكتاب يقول فيها: (أوقفني...) مشيراً إلى الذات الإلهيّة،وتجلي صوتها البهي في خطابه الصوفي، وهو ما جرى على لسان الشاعر أديب كمال الدين تناصّا يتّجه نحو الدلالة القرآنيّة في:

(أوقَفَني في موقفِ نُوح

وقال: يا عبدي

أرأيتَ إلى صَبرِ نُوح،

وعذابِ نُوح،

ومحنةِ نُوح،

وسفينةِ نُوح)([31])؟.

    في الاستفتاح الشعريّ السابق تناصٌ حواريٌّ مع قصّة الطوفان القرآنية برّز الشاعر فيه سيرة(نوح)مكلّلة بالشقاء، والمعاناة، وقد منح المتلقي فرصة استكمال إطار الصورة المستمدة من القرآن الكريم ولكن بشكل مغاير فـ((ضمير الحرف المخاطب في هذا النص ينبّه الشاعر من محاذير المخاطر بعد أن سكنت ضميره حيرة السؤال، والارتماء في أشرعة المجهول))([32])،وهما يغطيان سماء العالم بدخان الموت.

  وللمتلقي أن يقف أمام قول الشاعر:

(أرأيتَ كيفَ حملَ نُوح الأمانة

وَصَبرَ وكانَ صبره كجبلِ أُحد

وعبرَ الطوفان

والنَّاس غرقى

في يومٍ كأنّه يوم القيامة؟)([33]).

   ليجد الشاعر وقد صوّر ((عاقبة من عصى، وعذابه تاركا للقارئ استكمال الصورة التي ينقلها إلى فكره، وقد أفاد من قصّة نوح كما تضمنها القرآن الكريم، وشكّل فيها صورة جديدة))([34])، قائمة على المغايرة في نمو الحدث، واتساع دلالته.

   كانت التناصات القرآنيّة واضحة من السطر الأول من القصيدة، وهي تغرف من الفيض القرآنيّ ما شاء لها من القصّ الحكيم المتعالق في سور: (القمر)، و(هود)، و(الصافّات) في شكلها التناصي، وهو ما كان في نصّ آخر من نصوص الشاعر:

(أرأيتَ وقد قامَ بالقومِ ألفَ سنة

إلّا خمسين عاماً

وهو يذكّرهم بآياتي

فما يزدادُ القومُ إلّا كُفْراً وطغيانا)([35]).

  الذي تحاور فيه تناصيّا مع ما جاء في قوله تعالى:((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ))([36])، وحاصل المقاربة بين النصين تفضي إلى ظهور الدلالة القرآنيّة واضحة في نصّ الشاعر مصوغه على وفق متطلبات جديدة يريدها الشاعر، ويقبل بها الذوق العام، في ضوء نظريّة الصراع الثقافي التي عرّفها(جوناثان إتش تيرنر) على أنّها صراع ينجم عن ((اختلافات في القيم الثقافيّة والعقائديّة التي تؤدي إلى حدوث خلافات بين البشر))([37])، وقبل ذلك بين البشر والأنبياء، أو المصلحين وجمهورهم، فصراع الذات مع ثقافة محيطها، صراع مع مكوّن ثقافيّ ذي أنساق متنوّعة، وهذا التنوّع ممّا يزيد من أوار الصراع ، ويعمل على اطاله عمره.

  كان الحوار بين (نوح) و(قومه) قد خضع لبنية إغلاق من طرف القوم فسدّت أبوابُه، ولم يبق له سوىالتوجه إلى الله سبحانه بالدعاء وطلب النصرة، وهذا ما فعله الشاعر تمثّلا لحال نوح في قوله:

(ثُمَّ قال: ربّي إنّي مَظلومٌ فانتصرْ)([38]).

 وهو حوار آخر مع قوله تعالى: ((فدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِر))ْ([39])، فقد قدّر لنصّ الشاعر أن يحاور دلالة النصّ القرآني، ويبثّها في السياق حامل الفكرة القرآنيّة بوضوح تام ليكون نصّا شعريّا مجدّدا لا يتنكر للنص الأول، ولا يمحو دلالته، بل يمتدّ مصوغا بشكل شعريّ يحيل على مرجع واضح، وقد وضحت من خلاله رؤية الشخصيّة التي كانت تعاني من ظلم الانسان حين يكون((انتهاكا، وتعديا، وإنكارا، وتجاهلا لشخصيّة الآخر، ومتطلبات حياته ممّا يفضي إلى إثارة الغضب لدى الآخر فينبني على غضبه سلوك عنيف))([40])، يسهم في إيجاد نمط من الصراع الفكري الذي يكون مقدمة لصراع آخر.

  وقال الشاعر أديب كمال الدين على لسان الخالق:

 (فأوحيتُ إليه أن أصنع الفُلْك

واحمل في سفينتِكَ مِن كلِّ زَوْجَين اثنين

ومَن آمنَ وما آمَن مَعهُ إلّا قَليل)([41]).

   والقول ينفتح على حوار مع قوله تعالى :((فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ))([42])، فقد كان لنصّ الشاعر أن تحاور مع النص القرآني، وثمة تغاير في الألفاظ في حدود الشكل الذي حافظ على تمام الدلالة.

  أمّا قول الشاعر:

(ثُمَّ إنّ نوحاً قال: "ابني!"

وقد عَقّ ابنُهُ ربَّه وأباه.

فقلتُ: إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِح

فكانَ من المُغْرَقين)([43]).

   فالتناصّ فيه يقترب كثيرا من قوله تعالى: ((قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ))([44])، ودلالة النص الشعري تحيل على طبيعة الصراع الذي جرى بين الأب ، وابنه بسبب طبيعة الفكر الذي حمله الأب ، في ضوء قناعة الابن بأنّه من الناجين!.

   وهكذا يتوزّع الصراع بين (نوح)، و(قومه) من جهة، وبينه وبين (ابنه) من جهة أخرى، وقد أسهم في خلق أنساق تنتمي بالضرورة إلى ثقافة نوح التي تحيل على مرجعيّات ربّانيّة، وثقافة قومه التقليديّة، فضلا عن ثقافة ابنه التي تنتمي إلى ذات واحدة مكابرة ومختلفة ذات نَفَسٍ تمرديّ عاق، وهذا ما جعل الفجوة متّسعة ومتباينة بين أطراف الصراع الثلاثة، ومشحونة بتصوّرات ليس لها أن تلتقي، فهم جميعا في عجز تام عن التلاقي، على الرغم من سعة التواصل بينهما، ووجود الحوار.

   وكان الشاعر أديبٌ في قوله:

(فاذا أزفت الآزفةُ وفارَ التنّور

فستجري سفينتُكَ في مَوجٍ كالجِبال.

ثُمَّ قلتُ: يا سَمَاءُ أقْلِعِي

فغِيضَ الماء

واستوتْ على الجُودِيّ

وقيلَ بُعْداً للقومِ الظالِمين)([45]).

   قد تحاور مع قوله تعالى:((أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ))([46])، وقوله تعالى: ((وَفَارَ التَّنُّورُ))([47])، وقوله الكريم :((وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ))([48])، وقول من تعالى ((وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))([49])، والحوار التناصيّ هنا قام على فكرة مغايرة النصّ المثال في حدود ما يقتضيه شكل الشعر، وهو يتجاوز النصّ الواحد إلى مجموعة نصوص مثاليّة يتعالق معها ليقيم جسرا من التواصل مع قصص القرآن وتعدد دلالاتها.

    وحضر(نوح) بمرجعيّة تناصيّة قرآنيّة، وبناء سرديّ واضح، مرتبطا بالمكان أشد الارتباط ، وبالذاكرة الجمعيّة، واللاشعور الذي كان محرّك البوح الشعري الذي أرغم الشاعر على اصطناع الحدث مرّة أخرى ليكون قريبا من النصّ المثال (الطوفان) ولكن بتناص بُني على وفق رؤية سرديّة تتعلق بـالإفادة من النصوص القرآنيّة، وللمتلقي أن يقرأ نصّ الشاعر الآتي كي يكتشف مقدار الحضور النفسي لشخصيّة نوح، والتغاير التناصي الذي لجأ إليه الشاعر موازنة بنصّ المثال:

(مُنبهراً كنتُ ومَدْهوشاً

بما كتبَ صديقي الشاعر

عن نبي الطوفان.

لكنّي صُعِقتُ

بل زُلزِلتُ

حينَ عرفتُ بأنَّ صديقي الشاعر

قد سرقَ العنوان

ونبضَ الحرفِ الهائم

من كتابِ الصوفيّ جلال الدين)([50]).

  لم يكن صديقُ الشاعر سوى(شاعر)آخر سرق عنوان قصيدة لجلال الدين الرومي، ولمّا اكتشف الشاعر(أديب) تلك السرقة حاور صائغ حروفها الأول تخيّلا فما كان من (الرومي) سوى الرأفة بحال السارق، فكأنهّ قبل بها لأنّ الشاعر السارق لا يملك يقين الطفل وقلب الطائر؛ أي أدوات الإيمان بحسب الشاعر أديب، فالعنوان عند الشاعرين يرتبط بالزمن الأعلى (نبي الطوفان)، ولكن بالإحالة على رمز صوفي مؤثّر، وهو يتناص مع حاله أولا، ومع النصّ القرآني ثانيا.

    وللشاعر أديب كمال الدين أن يستعيد (نوحا) الأول في الزمن المعاصر، ولكن برؤية معاصرة:

(مرّت قرون طويلة

على فراقنا

غرق مركبُ نوح ثانيةً في الطوفان

فصارعلى الناجين

أن يجرّبوا الصبر

من دون نبيّ

واحترقت المدنُ العظيمة

خلف الجبال والزمن والأمطار

واحترقت الاحلامُ كلّها:

أحلامُ العصافير وأحلامُ الطغاة

ولم أزل انتظر

أن ألتقي بكِ يوماً

لأستعيد معك

قصةَ رحلتنا الأولى مع نوح

مع الأمل

مع الحمامةِ والغراب

لأستعيد معك

ذكرى المدنِ العظيمةِ التي احترقتْ بعيداً

وأستعيد معكِ شيئاً من الحلم

على سريرنا الضيّق)([51]).

   في النص السابق عمد الشاعر إلى اصطناع أحداث ألحقها في بنية الحدث الكبير: الطوفان، في محاولة منه لأن يقنع المتلقي الذي عاش ويعيش -الآن- أحداثا ذات تراكمات سيّئة بضرورة محاكمة الحاضر، وكشف سوءاته، وهو يدري أنّ الحدث (الطوفان) الأول مضى وانتهى، لكنّه بمخيّلة الشعر راغب في اصناع ذات الحدث، واختلاق إشكالاته، وعصرنة زمانه، وإطلاق مكانه ليبقى السؤال المهم لِمَ لجأ الشاعر إلى هذا المسعى الخطير؟.

   لقد يئس الشاعر من حوار الماضي، وضجر من انتكاسات الحاضر، وهو يريد أن يهيئ الأذهان إلى أن الطوفان الجديد لم يغسل الأرض من أدران السوء، والزيف لأنه طوفان قتل وسبي، وحرق لحضارات، واغتصاب لمدن، وثروات، فقد أسهم في تدمير الذاكرة، وسرقة مضمونها، و(السرير الضيق) في نهاية النصّ إشارة ثقافيّة عن ضيق العالم، وتزاحم الأمكنة، واختلاط الحابل بالنابل، فالشاعر يستند في كلّ ما قال إلى مرجعيّات ثقافيّة مختلفة بإطار سرديّ، ووعي معاصر بدأ بما كان ليصل إلى ما سيكون، وعنده في النهاية:

(لا عاصم، هذه اللحظة من أمر الناس

والناس نيام.......الناس)([52]).

  هنا يكرّر التحذير القرآني ثانية بتناص لا يخلو من امتصاص ليأخذ شكلا مأساويّا معاصرا من خلال استعادة التحذير الأول الخاص بـ(الطوفان الأول) الذي تخطاه الشاعر إلى طوفانات جديدة وارثة مآسي الماضي، ومجدّدة مآسي الإنسان، ولكن بثياب التدمير الشامل.

   وكان الشاعر قد اقتحم مجالا للكتابة الشعريّة تمثّل في عصرنة الماضي، واشراك المتلقي في صياغة الحدث في تناصّات حواريّة اتّخذت من القرآن الكريم مجالا لها، وهدفها كشف تفاهات الحاضر، ونقد أنساقه الراكعة تحت تأثير الألم، والجوع، والفراق:

((انتظرنا – أنا وأنتَ – طويلاً سفينةَ نوح.

جاء نوح ومضى!

لوحّنا له طويلاً

بأيدينا

وقمصاننا

وملابسنا

ودموعنا الحرّى.

لوحّنا له بيتمنا الأبديّ

وبضياعنا الأزليّ.

لوحّنا له بطفولتنا العارية

وبشمسنا الصغيرة التي تغيّر طعمها

وأصبحتْ بحجمِ ليمونةٍ ذابلة.

لوحّنا له بكلّ شيء يُرى

وبكلّ شيء لا يُرى.

لم ينتبه الرجلُ إلينا

كان طيّباً ومسالماً

ومهموماً بسفينته وابنه وطيوره.

وكنّا لا نطلب شيئاً سوى النجدة!

النجدة!))([53]).

   في النصّ السابق تمّ تحويل التناص من مجاله الشكلي المعتاد إلى شكل ترميزي يأخذ معنى الأسطرة، وبُني نسقه على وفق شكلها، فنوح فيه غير نوح الذي نعرف، نوح معاصر ترك الباب مفتوحا للخراب لأن يكون، فكان على غير صورته الأولى: حمل ابنه، ولم يستجب لنداءات النجدة، وهي تريد اللحاق به، فنوح الجديد مسيّس برغبة حيازة الأهل والأقرب، ولا شأن له بالإيمان، والجماعة، وهذا جانب آخر من جوانب المأساة الجديدة التي جعلت العالم يطلب النجدة، ونوح المعاصر لاه عنه.

   ممّا سبق يلاحظ أنّ تناص الشاعر في النصوص السابقة قام على آليتين:

الأولى: التحاور مع دلالة النص القرآني وبثها في النص الشعري بهدف تقوية الدلالة الشعريّة والاحالة على ما هو مقدس.

الأخرى: الإفادة من التركيب القرآني لإحداث مغايرة في طبيعة ضمائر الخطاب، بما يشير إلى المرجعية القرآنية بوضوح.

2-التناص الامتصاصي:

    وهو مرحلة أعلى في قراءة النصّ الغائب ينطلق من الإقرار بأهميّة ذلك النص، وقداسته فيتعامل معه تعاملا حركيّا تحويليّا لا ينفي الأصل، بل يسهم في استمرار جوهره، وتجديده لغرض إعادة صوغه على وفق متطلبات جديدة([54]) ليجعل النصّ المتناص أكثر مرونة، واستجابة للقراءة المعاصرة بما يحوي من نقد وسرد.

   في (قصيدتي الأزليّة) أخذ التناص القرآني شكلا جديدا متّسما بامتصاص الدلالة القرآنيّة، فضلا عن الدلالة السرديّة جريا على عادة الشاعر في تحديث رؤيته الشعريّة بالإحالة على القصّ القرآني، فهو يدخل عناصر التحديث ليخلق شبكة دلاليّة تتّكئ على قصص الأنبياء:

   (1)

 (هكذا أُلقيتُ في الطوفان

كان نوح يهيئ مركبه لوحاً فلوحاً

وَيُدخلُ فيهِ من كلّ زوجين اثنين

كنتُ أصرخ:

يا رجلاً صالحاً

يا رجلاً مُبحراً إلى الله

خذني معك.

وإذ لم يأبه نوح لصيحتي

تسللتُ إلى المركبِ: المعجزة

وشاهدتُ مأثرةَ الحمامةِ والغراب

بعدما صعدَ الموجُ بنا كالجبال

حتى إذا هدأت العاصفة

وقيل يا أرض ابلعي ماءك

هبط الكلّ من سفينةِ نوح

فرحين مُبَاركين

إلّاي

وثانيةً صرختُ بنوح:

يا رجلاً صالحاً

يا رجلاً عادَ من طوفانه: الجلجلة

قالَ نوح: مَن أنت؟

قلتُ: أنا الإنسان.

قالَ: مَن؟

قلتُ: أنا المؤمن الضال.

قالَ: مَن؟!

وتركني في المركبِ دهراً فدهراً

حتى إذا غيّبَ الموتُ نوحاً

تحرّك المركب

تحرّك بي وحدي

لأواجه طوفانَ عمري

في موجٍ كالجبال

أنا الذي لا أعرفُ الملاحةَ ولا السباحة

وليس لديّ حمامة أو غراب)([55]).

   ممّا هو جدير بالملاحظة أن الشاعر في النصّ السابق حاول أن يؤسطر أحداث الطوفان حين جعل من ذاته مشاركة في بناء الحدث، بوصفها شاهدا على بناء السفينة، ولكن في العصر الحديث، وفيه ظهرت المرجعيّة القرآنيّة واضحة، فضلا عن مرجعيّة ملحمة كلكامش، والعهد القديم في حضور الحمامة والغراب، على وفق قانون الامتصاص التناصي الذي استطاع الشاعر من خلاله أن يضيف  سردا، و حوارات، ورؤى عملت على تشكل نصّ جديد أشار إلى المرجع، ومضى في إضفاء دلالات جديدة لها صله بالحدث، ولكنّها تنتمي إلى لغة الشاعر، وأفكاره بهدف التعالق مع النصّ الأول، وعبور دلالاته إلى دلالات راهنة تنتمي إلى الإبداع الشعري، وهو يجوس أرضا جديدة، من خلال مخيّلة الشاعر المخصّبة بروح التجديد والتحديث، وهذا ما بدا واضحا في حضور الشاعر المشهد، وصراخة، وغياب الحمامة والغراب في نهاية الطوفان إشارة إلى تأزم الأحوال المعاصرة، واندحار روح السلام بطوفان جديد:

 (2)

(هكذا أُلقيتُ في النار

بعدما أضرمَ النارَ أهلُ أور

لإبراهيم وألقوه فيها

انتبهوا إليّ

كنتُ أغرقُ في الدمعِ من أجلهِ

قالوا: إنه من أتباعه فألقوه في النارِ أيضاً

هكذا ألْقِيتُ في النارِ أيضاً

وإذ كانت النارُ على إبراهيم برداً وسلاماً

فإنها لم تكنْ لي

سوى نارٍ من الألمِ والحقدِ والحرمان

اشْتَعَلتْ

ولم تزلْ تشتعل فيّ

في كلّ يوم

هكذا إلى يوم يُبعَثون!)([56]).

   هنا أخذ التناص شكلا مصحوبا بالإضافة، والتحوير الخاص بسرد الحكاية، ولن اتعمق في تحليله هنا؛ فهو من حقّ جزء من الفصل الثالث من هذا الكتاب.

(3)

(هكذا أُلقيتُ في البئر

ألقاني أخوتي

وعادوا إلى أبي عشاءً يبكون

قالوا: يا أبانا قد أكله الذئب.

فبكى أبي،

وكان شيخاً جليلاً،

حتى اخضلّتْ لحيته بالأسى والحروف.

لكنّ السيّارة إذ وصلوا الى البئر

ما قالوا: يا بشرى هذا غلام

بل قالوا: واأسفاه هذا هلام.

وتركوني في البئر

يمزّقني الظلامُ والخوفُ والانتظار)([57]).

  في النص السابق كان التناص واضحا مع قصة يوسف(ع)، وهي مدار الفصل الثاني من الكتاب الذي يمكن الوقوف عنده، وتملي نسقه.

(4)

(ربّما سأخرج من البئرِ يوم يُبعَثون

أو ربّما يوم يُقالُ للأرضِ: ابلعي ماءك

فأخرجُ من مركبِ نوح

أو من نارِ إبراهيم

وقد أكلني الرعب

ولَفَظَني الموج

وأطفأت المأساةُ عيوني)([58]).

   يأخذ التناص في المشاهد السابقة شكل التصورات المعاصرة التي تستلهم القص القرآني الخاص بأنبياء الله: يوسف، ونوح، وإبراهيم -عليهم السلام-، والشاعر يستأنس بالشقاء المشترك بين النبوة والشعر، ممثّلا في تحمل وزر الكلمة، واستشمار عبء الحرف([59])، للإشارة إلى ما ستكون عليه الحياة بعد حين، في تناصّ استباقي يقف عند أحقاد الذئاب التي ستأكل أكتاف الحياة، فلا أمل للشاعر ومن معه، وقد جرّب العيش في ظلّ استرجاعات كانت تؤثث لحياة كانت قائمة.

     تتعدّد المرجعيّات التناصيّة في النصّ السابق الذي حاور من خلاله الشاعر نصوصا من القرآن الكريم بمقدرة أحالت على نمط من الابتكار التصويري، والإحالات الرمزيّة عابرة أزمنة كبرى حاول الشاعر من خلال مراياها محاكاة المأساة التي مر بها أنبياء الله، وقد أعاد تكرار المأساة، ورؤية العالم من خلالها، مأساة أطفأت العيون كناية ثقافيّة عمّا أصاب العالم المعاصر من داء: الابصار: العمى: حضور البصر، وغياب البصيرة، والنجدة بعصا الترحال التي لا يُهش بها على شيء، وليس للإنسان المعاصر بها مآرب، وغايات.

  ولأن (غراب نوح) و (حمامته) قد غابا عن النص القرآني، فقد حضرا في أغلب تفاسير القرآن الكريم، ومن هنا التقطهما الشاعر أيقونتين شعريتين، ولكن بأسلوب معصرن، وأجواء مفتوحة على أكثر من دلالة:

(بعد أن مات غراب نوح

ترك لي سرا ريشه الأسود

وصراخه المخيف في كيس أسود)([60]).

    لاشكّ أنّ النصّ السابق يتعلّق في غياب الغراب، وحضور الريشة، والصرخة، والكيس، وقد أفضى إلى تشكيل صورة سوداء قاتمة لما ستكون عليه الحال مستقبلا، صورةلوّنت متن الشاعربسيمياء اللون الأسود الذي ميّز فضاء الصورة، وعمل على تقديم الحدث تقديما لونيّا دالّا دفع بالحدث إلى واجهة المشهد السرديّ الذي سوّغته حكاية الغراب.

  وللشاعر أن يقول مكمّلا الدلالة الناقصة في النصّ السابق:

  (لكثرةِ ما تأمّلتُ في المرآة

وفي البحرِ الذي اندلقَ منها

حاملاً شظايا الروح،

صرتُ أكتبُ قصائدي

بريشةٍ سقطتْ مِن غُرابِ نوح)([61]).

   ففي النصّ كان لريشة الغراب سلطة الإبداع عند الشاعر، الريشة سوداء، وحبر الكتابة، وما بينهما تخيّل الشاعر وهو يبتكر نصوصه المعاصرة بمستويات التصوير الحسي ذلك الذي ينتمي إلى ثقافة المواجهة، فهي نمط من الكتابة المقنّعة التي عانت من صراع الإنسان مع الإنسان ومع الذات أيضا.

  وللمتلقي أن يقف عند نصّ(الغراب والحمامة)([62]) كي يكتشف مقدار التناصات الامتصاصيّة التي جعلته أشبه بجامع نصوص، ولكن من مصادر معلومة أعني: تفاسير القرآن الكريم التي جاءت على سرد حكاية الغراب والحمامة، وملحمة كلكامش ، وكتاب التوراة بعهديه التي أضافت إلى الحدث تأويلات انتزعها الشاعر من صلب قراءاته للخطاب القرآني، وقد اصطنع  لها أنساقا من عندياته بهدف عصرنتها، فتخيّل سرديات صغرى ألحقها بالمتن الأول، وهو راغب في أسطرتها، وتشكيلها برؤى جديدة:

  1

(حين طارَ الغرابُ ولم يرجعْ

صرخَ الناسُ وسط سفينة نوح مرعوبين.

وحدي - وقد كنتُ طفلاً صغيراً-

رأيتُ جناحَ الغراب،

أعني رأيتُ سوادَ الجناح،

فرميتُ الغرابَ بحجر.

هل أصبتُه؟

لا أدري.

هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟

لا أدري.

لماذا كنتُ وحدي الذي رأى

سوادَ الغراب

ولم يره الناس؟

لا أدري.

2

حين عادت الحمامةُ بغصنِ الزيتون

صرخَ الناسُ وسط السفينةِ فرحين.

لكنَّ الغراب سرعان ما عاد

ليصيحَ بي بصوتٍ أجشّ:

أيّهذا الشقيّ لِمَ رميتني بالحجر؟

اقترب الغرابُ مني

وضربني على عيني

فظهرت الحروفُ على جبيني

عنيفةً، مليئةً بالغموضِ والأسرار.

ثُمَّ نقرَ جمجمتي

فانبثقَ الدمُ عنيفاً كشلال.

 3

نزلَ الناسُ من السفينةِ فرحين مسرورين،

يتقدّمهم نوح الوقور

وهو يتأمّلُ في هولِ ما قد جرى.

حاولتُ أنْ أوقفَ

شلالَ الدمِ الذي غطّى رأسي ووجهي.

فاقتربت الحمامةُ منّي

ووضعتْ على رأسي حفنةَ رماد:

حفنةً صغيرة،

مليئةً بالغموضِ والأسرار.

4

هكذا أنا على هذه الحال

منذ ألف ألف عام:

الغرابُ ينقرُ جمجمتي

فينبثقُ الدمُ عنيفاً كشلال.

والحمامةُ تضعُ فوق جمجمتي،

دون جدوى،

حفنةَ رماد!)([63]).

