جمالية الرمز في مجموعة (الحرف والغراب)

 

 

 

 

سمير عبد الرحيم أغا

 

 

 


 

 

    (الرمز طريقة في الأداء الأدبي تعتمد الإيماء بالأفكار والمشاعر وإثارتها بدلا من تقريرها) (1)  وإن ممارسة الترميز سر الشعر العربي وسحريته مفجرا عبره ينابيع الخيال ، وإن  الرمز  هو  تقانة تعبيرية ذات دلالة واسعة محركة لمعاني القصيدة وتعكس قدرة خيال الشاعر على الابتكار والتوظيف،  فالشاعر عندما يوظف الرمز في شعره لا بد أن يعتمد على  المخيلة الشعرية القادرة على ربط ذلك الرمز الموظف مع المضمون الذي أراد أن يحمل النص وعلى هذا الأساس فالرمز ليس تجريدا أو شيئا ذهنيا بل بينه وبين الموضوع المعين علاقة تداخل وامتزاج.

      لقد أوجد الشاعر المعاصر في التعبير الرمزي ما يحقق له الطابع الدرامي في عمله الشعري ، وإن الفن بما فيه كتابة النص الدرامي يقوم على اعتماد لغة رمزية  تلك اللغة التي يلجأ اليها الشاعر المعاصر عندما يشعر أن الواقع اتخذ شكلا استثنائيا لا يحتمل التعبير عنه على وفق المنطقة التقليدية وعلاقته الرتيبة التي لا تتفق ومشاعر الفنان المكثفة الحادة فعندئذ يكون الرمز ضرورة لابد منها .

       نحن نعلم أن الحروف والنقاط امتياز معروف  لتجربة أديب كمال الدين وتفرده وواسطته للارتقاء بتجربته المميزة والغور في ملكوته المقدس ولعل ما يميز تجربته على الرغم من حروفيتها هو اهتمامها بالمعنى وتناولها لقيم الحياة الإنسانية ونفاذها إلى جوهر الوجود .

       استخدم الشاعر أديب كمال الدين الرمز في شعره منذ أكثر من أربعين عاما ووظف كلماته وحروفه أكثر ما وظف  إلى مجموعة الرموز الأخرى  تمثلت في شخصيات متعددة تنوعت وتعددت، فكانت هناك شخصيات مثّلت رموزا من التراث والأدب والفن والتاريخ وغيرها . وقد لجأ شعراء العصر الحديث إلى استدعاء الشخصيات التراثية لتوظيفها في عملية صنع الشعر وشكلت ظاهرة مهمة اسهمت في تطوير بيئة النص الشعري للاقتراب من الطابع الدرامي ،  وإن الشخصيات المستمدة من التراث  تحمل أبعادا ومرجعيات نفسية ذلك أن الشاعر (إنما يغذي عواطفه وعقله على مآثر الماضي(  . ونظر الشاعر المعاصر إلى هذه الشخصيات من خلال فهم مناسب لها، ليس فقط  كأسماء وصور بل كجوهر وروح ومواقف بحيث أدرك فيها أبعادها المعنوية .

    استمد الشاعر أديب كمال الدين العديد من الشخصيات التراثية العربية والأجنبية وتنوعت بين شخصيات دينية وأخرى تأريخية وشعبية وفنية ووظفها توظيفا رمزيا خدمة للمنحى الدرامي .ومنها توظيف شخصيات مجموعته ) الحرف والغراب (الصادرة عن الدار العربية  للعلوم. بدأها في قصيدة: ( الغراب والحمامة)  فقد وظف رمزا دينيا إيجابيا هو شخصية  النبي نوح  عليه السلام، إذ عزز بها موقفه الشعري وفسر بها خواص هذه الشخصية التاريخية الدينية ...يقول في القصيدة:

 

1 .

حينَ طارَ الغرابُ ولم يرجعْ

صرخَ الناسُ وسط سفينةِ نوح مرعوبين.

وحدي - وقد كنتُ طفلاً صغيراً-

رأيتُ جناحَ الغراب،

أعني رأيتُ سوادَ الجناح،

فرميتُ الغرابَ بحجر.

هل أصبتُه؟

لا أدري.

هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟

لا أدري.

لماذا كنتُ وحدي الذي رأى

سوادَ الغراب

ولم يره الناس؟

لا أدري.

 

      الشاعر يشير إلى  شخصية النبي نوح (ع)  في مسيرة الطوفان التأريخية المعروفة  التي بدأت بالطوفان،  إذ أخبر الله تعإلى نوحا عليه السلام بالعلامة على بدء الطوفان ، بعد  أن يخرج الماء من التنور ، فلما حصل ذلك دخل نوح ومن معه السفينة ، وأخذت المياه تتفجر من الأرض ، ثم سارت السفينة فوق الماء ، بعد أن دمر الطوفان كل شيء، الطوفان الذي  غيّر حياة البشرية.

      في كل صور القصيدة  وحركتها يكون الشاعر : الطفل هو الذي يرى ويتذكر ويحلم ويقدم لنا تفاصيل ما حدث. ويظهر لنا في القصيدة مستويان من الرمز:  المستوى الأول للرمز الحقيقي أي الظاهر (الطفل:  الشاهد)،  والمستوى الثاني هو المستوى الباطني التجريدي وهو (الطوفان).

    وإذا كان الشاعر قد استخدم الحمامة رمزا للحياة والسلام ، رمزا باحثا عن الحياة والسلام، فإنه استخدم الغراب رمزا للشخصية  السلبية.  كان الغراب هو الموت وطارد الحياة . إذ أن الغراب في مخيلة الناس  هو السواد والشؤم والحداد . ومن صراعهما قدّم الشاعر رؤيته للحياة فهو الذي عرف المحنة الكبرى واكتوى بدمها ورمادها . الشاعر الطفل يسأل : (لماذا كنتُ وحدي الذي رأى  سواد الغراب؟).

 كما وظف الشاعر أديب كمال الدين عددا من الشخصيات التاريخية في قصائد الديوان، فأضاف بذلك على النصوص موضوعية أكثر وأخرجها من دائرة المشاعر والأفكار الذاتية ،  والشاعر عندما يوظف الشخصية في شعره إنما يوظف التوافق بينها وبين واقعه المعاصر الذي يريد التعبير عنه من خلال تلك الشخصية . ويتضح ذلك في قصيدة ( شهرزاد ( الشخصية التأريخية في كتاب  ألف ليلة وليلة . إذ يخاطب شهرزاد :

 

ستحكين الحكاياتِ - ما أجملها! -

إلى شهريار المُحدّقِ في شفتيّكِ مدهوشاً.

ستدّعين أنَّ حروباً عظيمةً نشبتْ،

وسفناً محمّلةً بالذهب

غرقتْ في أعالي البحار،

وملوكاً صُلِبوا ثُمَّ قاموا من الصلب،

وشطّاراً حكموا أزقّةَ بغداد،

وعشّاقاً جنّوا من العشقِ والحبّ،

ونساءً مارسنَ السحرَ والجنس

في النهرِ وقت المساء ووقت الشموع.

ستدّعين أنّكِ كنتِ مع السندباد

في كلِّ مركب.

وكانتْ مفتّحةً لكِ ولبناتِ جنسكِ الأبواب،

مفتّحةً لكِ ولهنّ

ولرغابتهنّ ومكائدهنّ وألاعيبهنّ.

سيذهلُ شهريار الملكُ بحكاياتِكِ الهائلة

وهو الذي يتأمّلُ كلّ ليلة

في شفتيّكِ ثُمّ في عنقِك

ليرى كيفَ يكونُ موضع السيفِ فيه!

سيذهلُ وأنتِ تقودينه مثل أعمى

إلى خارجِ مملكةِ الوهم

ثُمّ إلى داخلِ مملكةِ الوهم.

 

undefined

         تمثل القصيدة نوعا من العصيان لواقع العصر والمجتمع ورغبة في التحرر ومحاولة من الشاعر لعملية إنقاذ شاملة ، مثلما تمثل حكاية المرأة التأريخية التي أذهلت الملك شهريار  بحاكاياتها المثيرة والتي بفضلها أنقذت حياتها، وأنقذت حياة النساء أيضا، حكايات عن شطّار بغداد وحكايات الحروب في أعالي البحار ، حكايات السندباد الملأى بالتشويق،  بعد أن كان الملك شهريار ينام في كل ليلة على قتل امرأة قبل أن يلتقي بشهرزاد. لقد وظف الشاعر أديب كمال الدين المرأة  مبينا كيفية التعامل مع الرجل وخاصة  الملك شهريار  عندما حولته إلى طفل ينام كل مساء على حكاياتها المسلّية وهي محاولة لسحب  صفات تلك الشخصية على طواغيت العصر المستبدين . شهرزاد رمز المرأة الذكية التي روّضت شهريار الملك الذي سيذهل بحكاياتها وينام على تفاصيلها العجيبة ناسيا مأساته . وجد أديب كمال الدين هذا التعبير الرمزي دلالة أعمق وأشد من ذلك التعبير المباشر .