    بشعريّة السرد المحتفي بالثقافة العابرة للعصور يقرأ الشاعر أديب كمال الدين (نصّا) شائعا في ثقافات أقلّ ما يقال فيها قدمها الذي يرجع إلى عصور سحيقة، أعني بالنصّ:(الطوفان) الذي قدّمه السومريون في الألف الثالثة قبل الميلاد مرموزا بقرار الآلهة وهي ترغب في فناء الحياة سوى عدد من البشر، والحيوانات،فكان (الطوفان) بنسخته الأولى التي حكت سرديّة لها ما يميّزها الآن من بين سرديّات كبرى كثيرة.

في نصّ (الغراب والحمامة) حضر(نصّ) الطوفان بوساطة النسج الشعري الذي اتجه نحو (السرد)،وهويحتفي بالظاهرة المغلّفة بالميثولوجيا، والأسطرة بحثاعن حقيقة مضيّعة عبرالعصور، وهولايبغي من وراء تكرارها (الغناء) بحشرجات صوت منفرد، إنّماهدفه الاتجاه بقوة (السرد) نحوالحضورالدرامي الذي أباح له أن يقول ما يريد بصوت ذي طبيعة تناصيّة تتماس مع الكتب المقدّسة، والرموزالعابرة للقرون، والنصوص التي يبتكر الشاعر من أصولها، ومضامينها (التناص) ليجدّد قراءتها، ويؤوّل أنساقها، وهويدخل خارطة التحديث الأسلوبي في الشعر.

 

 

 

 

   والتشكيل الدرامي في الشعر العربي الحديث تتويج لمرحلة ما بعد الغنائيّة، ودخول جريء في حقل الصراع المفتوح على أكثر من ثنائيّة يتلقفها الشعر لتكون شكلا من أشكال التعبير المقترن بحداثة الشعر، والشاعر معا.

 اتّجه النصّ سرديّا نحو الدلالات الميثولوجيّة الراكسة في اللاوعي الجمعي للإنسان الشرقي مؤكدا علو صوت الشعر، وحضور الأنساق التضاديّة التي تتقدّم واجهة التعبير الدرامي ،وهي تتشكّل من صورة (الغراب) الذي كانت العربُ ولمّا تزل تتشاءم منه بوصفه  طيرا جالبا للنحس كما أخبرنا(الدميري) في كتابه :(حياة الحيوان)لأنّ العرب اشتقّت من لفظه: الغربة، والاغتراب، والغريب([64])، وكلّها ألفاظ ترتد إليها صور التشاؤم والنحس، فضلا عن أنّ قصّة (قابيل)، و(هابيل) تجري حوادثها مقرونة بخبر (الغراب) الذي ضُرب المثل في شؤمه ،فهو :غراب نوح، وغراب البين معاً.

   صورة الغراب بشؤمها الطاغي تتضاد في النصّ مع صورة الحمامة بوداعتها الرائقة،وطقسيّتها البريئة،ورمزيّتها الداعية إلى السلام والمحبّة، والصورتان تشيران في مضمونهما السردي إلى جوهر الإشكاليّة التي يعاني منها الوجود: الصراع بين شكلين من أشكال الانتماء.

   ويحضر النسق المتضاد في صراخ الناس في القصيدة ذلك الذي يأخذ بعدا تقابليّا يحيل على صورتين مختلفتين تتّسمان بالتماسك المبني على حضور الصورة ونقيضها:(صراخ الناس وسط السفينة مرعوبين)،و(صراخالناسوسطالسفينةفرحين)،فبين صورتي (الرعب)،و(الفرح) ترتفع لغة القصيدة مؤكدة شكل الصراع في النص، الذي يستمد أصوله من فجائعيّة الحياة، وتسلسل المفارقات فيها.

   والنصّ على الرغم من قصره الظاهر الذي يفارق عادة الرؤية التقليديّة للدراميّة في الشعر؛ فإنه يقوم على تكثيف الصراع الذي يسهم في تقرير روح التشكّل الدرامي،ولهذا فهي تستكمل شكلها التضادي مثلا في أكثر من سياق، والشاعر فيه مثلا وحده الذي رأى سواد الغراب،(ولم يره الناس) في إشارة واضحة تحيل على الاختلاف،وبروز النزعة التقابليّة في المشهد الشعري، فضلا عن أنّ الغراب في القصيدة ظلّ ينقر جمجمة الشاعر فينبثق الدمُ عنيفا كالشلال،بينما الحمامة وضعت فوق جمجمة الشاعر حفنة رماد.

   تحيل الصورتان السابقتان على ثنائية: الشر: الخير في بعدها الدرامي الدامي، فضلا عن أنّ القصيدة بلغتها المنفتحة على عناصر السرد المعروفة كانت قد أكّدت النمو الدرامي ممثلا في:

1-الحدث:

    يعد الحدث عنصرا رئيسا في البناء السردي، والدرامي وظيفته الأساس تجسيد الرؤية السرديّة،أو الدراميّة ضمن مشاهد متعددة مقرونة بزمان محدّد، ومكان لتستجيب للرؤية الشعريّة التي تحافظ عادة على نوع القصيدة،وشكل بنائها الثابت.

   والحدث في النصّ يبدأ من نهاية (الطوفان) الذي رسمه النص القرآني؛ أي أنّه يتجاوز الكثير من الاحداث،والوقائع التي تستقر عادة في الذاكرة الجمعيّة ليصوغ مشهده المفترض من لحظة رسوّ السفينة متناصا مع كمّ المرجعيّات القرآنيّة والثقافيّة،فهو حدث مفتوح على نهاية القصّة:(المثال) يبدأ بحركة طيران الغراب نحو اليابسة، ثم ينمو مع جملة الأحداث الأخرى: صراخ الناس، ورؤية الشاعر لجناح الغراب، ورميه بالحجر، وعودة الحمامة بغصن الزيتون، وضرب الغراب لعيني الشاعر، وظهور الحروف على جبينه، وانبثاق الدم ،وصولا إلى نزول الناس من ظهر السفينة، ثم ينتهي الحدث بفعل حادّ يمكن اخضاعه للتأويل:

(هكذا أنا على هذا الحال

منذ ألف ألف عام

الغراب ينقر جمجمتي

فينبثق الدم عنيفا كشلال

والحمامة تضع فوق جمجمتي

دون جدوى

حفنة رماد!).

   فهو مشهد دم خُتم به النصّ يشير تأويله الأولي إلى حال الإنسان في صوره المتعاقبة القائمة على ثنائيّة:(الشرّ:الخير) التي جسّدت طبيعة الصراع بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والآخر، وصولا إلى حالته المعاصرة التي يراق فيها دمه ليباع بأبخس الأثمان، والشاعر يعترف ((بأزمته الخانقة عبر رحلة حياة أصبحت عصيّة الفهم ،كرّست واقعا تقهقرت سبله ، وأصابه الضعف والوهن، وتطايرت شظاياه بسبب حالة اليأس ، وفقدان الأمل ، والاستسلام للممارسات الاستبداديّة بعد تسليط القهر على الرقاب))([65])، وضمور الحق في القلوب والعيون.

2-الشخصيّة:

    تشكّل الشخصيّة محور نصوص (السرد: دراما) التي توظّف عادة لبناء نصّ ذي رؤية تعتمد الافصاح عن إشكال معيّن، والشخصيّة في النصّ بل الشخصيّات تم احضارها بوساطة راو عليم يتماهى وصوت الشاعر الذي يهيمن على مجريات الأحداث،ويبيح لنفسه التحكم في بعض تفوهاتها لتكون وظيفته الرئيسة استعارتها من خارج النص، أي من نصوص دينيّة،أو أسطورية معروفة: نوح، والغراب، والحمامة التي جميعها تستسلم للرؤية المركزية للراوي العليم.

إنّ شخصيّات النصّ بعلاماتها الفارقة ليست من نتاج التخيّل الشعري،أو السردي،وإنّما هي شخصيّات لها حضورها التأريخي،والأسطوري، فهي ليست كائنات ورقيّة جلبها السارد من خارج المخيّلة ليعيد صياغة أفكاره بما تمليه المخيّلة الشعريّة لتؤدي لعبة الانتظار، والاختباء وراء أصوات الاخرين إنّما هي شخصيّات لها هويّة يتكرّر وجودها خارج المتن في المصادر الأولى، والذاكرة أيضا منها: نوح، والسفينة، والغراب، والحمامة.

   والشخصيّات على الرغم من عمقها التأريخي تتعرّض للفعل التخيّلي الذي يتيح لها الانتقال من الدلالة التأريخيّة الثابتة إلى الدلالة المتحركة الداخلة في فضاء الأدب بمرجعيّاته المختلفة التي تعمل على تسويغ المسموع، أو المقروء لغرض الاحتكام إلى دلالاته،وجماليّاته العابرة لما هو شائع،واعتيادي.

3-الزمن والمكان:

   يرتبط الزمن، وهو مجرّد حقيقة سائلة لا تظهر إلا من خلال مفعولها على الشخصيّات، والمكان، وهو السرد حين يتشكّل، فضلا عن أنّه الإيقاع([66])في الأدب بجملة الأحداث التي يتشكّل منها النصّ الأدبي ليعطي فكرة عن حضور  فيزيقي  في الأنساق الأدبيّة، مؤداه أنّ النص لا بد أن يشير إلى زمن معيّن يغلّف إطاره العام، وجوهره الخاص ليكشف عن فحوى الأحداث ،وارتباطها بالعصور، ليتحدّد فيما بعد موقف واضح من الزمن الذي هو في الأساس زمن (نوح) عليه السلام بحسب وروده في القرآن الكريم .

ينتمي نصّ (الغراب والحمامة) حدثا،ورؤية إلى زمن ماض سحيق تختلط فيه الوقائع بالأساطير، والميثولوجيا، ولكنّه زمن مستعاد استحضره الشاعر ليكون في متناول القراءة المعاصرة التي تقرأ الماضي بعيون ناقدة نافذة تتجه صوب الحاضر.

   أمّا المكان في القصيدة فهو يحيل على أنساق لها حضورها الفعلي في الذاكرة أولا،وفي الحقائق المجردة ثانيا، وهو في القصيدة غائم غير محدّد؛لأنّ القصيدة سكتت تماما عن تحديده، لكنّ الوقائع القرآنية، والأساطير: والميثولوجيا اقترحته حيّزا ممسرحا للطوفان في شمال العراق، أو جنوب تركيا الملاصق للشمال العراقي، وهو ما لم تعنَ به القصيدة لرغبة واضحة في اطلاقه من عنان التقييد،فهو مكان مستعاد ينام تحت طبقات كثيفة من الوعي المنقّع بالمتضادات.

4-الحوار:

    يشكّل الحوار الجزء المكمّل لعناصر السرد الدرامي السابقة، وهو بسبب طبيعته الجامعة لأكثر من رأي يدفع بالحدث إلى الظهور، والوضوح بمعنى آخر: إنّه يسهم في نهوض فكرة الصراع داخل النص السردي بلغة تحتمل المباشرة، أو التأويل، فضلا عن أثره في تقديم الشخصيّة وهي تتفوّه بأيديولوجيتها الخاصّة.

   في النصّينهض الحوار الأوّل بصوت الشاعر:السارد للأحداث منلوجيّا:

(فرميت الغرابَ بحجر

هل أصبته؟

لا أدري

لماذا كنتُ وحدي الذي رأى

سواد الغراب

ولم يره الناس؟

لا أدري).

   استهل نص الحوار بأداة الاستفهام:(هل) وهي أداة مختصّة بطلب التصديق يستفهم بها عن مضمون دلالة الجملة، وهو هنا يتعلق بإسناد اصابة الغراب بالحجر، ويكون الجواب عنها عادة بـ(نعم)،أو(لا)،لكنّ الشاعر خالف المعهود حين أجاب بـ(لا أدري)،التي هي ليست(لا)،أو(نعم)،إنّما هي جواب ينفي الحالتين، ثم تساءل بـ(لماذا) التي تسأل عن خصوصيّة الذي رأى الغراب لوحده ،وهي باستفهامها التركيبي أباحت دلالة  التساؤل للأسطر كلّها، فكان الجواب: محيّرا أيضا:(لا ادري).

   تكرار الحيرة في المشهد الحواري يرتدّ إلى حيرة الشاعر في ظل طوفان عظيم لم تنته فصوله بعد، وحوار الشاعر مع نفسه يكشف عن ذهنيّة الخوف التي تلبسته إزاء طائر كلّ ما يقال فيه: نحس، وبؤس يظهر جليّا بقدراته الهائلة-اليوم- فوق الرؤوس.

   أمّا الحوار الثاني فيمكن أن أسميه بالحوار الناقص،أو المبتور؛لأنّ صيغة التساؤل فيه  وردت على لسان الغراب، وكان هدفها الشاعر لكنّها بقيت بلا جواب:

أيهذا الشقي لمَ رميتني بالحجر؟.

   بين حضور السؤال، وغياب الجواب يتلاشى الحوار كليّا ليحيل المشهد على جوهر الصراع الذي لم ينته بعد في ظل (طوفانات) آتية يهمّ الشاعر أن ينوه إلى إشكالاتها تلميحا؛ لأنه معني بالربط بين كل الصراعات وإن اختلفت أزمانها.

   وتضاد الحوارين في القصيدة يعطي فكرة أخرى عن دراميّة الحدث الدائر في ظل حوار مختلف محمّل برؤى مستلّة من قيعان غائرة بالقدم لا تريد أن تبتعد عن فحوى حواراتنا المعاصرة.

نصّ ((الغرابوالحمامة)) صياغة شعريّة تناصت مع الحدث الأكبر (الطوفان) بلغة جديدة ابتعدت عن صيغ الاقتراب من النصوص المقدّسة،والأدب الرافديني المعروفة تلك التي تقوم على أساليب الاقتباس،أو التضمين،أو التصوير، أو الترميز، أو استعمال القناع،أو المحاكاة؛لأنها ببساطة صياغة ارتضت لنفسها أن تتشكّل دراميّا وسط حضور قويّ لبناء متماسك أعلن  منذ البدء انفتاحه على فضاء صراع منظّم([67])،بين الإنسان والآخر، وبين الإنسان والطبيعة.

خاتمة:

   وبعد: فإنّ تناصات الشاعر أديب كمال الدين مع قصّة (نوح(ع)) مثّلت نوعا من التعدد الدلالي الذي سببه التناص الذي سمح بتراكم المعنى في النص الثاني بدءا من الجملة، وانتهاء بالخطاب عابر الشكل الواحد إلى حواريّة لسانيّة متعددة الدلالات انفتحت على ثيمة الصراع بوصفه مواجهة بين نوح وغيره، وبينهما ثقافة العنف التي بدت ظاهرة، ومضمرة في تناصّات الشاعر بتمثّلاتها التي كانت نتاج الصراع الذي نقلته التناصات إلى عالم اليوم،والشاعر يتمثّل العنف بطرائق مختلفة قادته لأن يكون في صلب مسؤوليته الحقيقية.

 

الإحالات:


الفصل الثاني

 

(قصّة يوسف (ع))

 

مقدمة:

يسعى هذا الفصل إلى الوقوف عند ظاهرة تناص الشاعر أديب كمال الدين مع قصّة النبي يوسف(ع)، وهو يعلم أن التناص مصطلح فاعل في الشعر المعاصر، بما يمتلك من الجمع بين نصين، أو أكثر في أطار الكشف عن الأصول، والمرجعيّات المشكّلة للمتون المتناصّة بوصفها ملتقى لنصوص مختلفة توحّدها المداليل التي هي الغاية الكبرى لأيّ نص.

تمهيد:

 شَغَلَ القصصُ القرآنيُّ مساحة كبيرة من متن القرآن الكريم، وهذا يفصح عن أهميّة القصّة في التداول الثقافي، والاجتماعي عند المسلمين، فضلا عن عمق دلالاتها، وأصالة فكرها وحكمة مضمونها؛ لذلك وردت في عدّة مواضع من القرآن الكريم، وهي تنفتح على عدد ليس بالقليل من موضوعات الحياة، لعلّ قصّة النبي يوسف(ع) واحدة منها، فهي من قصص القرآن الكريم الخالدة على وجه الدّهر؛ قصّةُ نبيّ عفيف غريب، لاقى كلّ أنواع الصّعاب، والإغراءات، والابتلاءات، فلم يضعف، واستعصم بربّه؛ ذلك هو: النبيّ يوسف(ع).

وممّا يميّز هذه القصّة الشكلالفنيّالحاذق الذي شمل الجانب العقيدي، والتربوي، والفني، وقد تفرّدت عن قصص القرآن الكريم الأخرى بعدم تكرارها في أيّ سورة أخرى على خلاف القصص القرآني الأخرى التي تكرّرت بمعانيها في وجوه مختلفة، وأنماط متباينة([68])، وهذا دليل على كليّة القصّة، وتسلسل القصّ فيها، وانفتاحها الدلاليّ على أكثر من مدلول، وقد جاءت مفصّلة مبسوطة متّسمة بالعرض العام لشخصيّة هذا النبي من جميع جوانبها، وفي سائر مجالات حياته، وما تعلّق بها من أحداث، ومواقف مع شخصيّات أخرى لها أثرها في سياق أحداث القصّة، وهذا دليل على عمق النهج القصصي، وأصالته، فهو منهج الخالق سبحانه([69]).

ولعلّ من أهم أنواع البنى القصصيّة في القرآن الكريم بنية القصّة المغلقة المكتملة ممثلة في قصة سيدنا يوسف(ع)التي تحكمها منظومة قصصيّة توحّدها روابط خطابيّة غائيّة، نفعيّة تأثيريّة، لذا وردت في سياق مستقل، دون أن تقترن بأخبار أنبياء آخرين، ولكن ذلك لا ينفي وجود فضاءات تعقيبيّة توثيقيّة لا تندرج ضمن الطرح القصصي، وهي تشكّل توصلا امتداديا يربط بين حلقات الرسل، والرسالات من حيث تشابه ظروفها وملابساتها([70]) .

تصوّر قصّة يوسف(ع)الرّحلة بين الرؤيا وتحقّقها، رحلة من ظلمة غيّابات الجبّ إلى علياء النبوّة والملك،رحلة تصوّر الفراق ثم اللقاء،وقدوصفها الحق(جلّ وعلا)بأحسن القصص: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ))([71])؛ لأنها تأخذ بمجامع النفوس باحتوائها على كلّ مقوّمات البناء السرديّ القصصيّ من حدث، وشخصيّات، وزمان، ومكان، وحوار، وغيرها، كما أنّ كلّ من كانوا أبطالا فيها انتهى حالهم إلى السعادة والرضا.

  وقصّة (يوسف) فضلا عمّا ذكر ثريّة بالمُثل، والقيم الأخلاقيّة التي تتصارع في ثنائيّات ضديّة مع قوى الشر، وهي تمثّل الأنموذج الأكثر تميّزا، وتشبّعا بالرّوح القصصيّة من شخصيّات، وأحداث، وصور، وحبكة، ولغة، فهي تحتوي على مفردات، وجمل إيقاعيّة ترفع درجة التشويق، وتجعل المتلقي في حالة ترقّب وتشوّق دائمين، وتنفرد قصّة يوسف(ع) ببناء فنيّ متميّز جعلها من روائع القصص، فهي معنيّة بعرض عام لشخصيّة هذا النبي من جميع جوانبها، وفي كلّ مجالات حياته، وما مرّ به من أحداث ومواقف، مع شخصيات أخرى، فضلا عن انفتاحها النفسي والأخلاقي.

ولعلّ منأهمّسمات هذه السورة، وغيرها من السور حسن الاستهلال وجماله،يقول (جل وعلا): ((الرتِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))([72])، فهذا الاستهلال من ثقافة القرآن الكريم، وهو أول ما يقرع الأسماع، ويدخل النفوس، ويشدّ الأذهان ويستميل العقول،ثمّ يليه الاستهلال الحواري موضوع الرؤيا الذي يتميّز بالبناء القصصي بتمحوره حول شخصيّة مركزية (النبي يوسف)(ع)، منذ بداية سرد الرؤيا، وتحكم هذه القصّة منهجيّة خاصّة ينفرد بها الأسلوب القرآني، ومن خصائصها:إنّها قصّة تجري من خلال راوٍ يتدخل بين مدّة وأخرى لتحديد المعاني والمقاصد، ويقوم مقام الشارح أيضا، فالله تعالى يقرّر القصّة من خلال الآية الكريمة التي تشير إلى مصدر القصّ:((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ))([73])، فلا تبدو القصّة قطعة متواصلة بدون توالي السرد، فيأتي التدخل أحيانا داخل الآية نفسها بدون توقف كما في :((وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ))([74])، معليا من مقام النصّ، ومعطيا فكرة عامّة عن مسألة خاصّة تتشظى دلالاتها على مرّ الزمن من خلال:

   1-إنّ التداخل بين السرد، والحدث يشكّل أحدى القيم المتميّزة للقص القرآني،فالسرد لا يخرج من سيّاق الآية؛ لأنه محكوم بقدرة الخالق، بينما السرد الذي يتدخل لتقديم الأحداث، أو ربطها في الرواية البشريّة لا يستطيع فعل ذلك؛ لأنه ينقل الواقع أو يعكسه، فهو ليس طرفا خالقا فيه، وإنما طرف ناقل، وهذه مزيّة للقصّة القرآنية لا تحتوي عليها القصّة البشريّة([75]).

2-الترتيب والتسلسل الزمني وترابط الأحداث: فالظاهر في إطار القصّة العام أنّها قصّة النبي يوسف(ع)، ولكن في داخلها عدد من القصص الأخرى ذات موضوعات متّصلة بيوسف(ع)، و أحداث قصّته الرئيسة  مثل: قصّته مع إخوته، ومع امرأة العزيز، وقصته في السجن، ومع الملك، فوجود هذه القصص القصيرة  ضمن القصّة الرئيسة بشكل مترابط، وتام دلالة على وحدة الموضوع، وقوّة العرض؛ لأنّ القصّة بعد الاستهلال مباشرة ترد محكومة بترتيب وتوالٍ للأحداث، سواء الأحداث الرئيسيّة، أوتلك الأحداث الثانويّة، فتستهل بذكر طفولة يوسف إلى بلوغه مرحلة الرجولة،تدرجا زمنيّا طبيعيّا .

3-يتميّز الأسلوب الحواري للقصّة بالإيجاز، ووضوح الهدف، وعمقه؛ لغرض تحقيق هدف غايةٌ في التميّز، هو كشف للنصّ كلّه وتبيينه، أي أنّ للحوار أهميّة مكملة في غالب الأحيان، وهوالخيط الذي يربط الأحداث والمعاني، ويؤدي الغرض الأساسي من إيصال الهدف الإنساني، والتأريخي، والديني في كلّ حين. 

4-حذف ما يقتضيه السياق، والاقتصار على الأحداث الضروريّة، وعدم ورود التفاصيل الثانويّة، مثل: الحركات العضويّة، والنفسيّة، والسورة حافلة بهذه الخاصيّة الأسلوبيّة.

5-الربط المنطقي للأحداث المفردة بالغايات،والأهداف، والآيات.

6- الحبك القصصي في النص القرآنيّ ليس مجرد سير للأحداث، وإنّما بناء تتحرك فيه الأحداث والمواقف في تسلسل في الزمن الموضوعي فتسير القصّة حدثا بحدث دون أن تقطع الأحداث وفقا لزمنها النفسي، حتى تكتمللتحقيق الهدف النهائي، أمّا البناء الداخلي للحدث فإنّ القصّة تسير على وفق معماريّة بالغة الجمال من حيث تداخل الأحداث، وصلتها بعضها بالآخر، ثم نموّها من خلال خطوط تتوازى، وتفترق حتى تصبّ في نهر واحد.

7-تعامل القصّة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة متمثلة في نماذج متنوعة مثل: أنموذج النبي يعقوب (ع) الذي يمثل أنموذجا واحدا، وأنموذج إخوته بوصفهم شخصا قصصيّا واحدا من حيث الموقف، وأنموذج امرأة العزيز،فقد يجسّد هذان الأخيران بناًء هندسيّا قائما على الموازنة الفنيّة في حركة القصّة، والحركة في مواقع متفاوتة ليفرز دلالات متفاوتة أيضا.

إنّ الفنّ– في القصّة- يحقّق عنصر التضاد من خلال التماثل، والتماثل من خلال التضاد الذييودّي دلالة مزدوجة تنفتح على معنى معيّن، وآخر ضدّه، يرى جان كوهين أن التصوّر النفسي لمفهوم التضاد يعود إلى  شعورين غريزيين مختلفين يوقظان الإحساس ،واحد منهما هو الذي يستثمر نظام الادراك في الوعي ،والثاني يظل في اللاوعي([76])، وهذا يعني أن الثنائيّات بما تملك من خاصيّة الجمع ،والتفريق بين صورتين أصلهما واحد لا يمكن الاستغناء عن أحداهن بسبب تعالقها الدلالي مع الثانية، وبالرجوع إلى مقولة:(كوهين) تظهر فاعليّة الثنائيّة في استثمار اللاوعي الذي تكون مهمّته ابداعيّة لها سلطة التأسيس لما هو غائب في الذهن لكي يكون حاضرا  في اللغة،فثمّة مؤامرتان في القصّة إحداهما تنطلق من دافع الحسد، ويمثّلها رجال، وهم إخوة أقارب في محاولة للتخلص من يوسف(ع) بإلقائه في البئر، والثانية تمثّلها امرأة غريبة من الأباعد في محاولة للتعلق بيوسف (ع) بإلقائه في السجن، إذ نجد بناًء هندسيّا لنمطين من أبطال القصّة الثانويين، فيقوم هيكل القصّة على عناصر التضاد والتماثل، والوحدة بينهما([77]) .

8- بناء القصّة على عنصري المفاجأة، والتشويق، وهذا وحده كاف لأن يجعل القصّة تستحوذ على تلق من المسلم وغيره.

   وإذا ما عدنا إلى استهلال القصّة نجده متناسبا مع ختام السورة، ومتعالقامعه، فهما يتضافران من أجل أن يبرزا مسار القصّة  بتفاصيلها الخاصّة بنبأ يوسف(ع) وإخوته،و كيف رفعه الله عليهم ،و جعل له العاقبة ، والنصر، والملك ، والحكم ، و النبوة ، مع السّوء الذي تعرض له حيث بشّره الحق (جلّ وعلا)،لتكون  هذه القصّة من أنباء الغيب الذي كشفه الله إيذانا بتعقيبات للقصّة، ولمسات متعدّدة، وهي متعلّقة بالاستهلال:((نحن نقص عليك أحسن القصص))، وقد بيّن الله تعالى أنّه ذكر في القرآن الكريم هذه القصص بتفاصيلها لأخذ العبرة منها.

يوسف(ع)(في الشعر العربي):

    للشاعر العربي علاقة وطيدة بالنصّ القرآني، فهو مصدر إلهامه، ومفجّر قريحته، ووسيلةٌ من وسائل إغناء نصوصه، وإضفاء نوع من الجلال عليها؛ لما له من خصائص جوهريّة تلائم طبيعة الشعر العربي، وخصوصيته؛ ولهذا عدّ القرآن الكريم موردا خصبا للشعر، ومن هنا حازت قصصه على محاكاة الشعراء،فالعلاقة بينهما علاقة مؤثّر بمتأثر، فكانت القصّة القرآنيّة على مدار قرون أداة تبليغ، وتربية، وبيان، ومحاجّة،وسرًّا من أسرار القرآن الكريم للعظة ،واستقاء العبر، ومنهجا متكاملا تُستقى منه مقاصد سامية، بما تمتاز به منأسلوب معجز عجيب، وثقافة اجتماعيّة متّصلة بما هو مقدّس ،والقصص إحدى الوسائل القرآنيّة للوصول إلى الغايات الدينيّة المتعددة،التي منها تثبيت قواعد الدين في قلوب المسلمين، وتمتاز بطاقاتها اللغويّة الإيحائيّة، واستيعابها لأغلب المفاهيم، والمضامينالتي لو وُظفت في الأدب شعرا ونثرا لاستوعبت جلّ المعاني التي استعصى الإلمام بها، مع إيجاز الأسلوب، ووضوح الغايات، كما تمتاز بطابعها التعليمي([78])،وقد ظلت مَعينا ينهل منه الأدباء الأفكارَ والرموز، ويَتُوقون لأن يدركوا  بلاغته، وبيانه لإضفاء نوع منالجلال والمصداقيّة على خطاباتهم  فهي دليل برهان عقلي يدعمون به أفكارهم ، وبالتعالق مع نصوصه الكريمة تظهر ثقافاتهم ،وتتعدّد طرائق اتصالهم بالمثال.

   ونظرا لما لهذه القصّة القرآنية من تفرّد وامتياز، فقد شدّت أدباء وشعراء تفاعلوا معها بأشكال، ودرجات مختلفة، وسياقات متعددة، في التعبير عن المضامين المعاصرة لهم، وقد تواردت عليها خواطر الأدباء عبر العصور فضمّنوها إنتاجهم:

لعلّ الشعراء العباسيين من الشعراء الذين وقفوا عند القصّة القرآنيّة منبهرين بأسلوبها وجمالياتها، وجوانب الإعجاز فيها،وقد تنوّعت الدوافع إلى ذلك منها:حاجات فنيّة يمثلها الافتقار إلى عناصر ابداعيّة لإغناء تجاربهم، ومنها دواع سياسيّة واجتماعيّة تتلخّص في تلك الظروف السلبيّة مثل: الظلم والاستبداد، وبطش الحكام ، وشيوع الصراعات السياسيّة داخليّة كانت أو خارجيّة، أوفكريّة، فضلا عن الصراع بين التشبث بالقيم والبعد عنها،وتردي الأوضاع المعيشية والفقر، وشيوع المجون،وبعض الظواهر مثل البخل، ومنها حاجات نفسيّة ثقافيّة تتصدّرها الرغبة في إثراء التجارب الأدبيّة بعناصر فنيّة جديدة، وإحساس بعض الشعراء بأن مجتمعهم نبذهم،وأغرب عنهم، فكانوا ملزمين بالعودة إلى تراثهم  ينهلون منه  ما افتقدوه في واقعهم ([79]) .

من هنا كان الشعراء قداحتفوا بشخصيّة سيدنا يوسف(ع)،فهذاالشاعر(العباس بن الأحنف :192هـ) استحضرفي غزليّاته الرّموز الدينيّة -ولا سيّما - ما تعلّق بقصّة النبي يوسف(ع)، وما فيها من ابتلاءات مشيرا إلى رمزالقميص الذي اتخذه شاهدا، ودليلا على صدقه، وإخلاصه للمحبوب وشوقه له:

وَقَد زَعَمَت يُمنٌ بِأَنّي أَرَدتُــــــــــها    عَلى نَفسِها تَبّاً لِذَلِــــــــكَ مِن فِعلِ

    سَلوا عَن قَميصي مِثلَ شاهِدِ يوسُفٍ   فَإِنَّ قَميصــي لَم يَكُن قُدَّ مِن قُبلِ ([80])

يردّ الشاعر على من يتهمه بالتحوّل عن ودّ محبوبته، وتلوّنه في الإخلاص لها مستحضرا حادثة مراودة امرأة العزيز لسيدنا يوسف(ع)، وتوظيف القميص رمزا للطهارة ليثبت براءته ممّا نسب له من تُهم، ليقول أنّه مثل يوسف(ع)-مع مراعاة الفارق بين الشاعر و النبي- تراوده النساء و يتقرّبن له، إلا أنّه أبدًا مخلص لمحبوبته، ويومئ كذلك من طرف خفي أنّ الفرق بين النبي، وغيره يكمن في العصمة التي حباه الله بها، فالشّاعر غير معصوم عن الخطأ، وتوظيف هذه القصة جاء بصورة أخرى هي نفي الخطأ عن النبي، وإمكانية حدوثه عند سائر البشر.

كما نجد الشاعر(أبا نواس: 199هـ) أيضا ليستحضر تآمر إخوة يوسف(ع)، وحادثة الجبّ، ويسقطها على وصف جارية: 

فقلتُ في رفقٍ وفي تؤدةٍمقالةَ قد قـــــــــال يعقوبُ

الذّئبُ لا يؤمن لـــــــــكنّه         عَلَيه في يُوسُف مكــــذوبُ

هم طرحوا يوسفَ في جُبّه        عمدا وقالوا خــانه الذّيبُ([81])

يستلهم الشاعر القصّة في تكبير صورة الخيانة الأخويّة التي أبداها إخوة يوسف، وقد نزّل نفسه منزلة الذئب من قصّة يوسف كناية عن براءته مما علق به من خيانة أخرى هو بصدد الإحالة إليها، والنص بشكل يتناص تلميحا مع قصّ يوسف (ع).

كما يصف ابن الرومي(283هـ) مماطلة البخيل في الاستجابة له مستحضرا قصّة يوسف النبي عليه السلام:

سألتُ قَفيزينمن حِنطـــةٍ          فَجِدْتَ بكـــدّ من المنع وافِ

            واتبعت منعكَ لي كالحجا         ب، هديت ففي المنع كافـــي([82])

  ونجد حضورهذه القصّة في شعر(ابن المعتز:299هـ) الشاعر والخليفة حيث استحضر مشهد إخوة يوسف(ع) في قوله:

بني عمّناعــودُوا نَعُدْ لمودّةٍ                  فإنّا إلى الحُسنى سـراعُ التعطّف

وإلا فإني لا أزال عليـــــكُمُمحالفةَ أحزان كـــــــثير التلهّف

  لقد بلغ الشيطانُ من آل هاشم              مبالغَهمن قبل في آل يوســـف([83])

لقد أسقط الشاعر قصّةإخوة يوسف(ع)، وحسدهم على ما يحدث في مجتمعه بين العباسيين، والعلويين من خصومة، راجيا أن يكونا على كلمة واحدة تؤلّف بينهم،وقد أشار إلى إخوة يوسف بلفظ (آل).

والملاحظ أن الشّعراء في هذا العصر تواردوا على استحضار القصص القرآني بشكل عام ، وقصص الأنبياء بشكل خاص، وأنواع أخرى من القصص، أمّا في جانب النثر فبرزت هذه القصص في عدة أثار أدبيّة مثل : الفرج بعد الشدة للقاضي  التنوخي، وغيره.

قصة يوسف(ع) في الشعر الحديث:

  كان الشاعر العربيّ الحديثُقد أقام علاقة وطيدة مع التراثنلمس ملامحها الأولى منذ عصر النهضة مع شعراء الإحياء، فقد أحسوا بأن شعرنا العربي لن يستطيع أن يثبت وجوده ويحقق أصالته إلا إذا وقف على أرض صلبة بتراثه ،وارتباطه بماضيه، وأيقنوا أنّ ابتعاد الشعر عن تراثه في أي عصر إنما هو حكم عليه بالذبول ثم الموت([84])، فضلا عن تلك العلاقة كان الشاعر نفسه قد أقام جسرا من التواصل مع القرآن الكريم ،فكان أن برزت العناية بالقصّة القرآنية ،والانفتاح عليها باستلهام رموزها، وثيماتها، وفضاءاتها المقدّسة لدى الكثير من شعراء الحداثة الذين أخذوا يبنون نصوصهم تحت ظلالها،و بوحي منها على نحو أكثر حرية، وتصرّفا من أي وقت مضى، فصار الشعر يحيل على مدلولات خطابيّة مغايرة، ومتعدّدة انطلاقا من أنّ القصّة القرآنيّة تبلغ أعلى درجات الصّدق، واختراق الوعي، وهي تُصوّر الشخصيّات، وتنقل الحوارات، وتعلن الهواجس، وتصف الأحوال([85]) .

وكانت أكثر الشخصيّات شيوعا في الشعر الحديث شخصيّات الأنبياء انطلاقا من أنّ الشاعر يحمل رسالة في الحياة، كما يحمل النبي رسالة السماءالتي يتحمل في سبيل تبليغها العذاب والعنت([86])،فكانت شخصية يوسف(ع)من أكثر الشخصيّات القرآنيّة حظوة لدى الشاعر الحديث  ، لما لها من مواقف استغرق القرآن الكريم في بيانها ، وتصويرها أروع تصوير، فيوسف (ع) اقترن في ذهن قرّاء القرآن بالصبى المحسود، المفترى عليه،ذلك من خلال جناية إخوته عليه ،وعودتهم إلى أبيهم بقميصه المدمّى، وهو الجميل الباهر الجمال ، المعشوق العفيف،  بما جسّدته القصّة من مراودة امرأة العزيز له، ودعوتها نساء المدينة لرؤية جماله الذي فاق كلّ تصوّر، فقطّعن أيديهن، وهو السجين البريء، وهو الأمين الحفيظ على الأموال، ممّا جعل الشعراء يتواردون على القصّة، ويوظّفونها في معان كانت موضع عناياتهم لكثرة ثيماتها، وتوافر عناصر الصراع فيها، وتمكّن الشاعر من الصوغ على منوالها،ومن أهمّ المضامين التي نالت اهتمامهم:قميصه، وغيبته، وجماله، والسبع سنين، وغيرها، فهذا مجمود سامي البارودي(1904) في قصيدة قالها في (سرنديب) يدفع بها التهم المنسوبة إليه ، وقد اقترب من عالم القصّة اليوسفيّة:

وما أبالي، ونفسي غيرَ خاطئة      إذا تخرَّص أقوامٌ، وإن كذبـــــــوا

ها إنها فِريةٌ قد كان باء بــــها      في ثوب يوسف من قبلي دمٌ كذبُ([87])

كما ورد القميص بصورة أخرى عندما ألقيعلى وجه يعقوب(ع)، وارتدّ بصيرا،في قول الشاعر محمد العيد آل خليفة (1979):

زفَّ البشير إليه بشرَى نصره            من بعد عُدوان أطال فاضجرا

حيا بها كقميص يوسف وجهَه           فرأى كيعقوب الضياء فأبصرا([88])

أما في الرؤيا وتأويلها فيقول الجواهري(1997)في مدح الأمير فيصل بن عبد العزيز:

وقى اللهُ الحجازَ وما يليـــــــه              بفضل أبيك من غُصص الهوان

ومتّع ذلك الشّعب المــــــوقّى              بسبـــــــــــع سنين شيّقة سمان

على حين اصطلى جيران نجد         بــجمر لظى، وسمّ الأفعوان([89])

وظلت شخصيّة يوسف(ع)أنموذجا تهفو إليه أخيلة الشعراء، وتُسقَط دلالاتها على مواقف، وممارسات حياتية كثيرة؛ لأنّها كلّما لحقت السيرة بعالم المثال الذي يتطلع إليه خيال الشعراء، تغنّت به قرائح أهل الفن، وقد تنزّهت عن ربقة الجسد، وأصبحت من الصّور المثلى في عالم الجمال،وهو الجمال الذي يتّسع لكل معاني الخير، والعفاف، والصبر، والبطولة ([90]).

وكان لمحمود درويش علاقة وطيدة مع القرآن الكريم،فكانت قصص الأنبياء مصدرا للعديد من الرموز، والمعاني في شعره، إذ نجد فيه حضور عدد من قصص الأنبياء مثل: أيوب، وموسى، ويوسف(عليهم السلام):

(أنا يوسفُ يا أبي

يا أبي إخْوتي لا يحبونَني

لايريدُونني بينهُم يا أبي

يعتدُون عليّ،ويرمُونني بالحَصى ،والكلامْ

يريدونني أن أموت لكي يمدحوني

وهم أوصدوا بابَ بيتكِ دوني

وهم طردوني من الحقل

فماذا صنعتَ لهم يا أبي؟

فماذا فعلتُ أنا يا أبي، ولماذا أنا؟

هل جنيتُ على أحد عندما قلت إني:

رأيت أحدَ عشرَ كوكبا، والشمسَ والقمرَ، رأيتُهم لي ساجدين؟)([91])

    فالشاعر هنا اتّخذ شخصيّة النبي يوسف (ع) قناعا يتكلّم من ورائه، وافتتح القصيدة بالنداء الذي يحمل معاني الشكوى من إخوته الذين أساؤوا له، وهو يتساءل عن سبب هذه المعاملة والكراهية، إلا أنّ جماليّة القصيدة تكمن في تناصّها مع السورة الكريمة دون أن يغير منها شيئا فيما يسمى بالتناص التلميحي،وهو بذلك يمزج بين النص القرآني، والنص الشعري باستحضار المثال في تآلف عجيب ممّا أضفى علي النصّ جماليّة فريدة تكسر جدار الزمن.

   وفي موضع آخر استدعى الشاعر سميح القاسم ألفاظ السورة الكريمة مثل: أبتِ، والذئب، والصبر، والسنابل...كي يعطي للنصّ تكثيفا دلاليّا، وانفتاحا على فضاءات القراءة المتعدّدة المستويات، وهذا ما وجد في قصيدته الأخرى(ذكرى المعتصم)إذ ركّز على شخصيّة النبي يعقوب(ع):

(أحبائي.. أحبائي..

إذا حنّت عليّ الريح

وقالت مرة: ماذا يريد سميح؟

وشاء أن تزوّدكم بأنبائي

فمُروا لي بخيمة شيخنا يعقوب

وقولوا: إنني من بعد لثم يديه عن بعد

أبشره أبشره

بعودة يوسف المحبوب

فإن الله والإنسان

في الدنيا على وعد)([92])

    لقد ربط الشاعر بين انفراج أزمة النبي يعقوب(ع)، وانفراج معاناة شعبه، باستحضارقصّة يوسف، على أنّ عنوان القصيدة تناصّ مع قصيدة أبي تمّام (وا معتصماه)، والربط بين مضمون القصيدتين يحيل على مشكلة أدركها الشاعر، وهذا ما فعله ممدوح عدوان(2004)حين استحضر القصّة ليرسم بها صورة يوسف المعاصر الذي يشبه كلّ المجاهدين السائرين من أجل الحياة:

(ويموت يوسف مثلمَا كنّا نموت..

لكن إخوة يوسف افتقدوه،

ما وجَدوا أبا ينغصّ في قهر

فيعميه البكاء

وتحيّروا بقميصه البالي

فليس على القميص دم

تلوّن بالريّاء

لم تبق أم كي تردّ بسحر رائحة القميص

إلى ضرير القلب ومضا من ضياء

لم يبق ذئبٌ

كي يُحمَّل وزر مقتول

ويخفيه الدعاء)([93])

ففي النصّ السابق أعلن الشاعر موت يوسف في افتتاح النص، وتغييب الأب، كما يغيّب رمز الذئب مما يعكس النظرة التشاؤميّة له([94])، التي غلّفت أنساق الشعر العربي الحديث بعد سلسلة النكسات التي منيت بها الأمة العربيّة، وهي نظرة لم تكن غريبة عن واقع الشاعر، وما عاناه من ألم مرّ، وسوء في المصير.

تناصات أديب كمال الدين:

    يعدّ القرآنُ الكريمُ من أكثر مصادر الصورة في شعر أديب كمال الدين،وهو بذلك يحقّق له العروج إلى مدارج التفرّدمن خلالالتناص، فضلا عن العناية بالتصوير، والرسم بالكلمات تقوية لمعانيه، وترغيب المتلقي بها، وممّا زاد من تمسّك الشاعر بالصور القرآنيّة مداومة النظر فيه قراءة وفهما، ومن هنا كانت للشاعر قدرته الفائقة في استحضار القصص القرآنيعامّة، وقصّة سيدنا يوسف(ع)بشكل خاص، متّخذا إيّاها وسيلة للتعبيرعن الحالات الشعوريّة التي تعتريه، وصورة صادقة لمجتمعه، وبيئته، ووطنه، ومرآة لما يتصارع فيه الخيروالشر، وذلك ما أكسبه تعدديّة سياقيّة مع تمركزه في سياقه الخاص أيضا.

بدءا لا بد من التذكير أنّ الشاعر جعل استهلال المجلّد السادس من أشعاره قوله تعالى:((قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ))([95])،والاستهلال في النقد الحديثفضاء من النصّ الافتتاحي الذي يعنى بإنتاج خطاب معنيّ بالكتاب، وطبيعة نوعه الأجناسي، وله وظيفة مركزيّة تتمثّل في ضمان القراءة الجيّدة للنصّ من خلال السؤالين الآتيين: كيف يمكن قراءة الكتاب؟، ولماذا؟، وللاستهلال أهميّة اعتباريّة، وأخرى توثيقيّة، فضلا عن الأهميّات الأخرى: الفكريّة، والدينيّة، والأخلاقيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، هذه الأهميّات في حقيقتها تشكّل المحتوى الجيّد للكتاب([96])، أي المضمون السامي لفكر الشاعر الذي بدا واضحا من خلال دلالة النصّ القرآني الذي ارتبط بحزن يعقوب(ع) على ولده يوسف ، فقد أراد الشاعر أديب الاتيان بهذا النصّ الكريم ليجدّد أحزانه، وهو يتناص مع قصّة نبي الله يوسف  بعد أن أكتشف أن إخوة يوسف لمّا يزالوا يكذبون على أبيهم!.

    نستشفّ من خلال النصوص التي استحضر فيها الشاعر قصّة سيدنا يوسف (ع) الاستدعاء المتماثل لغربة النبي يوسف، وإسقاطها على غربة الشاعر، وعلى الأوضاع الراهنة، فضلا عن استدعاء الأجواء الأخرى المتمثّلة بكراهيّة الإخوة، والكذب، والإغراء، وانتظار الوعد الحق، وغلبة المصالح الخاصّة بما فيها من طمع واقصاء، وسفه، على مصالح الجماعة، والوطن، وكأنّ إخوة يوسف لمّا يزالوا يعيثون في الأرض كذبا. 

يمكن تصنيف تناص شعر أديب كمال الدين مع قصّة النبي يوسف (ع)على نمطينقارّين في لغته، مع ملاحظة أنّ هذه المستويات تتداخل في صوره أحيانا لتشكّل مستوى تناصيّا آخر:

1-التناص الحواري:

   لجأ الشاعر إلى هذا المستوى من التناص، وهويستدعي آية من القرآن الكريمبوصفها نصّا مقدّسا تعامل معها حوارا، وهي تعيش في لغته جوهرا قابلا للتجديد، فهذا التناص لا يجمّد النص المثال، ولا ينقده بل يعيد صوغه على وفق متطلبات جديدة معاصرة للشاعر([97])، عن طريق الإضافة السرديّة، واللمحات التفصيليّة، وهذا يعني أنّ الشاعر يأخذ معنى النص الأول ، ويضفي عليه من ملامح عصره ، أو من تجاربه هو.

تحضر قصّة النبي يوسف (ع) في نصّي:(موقف يعقوب)، و(موقف الصبر) فما أن تقرأ العنوانينحتى تتزاحم دلالات عديدة حول هذا الاسم: أيوب(ع)بكل ما يمتلك من صبر، وحشد قصصي، وهي الدلالات التي تظهر تباعا من خلال النصّ، فلفظ (موقف)يعني في عرف الصوفيّة أحوال النفس، وما يحلّ بالقلب من الاطمئنان والسكينة، وقد أخذت طريقها إلى:(مواقف الشاعر)، وعنواناته جميعها ابتدأت بلفظ (موقف) مضافاً إلى لفظ آخر اختاره الشاعر من عالمه الشعري لتكون جملة البدء التي تحوك مواقفها الخاصّة المتأمّلة في عالم الحرف.

   نعم يستحضر الشاعر قصّة النبي يوسف(ع)في موقفين: (موقف الصبر) و(موقف يعقوب)، ويتحاور معهما تناصيّا من خلال علامات دالة تحيل على القصّة، وعلى ما ترسخ في أنفسنا حول صبر يعقوب(ع)أيضا، فالنصّان متلازمان يستدعي أحدهما الآخر، فموقف يعقوب هو موقف الصبر:

(أوقفني في موقف يعقوب

وقال: ياعبدي

أرأيتَ إلى صبر يعقوب،

صبرٌ تهدُّ له الجبال هدّا

صبرٌ صيّر يعقوب دمعة

بحجم نبي،

............

 كان يعقوب من العارفين:

 أن لاملجأ مني إلا إليّ.

ولذا ماعرف اليأسُ دربا إلى قلبه،

............

حتى ابيضت عيناه من الحزن

فهو كظيم)([98]).

يظهر التناص أولا في (أوقفني) التي استعارها الشاعر أديب كمال الدين من (النِّفَّريّ) الذي كان قد استهل بها كتابة (المواقف)فكانت لازمة نصيّة تكرّرت في كلّ مواقفه، فهو يقول :(أوقفني...) ليشير إلى الذات الإلهيّة،وليتجلي صوتها البهي في خطابه الصوفي، وهكذا تظهرعناية(الشاعر أديب)بنصوص(الصوفي)في تفاعليّة نصيّة تعطي انطباعا واضحا عن تمازجيّة نسقيّة هي أدخل إلى فضاء الشعر الذي يتبنى علاقات حواريّة منفتحة على وهج الكتابات الأخرى التي يتمظهر في أنساقها صوت الشاعر الرافض لكلّ إشكالات الحياة بهدف إعلاء صوت الإنسان،وتأكيد تحولاته العابرة لحدود الشكل،والمقيمة في المعنى([99]).

   ويظهر التناص في النص السابق في الجملة الشعريّة:(حتى ابيضت عيناه من الحزن، فهو كظيم) التي تتناص مع قوله تعالى:((وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ))([100])، فهو تناص تحاور الشاعر فيه مع النصّ بقدسية ثقافيّة؛ فضلا عن أن الشاعر قدم التناصّ برؤية سرديّة ممتزجة مع روح المتصوّف من خلال صوغ جديد.

   لقد تطرّق الشّاعر في النصّ السابق إلى قضيّة عامّة هي عرفانيّة يعقوب(ع):(أن لاملجأ مني إلا إلي)، التي استمد منها عرفانيته الصوفيّة بحرصه الشديد على وجودها بوصفها دليلا على معاشرة النصّ المثال.

أمّا في (موقف الصبر) الذي قال فيه:

     (أوقفني في موقف الصّبر

وقال: الصّبر امتحان عظيم

فماذا ستفعل ياعبدي؟

أعرف أن كلماتك سترتبك

وينهارُ معناها

مثل جبل من الثلج

وستدمع عيناكَ مثل طفل ضائع

في السوق

أين منك إرادة يوسف الصّديق؟

وأين منك حلم يعقوب)([101]).

    فتبدو لغة الشعروقد تناصّت مع الإطار العام للقصّة ولكن بالإحالة على صبر(يعقوب) في ضمن التناص نفسه الذي شكّل قراءة مائزة لمضمون القصّة، وقد أضاف اليها الشاعر من عنديّاته جملة الحوار، وجمل السؤالات كي يضفي على التناص بعدا حواريّا معاصرا بعد أن غيّر في طبيعة الرؤية والسرد، أمّا الجواباتفيدركها الشاعر سلفا، فكان لهما أن حققا تماسكا في النسيج الشعري، وترابطا في تقوية الشعور بالاستفهام الذي فرضه حال القصّة والشاعر معا، فالشعور لم يأت من فراغ، بل جاء من سعة إشكال الحال.

وفي نصّ(قصيدتي الأزليّة) الذي استحضر فيه الشاعر صورة البئر، وجريمة الإخوة، وهما يتعلّقان بقصّة يوسف نقرأ الآتي:

(هكذا أُلقيتُ في البئر

ألقاني إخوتي

وعادوا إلى أبي عِشاء يبكُون

قالوا:يا أبانا قد أكلهُ الذّئب

فبكى أبي

وكان شيخًا جليلا

حتى اخضلّت لحيته بالأسى والحروف

لكن السّيارة إذ وصلوا إلى البئر

ما قالوا، يابشرى هذا غلام

بل قالوا:وأسفاه هذا هُلام

 وتركوني في البئر

يمزّقني الظلام، والخوف، والانتظار

ربما سأخرج من البئر يوم يبعثون

أو ربما يوم يقال للأرض ابلعي ماءك

فأخرج من مركب نوح، ومن نار إبراهيم

وقد أكلني الرعب

و لفظني الموج

وأطفأت المأساة عُيوني)([102]).