وتُعد قصيدة (لوركا (نموذجا للطريقة الأخرى التي انتهجها الشاعر موظفا شخصية  (فرانكو ( الملك الإسباني الذي قتل الشاعر لوركا:

 

سيقتلكَ فرانكو

أو أتباعُ فرانكو

أو رصاص فرانكو.

وستموت

بل ستشبعُ موتاً

أنتَ الذي لم تشبعْ من الحياة

مثلما الحياة

لم تشبعْ منك.

2 .

سيبكي عليكَ القَتَلة

وأشباهُ القَتَلة

وأعداءُ القَتَلة.

سيبكي عليكَ، إذنْ، إخوتُك:

إخوةُ يوسف

مثلما سيبكي الشيخُ الكبير

والمرأةُ التي جُنّتْ بحبّك

والنساءُ اللواتي قطّعنَ أيدهنّ.

حتّى الذئب سيبكي عليك!

     يحاول الشاعر أديب كمال الدين تحليل شخصية فرانكو من خلال شخصية الشاعر لوركا . إن فرانكو كان من أعداء الثقافة والمثقفين عندما قتل أتباعه المبدع الكبير لوركا . في القصيدة نرى شخصية سلبية (فرانكو) وشخصية إيجابية (لوركا) ومستوى الرمز بين الاثنين يوجه حركة القتل والمطاردة.

   استحضر الشاعر كذلك  في ديوان ( الحرف والغراب ( العديد من الشخصيات الفنية البغدادية ذات التأثير الفني  في حياته وحياة الناس أو الجمهور ووظفها توظيفا رمزيا بعد أن أضاف اليها التعديلات والتحويرات التي  تتناسب وطبيعة الوظيفة الفنية .

      كان لشخصية الفنان الكبير (ناظم الغزالي ( حضور كبير في قصيدة : مطرب بغدادي الذي بسط الشاعر حكايته للقارىء ببساطة هذا الفنان المحبوب الرائع ، بملابسه وخدوده وعشاقه استلهاما من أغنيته الشهيرة ( يَم العيون السود ماجوزن أنه وخدّچ الگيمر أنه تريگ مِنه( ، هذا المطرب الذي طرب الجميع لأغنايته كلها (عيرتني بالشيب وهو وقار،  فوك النخل ، ميحانة ميحانة ، قل للمليحة ، صباح الخير ، طالعة من بيت أبوها ، ...).  يقول في القصيدة:

 

1.

بجسدٍ سمين

وبوجهٍ سمين

وبعينين باسمتين،

سيذهبُ هذا الغزاليّ

جيئةً وذهاباً

أمامَ كاميرا التلفزيون

وهو يغنّي بصوتٍ رقيق:

(يَم العيون السود ما جوزن أنه

وخدّچ الگيمر أنه تريگ مِنه).

2 .

وإذ لم تأبه العاشقةُ البغداديّة

لأغنيته القيمريّة

ولا لملابسه الجديدة

ولا لخدوده السمينة

فسيغنّي لها:

(واگفة بالباب تصرخ يا لطيف

لاني مجنونة ولا عقلي خفيف.

من ورة التنور تناوشني الرغيف

يا رغيف الحلوة يكفيني سنة).

وإذ لم تأبهْ له ثانيةً

فسيغّني لها ثالثةً عن النخل

ورابعةً عن العيدِ وهديّةِ العيد

وسابعةً عن الصبا

وعاشرةً مِن مقامِ الصبا.

حتّى إذ تقدّمَ به العمر

فسيصرخُ من لوعةِ العشقِ والهوى:

(عيّرتْني بالشيبِ وهو وقارُ).

لكنّه هذه المرّة

سيمسُّ وتراً

وسيطلقُ طيراً

يسمعُ تصفيقه الشرقُ والغرب.

بيدَ أنّ العاشقةَ البغداديّة

كانتْ - كعادتها-  تتبغددُ من النافذة.

والمطربُ السمين

بوجهه السمين

وبعينيه الباسمتين

صارَ على موعدٍ مع الموت

حتّى إذا تعثّرَ به في صباحٍ غريب،

بكى عليه الدفُّ والكمانُ والناي.

وخرجتْ بغداد كلّها

تودّعهُ إلى الأبد.

فيما اختفت العاشقةُ البغداديّة

من النافذة

وهي تجرُّ خيبتَها

إلى الأبد.

 

     ضمّن الشاعر مقاطع من أغنيات الغزالي الشهيرة وقدّم حكايته البغدادية المحبوبة طيلة مسيرة حياته  حتى نعته بغداد في ذات صباح حزين. بكت عليه القلوب ، وكذلك الدف والكمان والناي.   ودعته بغداد كلها مثلما  ودعته حبيبته إلى الأبد من النافذة .

ثمّ وظف الشاعر شخصية المطرب العربي عبد الحليم حافظ من خلال أغنيته الشهيرة ( قارئة الفنجان ( التي كتب كلماتها الشاعر نزار قباني  وكانت هي خاتمة حياته. ووصفه بأنه مطرب عبقري ذكي حارب الفقر والجوع والحرمان وروّض ألف سندريلا.  لكن مرض البلهارسيا روضه ولم يستطع أن يتغلب عليه أو يقاومه حتى  مات وسالت روحه وهو في قمة المجد :

 

1.

حينَ انكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة

ما بين أصابع العندليبِ المرتبكة،

سالتْ روحُه العاشقة

وسطَ حنين الناي وأنين الكمان.

2.

كانَ مطربُ قارئة الفنجان

عبقريّاً بما يكفي

ليركبَ درّاجةَ النجومِ الهوائيّة

ويغنّي عن القمر،

قريباً جداً من القمر،

ويفتنَ ألفَ سندريلا وسندريلا

بألفِ أغنيةٍ وأغنية.

كانَ عبقرياً، إذن، ليكونَ نجم النجوم.

3.

لكنَّ قارئ الفنجان الذكيّ

ومطرب قارئة الفنجان العبقريّ

الذي روّضَ الفقرَ والجوعَ والحرمان

وروّضَ الحظَّ المُمَزَّق

مثل ثياب المُهرّج

وروّضَ ألفَ سندريلا وسندريلا،

روّضتْه جرثومةُ البلهارسيا التي لا تَرى

ولا تُرى!

كانتْ أذكى من عبقريّته اللامعة

وأعظم حظّاً من نجوميّته الساطعة.

فانكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة

ما بين أصابعه العاشقة

حتّى سالتْ روحُه العذبة،

وهي في قمّةِ الحبِّ والشوق،

وسطَ دموع الناي وأنين الكمان.

 

وتنهض قصيدة (عفيفة اسكندر)  على توظيف شخصية المطربة البغدادية الشعبية توظيفا رمزيا فوجد فيها ما يناسب مضمون نصه الشعري من خلال أغنيتها (أريد الله يبيّن حوبتي فيهم ( وهي أغنية عراقية قديمة من التراث الغنائي أعيد غنائها من قبل المطربين والمطربات الجدد.  ماتت عفيفة وهي تشكو لوعة الفراق وقسوته ومرارته.

 

1 .

ماتتْ تلك التي شكتْ لوعةَ الفراق

وأرادتْ من الله

أنْ يبيّنَ الحوبةَ في المفارقين حبيباتهم

والغائبين.

ماتتْ وهي تغنّي

من شاشةِ تلفزيونِ بغداد

مثل لُعبةٍ كبيرةٍ جميلةٍ دون روح

تماماً دون روح مثل بغداد:

مدينة المُتخَمين والمُعدَمين والأرمن واليهود،

مدينة الملاهي والباراتِ والكنائس والمساجد،

مدينة المعتزلةِ والمتصوّفةِ والملاحدة.

2 .

لم يستجب الله- بالطبع - لأغنيتِها الجميلة،

فلم تظهر الحوبة

على المفارقين والغائبين أبدا

وبقوا كالأشباحِ سعداء أبدا.

لكنَّ المطربةَ غنّت الأغنية

لسبعين عاماً أو تزيد

شاكيةً لوعة الفراقِ المرّ

للملكِ المسكينِ وقاتله،

ثُمَّ للزعيمِ: مُنقذِ الفقراءِ وقاتله،

ثُمَّ للطاغيةِ: مشعلِ الحروبِ وقاتله.