حاول الشاعر أن يتحاور مع مضمون القصّة القرآنيّة، فأخذ إطارها العام، بعد أن اضفى عليها سردا جديدا، وأسقط عليها تجربته؛ أي تجربة العصر الذي هو فيه، فافتتح القصيدة بتقرير حقيقة ثابتة لازمته شعريّا:(هكذا ألقيتُ في البئر)مؤكّدا جريمة الإخوة ، ثم انتقل إلى تصوير مقدار الزّيف، والنّفاق ، والتظاهر فيهِم،وقد لجأ إلى توظيف النصّ القرآني ليصور حال الأب المغلوب: هذا الشيخ الجليل الذي سكنه الحزن والأسى، ليضيف إلى النص صورة أخرى لاتقلّ روعة عن سابقاتها، و هي صورة السّيارة الذين وصلوا إلى البئر، لتحدث المفاجأة: كسر أفق التوقع في النصّ من خلال تغيير مسار السرد فيحين يقف المتلقي على لفظ (هلام) بدلا من (غلام)، ليصبح للتلقي سلطة عرض النصّ بشكل مغاير فقد جعل الشاعر القصّة عرضة للتغيير،فلم يقل على لسانهم: يا بشرى هذا غلام، ولكن قال :وأسفاه هذا هلام، إذ تحوّل الصبي إلى هلام، فلم يتمكّن السيارة من إخراجه، وهذا ما يدعوإلى التساؤل: ما الذي حوّل الصبي إلى هلام؟ وإلى ماذا يرمز ذلك؟.

   لا شكّ أن الشاعر وهو يتناص مع القصّة القرآنيّة اليوسفيّة من خلال سياقاتها التأريخيّة عمد إلى محاورة دلالاتها للكشف عن المستويات الثقافيّة المعاصرة التي رغب في نقدها، وتفكيك عيوبها أملا في إصلاحها، وهو يعيش تحوّلات ثقافيّة جعلت من العصر الذي نحن فيه مادة للنقد والتفكيك، ومن هنا كان تغيير (غلام) إلى(هلام) يتوافق مع دلالة اللفظ التي تحيل على التحول من شكل إلى آخر.

   ثم انتقل الشاعر إلى تصوير حالته في البئر؛ فهو فريسة للخوف، والانتظارفي ذلك الظلام الذي حاصره من كلّ جانب، الظلام الذي أورثه تمزقا نفسيّا فضيعا،ولكن ليبزغ بريقُ أمل مؤجّل في هذا الترجي: أن يخرج من البئر، ولكنه فرح بعيد، وما يبعث النفس على الأمل والرجاء أن الشاعر قرنه بقصّة من كان في أسبق منه في الشدائد مثل: نوح(ع)، وإبراهيم(ع).

هذه اللّوحة جزء من لوحات ثلاث رسمها الشاعر في نصه يبدؤها بقصّة نوح (ع)، و الطوفان:(هكذا ألقيت في الطوفان)،ثم تليها قصة إبراهيم (ع) والنار(هكذا ألقيت في النار) ثم تليها قصة يوسف عليه السلام (ع) (هكذا ألقيت في البئر)، وعنوان النص (قصيدتي الأزليّة) التي يحيلفيها إلىالمحن، والابتلاءات التي هي حتمية في حياة الإنسان، و قديمة قدم الخليقة، وأزليّة ، لا تنقطع إلى يوم يبعثون.

لعلّ البنية الثلاثيّة التي بُني عليها النص السابق، وهي بنية الطبقات المتوالية التي تجلّى فيها الراوي نائب فاعل، يلقى به تارة في الطوفان، وفي النار تارة أخرى، وفي البئر تارة ثالثة، ولو وضعنا هذه الطبقات البنائيّة الثلاث جانبا، والتفتنا إلى شخصيّات النصّ، وأحداثه لوجدناها تشكّل جزءا مهمّا من مصادر الشاعر، ومرجعياته الأساسيّة التي تخصّب نصوصه مثل: نوح وسفينته، وكائناته، أو إبراهيم وناره التي كانت بردا وسلاما، ثمّ يوسف وإخوته، إلا أن النهاية التراجيديّة لهذه القصيدة تتلاءم مع الاحتمالات الثلاثة التي رسمها: الخروج من البئر، من المركب، من النار، ولكن بعد أن ينال منه الرعب([103])، وهو رعب معاصر أقلق الشاعر، وهدم جزءا كبيرا من قناعاته المعاصرة ، وجعله يلوذ في مناطق الوسط شاهرا قلمه في زمن لا يرحم الإنسان فيه أخيه.

يركّز الشاعر في أغلب أشعاره على فكرة الحريّة مقرونة بالحياة، ويلفت الأنظار إلى الإرادة الحرّة للإنسان في ظلّ الاضطهاد والاستبداد، فصوت الشاعر الرافض التام لإشكالات الحياة يعلو دائما، وهدفهتمجيد صوت الإنسان، وتأكيد حضوره اليومي بغية إحداث تحوّل عابرلحدود الجغرافية، والثقافة الواحدة، لرسم ملامح حراك فكريّ انسانيّ يكون بمنزلة الدعوة إلى التغيير.

    وفي هذا النوع من التناص أعني؛ التناص الحواري اعتمد الشاعر على اقتطاع جمل وعبارات، وتراكيب جزئية غير مكتملة من سياقها القرآني الأصلي ووضعها في نصّه، بعد أن غيّر في بنيتها الأصلية تغييرا يسيرا أو جزئيّا، فهو إزاء تناص يتحاور مع النصّ المثال، ليعطي صورة متناصة معه وعنه، ومن أمثلته تلك نصّ (العودة من البئر):

   (لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟

لماذا تركتهم يمزقون قميصي؟

لماذا تركتهم يكذبون؟

وأنت تعرف أنهم يكذبون؟

إذن لماذا تركتهم هكذا؟

يرقصون طربا على لذة الحقد والانتقام

لماذا كنت ضعيفا إلى درجة الوهم؟

لماذا كنت طيّبا؟

كطيبة دمعتك الطاهرة؟

ولماذا أورثتني دمعتك الطاهرة

يا أبي؟)([104]).

ما يشدّ في هذا النص عنوانه، فالعودة تحمل معنى تكرار الفعل على ماكان عليه في سابق عهده، وهنا نلمس نوعا من الحنين إلى سابق العهد ممّا يوحي لنا بالصلة الوطيدة للشاعر بماضيه، على أنّ القصّة القرآنية تتخذ من الخروج من البئر بداية انفراج الأزمة، ونقطة السمو، ويأتي لفظ البئر الذي آثر الشاعر استعماله بدل اللفظ القرآني (الجب) نوعا من المغايرة، فالجبّ التي وردت في القرآن هي مورد الماء ، وهي تناسب المعنى في الصورة ، وقد وردت مقرونة بلفظ (غيّابة) التي  آثر عن العرب أنها كهف في الجب ، أو قسم منه يقف عنده الوارد، و قد ورد اللفظ في الكتب الأخرى مثل: التوراة ، والإنجيل.

  وبالعودة إلى استهلال النصّ نصطدم بالجملة الاستفهامية (لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟ والخطاب موجّه إلى (يعقوب)، ثم تتعاقب الاستفهامات التي تحمل معنى العتاب لماذا تركتهم؟: يلقونني في البئر، يمزقون قميصي، يكذبون؟، لينتقل إلى مستوى آخر للخطاب، والذي نلمس فيه نوعا من اللين والتعاطف، وكأن الشاعر يومئ بأنه أدرى بالحال.

 ولأنّ العتاب يكون لأقرب الأقربين؛ فالشاعر يعلم أن هذا الأب: شيخ، ضعيف، جار الزمان على سواد لحيته، وبمقدار ما يقدم الأعذار للأب بمقدار ما يكيل التهم للإخوة (الأقربين)، والشاعر تتأرجح عاطفته بين إشفاقه على الأب  وعتابه ، واتهاماته للإخوة ، وفجأة تستوقفه نفسه بأن أرهقها ضعفها البشري، فيجرفها تيّارعاطفته ليسقط مرة أخرى في البئر، ولكن هذه المرة طواعية، فلفظ سقط يحمل معنى الطواعية إذا قورن بلفظ ألقاني ، وهويحمل أيضا معنى العمق و التوغل ، لذلك يليه لفظ انتشلني الذييحمل معنى طلب التخليص من الأعماق بسرعة ، وهذا ما دلّت عليه جملة :(إنني أهوي إلى القاع) ، ليفصح مرة أخرى عن الرغبة في العودة بما تحمله من معاني الاحتضان والبكاء ، والصراخ شوقا.

 وتبرز في النصّ ضديّة متلازمة، إذ كلما أفصح الشاعر عن أحلامه، و آماله ،ومكنون عاطفته، و أشواقه ، اصطدم بالمشهد الاستهلالي للنص : جريمة البئر، والقميص، والكذب، ثم ينتقل إلى مشهد آخر غير الذي في النص الغائب (القرآني)، وهو موت الأب  فجأة، وتعتريه موجة من التساؤلات حينما تتعطل لغة الكلام، ويجد العتاب يتوالى ، وهنا يتناص الشاعر مع النص القرآني ، ولكن برؤية أخرى مطوّرة : فيوسف(ع) لم يعاتب:((قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))([105])،وتظهر العلاقة الوطيدة بين الأب والابن التي تترجمها عواطف متعددة: الرحمة، العطف، الحب، ويعود النصّإلى الحيرة نفسها التي استُهلّ بها: لماذا أورثتني دمعتك الطاهرة؟ بمعنى أن يوسف (ع) ورث عن أبيه الحكمة، وبعد النظر.

إنّ تناص الشاعر الحواري مع القصّة القرآنية يروي حادثة البئر بعد أن يعيد تشكيلها، ويجعلها مناسبة للسياق الجديد ليبرّز الشاعر معادلا موضوعيّا ليوسف(ع) وقصّته على وفق الآتي:يوسف النبي(ع)= الشاعر: البئر= الغربة التي نلمس منها كل ما يعانيه الشاعرمن معاناة لإساءة الأقربين الأهل، بني وطنه، وقد تقرأ قراءة اجتماعية أوسياسيّة، فالشاعر يتحدث بقناع القصة القرآنية وشخصيتها الرئيسة.

  ويكرّر الشاعر صورة البئر، وصورة الصراع الأزلي بين الخير والشر، بين الحق والباطل بين الفضيلة والرذيلة، في نصوص كثيرة،وهذا التكرار يعني ((الإلحاح على جهة مهمة في العبارة يعنى بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها...وهو يضع بين أيدينا مفتاحا للفكرة المتسلطة على الشاعر وهو بذلك أحد الأضواء اللاشعورية التي يسلطها الشعر على أعماق الشاعر، فيضيؤها بحيث نطلع عليها))([106])، طمعا في التعبير عن إشكالات الحياة المعاصرة.

ويحضر نص(وصف) الذي يتناص فيه الشاعر مع مشاهد من قصّة يوسف(ع)أيضا في قوله:

(سقطت دمعةُ الشاعر على الورقة

فرأى فيها إخوةَ يوسف

وهم يمكرون، ويكذبون

ورأى دمَ الذئب

ورأى أباهُ شيخا وحيدا يتمتم:

يا أَسَفي على يُوسفُ، يا أسَفي)([107])

رابطا إياها بتجربته هو، ويظهر ذلك من خلال استهلال النص:(سقطت دمعة الشاعر على الورقة)، فهو ترجمة صادقة لدواخل نفس الشاعر، وما يتزاحم فيها من ألم، ومرارة، ومن أسف،حين جعل دمعته عاكسة لما حوله، فهو يستحضر صورة إخوة يوسف بمكرهم، وكذبهم ويسقطها على من حوله تناصيّا؛ ذلك لأنهم لا يختلفون عنهم، وهو بذلك يصوّر ذلك الصراع الذي لم يزل قائما بين اليوسفيّين، وأخوتهم الأعداء.

يبرّز النصُّالسابقُ صنفين من شخصيّات القصّة: الجاني: وهم الإخوة، والمجني عليه: وهم يوسف(ع) والذئب ،ويعقوب(ع)الذي رأى دما كذبا على قميص يوسف ،وادعى إخوته أنه دم أخيهم الذي أكله الذئب، والشاعر رأى دم الذئب؛ أي  دم القاتل لا دم القتيل ، فنجح في اتخاذ الرمز شفرة لقصيدته، ليتمكن  من خلاله أن يكشف الحقائق ،والماهيّات،ليمنح مفرداته زخما دلاليا واسعا، فتحولت المفردات  بوساطته من دال إلى مدلول، جاعلا الكلمة نفسها هي التي تشير إلى نفسها ليتمكن من تحريك ماهو ساكن بطبعه، موحيا لنا إحساسا بالألم، فضلا عن الإحساس بالخديعة والمكر، من خلال ظلال التعبير، وتأويلاته.

   ورأى أنّ ما تمتم به يعقوب على يوسف بألم ومرارة :(يا أَسَفي على يُوسُف ياأَسَفي) إنّما هوترجمة صادقة لما في الشاعر من إحساس بالسوء والعذاب، ومن أسف كبير على ما مضى، ويتأكد ذلك في الخاتمة حين يقول:

(رأى أباه شيخا وحيدا يتمم

يا أَسَفي على يُوسُف يا أسَفي)، ويقف هذا النص من خلال الصور الآنفة الذكر عند حدّ الوصف ليس غير، فكان تصريفا لدمعة يوسف- الشاعر وقد عتّقتها أزمنة الأنبياء كلّهم... فكلّ ماخرجت به الصور الشعريّة من السور القرآنية نقطة دم مصحوبة بآهة حسرة، وزفرة أسف، من ثمّ تحوّلت نقطة المعجزة التي خلّصتالنبي إلى نقطة دمعة، تحسّس الشاعر انحباسها في عيني يوسف(ع)في القرآن الكريم، فتلقفتها عينا يوسف الشعر، وإحالاتها على  مكاشفات، ومشاهدات تبدأ من نون النفس، وإليها ترتدّ([108])، في تعبير شعريّ يتساوق ودلالات النصّ الغائب.

2-التناص الامتصاصي:

  يتعامل هذا التناص مع النص الأول، أو النصّ المثال بقداسة، ويعمل على تحويله من شكل إلى آخر، مجددا في رؤيته ومعيدا صياغته بشكل مختلف، ليضيف اليه من عندياته، فهو يمتصّه ليعيد تشكيله([109])، ويكون هذا النوع من التناص من خلال التكثيف، و الإيجاز مع الدقّة في التعبير الذي يعتمد على الإشارة المركّزة في نقطة واحدة  تكثّف المضمون،  ليكون توظيف آيات القرآن الكريم توظيفا تلميحيا، إذ يلجأ  الشاعر إلى استلهام لفظ، أو لفظين في سياق النص القرآني عن طريق الإشارة الدالّةفتغدو بمنزلة الاستحضار الكامل لذلك النص من دون أن يكون له حضور لفظي كامل، أو محور في النص اللاحق، معتمدا على لفظ أو لفظين ممّا يثير وجدان المتلقي ،ويحيله إلى أجواء النص المستحضر بسرعة فائقة ، ولا يقتصر على النص القرآني إنما يتعداه إلى مصادر أخرى منها ما هو تراثيّ، أوأسطوريّ، أوحوادث تأريخيّ، أوشعبيّة، ومثالهقصيدة (أخبار المعنى):

(هبط البحر إلى موجي            

ركب الأزرقُ أخضرَ روحي

فابيضّت عيناي من الذلّ

قمت إلى ثدييك أناشدك الرحمة

كانت كلماتك جثثا تتساقط من سعفات الرطب الأحمر..

كانت كلماتك أطيارا موتى فضحت جسدي

من أقصى جسدي حتى أقصاه)([110])

  يعيش الشاعر حالة من التداعي أمام أنثاه ، فبدا محتاجا  إلى إعادة قراءة السورة القرآنية ليوزع أدوار المشهد المسرحي بحسب مايراه، فيستعير عيني النبي يعقوب(ع) اللتين وصفهما قوله تعالى :(وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم)([111])، لعينيه، ولئن ابيضت عينا يعقوب حزنا على المغيّب المفقود، فإن الشاعر قد استبدل الحزن بالمذلّة ، إقرارا بالعجز عن الإعراض عن المرئي المرغوب ، لقد غشي نظر نبي السورة من كثافة الغياب، في حين غشي  نظر نبي القصيدة من كثافة الحضور حينما اجتاحت أمواج الشهوة الزرقاء نون النفس النقيّة البيضاء فأصاب العينين بعمى الألوان أمام جسد يشتهيه وتقف النبوة حائلا دون إدراكه([112])، فالشاعر إزاء مشهد عاصف، وتبتّل، ونجوى، وقد أعاد صياغة النصّ الأول  بشكل مختلف، وأضاف اليه من عندياته، فقد امتصّه وأعاد تشكيله،وكذا الحال في نصّ :(حرف دلو السعد):

(أردت لحرفي أن يكون

مثل ريش الببغاء الأخضر الأحمر

لكن الله أراد لحرفي أن يكون

لي ولأيامي السُّود

مثل دلو السعد التي تدلّت في البئر

لتنقذ يوسف من محنته الكبرى)([113])

فهذا العنوان يوحي من الوهلة الأولى أن النقطة المحوريّة في النصّ هي:الدلو،إلا أن السطر الموالي يصرّح فيه بلفظ (يوسف)(ع) ليجعلنا ندرك أن المقصود دلو السعد التي التقطت (سيدنا يوسف)في تناص قام على الإشارة الدلاليّة التي سوّغ الشاعر من خلالها الولوج إلى القصّة كلّها طمعا في الخلاص.

   والملاحظ أن للشاعر "أديب كمال الدين" خصوصيّة في تناصه مع آي القرآن الكريم، إذ يكرّر ألفاظا قرآنيّة في النصّ الواحد على مسافات، مما يتيح له انتاج أشكال من التناص ذي المرجعيّة القرآنيّة، والشاعر في تعامله مع هذه الرموز تعاملا مركزيّا كان قد كشف عن بعض توجهاته بمعنى أنّه يعمد إلى تكوين رموز تدور القصيدة كلها حولها، ومن هنا أفهم رمزيّة الدلو الذي يعد الأداة التي تمثل الانطلاق نحو الأعلى، بخلاف لفظ البئر التي تحيل نحو الأسفل لتعبر عن مصير مجهول (المحنة الكبرى)، وهذا الرمز يتردد في سائر النصوص.

وكثيرا ما عمد الشاعر إلى توظيف رمزين متقابلين: البئر – الدلو،ونجد تلازما واستدعاء دلاليّا بين ألفاظ النص ، والنص القرآني، فإدلاء الدلو جاء بالبشرى للسيارة ونبي الله ، وحروف الشاعر جاءت تفريجا لمحنته الكبرى، وتنفيسا لها كما ورد في الآية الكريمة:   (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)([114]).

  كما نجد حضور هذا النمط من التناص في نص آخر: (بئر الفراق):

    (لم يكن يوسف سوى دمعة

ولم يكن يعقوب سوى عين

هذا هو المشهد الذي لم يستوعبه إخوة يوسف

أبدا)([115]).

 فقد عمد الشاعر إلى نقاط مركزيّة أخرى، هي بؤر أساسيّة في القصّة القرآنية:يوسف، و يعقوب، وإخوته، أي الفواعل في مسار القصّ القرآني،والمتلقي ما أن يقرأ هذه القصيدة حتى تحضره دلالات عديدة فيوسف(ع) هو: الدمعة التي لا تجف من عين يعقوب (ع) الذي ظلت تبكيه.

وفي نص (جثة في البئر) يركّز الشاعر تركيزا عجيبا على صورة الأب مسقطا إياها على شخصيّة النبي يعقوب(ع):

( (1)

كنّا أولاداً

ولنا أبٌ شيخ

حين غيّبه الموت

لم يتركْ لنا شيئاً

سوى بئرٍ طيبة الماء

غير أن أحدنا

لسببٍ ما بال في البئر

فضربه إخوته حتّى كادوا أن يهلكوه

قلت لهم: لا بأس

لم يزل الماءُ نقياً

فالبئر، كما أظن، تجدّد ماءها

والصحراء التي تحيط بنا من كلّ صوب

لا ترحم.

(2)

مرّت سنوات، وسنوات

حتّى صار أخونا رجلاً

غير أنّه لم يزل يبول في البئر كلّ يوم

حتّى إذا أمسك به أخوته هذي المرّة

لم يتركوه إلاّجثة ًهامدة

ألقوا بها في البئر

وبقوا يشربون من البئر

فالبئر، كما يظنون، تجدّد ماءها

والصحراء التي تحيط بهم من كلّ صوب

لا ترحم.

(3)

أما أنا فاخترتُ الصحراءَ هذه المرّة

قلتُ لنفسي

وأنا ألفظُ آخرَ أنفاسي:

نعم

العطشُ أرحم

الموتُ - أعني الصحراء – أرحم!)([116]).

افتتحَ النص بجملة:(كنا أولادا)في إشارة إلى شغف الشاعر بطفولته، وحنينه إلى أيام الصبا، وتعمده الاتيان بحشد صور سرديّة أخرى مؤلمة: الأب الشيخ الذي غيّبه الموت، و الفقر الذي (لم يترك لنا شيئا) سوى الصراعات (فضربه إخوته حتى كادوا أن يهلكوه)، فتتحوّل الطفولة إلى ذكريات تتصارع فيها الفضيلة والرذيلة، والخير مع الشّر، والسوء مع النقاء، والنجاسة مع القداسة ، فالنص الشعري بُني على فكرة امتصاص القصّة القرآنيّة في جانب من جوانب العلاقة التي تربط يعقوب بأولاده، ولكن بتغيير في الشكل، وطبيعة السرد، فالأخ الذي يبول في البئر هو صياغة معاصرة لمن يخون ماء الوطن، يعارضه في الصورة صوت الشاعر الذي قبل اللجوء إلى الصحراء كي يطهّر ذاته من أدران الإخوة السيّئين، والتأريخ المخزي.

وإذا كان النصّ في استهلاله السردي قد انشغل بالإحالة على الماضي، فإنّ السرد في الشعر لم يكن مسالة جديدة على النقد والشعر معا، ولي أن أذكّر -هنا- بالمقولة المهمّة التي نقلها تودوروف:((إنّ كلّ الشعر الحديث يستعيد تلويناته الأصليّة من الرواية))([117])، أي أنّ السرد بوصفه شكلا من أشكال استحضار المعنى في النص الأدبي لم يكن غريبا على الشعر، وذاكرته، فهو من مصادر تشكيله القديم والحديث، هو على مقربة من دراميته التي تتمثل في الحدث، والشخصيّة، والزمان، والمكان، والحوار، فهو دخول جريء في حقل الصراع المفتوح على أكثر من ثنائيّة يتلقفها الشعر لتكون شكلا من أشكال التعبير المقترن بحداثة الشعر، والشاعر معا.ومن ثمّ فإنّ الشاعر(أديب)إنسان شرقي غذته الحياة بنصوص سرديّة عالية الدلالة بدءاً من المصدر السردي الأول(والدته)، ومرورا بألف ليلة وليلة، وانتهاء بالبيئة التي عاش فيها (الحلّة)، وهي مدينة أدب وسرد، ويقينا أنّ هذه العناصر جميعا قد أسهمت في إخصاب ذاكرته بعشرات القصص الشفاهيّة التي كانت يتلقاها ليلاً... وكان بدوره ينفعل بتلقيها،وقد حولها فيما بعد إلى سرديّات شعريّة أسهمت في إغناء منجزه الشعري الحديث.

   ينشغل النصّ السابق ببروز شخصيّة الأخ الذي بال في البئر، وهي شخصيّة رمزيّة تحيل على تأويل ما فعله قسم من الإخوة الساسة في تأريخنا المعاصر، وهم يبولون في ثرواتنا ليجعلوها نهبا للغريب، والبعيد من دون أن نفيد منها، فهذا البائل في تأريخنا، وحاضرنا ليس له إلا أن يكون غطاء لفعل أكبر يتعلق بمحو الحياة، وتسميم مفاصلها.

   وينتقل النصّ ثانية إلى مفصل سرديّ آخر: لجوء الشاعر إلى الصحراءالتي حضرت في متن القصيدة، وكان ذلك قد تمّ من خلال تصوّر الشاعر أن الصحراء مَطْهَرُ الإنسان الذي يغسل فيه أدران العصر ليكون في منجا من الطوفانات المعاصرة، فهي مكان الحياة البكر التي عاش فيها الإنسان الأول حياة لا تعرف الزيف والكذب؛ لأنها ببساطة -الصحراء- :(الله بلا بشر) الجملة التي اطلقها بلزاك، تلك التي سبق للقاص محمد خضيّر أن استعارها في كتابه المكاني:(بصرياثا)([118]).

 والشاعر أديب كمال الدين بلجوئه إلى الصحراء أكّد انتماءه الإنساني المنظّم إلى جغرافية المكان البكر، وتهجّده فيه، فالصحراء مكمن الفطرة التي أودعها الخالق في سرّ المخلوق، وهي الفرار الأحدث عمرا من سجن الحياة، وهي وجود بلا عبث، وحوار بلا سجال، وعزلة منتجة مخضبة بوحي مثال.

  وبعد:فيمثّل النصّ السابق نمطا واضحا من التناص الامتصاصي الذي يتعالق عن بعد مع النصّ القرآني المثال، وفيه كرّر الشاعر رمز الأب، والبئر، والإخوة على مدار نصوصه، ليربطه بتجربته الخاصّة، كما كرّر لفظ الموت رامزا به في أحيان كثيرة إلى الخلاص من الاضطهاد والظلم، وأحيانا إلى الغربة، وهو بهذا الترميز يكون قد اقترب من الهامش بهدف نقض المركز الاجتماعي وثقافته المتعالية ممثلة بالنخب السياسية، والثقافيّة التي أكل التقليد خطابها.