هكذا بقيتْ تغنّي أغنيةً عذبةً

دونَ روح

حتّى فارقتْها الروح!

 

 لقد حوّل الشاعر هذه الشخصية من رمز خاص إلى رمز عام عبّر  من خلاله سيرة الفنانة الجميلة الطويلة إلى (سيرة وطن ( طيلة التسعين عاما التي عاشتها الفنانة والحكام الذين عاصرتهم ، وهي التي غنت لبغداد مدينة المُتخَمين والمُعدَمين، بغداد الجمال والتناقضات، بغداد الأرمن واليهود والكنائس والمساجد،  بغداد المتصوفة والملاحدة والشعراء والعلماء... كانت تريد أن تقول شيئا لكل محبيها وعشاقها وهي تغني : (أريد الله يبيّن حوبتي بيهم . أريد الله على الفركة يجازيهم ( حتى ماتت دون وداع من محبيها وعشاقها ومن عاصمها بغداد .

   و يوظف الشاعر أديب كمال الدين شخصية أدبية من مسيرة دربه الشعري وهو الشاعر يوسف الصائغ  بقصيدة  عنوانها  : لافتات يوسف الصائغ  :

 

1 .

حاملاً على ظهرِك

جثّةَ مالك بن الريب وآلامَه الهائلة،

واقفاً تحتَ لحية ماركس الكثّة

وشوارب ستالين الصخريّة

لتهتفَ بملء الفم

تحتَ لافتةِ النضالِ الأُمميّ

ومقارعةِ الإمبرياليّة.

حتّى إذا طارَ رفاقُ الدربِ عبر الحدود

استبدلتَ بسرعةِ البرق

لحيةَ ماركس الكثّة

بلحيةِ عفلق الحليقة

وشوارب ستالين الصخريّة

بشوارب صدّام المرعبة

لتهتفَ بملء الفمِ أيضاً

تحتَ لافتةِ الطاغية،

تحتَ لافتةِ الحربِ ضد الفرس المجوس!

2 .

أيّها الشاعرُ اليوسفيّ:

لِمَ خذلتَ نفسَك؟

لِمَ خذلتَ مالكاً معك؟

لِمَ خذلتَ سيّدةَ التفّاحاتِ الأربع؟

لِمَ أيّها اليوسفيّ؟

هل كانَ مشهدُ الذهبِ لا يُحتَمل؟

أم كانَ مشهدُ الرعبِ لا يُحتَمل؟

أم أردتَ الذي كانَ فوقَ الجَمل؟

3 .

ليس مهماً - بالطبعِ - ما قد حدث!

المهمّ أنْ تُنزِلَ الآن من ظهرِك

جثّةَ مالك

وتنام تحتَ الأرضِ مستريحاً،

 

        الرمز في هذه القصيدة ذو مستويين: المستوى الحقيقي الذي اتخذه الشاعر بمثابة القالب لعاطفته وهو  الشاعر يوسف الصائغ ، ثم المستوى الثاني التجريدي الرمزي وهو (الحياة (التي افتقدها الصائغ في ظل الحكم السابق بعد أن افتقد دربه الشعري بمقارعته الامبريالية تحت لافتة النضال الاممي . وبسبب مشهد الرعب الذي جابهه ، كما أنه يوحي بنزعة من نزعات الذات الباطنة وهي إحساس الشاعر يوسف الصائغ بأنه مطارد من قبل عدو خفي، قد يكون هو الندم على ما فعله أمام الحاكم أو هو الزمن أو المجهول الذي كان يتنظره.

 وهناك إحالة إلى  شخصية من شخصيات التراث الغربي وهي الشاعرة الأمريكية ( سيلفيا بلاث) التي انتحرت وهي في مطلع عقدها الثالث  حيث عاشت طفولة معذبة وحياة زوجية أكثر عذابا مع زوجها الشاعر الشهير تَد هيوز. إن الشاعر يسلط الضوء علي حياة هذه الشخصية كرمز للحياة المعذبة بكل معنى الكلمة.

 

1.

لم تكنْ على مائدتِكِ الليلة

كأسُ النبيذ

ولا ملعقةُ العسل،

بل كانتْ على مائدتك

كأسُ الزوجِ الخائن

والطفولةِ المُحَطَّمة،

وملعقة الأملِ: العلقم.

أي كانتْ على مائدتِك

كأسُ الحلمِ القاسي

والأبِ الأكثر قسوة،

وملعقةُ الوهمِ التي لا تجيد

سوى تذوّق نفْسها.