خاتمة:

   بعد هذه الرّحلة في نصوص الشاعر أديب كمال الدين يتأكد لنا أن الشاعر في توظيفه التناصي لهذه القصّة القرآنية قد بنى صرحا من لبنات متعددة نجدها في ذلك الاستدعاء للقصص القرآني، وتواليهمن خلال:

1-اقتران كلّ قصّة نبي بقصّة مع نبي آخر، فنجد قصة نوح(ع)، وإبراهيم خليل الله(ع) ويوسف الصديق(ع) ويعقوب (ع)،وغيرهم غير أنّه اقتصر على المرحلة الأولى من حياة النبي يوسف (ع)، أي مراحل المحن دون غيرها، وكان أبطال نصوصه جلهم يمثلون الصراع الأزلي بين الحياة والموت، وبين الخير والشر

2-تكاتف مستويين في التناص مع قصة سيدنا يوسف(ع): المستوى الحواري المألوف، فضلا عن المستوى الامتصاصي، وهما من أهم المستويات التناصية في النقد الحديث.

3- اتخذ الشاعر من رمز البئر معادلا موضوعيّا لغربته واغترابه،هذا المكان الذي لم يكن سوى جبّ يوسف(ع) ظاهره الألم، وباطنه الرحمة، وفيض العطاء.

  4- يبرز لفظا الموت والحياة بقوّة في النصوص ليشير بهما الشاعر إلى الظلم، والاضطهاد، والحرية.

5-التناصات التي وظّفها الشاعر هي نوع من الإحالات الداخليّة التي يغذّيها من تجربته الذاتيّة لذلك تحتاج إلى أن يكون الدارس لها مؤوّلا،وعارفا بخبايا نفسه،ومسيرة حياته، وثقافة شعره.

6- نصوص الشاعر من القصائد المتجدّدة التي لا تختص بزمن معين،ولا حادثة بعينها، ولا موقف محدد بل تتماهى في وجودها، وتتآلف، وتتناسب مع مسيرة العمر، ومحطاته، إذ يمكن إسقاطها على كثير من مواقف الحياة بشكل ازدواجي متناسق بين الشاعر والمتلقي.

7- بنى الشاعر نصوصه بناء معماريّا طبقيا إذ نجد قصائد ثلاثيّة ورباعيّة، وهو بذلك يتجاوز البنية الأحاديّة.

8-أغلب النصوص التي استحضرت قصّة سيدنا يوسف (ع) مبنيّة على شخصيّات متصارعة مع وجوب وجود البطل الممزق المأزوم.

9-يشير الشاعر إلى أهميّةالأخوّة، والتسامح، والتواضع، والصبر، والعفّة، والوفاء لبناء العلاقات الاجتماعيّة، وفي جلّ نصوصه يؤكد أنّ الإنسان هو المحور الأساسيّ لقيام الحضارات، وأن أيّ اختلال في خلقه يؤذن بقرب انهيارها.   

10- استطاع الشاعرُ أن يعوّض ما يخيّل إلينا أنّ القصيدة النثريّة قد فقدته أي الوزن،من خلال ثراء المفردات، والجمل، والتعابير، والتراكيب التي اتّسمت به نصوصه، فضلا عن التوازيات، والمقابلات، والطباق التي تشكل جميعها إيقاعا داخليّا للقصائد.

11- إنّ انفتاح شعر أديب كمال الدين على القصص القرآني بالرؤى التي وضحت من خلال الفصل خلقٌ جديدٌ لدلالات جديدة، وثقافة مختلفة تسعى إلى تكريس نمط من النقد المعاصر لإشكالات الحياة المعاصرة التي دفعت بالإنسان إلى مزالق الفكر، والانتماء إلى بؤس تكرّسه مؤسّسات لا يهمها مستقبل الإنسان.

12- تشكّل قصّة يوسف(ع) جزءا من التأريخ الثقافي للمسلمين، والبشريّة بوصفها نصّا ينفتح على قراءات سابقة يمكن استعادة مداليلها الآن بالنظر إلى ما فيها من قيم وأفكار، وكان لظهور تناصّاتها في شعر الشاعر إحالة على أنّها قصّة أيديولوجيا تراقب الفعل الاجتماعي لتنسلّ إلى نصوص الشاعر كاشفة عن عنف اجتماعيّ، واخلاقي، وجسديّ استهجنه الشاعر، واستهجن إعادة انتاجه في الحياة المعاصرة.

الإحالات:


الفصل الثالث

(قصصٌ أخرى)

 

مقدمة:

  يسعى هذا الفصل إلى قراءة تناصّات الشاعر (أديب كمال الدين) مع عدد من القصص القرآني التي هيمنت على ذاكرته، ولا سيّما قصص الأنبياء:آدم، وموسى، وعيسى بن مريم، وإبراهيم الخليل، وأيوب، ويعقوب، وداوود، وسليمان، وزكريا، والخضر، وذو النون، عليهم السلام، فضلا عن قصّة أهل الكهف، وشخصيّة بلقيس، ليميط اللثام عن فحوى التناص، وعلاقته بالشاعر، في سعي لتقريب المتشابك من تلك الدلالات في حدود الممارسة الثقافيّة التي يظهرها التلقي.

مدخل:

 انفتح عددٌ من شعراء العربيّة في العصرينالأموي والعباسي،على قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم، وليس في هذا موطن عجب إذا ما علمنا أن القرآن الكريم أعجز العرب عن أن يأتوا بما هو قريب منه، فجعل الله عجزهم عن الإتيان بمثله دليلاً على أنّه منه، ودليلاً على وحدانيته([119])،وبهذه الملاحظة المهمّة،وغيرها يستطيع الباحث أن يستنبط إشارات الإعجاز من القرآن نفسه، وممّا يحيطه  من مظاهر لها صلة به، وهذا يعني أن الشعراء شأنهم شأن كلّ العرب كانوا ممن انبهروا  بالقرآن الكريم وأسلوبه أيضا ، فضلا عمّا حواه من قيم ، وأساليب في الخطاب ،وشخصيّات ،وقصص ،منذ نزوله إلى يوم الدين ، فكان منهلا خصبا  يمتحون منه ، ويرتوون من بلاغته  المعجزة في كلّ عصر،وقد تعدّدت مقاصدهم ، وتباينت  استحضاراته  في أشعارهم ، فكان من وظّفها توظيفا مباشرا، وكان منهم من وظّفها توظيفا رمزيّا للتعبير على حالات ومواقف، وأفكار لها خصوصيّتها، وجماليّتها، و طرافة  أبعادها ، لتصبح سمة مميّزة طبعتتلك النصوص، وقدمت الدليل القاطع على أثر القرآن الكريم في الشعر.   

  كانت قصص الأنبياء: آدم، وموسى، وعيسى بن مريم، وإبراهيم الخليل، وأيوب، ويعقوب، وداوود، وسليمان، وزكريا، والخضر، وذو النون، عليهم السلام، فضلا عن أهل الكهف، وشخصيّة بلقيس، جزءا من القص القرآني التي وردت موجزة، أو مسهبة في الشعر العربي القديم، معيارها نباهة الشاعر، وهدفه من الاتيان بها، فكان الشعراء من خلالها قد أجادوا في استحضار صور الأنبياء، وما حوت من مضامين كانت ولمّا تزل معيارا حاضرا يحيل على سمو لغة القرآن، وتمكن أسلوبه في أنفس الشعراء، والأدباء، والمتلقين.

قصّة آدم(ع):

استدعى شعراء العصر العباسي قصة آدم (ع) في خروجه المحزن من الجنّة، غير أن الشاعر أبا نواس (199هـ) كان قد تجاوز مسار القصّة المعروف، فلم يستدع هذه الشخصيّة القرآنيّة كي يصف حالة الخروج، بل استدعاها كي يصف الأمور الدنيويّة، ولاسيّما وصف الخمرة في قوله:

          (شَمطاءُ، تَذْكرُ آدَماً مَعْ شيثِهِوتخبّرُ الأخبارَ عَنْ حَوّاءِ)([120])

   فالشاعر صوّر خمرته كالشمطاء في قدم عمرها، وذِكرها أخبار الأولين، ومنهم النبي :(شيث)، ابن سيدنا آدم عليهما السلام، كان قد اعتمد النصّ القرآنيّ دليلا إلى ذاكرته الشعريّة، فالخمرة عنده مستودع الأخبار عن الماضين، وهي كائن حيّ له القدرة على حفظ الأخبار التي منها: قصّة النبي آدم، ومن معه في سفر الأيام.

    وكان ابن الرومي (283هـ) قد استدعى القصّة نفسها حين قال:

          (فيـــــــنا وفيكَ طبيعةٌ أرضيّةٌ       تهوى بنا أبدا لشرّ قــــــــرار

          هبطـــــــتْ بآدم قبلنا وبزوجه      من جنّة الفردوس أفضــل دار

          فتعوَّضا الدنيا الدنيّة كاسمــها        من تلكم الجنّـــات والأنهار)([121])

    يقرّر الشاعر أنّ الطبيعة الأزليّة في الإنسان تهوى به إلى الدّرك الأسفل من الحياة، وتحطّ من قيمته، ويمثّل ذلك بقصّة هبوط سيدنا آدم من الجنّة بسبب تلك الطبيعة الإنسانيّة التي عملت على تغيير شكل النسق الحياتي لسيدنا آدم.

   وكان المتنبي (354هـ) قد استدعى في شعره خروج هذا النبي من الجنّة في مدحه لعضد الدولة حين قال:

         (أبوكُم آدم سنّ المَعاصي      وعليكم مُفارقة الجِنان) ([122])

 مستحضرا قوله تعالى:((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ))([123])، وما فيه من تفصيل سرديّ، والشاعر منهمك في  وصف شِعب (بوّان)الجميل، وهو يستدعي صورة خروج آدم من الجنّة.

قصّة موسة موسى (ع):

  حظيت شخصيّة النبي موسى (ع) بعناية الشعراء منذ أمد بعيد؛ لغناها بأبعاد متميزة ومقاصد، فهي قصّة لها مكانتها، وحجمها، وامتدادها في القرآن الكريم، وقد استحضرها الشعراء من نواحي مختلفة ،مثل قصّته مع فرعون، وقصّة السّامري، وقصّة نجاته في البحر، والمعجزات التي أيده الله بها، وتعدّ هذه القصّة من أغنى القصص القرآني بالأحداث، فكانت موردا خصبا يردّده الشعراء، ويستمدون منه المعاني، والرموز في شتى المضامين، والأغراض.

   يتناص أبو تمام (231هـ) مع القصّة نفسها في مماثلةٍ بين إنقاذ موسى بن إبراهيم الرّافقي لقومه من نكبات الزّمان وأهواله، وبين إنقاذ النبي موسى (ع)لقومه من ظلم فرعون بقوله:

                (عُذنا بموسَى من زمانٍ أُنشرَت        سَطواتُه فرعونَ ذا الأوتـادِ

                جبلٌ من المعروفِ معروفٌ لـهُ        تقييدُ عاديةِ الزّمانِ العَـــادِي

                ما لامرئٍ أسرَ القَضاء رجـاءَه        إلاّ عطاؤكَ أو رجاؤك فادي)([124])

    فقد استحضر قوله تعالى :((وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد*َفَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ))([125])، فكان القصّ القرآنيّ خير مورد له، وهو يوازن بين شخصيّتين مستندا إلى النصّ الكريم.

    واستحضر أبو تمام مشهد ذبح البقرة دلالة على البراءة في قوله:

            (وكذّبَ اللهُ أخبارا قُذِفت بــها          بحجّةٍ تُسْرَجُ الدّنيا بواضِــــــحها

            مضيئةٍ نطقتْ فينا كما نطقتْ          ذبيحةُ المصطفى موسى لذابِحها) ([126])

   واستحضر كذلك الصوفيّة قصص الأنبياء، فهذا الحلاّج (309هـ)، يستدعي مشهد موسى، والنّار التي خبر قصّتها في جانب الطّور:

       (حرفان أصليٌّ وآخــرُ شـــــــــــكلُهُ                في العُجم منسوبٌ إلى إيمـــاني

       فإذا بدا رأسُ الحــــــروف أمامــها                حرفٌ يقوم مقام حــرف ثانـــــي

أبصرْتني بمكان موسى قائما فـــي                النّور فوق الطّور حين ترانــــي)([127])

يتحدّث الشاعر عن منزلته في قومه واصفا مكانته أمام جلسائه بمنزلة النبي موسى من قومه، وهي منزلة يقول بها المتصوّفة بلا تحفّظ بالإحالة على ما في الفكر الصوفي من رؤى ، فربط بين ذلك، وبين قصّة النبي موسى، ومشهد النار التي رآها في الطور مستحضرا أحد أهم المضامين الصوفيّة، وهو يسعى إلى الاقتراب من قوله تعالى:((وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى))([128]).

ووجدنا المتنبي يستحضر هذه القصّة بتوظيفه لها في رثائه لمحمد بن إسحاق التنوخي واصفا عظم الحدث وجلله، فيقول:

        (ما كنت آملُ قبلَ نعشك أن أرى          رضوى على أيدي الرّجال تسيرُ

        خرجوا به ولكلّ باكٍ خلفـــــــــهُ             صعقاتُ موسى يومَ دُكّ الطّورُ)[129])

    أراد الشاعر أن يبيّن هول المصيبة ،وعظم الحدث بوفاة التنوخي فصوّره تصويرا يحاكي به ما حدث لنبي الله موسى(ع) حينما صعق لما كلّمه ربّ العزّة في ميقات الطور في قوله تعالى:((وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا))([130])، فالشاعر يقيم  علاقة  مشابهة بين حالته، وحالة النبي موسى، حين استعار هذا المشهد، و أسقطه على رثائه للفقيد.

قصة سليمان (ع):

   امتد استدعاء شخصيّة النبي سليمان(ع) إلى مساحة واسعة من الشعر العباسي، وكانت شخصيّته، وما تتميّز به من علم وحكمة وملك أهم ما طرقه الشعراء، فقد استدعى بعض الشعراء هذه الشخصيّة لتصوير جملة من المعاني، فقد وظّف بشّار بن برد (168هـ) هُدهُد سليمان في هجاء حماد بن عجرد الذي يصفه بالنميمة:

           (وإن كُتِمَ السّرُّ أفشيتـهُ         نَميمًا كمَا بَلّغَ الهُدهـــدُ) ([131])

   يهجو بشار بن برد الشّاعر حمّادا لمنزلته عند والي البصرة محمد بن العباس بن السّفاح الذي كان نديمه وشاعره، ممّا ألّب ذلك بشارا لأن يهجوه، وهو في هذه الأبيات يحذر جلساء حمّاد من صفاته المذمومة ، لأنه لا يكتم أسرار النديم فوصفه بالسّفاد، والنّمام مثله مثل ذلك الهُدد في قصة سليمان عندما أخبر سليمان عن ملكة سبأ وقومها ، قال تعالى:((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين* لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ ليأتيني بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سبأ بنبأ يَقِينٍ* إِنّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ* أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين* اذْهَب بكتابي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ))([132]).

         وهذا ما نجده في قصيدة (البحتري) في وصفه بركة المتوكل:

            (يا من رأى البركةَ الحسناءَ رُؤيتَهُاوالآنساتِ إذا لاحتْ مَغانِـيهــــــا

يَحسَبُهَا أنهـا مِن فَضْلِ رُتْبَتِــــــهاتُعــدُّ واحدةً والبـــَحرُ ثانـيهــــــــا

ما بالُ دجلَة كالغَيْرَى تُنافسهــــــافي الحُسنِ طَوْرَاً وأطواراً تُباهيها

كأنَّ جِنَّ سُليمانَ الذين وُلـــــــــوُاإبداعــــــــها فأدَّقــوا في معانيها)([133])

   فالشاعر يصوّر إتقان البناء حتى كأنّ جنّ سليمان من تكفّلوا بإنشائه بصنعتهم المائزة، وهذه العظمة تلصق بالممدوح أيضا.

     كما نجد ابن المعتز(299هـ) يستدعي شخصيّة (سليمان) في سلطته الدنيويّة السائدة يومذاك:

            (تُخبرُ عن عزّ وعن تمكينٍ       وحكمةٍ مقرونةٍ بالدّيـــن

            كذلك كان فاعلٌ سليمانُ إذ        أمكنتهُ حكمة وسُلطــان) ([134])

    يتناص الشاعر مع آيات من القرآن الكريم في قوله تعالى:(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)، وقوله تعالى:((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ))([135])، وقد غرف من نبع القصّ السماوي ما شاء له من دلالات .

   فالشاعر يصور إنجازات الخليفة المعتضد، ومظاهر التّرف، والنعيم الذي يعيشه بالرّبط بين وصف القيود ومدح الخليفة، فهي عنده دليل واضح على قوّة الإسلام وعظمته، فضلا عن أنّها تخبر عن عزّة الخليفة، ومقامه، ومكانته الرفيعة، وأراد بهذا الاستيحاء أن يسوّغ للخليفة هذا الترف ،والنعيم الذي يعيشه من خلال مُلك سليمان ،والنعيم الذي عاشه، فضلا عن علمه ،وحكمته ودينه، فلا ضير من أن تتنعم أيّها الخليفة ما دمت تملك ممّا ملكه سليمان من بصيرة ،وحكمة، و دين([136])،وهكذا يتمّ تسويغ  تسلّط الخليفة على الرقاب من شاعر صار خليفة أيضا ،ولكن لزمن قصير جدا، فقد حزّت رقبته سكاكين التسلط نفسه.

قصّة أيوب (ع):

    استوقفت شخصيّة أيوب(ع)الشّعراء العباسيين، ولاسيّما أنّها تقترن بصفة الصّبر، فهذا الشاعر مسلم بن الوليد (208هـ) حين يستحضر قوله تعالى: ((وأيّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ))([137])، في غزليته التي يكشف فيها عن صبره على بلوى العشق          مشبّها إياها ببلوى السّقم عند أيوب النبي (ع)، فيقول:

        (لمّا ظهرتُ لها بالمربد احتجــبتْ       منّي وما كادَ نورُ الشّمس يحـــتجبُ

        فبادرتها بوحي القولِ خادمُــــــها        فاستضحكت ثم قالــت أمرُ ذا عجبُ

        قلتُ أنيلي فتىً يهواك مذ زمــــنٍ        قد مسّه في هواكِ الضرُّ والتّـــــعبُ) ([138])

     ومثل مسلم بن الوليد: ابن الرومي الذي أشار إلى قصّة أيوب، وهو يكتب إلى القاسم بن عبد الله، وقد حلّت به المحنة والبلاء بفقد المال والولد مستعطفا إياه ليدفع عنه الحاجة:

        (وإليك الشّكاة ياابن الوزيريَ         ن فإنّي في محنتي أيّوب)([139])

      فالشاعران اختارا القصّة القرآنيّة وشخصيّتها، واتخذاها معادلا موضوعيّا للفاقة، والعشق،  وكلاهما بلاء وضرٌّ. 

شخصيات قرآنية أخرى غير الأنبياء:

وهي شخصيّات قرآنيّة، من غير الشخصيّات النبويّة كان لها أثر في الحياة، وسلطة قارّة مارستها في ظلّ دلالاتها المعرّف بها في القرآن الكريم وهي:

1-فرعون:

وهو من الشخصيّات التي وردت كثيرا في الشّعر العباسي، ولا سيّما أنّ ذكرها يقترن بقصّة النبي موسى(ع)، ووظّفت للتعبير عن معاني الاستبداد، والسّلطة، والظلم، والجبروت، ومعاشرة اللهو.

      يقول ابن الرومي في وصفه للنّدامى في مجالس الشّرب، وتشبيههم بفرعون لحظة الغرق:

           يسقِي النَّدامى فيشرَبُون لهُ    كشُرب فرعونَ ساعة َالغَرقِ([140])

    يستحضر ابن الرومي في هذا الوصف قوله تعالى :((وجَاوَزْنَا بِبَنىِ إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَآ أدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ أَمَنتُ أَنَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِى ءَاَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءَآلْئَنَ وَقدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ))([141])، ووجه التشبيه هنا  كثرة الشّرب، فقد شبّه إفراط النّدامى في الشّرب بتدفق الماء  في مشهد غرق فرعون مستحضرا القصّة القرآنيّة في قصّها المؤثر.

    ويستدعي البحتريّ هذه الشخصيّة نفسها في مدحه للمعتز واصفا سفينته (الزوّ) التي قيل أنّه بنى فيها قصرا:

      (تعجّبت من فرعون إذ ظــــنّ أنه        إلهٌ لأنّ النّيل من تحته يجْــري

      ولو شاهَد الدُّنيا وجامعَ مُلــــــكها         لقلّ لديه ما يكثُر من مصــــــر

      ولوْ بصرتْ عيناهُ الزوّ لازدرى        حقيرَ الّذي نالت يداه من الأمرِ)([142])

   يربط البحتري عظمة الملك فرعون بما ملكه من أموال وقصور، بعظمة سفينة الخليفة التي تجري في الماء مستحضرا قوله تعالى :((وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ))([143])، ففي الأبيات جرى استدعاء النصّ القرآنيّ لكي يقيم الشاعر جسرا من الموازنة بين صورتين أساس الأولى: القص القرآني الذي قدّم فرعون بصورة الملك المالك المطلق للحياة.

2-بلقيس ملكة سبأ:

وهي مقرونة بقصّة النبي سليمان (ع)، وبلقيس ملكة سبأ، وردت في القرآن الكريم بصفات كثيرة مثل: الحكمة والجمال، وهي الصفات التي وظّفها الشعراء في نصوصهم منهم: البحتريّ في وصفه لبركة المتوكل:

            (فلوْ تمرّ بها بلقيسُ عن عرضٍ    قالت: هيَ الصَّرح تمثيلاً وتشْبيها)([144])

    وهو استحضار لقوله تعالى :((قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))([145]) ، فقد استدعى البحتري قصّة الملكة بلقيس في وصف البركة ليبين جمالها، وروعة صنعها مشبها إياها بالصرح في القصّة القرآنيّة. 

القصة القرآنيّة والشعر الحديث:

    كان الشعر العربي الحديث قد انفتح على القصص القرآني بشكل لافت للنظر منذ بواكيره الأولى، رغبة من الشاعر في كسر رتابة الزمن المعياري باقتحام زمن خارجي، والتوق إلى التيه في بحر اللغة، والتبعثر بين مفاصل الحروف المتحررة من ضوابط (الأينيّة) و(الكليّة) و(الكمية)([146])، فليس غريبا أن يكون القصص القرآنيّ مصدرا مهمّا من المصادر التي عكف عليها الشعراء المعاصرون، واستمدوا منها شخصيّاتهم ليعبّروا من خلالها عن بعض جوانب من تجاربهم الشعريّة الخاصة([147])، فليس ذلك الاعتكاف سوى اعتراف نبيل بقدرة تلك القصص على حضورها الزمانيّ والمكانيّ في التلقي المعاصر.

   إنّ المزيّة الأساسيّة لاستدعاء شخصيّات الأنبياء في الشعر العربي الحديث تتمثّل في:

1-لجوء الشعراء إلى تأويل ملامح هذه الشخصيّات تأويلا خاصّا يتلاءم والبعد الذي يريد أن يسقطوه عليها من تجاربهم، خلافا لما كان في الشعر القديم الذي كان فيه الاستدعاء يكون للتعبير عن مضامين يعاد انتاجها.

2- يعتمد تأويل الشخصيّات القرآنية على ثقافة المؤوّل، وهو يجري الزيادة الدلاليّة أو نقصانها على شكل المثال الأول طمعا في المغايرة، واصطناع الاحداث، والاضافة إليها انسجاما مع تطلعات الشاعر المعاصرة.

3- الدوران حول الشخصيّة القرآنيّة قربا وبعدا، فالتناص مع تلك الشخصيّات يأخذ أشكالا يسوّغها النقد، والقراءة المعاصرة، ولا تتنافى والأخلاق القرآنيّة.

   وقد كثر توارد خواطر الشعراء على قصص الأنبياء في فورة العناية بالتحديث والتجديد، ولا سيّما مع الشخصيّات الآتية:

 1-شخصيّة النبي محمد (ص)،وشخصيّة المسيح(ع):

    كان استحضار شخصيّة النبيّ محمد (ص) في الشعر الحديث قد تمّ بدلالات مختلفة، أهمها اتخاذهما رمزا لانبعاث مجد الإنسان العربي والمسلم، أو رمزا للانتصار، أو رمزا للمحن التي تتوالى على الإنسان ([148])، من ذلك ما عند الشاعر العراقي شاذل الطاقة:

         (في رحِم كل امرأةٍ محمدٌ جديد 

          يمسح دمع الثاكلات يبعث الحياة

          فتومض البسمة في الشفاه)([149])

      كما نجد دلالات أخرى لاستدعاء شخصيّة النبي محمد (ص)؛ مثل دلالة الثأر التي تحمل لواء النضال من أجل إعلاء كلمة الحق، واتخاذها رمزا لازدهار الحاضر العربي ، إذ هي عند شعراء كثيرين أمثال محمود درويش، والسياب، وفؤاد الخشن ، وناظم جواد ، ومحمد الفيتوري ، ومحمد العزب ، وأدونيس، وقد أصبحت هذه الشخصيّة مثلا أعلى للشعراء ،فقد نزّهوها عن الآدميّة الاعتياديّة من دون تأليهه وتقديسه ، ومن دلالاتها الرمزيّة العظيمة ما مثّلته من هداية ، ونور بعد أن عصفت الأهواء البشريّة بالديانات السماويّة ،وبشرائع الأنبياء السابقين ،وطوّعوها لأغراضها الدنيوية ([150]).

    وكان الشاعر العربيّ المعاصر قد استدعى شخصيّة أخرى، هي: المسيح (ع) الذي كانت ملامح توظيفه مستمدة من الموروث المسيحي، فظهرت فكرة الصلب، والبعث، والفداء في قصائد كثيرة مثل: (غريب على الخليج) للسيّاب، و(حب وجلجلة) لخليل حاوي، و (روميات أبي فراس) للبياتي ، وغيرها.

   يعدّ السيّابُ من أكثر الشعراء استدعاء لشخصيّة المسيح، ففي قصيدة " غريب على الخليج " التي يتحدّث فيها عن غربته مسقطا صورة المسيح الذي يجرّ صليبه في المنافي، وفي قصيدة " أغنية "  يصور الإنسان الفلسطيني بصورة المسيح المصلوب، وكذلك الأمر في قصيدة (إلى جميلة بوحيرد) إذ يستدعي المسيح وفكرة الفداء في قوله:

     (لم يلق ما تلقين أنت المسيح

      أنت التي تفدين جرح الجريح

      أنت التي تعطين ...لا قبض ريح،

      يا أختنا، يا أم أطفالنا

      يا سقف أعمالنا

      يا ذروة تعلو لأبطالنا

      ما حز سوط البغي من ساعديك)([151])

2-شخصيّة موسى (ع) :

  لشخصية هذا النبي شيوعٌ واضحٌ في الشعر العربي الحديث؛ لما تنماز به من وضوح جعلها عرضة للصراع، والجدل بين المتخاصمين، وكان الشاعر محمود درويش من أهم الشّعراء الذي عنوا باستحضار شخصيّات الأنبياء إذ تردّدت في شعره العديد من شخصيّات القصص القرآني  

، وهذا ما وُجد في شعر عز الدين المناصرة، وسميح القاسم، وبدوي الجبل، ونزار قباني، وآخرين.

   لقد اتجه الشاعر عز الدين المناصرة إلى المورد الدينيواستمدّ منه الكثير من صوره، ففي قصيدة "أضاعوني" يوظف النص القرآني الكريم :((قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا))([152])،في قوله:

    (طفت المدائن بعضهم قذف القصائد

    من عيون الشعر، يرثي والدي

    والآخرون تذكروا (اذهب وربك قاتلا)

    وكأنهم ما مرّغوا تلك الذقون

    على فتات موائدي) )[153](

كما يشير سميح القاسم في قصيدته "أبطال الراية " إلى قصّة موسى(ع)عندما رأى نارا، و ذهب ليقتبس منها فيقول:

    (آنست نارا ضوأت سيناء ...ثم سمعت

     قل: ماذا سمعتَ؟ سمعت صوت الله

     يا موسى...فبشر في البرية) ([154])

حيث يتناص مع قوله تعالى ((إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ))([155])، في تآلف واضح مع القصّ الكريم.

   كما وجد نزار قباني في قصيدته (منشورات فدائيّة على جدران إسرائيل) يصوّر المقاومة الفلسطينية ضد الصهيونية في قوله:

(لأنّ موسى قُطعت يداه

ولم يعد يتقنُ فنَ السحر

لأنّ موسى كُسرت عصاه

ولم يعد بوسعه شقّ مياه البحر

لأنكم لستم كأمريكا، ولسنا كالهنود الحمر

فسوف تهلكون عن آخركم فوق صحاري مصر)([156]).

  وتصوير نزار قدّم الحكاية القرآنيّة ببناء معاصر استوحى النصّ القرآنيّ بتناص حواريّ انفتح على العصر وإشكالاته برؤية استشرافيّة لما سيكون.

3-شخصيّةأيوب (ع):

   وكما استوقفت هذه الشخصيّات الشعراءَ قديما، فكان لها الأثر البالغ على الشعراء المحدثين، فقد اتخذوها رمزا للصبر والجلد، فقد تمّ استدعاء شخصيّة أيوب(ع)، فهذا السيّاب مثلا يسقطه على شخصيته، ويجعل محنته رمزا لما يمرّ به من مرض ومعاناة ومحن في قصيدته "سِفْر أيوب" إذاستدعاه جاعلا من تجربته معادلا موضوعيا يحمّله تجربته الشخصية:

     (لك الحمد مهما استطال البلاء

     ومهما استبد الألم

     لك الحمد أنّ الرزايا عطاء

     وأنّ المصيبات بعضُ الكرم) ([157])

ومثل(السياب) محمود درويش الذي اتخذ النبيّ أيوب (ع) مثله الأعلى في الصبر:

    (في حوار مع العذاب

كان أيوبُ يشكر

خالق الدّود ... والسّحاب

خلقَ الجرحَ لي أنا

لا لميت ... ولا صنم

فدع الجرحَ والألم

وأعنيّ على الندم)([158])

يستحضر الشاعر شخصية النبي أيوب(ع)، ويراهامناسبة للتعبير عن حالة الإنسان الفلسطيني وثباته، موظفا مفردات تتّصل بواقع القصّة القرآنية مثل: الدود، السحاب، الجرح، الألم، الشكر، ليكسب نصه طابعا متميزا متناسقا مع إيمانه بقضيته.

وكان الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد قد استدعى شخصيّة النبي أيوب (ع) من خلال صبره الذي تجاوز صبرُ العراقيين حدودَه المعلومة في إشارة واضحة إلى حجم المعاناة التي عاشها العراقيون في ظل الحصار الجائر الذي فرضته أمريكا على العراق:

(يا صبر أيوب.... حتى صبرُه     إلى حُدودٍ، وهذا الصبرُ لا يصلُ!

يا صبر أيوب، لا ثوبٌ فنخلعُهُ     إن ضـــاق عنا.. ولا دارٌ فننتقـلُ

لكنه وطنٌ، أدنى مكارمــــــــه      يـــــا صبر أيوب، أنا فيه نكتملُ

وأنه غُرَّةُ الأوطان أجمــعِـــها       فأين عن غرة الأوطان نرتحلُ؟!)([159]).

  وبهذا يكون القصص القرآني رافدا مهمّا  للشعر العربي قديما وحديثا ، فقد استطاع الشعراء إثراء نصوصهم ، وخلق رموز جديدة واستعارة جديدة ، وتبرز السمة المميّزة لهذه التقانة حديثا بروز عنصر الصراع الذي يقوم على  شخصيات دينية لها وزنها في ذاكرة المتلقي بتنوعها ورمزيتها ومثاليتها ، والتي استطاع الشعراء تكييفها وتطويعها لمضامين نصوصهم ، وقد تغلب طابع التناص الحواري على بقيّة التناصات لينسجم مع الصور واللغة والإيقاع في النصوص ، كما تظهر خاصيّة التحوير في القصص القرآنية ، وقدرة الشاعر الحديث على إسقاطها  على المجموع الإنساني ، وإخراجها من الطابع الفردي الشخصي.

أديب كمال الدين:

    بدءا لا بد من التذكير أنّ الشاعر أديب كمال الدين كان على معرفة تامّة بالقصص التي حفل بها القرآن الكريم، فكان التناصمع أسماء الأنبياء أولا في عنوانات القصائد،فقد كان (النون) أي نبي الله ذو النون، أو يونس حاضرا في عنوان إحدى قصائده، ونبي الله إبراهيم، ويعقوب، والخضر، فضلا عن نبي الله عيسى-عليهم السلام-([160])، وتكرّر اسم نبي الله يعقوب -ع- ثانية في عنوان قصيدة:(دموع يعقوب)([161])، والعنوان في تلك القصائد تضمّن في داخله العلامة والرمز،وتكثيف المعنى، فكان مفتاح الولوج إلى متن القصيدة، حين حاول الشاعر أن يثبت فيه قصده  كليّا،أوجزئيّا بوصفه النواة المتحركة التي خاط عليها نسيج النصّ([162])، بهدفتسهيل قراءةالنسق الشعري: السردي ، للقصيدة ، وتأدية أثره الفاعل  في التلقي، فالعنوان مفتاح القراءة، ومنه تتحرّك العين نحو شكل القصيدة، وهي تدعو المتلقي لأن يكون في داخل النصّ قابضا على الدلالة.

 تبرز في شعر أديب كمال الدين تناصّات أخرى مع قصص قرآنيّة أخرى انتخبها الشاعر لتكون جزءا من سؤاله الذي انفتح على الحياة بوساطة التناص الحواري فحسب، وهو يعلم أن الشعر خطاب الإنسانيّة الأكبر الذي يستحوذ على شؤون القراءة، والتوثيق، والتحليل، وأنّ رسالته  تسعى إلى إعادة تنظيم الحياة على وفق مبادئ الجمال،وآليات الصوغ الإبداعي، فالشعر يعيد تشكيل الحياة ثانية على مسرح الحياة،ويقترح تمثيلا جديدا ينسجم مع ما في الحياة من جماليّات يتمّ استنطاقها بالارتداد إلى المخيّلة، وتشغيل عناصرها القابضة على حسّاسيّة التخيّل،وهو يلتقط عبر مجسّات متعدّدة ما يرغب الشاعر في تمثيله حبّا للحياة،أو كرها لإشكالاتها،أو نقدا لمؤسّساتها على وفق ما هو متاح من حريّة تخيّليّة تأخذ برقاب الكلمات نحو سرديّة التعبير ضمن ما يسمى بالممارسة الإبداعيّة التي تتبنّى التلاعب بجملة من عناصر اللغة،وهدفها في النهاية صوغ عالم متخيّل قائم على الإدهاش، والسحر والتأثير،هو عالم النصّ الشعري بكلّ ما فيه من تناصات ، واسترجاعات ، واستباقات.

  إنّ الإدهاش والتأثير في الشعر لا يتحقّقان إلا من خلال جملة شروط منها (التناص)الذي يضع الشاعر في تماس مع عوالم جديدة عند التخوم التي تصل الشعر بنصوص حيويّة مجاورة ذات طبيعة مختلفة تنفتح على جمال الأساليب، وفضاء الحريّة، وحضور التجارب،بهدف تقديم جملة من الرؤى التي تحمل روح الشعر، وتعالق أنساقه.

   والإدهاش يتحقّق في الشعر من خلال لغة التخيّل بوصفها الطاقة التي  تؤدي في الشعر إلى ابداع مجموعة من الرؤى التي تنثال على المتن، ويكون الخيال مصدرها ، وهو  يعمل على تفعيل إنتاج تشكيلات نسقيّة بوساطة استرجاع المعاني،أوإعادة تركيبها،أوإنتاجها،أو ابتكارها ، أو التناص مع ما هو خارج الذات في تفاعليّة ثقافيّة تعطي انطباعا واضحا عن تمازجيّة لغويّة هي أدخل إلى فضاء الشعر الذي يتبنى علاقات منفتحة على وهج (الكتابات) الأخرى التي يتمظهر في أنساقها صوت الشاعر الرافض للتعسف، والموت البطيء، والجوع، والأنانيّة  لإعلاء صوت الإنسان، وتأكيد تحولاته العابرة لحدود الممكن، والمقيمة في المعنى طمعا في بلوغ المستحيل.

الأساس في فاعليّة التناصعند الشاعر أديب كمال الدين التماهي مع القصّ المقدّس، وَتَبيّن فاعليته في النصوص بعضها مع بعض، والإشارة الدالة إلى المرجعيّات الغائبة، أو المرحّلة التي كانت حاضرة في لاوعي(الشاعر) المحدّد في عمل الذاكرة، ونسج النص الجديد فيما بعد، فضلا عن تبيّن نشاطه التوليدي الذييهيمن على مجموعة كبيرة من النصوص.

والتناص عادة ما يكون تداخلا نصيّا تمتزج فيه أصوات النصوص القرآنية الكريمة، والرؤى الدينية في أشعار أديب كمال الدين، ولا سيّما نصوص القصص الديني، بهدف صياغة نصّ جديد يحمل في سياقه رؤى جديدة، لا يختلف الشاعر فيها عن أقرانه الشعراء العرب في استحضاره المرجعيّات المختلفة، فقد نهض القرآن الكريم في أشعاره نصّا ورؤى، وكانت له سلطة واضحة في تقديم صور مكتنزة بالدلالات الدينيّة، والإيحاءات الروحيّة، والثقافيّة.

ذكر الشاعر أديب كمال عددا كبيرا من الأنبياء الذين تناص مع قصصهم، ايمانا منه أنّ التناص مع قصصهم يشدّ الدلالة في شعره، ويجعل الأسلوب منساقا مع درجة عالية من السرد المتضمن للكثير من التساؤلات الباحثة عن إجابات، ولا سيّما تلك التي تتعلّق بحياتنا المعاصرة، فكأنّه يتماهى تماما مع من يرى أنّ الشعر ينبجس حيثما يوجد تمييز طبقي بين حاكم ومحكوم ، وبين جلاد ومجلود، وبين أعلى وأدنى، وبين أرقى وأرذل، وبين قويّ ومهان([163])، وهذه كلّها أنساق مرّ عليها النصّ القرآنيّ وتلقفها الشاعر، وهو يتناص مع قصص الأنبياء: إبراهيم، وموسى، وزكريا، وسليمان،والخضر، ويونس، وداوود -عليهم السلام، لنقف أولا عند مناجاته التي يقول فيها:

 (إلهي

إذ دخلتُ إلى حفلتي

لم أجدْ رغيفاً ولا شموعاً،

لم أجدْ ماءً ولا مائدةً ولا ضيوفاً.

فكانَ عليَّ أن أهيّئ الرغيفَ والشموع

والماءَ والمائدة

والضيوف

بحرفٍ مُحمّديّ

وقلبٍ عيسويّ

وسؤالٍ إبراهيميّ

وصبرٍ أيوبيّ

ودمعٍ يعقوبيّ

وامتحانٍ يوسفيّ.

وكانَ عليَّ أن أحتفلَ مِن ثَمَّ

معَ ما هيّأتُ وحيداً

وأحمل تابوتي مِن ثَمَّ وحيداً)([164]).

   في  النص الذي استهل بالنداء إلى الله مناجاة على طريقة المتصوّفة يكون التناصُ مع أسماء الأنبياء والإحالات الخاصّة بقصصهم مبنيّا على فهم دقيق لما وراء الأسماء من دلالات ترتبط بالمسرود عن أحوالهم، وما ينعكس من تجاربهم؛ فالحرف المحمديّ يتناص مع وجود القرآن الكريم بوصفه جزءا من الولع بـ(الحروفيّة) التي نقلت شعر الشاعر إلى آفاق معرفيّة، وأسلوبيّة مميّزة أخذت برقاب نصوص الشاعر الجديدة إلى حقل الإشارات المطلقة تلك التي تغامر في خطاب الذات العليا،وهي مكبّلة بالمحن، والأسرار، والحروب، والمتناقضات الضاجّة بسؤال الوجود([165]).

      وللمتلقي أن يجد القلب العيسوي إشارة إلى قلب عيسى بن مريم، وما لقي من إشكالات، وسؤال إبراهيم يحيل على سؤالاته إلى قومه، وصبر أيوب معروف فقد تجاوز من خلاله كلّ مألوف، وصار رمزا شعريّا في عصرنا الحديث مقترنا بقبول الحال، فضلا عن دمع يعقوب على ولده يوسف، الذي امتحن، وكان قد استدعي بوصفه رمزا له أكثر من دلالة في شعر أديب كمال الدين.

   وإذا كان التناص السابق قد بُني على الاختلاف والخروج عن دلالة النص المثال فإنّ الحفاظ على التقارب الجزئي معه كان سمة بارزة اتخذت من القصّ القرآني حيّزا اجتهد من خلاله الشاعر في ابتكار معنى جديدا، أو اصطنع حدثا انتزعه من أحداث القصّ الكريم كي يحيل به على أحداث معاصرة.

   إنّ التناص مع أسماء النبوّة، وتقريبها في شعر الشاعر هو عناية كبرى بالنصّ القرآني  في إطار تفاعليّة ثقافيّة تمنح انطباعا واضحا عن تمازجيّة نسقيّة: سرديّة هي أدخل إلى فضاء الشعر الذي يتبنى علاقات منفتحة على وهج التصوير القرآني الذي  يتمظهر في أنساق صوت الشاعر الرافض لموت الإنسان البطيء في عصور بدت وكأنها تستعيد سوء الماضي، ممثلا بسوء حال الإنسان المعاصر، وبالاستعانة بنصّ لـ(رولان بارت) ففي كلّ نصّ تترآى نصوصٌ أخرى بمستويات متفاوتة، وبأشكال ليست عصيّة على الفهم([166])، وهذا يعني أن  النص الواحد يكون جامعا لنصوص أخرى توحّدها الرؤية الشعريّة، والانسجام الدلالي في ضمن رؤية سرديّة تقبل التناص مع المثال ، وتتوحد مع النظر القرآني.

   والنصّ السابق حين يقرأ مع القصيدة كلها يشير صراحة إلى المرجع القرآني الذي لوّن تجربة الشاعر المعاصر بأفق سرديّ ذي دلالة قرآنيّة بنى الشاعر على مثالها سرده الشعري الذي أحال على مضمر مؤداه فقدان العدالة الاجتماعيّة في عالمنا المعاصر، وظهور الفوارق الطبقيّة بين الناس؛ تلك التي تأكل رأسمال الإنسان الحقيقي: عمره وأن كان قصيرا.

  ومن القصص القرآنيّة الأخرى التي انتخبها الشاعر من القرآن الكريم لتكون جزءا من خطابه المتناص: الإشارة الدالّة إلى قصّة نبي الله موسى(ع) في قوله:

 (أعيدوا أعيدوا – أنا السيّاب –

أعيدوا إليَّ ماءَ بويب.

وغيلان، أين غيلان؟

وعصاي التي أهشُّ بها على وحشتي؟)([167]).

   فقد ظهر التناص في قناع الشاعر، وهو يرتدي وجه السياب مستعينا  بقوله تعالى حكاية عن النبي موسى(ع): ((قَالَهِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ))([168])،فهذا النمط من  التناص الحواري  أحال على المرجع بيسر، ولكنّه في الوقت نفسه أشار إلى مغايرة لإنموذجه، مع أنّ سلطة المرجع بقيت دالة في سياق الشاعر مع موازنة بين حالين متقاربين بعد أن أصيب الشاعر السياب بما يشبه الكساح، وأصبح مشيه على الأرض متعذرا ، فهو الأحوج إلى العصا  لمقاومة الوحشة، والهشّ بها على خطاه.

  وإذا كان النصّ السابق يتعالق مع وجود السياب الحقيقي من خلال اسمه، وعصاه فإن الاستدعاء خرج لغاية ثقافيّة عامة شملت بدلالاته المعلنة، والمضمرة جمعا ممّن عاش، ويعيش تجربة الشاعر محمولة على تجربة المثال التي قدّمها القص القرآني بإطارها المعلن.

  ولعلّ قول الشاعر:

(أوقَفَني في موقفِ المَهد

وقال: وضعتُكَ، إذ خلقتُكَ، في المَهد.

وكانَ مَهدُكَ على الماء

يتنقّلُ من نهرٍ إلى نهر

ومن بحرٍ إلى بحر،

والشَّمسُ تحيطُ به

ثُمَّ تغربُ إلى سوادٍ عظيم

والنَّجمُ يحيط ُبه

ثُمَّ يغرقُ فيه شيئاً فشيئاً،

وأنتَ في المَهد

تنظرُ وتبكي: إلى أين؟

وقلبُكَ فارغٌ كفؤادِ أمّ موسى.

ثُمَّ تكبرُ وتشيخُ وتهرم

وأنتَ في المَهد تنظرُ وتتأمّل

لتتساءلَ أو لتصرخَ: إلى أين؟)([169]).

   يتناص مع ما جاء في قصّة موسى (ع) التي تبدأ من يوم ولادته ، والتكتم عليها، ثم وضعه في تابوت يجري به الماء حتى وصوله إلى قصر فرعون ، ومعاناة أمه التي أصبح فؤادها فارغا إلا من ذكر ابنها موسىكما تسرد المصادر المختلفة ، وهو ما جاء في النصّ القرآني:((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ))([170])،  فالتناص كان حواريّا، ولكن بقصد واع، الهدف منه ادخال القصّةالقرآنيّة إلى فضاء النص الشعري، والتعالق معها؛ فهي تتشكّل من مجموعة قصص تتداخل مع بعضها لتشكل دلالة سرديّة متكاملة فنّا، وموضوعا.

   إنّ هدف التناص السابق يتساوق مع تجارب الحياة المعاصرة وثقافتها، ولا سيّما تلك التي يقف فيها الإنسان بوجه الجبروت، مهما كان نوعه، ومثالها ما جرى لنبي الله موسى الذي واجه طغيان فرعون، فكان قاب قوسين أو أدنى من الموت، لكنّ قَدَرَ الله كان له حافظا ومؤازرا، وهو ما يفتقده الانسان المعاصر الذي صار طعما لحيوان البحر، وهو يريد الخلاص من بؤس الحياة ومشاقها.

  ويظهر التناص في:

(تتشرّبني الظلمةُ

والبحر بصدري يطغى

لم أضرب بعدُ البحر

بعصاي ولم أشرب من ينبوع الحكمة)([171]).

  فهو يتناص حواريّا بمغايرة دالة مع قوله تعالى: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِالْعَظِيمِ))([172])، إنّالشاعريعي تماما أهميّة القصّ القرآني، والدلالات التي تتشظّىمنه، فهو  يريد الاستقواء بها في ظلّ حياة كدرة، فهي خير ما يمتصّ من رحيق قرآنيّ يتبوّأمساحات من البنية السطحيّة للنص؛ تلك التي تتّصل بالبنية العميقة، وتأخذ منها.

   وإذا كان الشاعر في قراءات للمثال يفهم ما معنى أن يضرب موسى بعصاه البحر في إشارة إلى بيان الحجّة، وحصول الدليل، والمعجزة، فأنّ تناصّ الشاعر غاير في تلك القراءة لتكون جديدة مموّهة بالشعر، وقائمة على مخالفة المألوف، والبناء على منوال جديد أسهم في تقديم الحقيقة التأريخيّة في ضوء إشكالات الحاضر، فالشاعر لم يضرب بعصاه البحر: تلك معجزة لا يمكن الوصول إليها الآن، ولم يشرب من ينبوع الحكمة في إشارة دالّة إلى فقر الحال، وسؤال المعرفة.

 ويتناص الشاعر مع حكاية نبي الله إبراهيم (ع) في:

(هكذا أُلقيتُ في النار:

بعدما أضرمَ النارَ أهلُ أور

لإبراهيم وألقوه فيها،

انتبهوا إليّ.

كنتُ أغرقُ في الدمعِ من أجله.

قالوا: إنّه من أتباعه فألقوه في النارِ أيضاً.

هكذا أُلقيتُ في النارِ أيضاً.

وإذ كانت النارُ على إبراهيم برداً وسلاماً

فإنّها لم تكنْ لي

سوى نار من الألمِ والحقدِ والحرمان

اشْتَعَلتْ،

ولم تزلْ تشتعل فيَّ

في كلّ يوم،

هكذا إلى يوم يُبعَثون!)([173]).

  وقصّة نبي الله إبراهيم معروفة، فقد جمع قومه في أور الحطب لإشعاله بعد أن بالغ (ع) في إهانة عبادتهم، وأضرموا النار، ثم ألقي إبراهيم فيها، فكان تناص الشاعر مع قوله تعالى: ((قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ))([174])، لكن الشاعر غاير في نسق القصّة ليكون شريكا في استيلاد قصّة أخرى على هامش القصّة الأصل تنتمي إلى عالم الشاعر المعاصر، بمعنى أن الشاعر ربط بين عصرين مختلفين بهدف الجمع بينهما سرديّا في ظل الحاجة المعاصرة إلى الايمان بالحق.

ويبدو التناص واضحا في قول الشاعر:

  (نونكِ نار

وألفي سقطتْ في النار.

ولم تكن النارُ برداً يا حبيبتي

ولم تكنْ سلاماً)([175]).

   وهو تناص عمل على قلب المعنى في النص المثال الذي ورد في النص السابق، ونفي دلالته لغاية قصدها الشاعر تتمثّل في الإشارة إلى سوء الحاضر، وتبرز هنا أهميّة التناص في ظل تمكّن الشاعر من الإحاطة بالنصّ القرآني، وعبور دلالته إلى دلالة أخرى تبنّاها متخيّل يريد أن  يجعلمن الاتكاء على العبارة القرآنية اختيارا يحسب له ، وهو ماض في  محاورةالنص القرآني على سبيل الإفادة ممّا هو مسرود، فنفي العبارة لا يمكن بأي حال أن يبعد الأثر القرآني في إنتاج النص الشعري، وتعزيز مكانته عند المتلقي.

 ويظهر ذلك في قوله:

(من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّك

فأنا أحبكِ

كما أحَبّ نوح سفينتَه الغامضة.

من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّك

لأني أحبّك

كما أحبَّ إبراهيم الخليل النارَ التي أُلْقِيَ فيها.

من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّكِ

لأنّي أحبك

كلّما اشتعلَ الرأسُ شيبا)([176]).

   وهو نصّ يتداخل مع أجواء القصّ القرآني التي تتعالق مع قصص النبيّين: نوح، وإبراهيم عليهما السلام، فضلا عن التناص مع قوله تعالى:((قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا))([177]) على لسان سيدنا زكريا عليه السلام، بعدما كبُر سنُّه ، ورقَّ عظمُه ، ورغب في ولد يأنس به آخر عمره، وهو ما رآه الشاعر في عيون مجايليه،لقد عمد الشاعر إلى استدعاء اكثر من آيةٍ في سياق شعري واحد، على سبيل الجمع بينها لتكون مداليل متسلسلة في سياقه الشعري توحي للمتلقي بانفتاح شعري له ما يسوغه.

ويتناص شعر الشاعر مع بلقيس ملكة سبأ في:

(منذ شروق الشمس إلى غيبوبتها المرّة

وسط الأمطار.