بعبارةٍ أكثر وضوحاً،

كانت على مائدتِك

كأسُ السمّ

والقصائد المرتبكةِ المتلعثمة،

وملعقةُ القلبِ الذي لوّحَ للحياة

طوالَ ثلاثين عاماً

بيدِ الغريق.

2 .

وداعاً!

أشربُ نخبَكِ

أيّتها الحمامة التي ضلّتْ طريقَها

إلى العشّ

فانطلقتْ باتجاهِ البحرِ العظيم.

 

     المستوى الرمزي لهذه الشخصية الشاعرة هو العذاب  الذي عانت منه طوال حياتها، العذاب الذي صهر روحها الحساسة الرقيقة. وهذا النموذج الغربي يكاد أن يكون من أصلح الرموز التي تشير إلى الإنسان المعاصر بكل ما يستشعره من ألم وقلق وخوف ومعاناة.

    ويتضمن نص (مهند الانصاري ثانية (الموت رمزا للوحشية، وقد كسا الشاعر هذا المعنى الذاتي ثوبا رمزيا هو صورة الموت الذي حطم هذا الفنان المرهف الرائع ، وهي صورة تنسجم مع ما يحسه أديب  من حب وتقدير عميقين لهذا الفنان.

 

أيّها الموت،

أيّها الوحشُ المُهذّب،

كيفَ تغيّبُ مُكلّمي وتوأمَ روحي

ومرآةَ حرفي؟

كيفَ تغيّبُ قلباً،

كلّ نبضةٍ فيه حاء،

وكلّ حاءٍ فيه باء،

وكلّ باءٍ فيه بَسْملَة الأنبياء؟

كيفَ تنثرُ رمادَك

فوقَ رأسه الذي كانَ من طمأنينةِ الذهب

أو من ذهبِ الطمأنينة؟

كيفَ تشقُّ قميصَه الذي كانَ بوّابة البحر،

حين كانَ البحرُ عيداً حقيقيّاً

لمهرجانَ الحروفِ السعيدة

والمرايا التي ترقصُ حولَ نفْسها

كدوران الطيورِ السعيدة؟

إذنْ،

كيفَ تُحطّمُ أيّها الموت،

أيّها الوحشُ المُهذّب،

بوّابةَ المستحيل؟

بل كيفَ تقولُ الذي لا يُقال،

أيّها الموت،

أيّها الوحشُ السليطُ اللسان؟

 

      هذا الموت غيّب توأم روح الشاعر ومرآة حرفه  وقلبه . لقد تغيرت معالم السعادة بما فيها من نبض وحياة وفراق ومهرجان الحروف الذي كان الشاعر أديب كمال الدين يديره في الإذاعة مطلع التسعينيات،  حيث كان الأنصاري مديرا للإذاعة والشاعر يعمل معه معدّا للعديد من البرامج الإذاعية التي حققت تجاوبا كبيرا من المستمعين من أمثال (شعراء من العراق، البرنامج المفتوح، حرف وخمس شخصيات، ثلث ساعة مع...) .

       وعن صورة الناقد العراقي  عبد الجبار عباس  كتب الشاعر قصيدة ) فتى النقد (إذ وظف شخصية أدبية معروفة في الوسط الأدبي النقدي، وهو يزاوج بين المحسوس والمعنوي والواقع وما خلف الواقع. الموت هنا أيضا، الرمز الذي يطرق باب هذه الشخصية، أحلامها وأشواقها الهائلة:

 

1 .

بعد كأسه الأولى

سيبتسمُ فتى النقدِ قليلاً

ثُمَّ يضحكُ بصوتٍ مُجلجل.

وبعد الثانية

سيغنّي أغنيةً عن حرمانِه الأزليّ

وأشواقِه الهائلة.

وبعد الثالثة

سيرقصُ مثل زوربا

أو ربّما مثل الحلّاج

أو ربّما مثل طير ذبيح.

2 .

أرادَ فتى النقد،

وهو يلبسُ قميصَ البياض،

في زمنِ القمصانِ الزرق والحمر،

أنْ يقولَ الذي لا يُقال:

أنْ يكونَ الطفل الذي

يصف ثيابَ الإمبراطور

كما وصفتْها الحقيقة،

حين زيّفَ الآخرون

أوصافَها حدّ الرثاء.

فما كانَ من الإمبراطور

إلّا أنْ أعاده إلى بابله

مُحَطّماً مثل شظايا الهباء.

أعادهُ في زمنِ الجوعِ والقهر

كي يرتدي قميصاً من العزلة

أسودَ أسود

ويموت سريعاً

كومضةِ نجم

بقلبٍ كسير

وعينين دامعتين.

 

في زمن الإمبراطور تكسّر قلب فتى النقد وعاد إلى مدينة بابل محطم الأجنحة ، اعتزل الحياة واعتزل النقد ليموت سريعا في زمن أسود حزين .

      نعود إلى شخصية عالمية من الأدب العالمي ) دستويفسكي ( الكاتب الروائي صاحب رواية) الجريمة والعقاب ( لقد الشاعر وظف شخصية دستويفسكي لإيضاح رؤيته الفكرية ونظرته إلى الموت الذي غيّب هؤلاء العمالقة الكبار وهم يكافحون ليل نهار  من أجل القضية التي يحملونها والحلم الكبير الذي يراودهم كل يوم في سبيل أسعاد الإنسانية ونقل معاناتها اليومية إلى القارئ في كل مكان من بقاع العالم:

 

بلحيته الطويلة،

بعينيه القلقتين،

بجريمته وعقابه،

بذكرياته المُرّة

مِن بيتِ موتاه وموتاي،

بأبلهه العجيبِ وبمقامره الأعجب،

بارتباكه الحيّ وجنونه الباذخ،

بلحظاتِ وقوفه مرعوباً

ينتظرُ حبلَ الموت

كي يلتفَّ على الرقبة،

بهَلْوَسَته الحكيمةِ وبحكمته المُهَلْوِسة،

قَتَلني رمياً بالرصاص

وأنا في سنِّ العشرين!

 

    كانت حياة الكاتب (فيدور ديستويفسكي (مليئة بالجنون الباذخ ومغامراته العجيبة ورواياته الأعجب من (الإخوة كرامازوف (إلى (الأبله (إلى (الجريمة والعقاب). كان رمزا لمعاناة الأدباء العمالقة في مسيرتهم الأدبية ، الحياة في هذا النص تبحث عن الخلاص و تجعل المتلقي يعيش عذاباته ويحس بمعاناته ويصل النص إلى ذروته في المقطع الأخير بدفقة شعرية قاتلة .

 هناك الكثير من الشخصيات التي وظفها  الشاعر أديب كمال الدين في عملية الصنع الشعري، وهي إحدى الطرق الخلاقة لكتابة نص مفعم بالمشاعر والأحاسيس. وقد شكلت ظاهرة مهمة تستوجب القراءة والدراسة في هذا الديوان ( الحرف والغراب ( وهناك اهتمام بالشخصيات الأدبية والفنية والتي تشكل المحور الأساس في الرابطة القوية التي تربط الشاعر بينه وبين هؤلاء، وهناك تعاطف بينه وبين هذه الشخصيات في حدود الدلالة الظاهرية المحدودة إلى مستوى آخر هو مستوى الإيحاء الباطني العميق حيث يرى الشاعر آلام رحلته المضنية وفيها يعود ليؤكد مأساوية الحياة وظلامية الحكام واستسلامية البشر . إن شخصياته ذُبحت وهي ترقص من الألم . بهذا المقياس يمكن أن ننظر إلى قصائد الشاعر أديب كمال الدين في صراع مع الشخصيات التي وظفها في وجدانه ووقف عند دلالتها الواقعية ، لأن التراث قوة كامنة تربط عمل الشاعر بأعمال أسلافه باعتبار الإنسان قيمة ثقافية ونفسية وثيقة الصلة بصور الماضي ونماذجه العليا .وقد كانت نظرته إلى هؤلاء في مجملها إغناء للرؤيا الشعرية ووصلا حيا لحاضر الشاعر بماضيه،  وإن كان للموت معنى من الناحية الاجتماعية لهذه الشخصيات فإن له بالإضافة إلى ذلك دلالة عاطفية . قد يكون الحب لهذه الشخصيات طريقا إلى الخلاص وربما إلى الهرب من الحزن المقيم في أعماق الذات.

...............................................................

. هوامش

* الحرف والغراب: شعر: أديب كمال الدين ، منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2013

•         الرمز والرمزية في الشعرالعربي المعاصر، د . محمد فتوح أحمد ، دار المعارف ، القاهرة  1978 ص 3

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home