سأكونُ السين، أنا السين

منذ مجيء الهدهد من سبأ الناس)([178]).

   والتناص هنا تماهى مع النص القرآني، وتعالق مع ما أخبر به القرآن الكريم عن حكاية بلقيس ملكة سبأ في اليمن مع نبي الله سليمان، وقصّة الهدهد الذي كان قد حكى لسليمان -وهو يفهم لغة الطير- حكاية بلقيس التي كانت ملكة سبأ، بخلاف ما تعوّد الناس من وجود ملك لا ملكة.

  هنا أسهم المخزون القرآني عند الشاعر في رفد الشعر بمقولات سرديّة متحت من معين القرآن الكريم الذي لا ينضب، لتضيء عتمات الروح المعاصرة، وهي تعيش محن الافتقار إلى الايمان الحقيقي للإنسان.

  وتحضر (بلقيس) ثانية في شعر أديب كمال الدين:

(لِمَن وُلِدَ مَصلوباً على خشبةِ الحرف،

هل تنفعهُ صَيحةُ الحلّاج وسطَ جلّاديه:

الله الله في دمي؟

لِمَن أبصرَ كلكامش مَقتولاً برصاصةِ قَنّاص

وأنكيدو مَطعوناً بخنجرِ غدرٍ أسْوَد،

هل تنفعهُ وصايا سيدوري؟

لِمَن كُتِبَتْ حياتُهُ برمادِ كُتبِ التوحيديّ،

هل ينفعهُ أنْ يحرقَ جسدَه بالنار؟

ولِمَن التقى سرّاً بديكِ الجِنّ

وقرأ عليه مَرثيتَه الكبرى،

هل تنفعهُ كتبُ الجِنّ

وعظامُ الهدهد

ومرايا بلقيس؟)([179]).

    ففي هذا النصّ يكون التناصُ جامعا لعدد من الشخصيّات الصوفيّة والتأريخيّة:(الحلاج) وصيحته الكبرى: مافي جبتي إلا الله التي صيرها تناص الشاعر الله الله في دمي ، و(كلكامش) ورفيقه (أنكيدو) ، وما جرى لهما من وقائع تكفّلت الملحمة في إطلاقها، و(سيدوري) صاحبة الحانة في رحلة (كلكامش) وقد تعامل الشاعر معهم في تناص استباقي رسم ملامح الغدر المعاصر، و(أبو حيان التوحيدي) الذي أحرق كتبه في آخر أيامه، والشاعر (ديك الجنّ) وقصّته مع زوجته وحبيبته (ورد) التي  قضت على يديه مقتولة بسيف غيرته، فضلا عن (بلقيس) التي استلّ صورتها من القرآن الكريم مصحوبة بسرديّة الهُدهُد، واستدعاء الشخصيات الأخرى ،وهي تتلاحم مع الصورة القرآنيّة داعية المتلقي لأن يكون طرفا في انتاج التناص حين ((يتحول التلقي إلى علاقة تبادل بين التوقع، وما يقع، كما تنكشف عن النص معظم ظواهر الالتباس، وينفسح الطريق لتجلي العلاقات الخفية شيئاً فشيئاً، بحيث ينتهي الأمر إلى التجلّي المبهر لظواهر التناص))([180])، وهي تشير إلى ثقافة متبادلة بين عناصر ثلاثة؛ النصّ المثال ،والنصّ المتناص، والمتلقي الذي تتحفّز في ذاكرته مهارته أنّه جامع نصوص.

  ويتناص شعر أديب مع حكاية هدهد سليمان مرّة أخرى في:

(تاه الهدهد في المعنى..

(المعنى كان كبيرا متسعا كضياع البحر).

حدق في الأفق سليمان العالم قال:

أين الهدهد؟

عرف الجنّ جميعا بمكان الهدهد

لكنّ الجنّ لأسباب لا تحصى صمتوا

فأحال سليمان الجن الى حجر

وأحال الأحجار الى قبر متسع

وأحال القبر الى بلور وقوارير)([181]).

   يستحضر النص السابق حكاية هدهد سليمان في قوله تعالى:((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ))([182])، ولكن بمغايرة في شكل المسرود،صحيح أن القصّة القرآنيّة حاضرة في النص الشعري إلا أنّالتغاير كان نصيب سرد الشاعر لتبقى الخصيصة المرجعيّة ظاهرة للعيان تحكي ولع الشاعر في الإفادة من القرآن الكريم نصّا ورؤية.

  وإذا كان النصّ القرآنيّ قد أعلن عن حضور شخصيّة سليمان(ع)، وغياب الهُدهُد، فإنّ القصّ القرآنيّ قد ملأ الفراغات التي تبدو للوهلة الأولى واضحة في سرد القصّة بدلالات بدا من خلالها الهُدهُد وقد قدّر له أن يكون فاعلا ليأتي بنبأ عظيم استثمره الشاعر فيما بعد في حبكة سرد معاصر.

  وتناصّ الشاعر مع قصة النبي يونس(ع) في:

(أوقَفَني في موقفِ النُّون

وقال: اعلمْ أنَّ النُّونَ هي السَّفينة

والنُّقطة نقطة ذي النُّون يا عبدي.

واعلمْ أنَّ النُّونَ هي المرأة

والنُّقطة هي المَسرّة.

واعلمْ أنَّ النُّونَ هي الدُّنيا

والنُّقطة هي الشَّمس.

ثُمَّ قال: إنّ مَن عرفَ النُّونَ فقد أبصر.

ومَن أبصرَ خفّفَ الوطء

وعرفَ أنَّ الكلّ إلى القبرِ يَسعى)([183]).

    والنون هو الحوت الذي ابتلع نبي الله يونس(ع)، والتناص هنا تحاور مع تناص شعري آخر في قول ابي العلاء المعري:

               (خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الـ أرض إلا من هذه الأجساد).

   ترى الناقدة (حياة الخياري) أنّ في عمق جوف النون ينفتح الحوار بين ما هو قرآني، وما هو شعري فتصطرع الأصوات، وتصطخب داخل نون النصّ تحت راية التناص، وهو ما حدث فعلا مع نون القرآن ونون الشعر([184])، وحدث أيضا مع التناص الثقافي الذي يعدّ من الحقائق  في السطر الأخير:(الكلّ إلى القبرِ يَسعى)؛ أي أن التناص هنا كان مزدوجا ودالّا على انفتاح ثقافيّ عابر لحدود الشكل الواحد إلى أشكال متعددة.

  ويتناص الشاعر أديب كمال الدين مع (ذي النون) أيضا في قوله:

(لأجل أن أشم خفايا حرفك البضّة

فإني مستعد أن أهديك أذني

كما فعل فان كوخ

وأن أبكيك العمر كلّه

محاطا بالنسور، والصقور، والثعالب

كما فعل غويا

وأن أترك الحوت يبتلعني

كما فعل ذو النون

وأن أضيّع قائدَ جندي إلى الأبد

كما فعل داود)([185]).

   ففي النص السابق كان التناص مركبّا مع جملة اعلام (فان كوخ) الرسام الهولنديالذي قطع أذنه وأهداها إلى مومس بطريقة اختارها هو ليسجّل سابقة لم يقترفها أحد ، و(وليم غويا) الذي كان رساماإسبانياً، عكس رسمه الاضطرابات السياسيّة ، والاجتماعية التي كانت سائدة في بلاده ليكون من خلالها مواطنا حقيقيّا لا فنّانا مترفا ، و(ذو النون) الذي :((الْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ))([186])، و(نبي الله داود) الذي قتل قائده طالوت فحزن عليه، إنّ الجمع بين الذاكرة القرآنيّة ، وعلمين فنيين من الغرب هو جمع بين ثقافتين مختلفتين قارب بينهما الشعر بوساطة التناص الذي جمع بين سرد عميق، وسرد فنّانين لهما منزلة في تأريخ الفن العالمي: (فان كوخ) الذي له سرديته التي كان من خلالها معدما ، وكذلك (غويا) الذي كان فنّه قد أثّر في رسم  القرن التاسع عشر بشكل واضح.

 ويظهر التناص في قول الشاعر:

(لم يكنْ كلبُكَ باسطاً ذراعيه

بل كانَ يركضُ خلفَكَ منذ الطفولة.

لا ترتعبْ منهُ فهو قد عضّكَ ثُمَّ شُفِيتَ،

وأنتَ الآن في دورِ نسيانِ الحلمِ الأسْوَد)([187]).

   فالتناص هنا أخذ من لغة القص القرآني، ولاسيما من سورة الكهف في تحوير شكلي يتّسم   بقلب المعنى مع قوله تعالى:((وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ))([188])، فضلا عن استرجاع طفولة الشاعر لصياغة خطاب موجه نحو الذات، وقلب المعنى القرآني لا يراد به المخالفة الدلاليّة بقصد مغايرة المألوف إنّما تقديم صوغ جديد حافل برؤى المقام الأعلى.

وللمتلقي أن يقف عند قول الشاعر:

(أوقَفَني في موقفِ الخضِر

وقال: يا عبدي

أرأيتَ كيفَ أغرقَ الخضِرُ السَّفينة؟

أرأيتَ كيفَ قتلَ الغلام؟

وكيفَ أقامَ الجدار؟                                                   

بالخضِر وبأمثال الخضِر

أعيدُ صياغةَ كوني،

وأرتّبُ ساعاتِ يومي،

وأداولُ الأيامَ بين النَّاس،

وأداولُ النَّاسَ بين الأيام)([189]).

     ففي الأسطر الشعريّة السابقة ظهر التناص مع القصص القرآني في أكثر من صورة ، وموقف ،والقراءة الدقيقة لنص الشاعر تفضي إلى تحديد مدى التقارب التناصي الثقافي، والدوران في فلك النص القرآني العظيم، ومعرفة مقدار لجوء لغة الشاعر إلى مثالها، ثم استقرارها في سياق ثابت هو في النهاية سياق الشاعر القائم على الانفتاح على النص الأول لابتكار مدونة تدعو إلى تأمل قصص القرآن الكريم  الموجزة، وسؤالاتها المتكررة كيف أغرقَ الخضِرُ السَّفينة؟، وكيفَ قتلَ الغلام؟، وكيفَ أقامَ الجدار؟،ثمّ اعتراف الشاعر بالإفادة من تلك السؤالات: الدلالات إذ سعت إلى قراءة(تمثّلات القصص)الواقعيّة ذات الأنساق المكانيّة، والزمانيّة، والتأريخيّة، والجغرافيّة، والاجتماعيّة في حياة الشاعر، وهو يتناص مع قوله تعالى:((أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا))([190])، وقوله تعالى:((وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا))([191])،وهكذا يتبيّن أنّالنص الشعري نسج تميّزه من خلال تراكيبه الداخليّة التي أسهمت في إنتاج دلالات ذات تشكّل معرفيّ وثقافيّ مستقى من النصّ الكريم الذي كان ولمّا يزل خير معين يمتح منه الأدباء.

والتمثيل مصطلح يوحي بأنّ وظيفة اللغة  تنوب عن الأشياء؛ أي تحيل على واقع غير لغوي([192])، يمكن استحضاره، وتحديد أبرز معالمه، فهو((مجموعةٌ من العمليّات التي تُظهر الممارسات المسؤولة عن تصوير موضوع ما، أو ممارسة ما في العالم الحقيقي))([193])، بمعنى أنّه تفريغ المتخيَّل من شحنات الوعي الإنسانيّ سرديّابقصد الإفصاح عن أنساق اللحظة التي هي أعلى درجات التحسس الحياتي على لسان الشاعر  من خلال التصوّرات التي ينتجها التخيَّل وهو يقدّم  سردا ممثّلا لحركة المجتمع ، وأفراده ، ونشاطه ، وثقافته ، وعلاقته بالمكان ، بعيدا عن تعسّف الموجّهات السياسيّة ، والاجتماعيّة ، والنفسيّة، وحين نتكلم على السرد ينبغي على الأقل أن نجري تمثيل حدث ما، والأحداث المهمّة لا يمكن أن تتحوّل إلى أشكال سرديّة؛ أي جعلها منقولة مرويّة([194])، والشعر بطبيعة الحال أحد أشكال التمثيل في الحياة له القدرة على المواجهة، وإيجاد الحلول، وإعلان المواقف الصريحة، وهذا ما وجد في شعر أديب كمال الدين.

خاتمة:

1-تبيّن من خلال الإجراء فعل التناص في شعر أديب كمال الدين، وهو يدفع الدلالات للتداول من الماضي إلى الحاضر مستقرّة في مبناها الحياتي الجديد، متعدّدة تجمع بين الشعر والسرد، وتخضع لقراءة مزدوجة: الأولى تُردّ إلى النص المثال، والأخرى تقف عند النص المتناص؛ أي السياق التناصي بوصفه متنا مركّبا يمكن تفكيكه وتأويله، فهو نصّ اجتمعت عند حافّاته جملةُ نصوص عابرة نحو متنيّة ثابتة ومتعالية.

2- تعامل الشاعر مع القصص القرآني تعاملا مرنا أباح له التناص أن يفضح الظلم المعاصر، وأن يكشف الفساد الأخلاقي، وتسمم مفاصل الحياة، وهو يجدد الرؤى بمنظار معاصر أخذ بنظر الاعتبار جلال النصّ القرآني، وهيبة مداليله، وحضوره المعاصر بوصفه (نصّا) قائما على الصراع، والصراع المضاد.

3-إنّ التعدد الدلالي لتناصات الشاعر مع القصص القرآني، وجملة الشخصيّات القرآنيّة هو جمع لثقافات خاصّة يوحّدها النظر القرآني، وقصد الشاعر، وهو يحاول إنقاذ أخلاق الناس بالشعر؛ لأنّ القصيدة بوصفها نتاج اللسان تستطيع أن تقدّم عرضا لطبيعة مشكلات الحياة كي تكون وثيقة مصوغة بعرق الإحساس اليومي لما هو ثقافيّ عام يمكن للنقد أن يعتمد عليه لتحليل أبرز الظواهر الكامنة فيه، سواء أكانت تلك القصيدة منطوقة، أم مرقونة، ففي الحالتين يعتمد النقد على خطوات منتظمة تكشف عمّا وراء القصيدة من ظواهر وسمات.

4-إذا كان التناص مع القصص القرآنيّ التي تناولها هذا الفصل مبنيّة على مغايرة سرديّة تعمّدها الشاعر، فإنّ تلك المغايرة ما كانت إلا بسبب ضرورات الشكل الشعري الجديد الذي يتماهى تماما مع آليات التلقي الجديد التي ترى في حالة التوازي مع النص المثال حالة قبول لا شأن لها بمبدأ التطابق؛ بمعنى أن التوازي مع قصّ المثال يدخل في جوهر الصياغة الشعريّة الجديدة.

5-لا يراد من تناصّات الشاعر إعادة إنتاج النصّ القرآني، إنّما التعبير من خلال التناص عن فكرة لها صلة بالذات، والآخر، وبهذا يحقّق التناص مبدأ الانفتاح على ما هو ثقافيّ يثير في المتلقي إحساس الارتباط بالثقافة الأولى، وبالمقدّس، وبالمعرفة المتوارثة، وعشق الروحانيّات التي تسهم في تشكيل الذات.

6- إنّ التناص مع القصص القرآني يهدف في النهاية إلى وضع القصّة القرآنيّة في عمق الثقافة بمفهومها الذي له صلة بتصوّرات الإنسان، ومواقفه من الحياة، وحركيّة المجتمع، وما يُنتج من إجراءات، وتقاليد، وأعراف باتت في حساب الثقافة اليوم شيئا له صلة بمسيرة الانسان.

7- إنّ التناص مع قصص القرآن الكريم في هذا الفصل يدرك بالإحالة على مجموع المداليل التي تبرز من خلال التعالق النصيّ بين القصص، ونصوص الشاعر ليشكل نصوصا عابرة للأزمنة والأمكنة تشير إلى نصين مختلفين، ولكنهما مندمجان في بعد واحد.

الإحالات:


(خاتمة)

 

أولا: كان القرآن الكريم واحدا من أهم الكتب التي شُغِفَ الشاعر أديب كمال الدين بها، ليس في شبابه، أو في بداياته الشعريّة إنّما منذ أوّل فتوته بتأثير من العائلة التي كانت قد اتخذت من القرآن الكريم درسا ومنهجا، فتعلق أديب بالقرآن الكريم قراءة وحفظا، وصار من الطبيعي جدا أن يتفاعل مع نصوصه بعد أن صار الشعر هويته الثقافيّة الفارقة فكان أن استعادها، أو حاكاها مشكّلا نمطا من الفسيفساء في شعره.

ثانيا: إنّ التناص مع القصص القرآني في شعر أديب كمال الدين صنع نوعا من التعاضد الفكري مع النص الأول، وهو ما أسهم في تماسك قصائده، وانفتاحها نحو السردالشعري بوصفه وظيفة تتعلق بتشكيل القص والشعر معا، وهما متجاوران منذ القدم، وليس ثمة تقاطع يحكم هذه العلاقة، ولا سيّما مع الشعر الحديث.

ثالثا: إنّ القراءة التناصيّة الثقافيّة قراءة خلّاقة تقوم على الحفر في طبقات التناص لتفكيك بنيته ،وارجاعه إلى مصادره الأولى ومرجعيّاته الفاعلة بحيث يرى المتلقي انتقال الدلالة من النص الأول إلى النص المتناص وهي تجري بين عالمين متماهيين أو مختلفين، وهذا يعني أن المتلقي المعاصر يستطيع أن يمسك بالدلالتين في النص الثاني بوصفهما نصّا جديدامتجاوزا ما هو تقليديّ إلى حقول أخرى من دون أن يفْصل بين ثقافة ، وأخرى، أو بين إنسان وآخر، أو بين بيئة وأخرى، رافعانسق الثقافة بوصفه كمّا ينتج علاقات بلا فوراق وتعدّدات.

رابعا:اصطنع الشاعر أديب أحداثا ألحقها في بنية الحدث القرآني الكبيرفي محاولة منه لأن يقنع المتلقي الذي عاش ويعيش -الآن- أحداثا ذات تراكمات سيّئة بضرورة محاكمة الحاضر، وهو يدري أنّ الحدث المثال مضى وانتهى، لكنه بمخيلة الشعر راغب في اصناع ذات الحدث، واختلاق أحداثه، وعصرنة زمانه، وإطلاق مكانه ليبقى السؤال المهم لِمَ لجأ الشاعر إلى هذا المسعى الخطير؟ ليكون الجواب كي يربط ثقافة الأمس بثقافة اليوم، وهدفه نقد الحاضر، وتفكيك أنساقه.

خامسا: ظهرت أقسام من تناصّات الشاعرفي شكل امتصاص تناصيّكان الشاعر فيه يمتصّ من النص القرآني ما شاء له من الآي الكريم على وفق صياغته التي تتعامل مع النصّ المقدّس بكونه متنا اعجازيّا ثمّ تعترف بأهميته، وقداسته فيكون التعامل معه حركيّا وتحويليّا من دون نفي لدلالته، والشاعر يسهم في استمرار جوهر معانيه؛ ولهذا يعمد إلى صوغه على وفق رؤى جديدة.

سادسا: وظهرت تناصات أخرى تسمى التناصات الحواريّة لتضيف من عنديات الشاعر سردا ، أو رؤى تعمل على تشكل نصّ جديد يشير إلى المرجع ، ويمضي في إضفاء دلالات جديدة لها صلة بالحدث، ولكنها تنتمي إلى لغة الشاعر، وأفكاره بهدف التحاور مع النص الأول، وعبور دلالاته إلى دلالات راهنة تنتمي إلى الإبداع الشعري، وهو يجوس أرضا جديدة تنتمي إلى  ابداع الشاعر ومخيّلته المشغولة بروح الجديد، والحديث، وهي دليل أكيد على ثراء ثقافة الشاعر وتبلور ثقافته السرديّة، والحياتيّة.


  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مصادر الكتاب ومراجعه:

·        القرآن الكريم.

·        سفر التكوين.

1-  آليات التعبير في شعر أديب كمال الدين: د. رسول بلاوي: معالم نقديّة: ط1: 2015: منشورات ضفاف: بيروت.

2-  أثر القرآن في الشعر العربي: شلتاغ عبود شراد:دار المعرفة للنشر والطباعة والتوزيع: دمشق: ط1: 1987.

3-  أثر القصّة القرآنيّة في الشعر العربي الحديث: حسن مطلب المجالي: رسالة دكتوراه، الجامعة الأردنيّة بإشراف: د. محمد أحمد المجالي: كانون الأول،2009.

4-  استدعاء الشخصيّات التراثيّة في الشعر العربي المعاصر:علي عشري زايد: دار الفكر العربي: 1997.

5-  أضف نونا قراءة في نون أديب كمال الدين: حياة الخياري: الدار العربيّة للعلوم ناشرون: بيروت: ط1: 2012.

6-  إعجاز القرآن:الباقلاني: تحقيق السيد أحمد صقر دار المعارف بمصر1963.

7-  الأعمال الشعرية: المجلد الرابع: عبد الرزاق عبد الواحد: دار الشؤون الثقافيّة: بغداد: ط2 :2002.

8-  الأعمال الشّعرية الكاملة: أديب كمال الدين : مج:4 ، منشورات ضفاف ، بيروت ، ط: 1 ، 1439هـ ، 2018.

9-  الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر أديب كمال الدين : عدنان حسن أحمد ، صحيفة المثقف ، ع: 4214، مارس 2018 .

10-  الأعور الدجال والغرباء: شاذل طاقة: دار مكتبة الحياة: 1961.

11-  أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية في شعر أديب كمال الدين: د. عبد القادر فيدوح: منشورات ضفاف: ط1: بيروت: 2016.

12-  بأختين المبدأ الحواري: تودوروف: ترجمة فخري صالح: الهيئة العامة لقصور الثقافة: القاهرة 1996.

13-  بصرياثا: صورة مدينة: محمد خضير:102:منشورات الأمد:ط1 بغداد 1939.

14-  بناء الرواية دراسة لثلاثية نجيب محفوظ: سيزا أحمد قاسم: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب: القاهرة: ط1: 1984.

15-  تَأسِيس كِتَابَةٍ جَديدَةٍ: أدُونِيس ـ مَجلَّة: (مَوَاقِف)ع ـ 18نوفمبر / ديسمبر1971.

16-  التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب: دار المعارف بمصر:1956.

17-  تمثيلات الآخر في أدب ما قبل الإسلام: فاطمة المزروعي : هيأة أبو ظبي للثقافة 2007 .

18-  الحبك المكاني في السياق القصصي القرآني، سورة يوسف أنموذجا، آمنة عشاب: مذكرة ماجستير، جامعة حسيبة بن بوعلي، الشلف، الجزائر 2006-2007.

19-  الحضور القرآني والصوفي في: (مواقف الألف) للشاعر أديب كمال الدين: فاضل عبود التميمي : جريدة العالم البغدادية 13و14/11/2012.

20-  حياة الحيوان الكبرى: الدميري: تحقيق إبراهيم صالح: دار البشائر: دمشق: ط1: 2005: ج3.

21-  دراسات في النص والتناصية: رولان بارت: مركز الانماء الحضاري: سورية: 1998.

22-  دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي: د. سمير الخليل: مراجعة وتعليق: د. سمير الشيخ: دار الكتب العلميّة بيروت: ط1: 2016.

23-  ديوان ابن الرومي: شرح وتحقيق عبد الأمير علي مهنا: مج:3: دار ومكتبة الهلال: ط2: ط    1998.

24-  ديوان ابن المعتز: شرحه: مجيد طراد: دار الكتاب العربي: 1996.

25-  ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ : تح : بهجت عبد الغفور الحديثي ،دار صادر بيروت. 

26-  ديوان البحتري: دار صعب بيروت: ج1.

27-  ديوان بدر شاكر السياب: م1: دار العودة : بيروت: 1971: 384.

28-  ديوان بشار بن برد: قدم له وشرحه: د. صلاح الدين الهواري: دار ومكتبة الهلال بيروت: 1997: ج3 .

29-  ديوان الجواهري: مطبعة الغري: 1935: النجف.

30-  ديوان الحلاج: صنعه وأصلحه: د. كامل مصطفى الشيبي: ط1: مطبعة المعارف: بغداد: 1974.

31-  ديوان سميح القاسم: دار العودة بيروت .

32-  ديوان العباس بن الأحنف: تح: عاتكة الخزرجي: مطبعة دار الكتب المصريّة، القاهرة، ط:1 ،1954.

33-  ديوان عزالدين المناصرة: دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع.

34-  ديوان محمد العيد آل خليفة: الشركة الوطنية للنشر، الجزائر، ط :1: 1986.

35-  ديوان محمود درويش: م 1-2: دار الحرية للطباعة والنشر: 2000.

36-  ديوان محمود سامي البارودي: ج:1، تح: علي الجارم و محمد شفيق معروف، دار المعارف، مصر ،د.ط،1971.

37-  ديوان مسلم بن الوليد الأنصاري: تح : سامي الدهان ، دار المعارف ،القاهرة ،  ط: 3 : 1989.

38-  ديوان نزار قباني: بيروت :1969.

39-  السرد: جين ميشيل آدم: ترجمة: أحمد الوردني: دار الكتاب الجديدة المتحدة: ط1: 2005: 23.

40-  - شرح ديوان أبي تمام: دراسة وتحقيق: د. خلف رشيد نعمان: وزارة الاعلام: العراق ط1: ج1.

41-  شرح ديوان المتنبي: عبد الرحمن البرقوقي: دار الكتاب العربي بيروت: 1979: م2: الجزء 4.

42-  شرح الصولي لديوان أبي تمام: دراسة وتحقيق: ج1.

43-  صراع ثقافي: ويكيبيديا: الموسوعة الحرة.

44-  ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيويّة تكوينيّة: محمد بنيس: دار التنوير للطباعة والنشر: الدار البيضاء: ط2: 1994:47.

45-  عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص): عبد الحق بلعابد: ناشرون: منشورات الاختلاف: ط1: 2008.

46-  في ظلال القرآن: سيد قطب: ج: دار الشروق 1978: 4.

47-  قراءات أسلوبيّة في الشعر الحديث: محمد عبد المطلب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م.

48-  القصائد : سميح القاسم ،  دار الهدى ،كفر قرع، م ج :1،ط:1 ،1991.

49-  القصة القرآنية " قصة يوسف نموذجا ": محاضرات آية الله الشيخ مصطفى الهرندي: ج: 1.

50-  قضايا الشعر المعاصر: نازك الملائكة  : دار العلم للملاين ، بيروت ، لبنان ، ط : 6 ، 1981.

51-  كتاب الأغاني: أبو فرج الاصفهاني: دار الكتـب المصريّة، ١٩٢٩م: ج٤ .

52-  كتاب المواقف: حققه المستشرق:(أرثر يوحنا أربري)، ونشرته دار الكتب المصريّة في القاهرة 1934.

53-  اللغة العليا النظريّة الشعريّة: جون كوين: ترجمة وتقديم د. أحمد درويش: المجلس الأعلى للثقافة 1995.

54-  للريح ذاكرة : ممدوح عدوان ، دار الآداب، بيروت ،ط :2، 1992.

55-  معجم السرديّات: محمد القاضي ومجموعة من المؤلفين: دار محمد علي الحامي: تونس: ط1.

56-  موت المؤلّف وتصدّعات النص: دراسات نقديّة وثقافيّة في الشعر والسرد: د. سمير الخليل: منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق: 2020.

57-  ملحمة كلكامش: طه باقر: وزارة الاعلام: الجمهورية العراقيّة: سلسلة الكتب الحديثة: 1975.

58-  موسوعة تفسير سورة يوسف(ع): عليش متولي بدوي البنى: الهيئة الخيريّة الإسلاميّة، لجنة آسيا بدولة الكويت، د. ط، د.ت.

59-  موقف الشعر من الفن والحياة في العصر العباسي: محمد زكي العشماوي، دار النهضة العربية، بيروت ، لبنان ، د، ط ، 1981.

60-  نوح والطوفان في شعر أُمية بن أبي الصلت: د.أ أحمد شاكر الربيعي أ . د. م. أحمد حسين العيثاوي : مجلة الأستاذ (كلية التربية ابن رشد )العدد ٢٠٦ المجلد الأول ٢٠١٣م ١٤٣٤هـ.

61-  هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل: شعيب حليفي: المجلس الأعلى للثقافة: 2004.

62-  وصف القصور في الشعر العباسي: ثروة أحمد وهدان، رسالة ماجيستير، كلية الدراسات ، جامعة النجاح الوطنية، نابلس،2003.

 

 

 

 

 

 

 


 ببلوغرافيا:

Adeeb Kamal Ad-Deen

أديب كمال الدين:

 

 

أديب كمال الدين (1953 - بابل) شاعر ومترجم وصحفي من العراق مقيم حالياً في أستراليا. تخرّج من كلية الإدارة والاقتصاد- جامعة بغداد 1976. كما حصل على بكالوريوس أدب انكليزي من كلية اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى دبلوم الترجمة الفوريّة من المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا 2005.

أصدر 24 مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة، منذ مشواره الشعري الذي بدأه مع مجموعته الأولى: "تفاصيل" 1976، اعتمدت الحرفَ ملاذاً روحياً وفنياً، نذكر منها "نون"، "النقطة"، "شجرة الحروف"، "الحرف والغراب"، "مواقف الألف"، "في مرآة الحرف"، "حرف من ماء"، كما أصدر المجلّدات الستة من أعماله الشّعريّة الكاملة. تُرجمتْ أعماله إلى العديد من اللغات كالإيطاليّة والإنكليزيّة والأورديّة والإسبانيّة والفرنسيّة والفارسيّة والكرديّة. نال جائزة الإبداع عام 1999 في العراق. واخْتِيرَتْ قصائده ضمن أفضل القصائد الأستراليّة المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و 2012 على التوالي.

صدر 13 كتاباً نقديّاً عن تجربته الشّعريّة، مع عدد كبير من الدراسات النقديّة والمقالات، كما نُوقشت الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت أعماله الشّعريّة وأسلوبيته الحروفيّة الصّوفيّة في العراق والجزائر والمغرب وتونس وإيران والهند.

 

* صدرت له المجاميع الشعرية الآتية:

- تفاصيل، مطبعة الغري الحديثة، النجف، العراق 1976 .

- ديوان عربيّ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق 1981 .

- جيم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق 1989.

- نون، دار الجاحظ ، بغداد، العراق 1993.

- أخبار المعنى، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق 1996.

- النقطة (الطبعة الأولى)، مكتب د. أحمد الشيخ، باب المعظّم، بغداد، العراق 1999.

- النقطة (الطبعة الثانية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان 2001.

- حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،  بيروت، لبنان 2002.

- ماقبل الحرف .. ما بعد النقطة ،دارأزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2006.

- شجرة الحروف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2007.

- أبوّة Fatherhood ، (بالإنكليزية) دار سيفيو، أديلايد، أستراليا 2009.

- أربعون قصيدة عن الحرف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2009

- أربعون قصيدة عن الحرف، Quaranta poesie sulla lettera  (بالإيطالية: ترجمة: د. أسماء غريب)، منشورات نووفا إيبسا إيديتوره ، إيطاليا 2011.

- أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2011.

- مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2012.

- ثمّة خطأ Something Wrong ، (بالإنكليزية) دار ومطبعة Salmat ، أديلايد، أستراليا 2012.

- الحرف والغراب، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2013.

- تناص مع الموت: متن در متن موت (بالأورديّة: ترجمة: اقتدار جاويد)، دار كلاسيك، لاهور، باكستان 2013.

- إشارات الألف، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2014.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الأوّل، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2015.

- رقصة الحرف الأخيرة، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2015.

- في مرآة الحرف، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الثاني، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016.

- الحرف وقطرات الحُبّ  La Lettre et les gouttes de l'amour  (بالفرنسية: ترجمة وتقديم: د. ناجح جغام) دار جناح، فرنسا 2017.

- حرف من ماء، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2017.

- دموع كلكامش وقصائد أخرىLagrimas de Gilgamesh Y Otros Poemas  (بالإسبانية: ترجمة: جوزيب غريغوري ومراجعة وتقديم: عبد الهادي سعدون) منشورات لاستورا، مدريد، إسبانيا 2017.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الثالث، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2018.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الرابع، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2018.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الخامس، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2019.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد السادس، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2020.

موقعه الشخصي  www.adeebk.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المؤلّفان:

 

         د.فاضل عبود التميمي

 

          أستاذ البلاغة والنقد الأدبي في كليّة التربية للعلوم الإنسانيّة: جامعة ديالى: العراق، نشر دراساته في مجلات: العرب السعوديّة، والرافد الإماراتيّة، والأقلام العراقيّة ، والمورد العراقيّة ، ورؤى الثقافيّة الجزائريّة ، والعلامة الجزائريّة، وفصول المصريّة وفي عدد من المجلات الاكاديميّة العراقيّة ، فضلا عن أنّه نشر عشرات المقالات في الصحف : القدس العربي، والزمان ، والصحف العراقيّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

د. نجلاء أحمد نجاحي

 

 

 أستاذة وباحثة جامعية حاصلة على دكتوراه العلوم تخصص علوم الأدب العربي من جامعة باتنة، الجزائر، أستاذة محاضرة بقسم اللغة والأدب العربي بجامعة قاصدي مرباح ورقلة : الجزائر ، عضو مخبر اللسانيات النصية وتحليل الخطاب جامعة ورقلة ، وعضو هيئة تحرير مجلة " العلامة "، معنيّة بالأدب الجزائري القديم والحديث ،وشؤون الرواية العربية ونقدها،  والشعر العربي قديمه وحديثه ،  لها مشاركات في ملتقيات وطنيةودولية ، والعديد من الدراسات العلمية المنشورة في المجلات الأكاديمية الوطنية والدولية المتخصصة .

 



[1]- ملحمة كلكامش: طه باقر: وزارة الاعلام: الجمهورية العراقيّة: سلسلة الكتب الحديثة: 1975: 25، 26.

[2]- ينظر: نفسه: 20-32.

[3]- شروباك: مدينة سومرية موطن بطل الطوفان (أوتو نبشتم).

[4]- المردي: عصا طويلة تُدفع بها السفينة، لمّا تزل شائعة الاستعمال في جنوب العراق.

[5]- ملحمة كلكامش: طه باقر: وزارة الاعلام:132- 142.

[6]- سفر التكوين: الاصحاح السادس: نقلا عن ملحمة كلكامش: طه باقر:162، 163.

[7]- نفسه: 163، 164.

[9]- سورة القمر: الآية 11.

[10]- نفسه: 12.

[11]- سورة هود الآية: 40.

[12]نفسه:الآية: 41.

[13]- نفسه:الآية: 42.

[14]-  نفسه:الآية: 43.

[15]- نفسه:الآية: 44.

[16]- نفسه:الآية: 48.

[17]- سورة الصافات:الآية: 77.

[18]- ينظر: نوح والطوفان في شعر أُمية بن أبي الصلت: د.أ أحمد شاكر الربيعي أ . د.م. أحمد حسين العيثاوي : مجلة الأستاذ (كلية التربية ابن رشد )العدد ٢٠٦ المجلد الأول ٢٠١٣م ١٤٣٤ه: 41-49.

[19]- كتاب الأغاني: أبو فرج الاصفهاني: دار الكتـبالمصريّة، ١٩٢٩م: ج٤ :١٢١.

[20]- الأعمال الشعريّة الكاملة: أديب كمال الدين: منشورات ضفاف: ط1: 2018: لبنان:34: 123.

[21]- نفسه: م4: 50.

[22]- نفسه:م4 :212.

[23] - ينظر: عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص): عبد الحق بلعابد: ناشرون: منشورات الاختلاف: ط1: 2008: 67.

[24]- ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيويّة تكوينيّة: محمد بنيس: دار التنوير للطباعة والنشر: الدار البيضاء: ط2: 1994:47، 48.

[25]-الأعمال الشعريّة الكاملة: أديب كمال الدين: منشورات ضفاف: ط1: 2018: لبنان : م1: 21.

[26]-نفسه: م 5: 40.

[27]- نفسه: م4: 50.

[28]-  حققه المستشرق:(أرثر يوحنا أربري)، ونشرته دار الكتب المصريّة في القاهرة 1934.

[29]-  تَأسِيس كِتَابَةٍ جَديدَةٍ: أدُونِيس ـ مَجلَّة:(مَوَاقِف)عـ 18نوفمبر / ديسمبر1971: 17.

[31]- نفسه: م4: 50.

[33]- نفسه: م 4: 50، 51.

[34]- آليات التعبير في شعر أديب كمال الدين: د. رسول بلاوي: معالم نقديّة: ط1: 2015: منشورات ضفاف: بيروت: 95.

[36] -سورة: العنكبوت: الآية: 14.

[37]- صراع ثقافي: ويكيبيديا: الموسوعة الحرة.

[39]- سورة القمر: الآية: 10.

[40]- دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي: د. سمير الخليل: مراجعة وتعليق: د. سمير الشيخ: دار الكتب العلميّة بيروت: ط1: 2016: 220.

[44]- سورة هود: الآية: 43.

[45]- الأعمال الشعريّة الكاملة: أديب كمال الدين: م 4: 51.

[46]- سورة النجم: الآية: 57.

[47]- سورة المؤمنون:الآية: 27.

[48]- سورة هود: الآية: 42.

[49]- نفسها: الآية: 44.

[51]- نفسه: م2: 300.

[52]- نفسه: م1: 235.

[53]- نفسه: م3: 123.

[55]- نفسه: م3: 23.

[56]- الأعمال الشعريّة الكاملة: أديب كمال الدين: م25:3.

[57]- نفسه: 26.

[58]نفسه: م 3: 24.

[59]- ينظر: أضف نونا قراءة في نون أديب كمال الدين : حياة الخياري: الدار العربيّة للعلوم ناشرون: بيروت: ط1: 2012: 42.

[60]-  الأعمال الشعريّة الكاملة: أديب كمال الدين: م5: 143.

[61]- نفسه: م5: 50.

[62]- نفسه: م4: 109.

[63]- نفسه: م4: 109.

[64]- ينظر: حياة الحيوان الكبرى: الدميري: تحقيق إبراهيم صالح: دار البشائر: دمشق: ط1: 2005: ج3: 236.

[65]- أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفيّة في شعر أديب كمال الدين: د. عبد القادر فيدوح: 43.

[66]- ينظر: بناء الرواية دراسة لثلاثية نجيب محفوظ: سيزا أحمد قاسم: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب: القاهرة: ط1: 1984: 27.

[67]- ينظر:قراءة في قصيدة أديب كمال الدين(الغراب والحمامة): فاضل عبود التميمي:جريدة العالم البغداديّة في 22 و23 تموز 2013.

[68]- ينظر: موسوعة تفسير سورة يوسف(ع):عليش متولي بدوي البنى: الهيئة الخيريّة الإسلاميّة، لجنة آسيا بدولة الكويت، د. ط، د.ت: 136.

[70]- ينظر: الحبك المكاني في السياق القصصي القرآني، سورة يوسف أنموذجا، آمنة عشاب: مذكرة ماجستير، جامعة حسيبة بن بوعلي، الشلف، الجزائر 2006-2007: 52.

[71]-سورة يوسف، الآية: 3.

[72]-نفسه: الآية:1-2.

[73] -نفسها: الآية:3.

[74] - نفسها: الآية: 21.

[75]- القصة القرآنية " قصة يوسف نموذجا ": محاضرات آية الله الشيخ مصطفى الهرندي : ج: 1 : 141.

[76]- ينظر: اللغة العليا النظريّة الشعريّة: جون كوين: ترجمة وتقديم د. أحمد درويش: المجلس الأعلى للثقافة 1995 :187.

[77]- ينظر: القصة القرآنية " قصة يوسف نموذجا: 188.

[78]- ينظر: التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب:دار المعارف بمصر: 120 وما بعدها، و: سيكولوجية القصة القرآنية: نقرة التهامي:الشركة التونسية للتوزيع – ط الأولى تونس 1974.

[79]-ينظر: موقف الشعر من الفن والحياة في العصر العباسي: محمد زكي العشماوي، دار النهضة العربية، بيروت ، لبنان ، د، ط ، 1981 : 114,

[80]- ديوان العباس بن الأحنف: تح: عاتكة الخزرجي: مطبعة دار الكتب المصريّة، القاهرة، ط:1،1954: 239.

[81]- ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ : تح : بهجت عبد الغفور الحديثي ،دار صادر بيروت: 351.

[82]- ديوان ابن الرومي: شرح وتحقيق:عبد الأمير علي مهنا : منشورات دار ومكتبة الهلال : 1998: ج4: 235.

[83]- ديوان ابن المعتزّ: شرحه: مجيد طراد: دار الكتاب العربي: 1996: 502.

[84]- ينظر: استدعاء الشّخصيات التّراثية في الشّعر المعاصر: علي عشري زايد ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، مصر، د. ط ، 1997: 45.

[85]- ينظر: أثر القصّة القرآنيّة في الشعر العربي الحديث: حسن مطلب المجالي: رسالة دكتوراه، الجامعة الأردنيّة بإشراف: د. محمد أحمد المجالي: كانون الأول،2009: 19.

[86]- نفسه: 77.

[87]- ديوان محمود سامي البارودي: ج:1، تح: علي الجارم و محمد شفيق معروف، دار المعارف، مصر ،د.ط،1971 :114 .

[88]- ديوان محمد العيد آل خليفة: الشركة الوطنية للنشر،الجزائر،ط:1،1986:445.

[89]-  ديوان الجواهري: مطبعة الغري: 1935: النجف: 143.

[90]- أثر القرآن في الشعر العربي الحديث: د. شلتاغ عبود شرّاد: دار المعرفة: دمشق: ط:1: 1987:160، 161.

[91]- ديوان محمود درويش: م 1-2: دار الحرية للطباعة والنشر: 2000: 504.

[92]- القصائد : سميح القاسم ،  دار الهدى ،كفر قرع، م ج :1،ط:1 ،1991 :216- 217.

[93]- للريح ذاكرة : ممدوح عدوان ، دار الآداب، بيروت ،ط :2، 1992 :119.

[95]- سورة يوسف: الآية: 86.

[96] - ينظر: عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص): عبد الحق بلعابد: ناشرون: منشورات الاختلاف: ط1: 2008: 112- 118.

[98]- الأعمال الشّعرية الكاملة : أديب كمال الدين ، مج:4 ، منشورات ضفاف ، بيروت ، ط: 1 ، 1439هـ ، 2018 : 54- 55.

[99]-الحضور الصوفي في مجموعة: (مواقف الألف) للشاعرأديب كمال الدين: د. فاضل عبود التميمي: جريدة العالم البغدادية 13و14/11/2012.

[100] - سورة يوسف ، الآية:  84.

[101]-  الأعمال الشّعرية الكاملة ، أديب كمال الدين ،مج: 4 ، منشورات ضفاف ،  لبنان ، ط:1 ، هـ 1439- 2018 : 30.

[102]- الأعمال الشّعرية الكاملة ، أديب كمال الدين ، مج : 3 ،منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان ،  : 25.

[103]- الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر أديب كمال الدين : عدنان حسن أحمد ، صحيفة المثقف ، ع: 4214، مارس 2018 .

[104]- الاعمال الشعرية...: مج 3: 231.

[105]- سورة يوسف : الآية : 92.

[106]- ينظر: قضايا الشعر المعاصر: نازك الملائكة : دار العلم للملاين ، بيروت ، لبنان ، ط : 6 ، 1981 ، ص 271 ...

[107] -  الأعمال الشعرية الكاملة : أديب كمال الدين ،مج : 3 : 13.

[108]- أضف نونا: قراءة في نون أديب كمال الدين: حياة الخيّاري: الدار العربية للعلوم ناشرون: ط:1،1433هـ -2012م: 122.

[109] -  ينظر: ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب:47، 48.

[110]- الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين: م:1منشورات ضفاف: ط:1،1436هـ-2015م:142.

[111]- سورة يوسف: الآية: 84.

[112]-  أضف نونا " قراءة في نون أديب كمال الدين، حياة الخيّاري : 94-95  .

[113]- الأعمال الشعرية الكاملة : أديب كمال الدين مج:6، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان، ط:1، 1441 هـ - 2020 : 284 .

[114]-سورة يوسف ، الآية: 19 .

[115]-  الأعمال الشعرية الكاملة : أديب كمال الدين ، مج:5 : 310 .

[116]- نفسه: مج:2: 291، 292.

[117] - باختين المبدأ الحواري: تودوروف: ترجمة فخري صالح: الهيئة العامة لقصور الثقافة: القاهرة 1996.

[118]- نقلا عن بصرياثا:صورة مدينة:محمد خضير:102:منشورات الأمد:ط1 بغداد 1939: 102.

[119]- ينظر: إعجاز القرآنالباقلاني: تحقيق السيد أحمد صقر دار المعارف بمصر1963: 17.

[120]-ديوان أبي نواس: قدم له وشرحه: د. علي نجيب: بيروت:2018: 28.

[121]- ديوان ابن الرومي: شرح وتحقيق عبد الأمير علي مهنا: مج:3: دار ومكتبة الهلال: ط2: ط1998: 34 .

[122]- شرح ديوان المتنبي: عبد الرحمن البرقوقي: دار الكتاب العربي بيروت: 1979: م2: الجزء 4: 389.

[123]- سورة البقرة: الآية:35.

[124]- شرح ديوان أبي تمام: دراسة وتحقيق: د. خلف رشيد نعمان: وزارة الاعلام: العراق ط1: ج1: 495، 496.

[125]- سورة الفجر: الآيات : 10 ،11، 12، 13.

[126]-  شرح الصولي لديوان أبي تمام: دراسة وتحقيق: ج1: 371.

[127]-  ديوان الحلاج: صنعه وأصلحه: د. كامل مصطفى الشيبي: ط1: مطبعة المعارف: بغداد: 1974: 57.

[128]- سورة طه: الآيتان: 9 ، 10 .

[129]- شرح ديوان المتنبي: ج2: 232.

[130]- سورة الأعراف: الأية:143.

[131]- ديوان بشار بن برد: قدم له وشرحه: د. صلاح الدين الهواري: دار ومكتبة الهلال بيروت: 1997: ج3:101.

[132]- سورة النمل: الآيات: 20 -28.

[133]- ديوان البحتري:دار صعب بيروت: ج1: 20.

[134]-ديوان ابن المعتز:  :397 .

[135]-سورة الأنبياء، الآية: 79.

[136]-ينظر:وصف القصور في الشعر العباسي: ثروة أحمد وهدان،رسالة ماجيستير،كلية الدراسات ،جامعة النجاح الوطنية،نابلس،2003،ص:155 ومحمد رافع غالب القاضي: استحضار شخصيات ما قبل الإسلام في الشعر العباسي حتى نهاية القرن 4هجري،جامعة البيت،2013، 2014،ص:40.

[137]- سورة الأنبياء :الآيتان : 83 – 84 .

[138]-ديوان مسلم بن الوليد الأنصاري: تح : سامي الدهان ، دار المعارف ،القاهرة ،  ط: 3 : 1989: 226.

[139]- ديوان ابن الرومي : ج: 1: 322 .

[140]-نفسه: 697 .

[141]- سورة يونس : الآيتان : 90 – 91 .

[142]- ديوان البحتري: ج1: 100.                                                                

[143]- سورة الزخرف ، الآية : 51 .

[144]- ديوان البحتري، ج1: 20.

[145]- سورة النمل: الآية : 44 .

[146]- ينظر: أضف نونا قراءة في نون أديب كمال الدين: حياة الخياري: الدار العربيّة للعلوم ناشرون: بيروت: ط1: 2012: 39.

[147]- ينظر: استدعاء الشخصيّات التراثيّة في الشعر العربي المعاصر: علي عشري زايد: دار الفكر العربي: 1997: 75.

[148]- ينظر: نفسه: 78.

[149]-  الأعور الدجال والغرباء: شاذل طاقة : دار مكتبة الحياة: 1961: 41.

[150]- ينظر: أثر القرآن في الشعر العربي: شلتاغ عبود شراد:175.

[151]- ديوان بدر شاكر السياب: م1: دار العودة : بيروت: 1971:384، 385.

[152]-سورة المائدة: الآية: 24.

[153]- ديوان عزالدين المناصرة: دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع: 164.

[154]- ديوان سميح القاسم: دار العودة بيروت : 319.

[155]-سورة النمل: الآية: 7.

[156]-ديوان نزار قباني: بيروت :1969: 11.

[157]-  ديوان بدر شاكر السياب: م 1: 248.

[158]- ديوان محمود درويش : 70 .

[159]- الأعمال الشعريّة :المجلد الرابع: عبد الرزاق عبد الواحد: دار الشؤون الثقافيّة : بغداد: ط2 :2002:188.

[160]- ينظر: الأعمال الشّعريّة الكاملة: أديب كمال الدين : م:4: 42، 52، 54، 56، 58.

[161]- ينظر: نفسه: م6: 224.

[162]- ينظر: هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل: شعيب حليفي: المجلس الأعلى للثقافة: 2004 :21.

[163]- ينظر: موت المؤلّف وتصدّعات النص: دراسات نقديّة وثقافيّة في الشعر والسرد: د. سمير الخليل: منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق: 2020:32.

[164]-الأعمال الشّعرية الكاملة: أديب كمال الدين: مج:4 ، منشورات ضفاف : 4: 223.

[165]- ينظر: الحضور القرآني والصوفي في:(مواقف الألف) للشاعرأديب كمال الدين: فاضل عبود التميمي :جريدة العالم البغدادية 13و14/11/2012.

[166]- ينظر: دراسات في النص والتناصية: رولان بارت: مركز الانماء الحضاري: سورية: 1998: 38.

[168]- سورة طه: الاية:18.

[170]- سورة: القصص: الآية: 10.

[172]- سورة: الشعراء: الآية: 63.

[173]- الاعمال الشعرية الكاملة: 3: 24.

[174]- سورة: الأنبياء الآية :69.

[175]-الاعمال الشعرية الكاملة: 1:84.

[176]- نفسه: 1: 79.

[177]- سورة: مريم : الآية:4.

[179]- نفسه: 6: 156.

[180]-قراءات أسلوبيّة في الشعر الحديث: محمد عبد المطلب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م: 162.

[181]-الاعمال الشعرية الكاملة: 1: 254.

[182]- سورة النمل: 20.

[183]- الاعمال الشعرية الكاملة:4: 42 .

[184]-  ينظر: أضف نونا قراءة في نون أديب كمال الدين : حياة الخياري:50.

[185]-الاعمال الشعرية الكاملة : 2: 306.

[186]- سورة الصافات: 142- 144.:

[187]- الاعمال الشعرية الكاملة: 5: 303.

[188]- سورة الكهف: الآية: 18.

[189]- الاعمال الشعرية الكاملة: 4: 56.

[190]-  سورة الكهف: الآية : 79.

[191]- نفسها: الآية: 82.

[192]- ينظر: معجم السرديّات : محمد القاضي ومجموعة من المؤلفين : دار محمد علي الحامي : تونس: ط1: 2010: 112.

[193]- تمثيلات الآخر في أدب ما قبل الإسلام: فاطمة المزروعي : هيأة أبو ظبي للثقافة 2007 : 45 .

[194]- ينظر: السرد: جين ميشيل آدم: ترجمة: أحمد الوردني: دار الكتاب الجديدة المتحدة: ط1: 2005: 23.

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home