حدود الأسى وأفق الفرح الإنساني


 في "إشارات الألف" لأديب كمال الدين


 

د. محمد المسعودي - المغرب

 

 

 

 

 

 

 

 

إن اشتغال المتخيل الصوفي في ديوان "إشارات الألف" للشاعر العراقي المتميز أديب كمال الدين يتخذ من حالات الإنسان وأحواله الروحية والوجدانية منطلقا لتشكيل عوالمه الشعرية. وفي دائرة هذا الاشتغال يندرج تصوير الشعور بالأسى، والاحتفاء بالفرح الإنساني. فما حدود هذا الأسى الشعري/ الإنساني في نصوص الديوان؟ وما طرق اشتغال المتخيل على هذه التيمة؟ وما أفق الفرح الإنساني من خلال الرؤيا الشعرية في الديوان؟ وكيف يجليها متخيل القصائد؟

ننطلق في مقاربة هذين البعدين المشكلين لقصائد الديوان من عينات وقع اختيارنا عليها بعد طول تأمل في الكتاب وتدبر لنصوصه. وهكذا وقع الاختيار على النصوص الآتية التي سنتناولها بالتدرج:

1 - يقول الشاعر في نص "إشارة الغريق:

 

"إلهي،

كلّهم اختاروا العبور

فوقَ الجسر

فعبروهُ فرحين مسرورين

إلّاي.

إذ اختارَ قلبي الطيرانَ فوقَ الجسر.

ولأنّي لا أملكُ جناحين للطيران

فقد سقطتُ

وتلقّفني الماء،

وصارَ عليَّ أنْ أمرّ

من تحتِ الجسر

غريقاً كلّ يوم،

غريقاً

يلفظُ أنفاسه الأخيرة كلّ يوم."  ص 26

 

يصور هذا النص، في منطوقه الشعري، حالة الذات الشاعرة التي اختارت طريقا آخر للوصول إلى الذات الإلهية وعشقها، إنه طريق الفناء: الغرق كل يوم، ولفظ الأنفاس الأخيرة كل يوم. وهو طريق الحالم المحلق بالوجد والخيال، الطائر بأجنحة لا يملك بها سوى مزيد من العناء والضنى. بهذه الشاكلة يجسد الشاعر شعور الأسى الذي يتلبسه، وهو يعاني من أجل الوصول والقربى. ولذلك كانت المفارقة الشعرية ميسم بناء هذا النص ومن علاماته المميزة: الآخرون في عبورهم فرحين مسرورين على الجسر في مقابل الذات الشاعرة الحالمة بعبور من نوع آخر، لكنها تسقط في الماء ويصبح الألم اليومي ديدنها، والموت المستمر وسيلتها للقربى. إنها مفارقة الفناء والبقاء، والحزن والفرح، والسعادة والشقاء التي تسكن نسغ الكينونة الإنسانية. وعلى الرغم من أن الشاعر يوظف ضمير المتكلم المفرد إلا أن الحالة التي يصورها تشمل آخرين ساروا على درب الشاعر وارتضوا الغرق مثله.


هكذا يصنع النص عوالمه الشعرية من خلال تجاذب قطبي الأسى والفرح، وعن طريقهما تتشكل صوره الشعرية الشفيفة. وهي شعرية تقول الكثير في تعبير يسير. وهذه لمحة هامة من لمحات شعرية أديب كمال الدين .

 2 - ويقول الشاعر في نص "إشارة العذاب":

"إلهي،

تخلقُ الجسدَ مُلتاعاً بالنار

وتلقيه إلى الأرض،

تلقيه إلى أسفل سافلين

كي يذوبَ شوقاً ودموعاً ورغبة.

أين المفر؟

حدودُكَ محاطةٌ بنهرِ النار.

وعقابُكَ سيفٌ بتّار

أعرفُ وميضَه

مثلما أعرفُ أصابع كفّي.

والجسدُ يتعذّبُ ليلَ نهار!

أما مِن رحمةٍ يا مَن اسمه الرحمة؟

أما مِن غوثٍ يا مَن لا مغيث سواه؟

لا مطركَ ينزل

ولا النار تبرد

ولا الجسد يكفُّ عن الشوقِ والدمعِ والأنين!" ص.39-40


يرتقي النص الذي نقف عنده، هنا، إلى مستوى أعلى من مستويات التعبير عن الأسى الذي يسكن الروح. إنه يتخذ لبوس النجوى، وإهاب العتاب والشكوى. وهو يصور لوعة الشوق، وهملان الدمع، وتعالي الأنين في بوح شعري صارخ بالعشق والمحبة، على الرغم من أن المحبوب يأبى إلا أن يرى المحب يتضرع بالشكوى ويغرق في الألم حتى الثمالة. ويستعمل الشاعر سمة المفارقة أساسا لتشكيل متخيله الشعري في هذه القصيدة، أيضا: إنه يتحدث عن معاناة الجسد، عن احتراقه بالنار، وشعوره بلهيبها وقسوتها، غير أن الإشارة تمضي إلى الروح التي تكابد الشوق والألم، وتصاعد أنينا ولوعة. وعن طريق هذه المواراة والمداورة يتمكن الشاعر من تشخيص واقع حال الإنسان الذي يتوزع بين الجسد والروح، والأنين والانتشاء، والموت والبقاء في سيرورة وجوده. وعبر هذه الشعرية الصوفية يقول أديب كمال الدين في إشاراته الدالة معاني كثيرة، ما نقف عنده في هذا الحيز مجرد ظلال منها. وهي شعرية تميل إلى بلاغة الإيجاز، واللمحات الشعرية الدالة الخاطفة.
3 -  أما نص "إشارة الطريق"، فيعزف على نغمة أخرى:

"إلهي،

في الطريقِ إليك،

عبرتُ نهرَ الخوفِ ثلاث مرّات

ونهرَ الحبِّ سبع مرّات

ونهرَ الموتِ أربعين مرّة.

وكنتُ مضيئاً

إذ لم أعدْ أسمع رنينَ الذهب

ولا أرى جناحَ غرابِ الشهوةِ الذي تبعني،

مِن قبل، كظلِّي.

في الطريقِ إليك

كنتُ سعيداً كغيمة

لأنني احتفظتُ في قلبي بلغةِ الماء

ونقطةِ الحرف

وجمرةِ المحبّة."  ص.50

 

 

 


إذا كان الجسد يلقى العذاب والألم، والروح تشقى في سبيل الوصول، كما رأينا في النص السابق، فإن السعادة والفرح قرينا المحبة. هذه المحبة التي تجعل الذات الشاعرة تنسى كل عذاب، إنها الماء الذي يجعل الغيمة حبلى بالغيث، أو الذات الشاعرة حبلى بلغة العطاء والخير، وبجمر المحبة، وبهاء نقطة الحرف الذي ينطق عن هذه الذات وبها. بهذه الشاكلة يعزف النص على نغمة محبة الذات الإلهية ليجعلها بابا نحو الفرح الإنساني، وأسا من أسس سعادة الإنسان. وقد كانت المحبة وسيلة طهارة من غراب الشهوة، ورنين الذهب، بحيث تألقت الروح وأضاءت بنور ربها. ولم يكن هذا العبور السعيد نحو المحبة سوى نتيجة خوف وحب وفناء. هكذا يتولد الفرح من الحزن، والسعادة من الشقاء، والبقاء من الموت. وبهذه الشعرية المحلقة في تنويعات صوفية فريدة ومتنوعة يشكل أديب كمال الدين شعريته الفريدة التي تغرد على نغمات مخصوصة غير مسبوقة في الشعرية العربية، وهي شعرية، لا شك، تجد جذورها ضاربة في المتخيل الصوفي العربي الإسلامي، وفي العرفان الإنساني، كما لا يخفى على قارئ هذه التجربة، وعلى المتأمل في صورها، وفي بناء عوالمها.

4
- وبالنسبة إلى نص "إشارة الأخضر" فتتسع حالة البهجة والإحساس بها لتصير بهجة لا تتصل بفرح الوصول، وبسعادة المحبة، وإنما لتحتفي بالموجود بما أنه دال على الموجد الأول الذي تتغنى به الذات الشاعرة دائما وتجعله ديدنها وغايتها. يقول الشاعر:

"إلهي،

رأيتُ الأخضرَ في الأشجار،

في العشب،

في الحُبِّ وفي الشوق،

في ضحكاتِ الأطفال.

فلبستُ الأخضرَ ليلَ نهار." ص.131

هكذا يصبح لون الطبيعة الغالب، وهو الأخضر، سمة الشاعر ولباسه الذي يدل على بهجته وفرحه. وهي البهجة التي يشترك فيها مع عناصر أخرى، بل يستمدها من الوجود والحياة: من الأشجار، والعشب، والحب والشوق، وضحكات الأطفال. وهكذا صار الأخضر لباسه الأبدي الذي يرتديه ليل نهار. وبهذه الشاكلة يجذر الشاعر حالة الفرح لتصبح حالة كونية متصلة بالطبيعة وبالإنسان. وبهذه الشاكلة، أيضا، يرتقي الفرح من مستواه الإنساني ليكون ميسم الكون، وعلامة دالة على خالق الفرح وخالق الوجود. وهذا النص الشعري المكثف يقول هذه المعاني وظلال أخرى عبر بلاغته الإشارية الدالة. ونصوص أديب كمال الدين غنية بإشارتها التي لا تعد هذه القبسات التي نقتبسها منها مجرد إلماحات عبرت روحنا ومخيلتنا ونحن نتلقاها، وأكيد أن القراء سيلقون فيها الكثير من الدلالات التي حُجبت عنا.


وفي ختام هذه القراءة للنصوص المشتغل بها، ومن خلال الديوان نلمس أن الخطاب فيها جميعا يتجه إلى الذات الإلهية التي يخاطبها الشاعر، خطاب لوعة وأسى وعشق وشوق وظمأ وضنى، كما يخاطبها خطاب نشوة وفرح وسكينة واطمئنان وري وخلو من كل هم. وهذا التوزع بين الخطابين يكشف عن ذات تستشعر القلق وتتغيا الطمأنينة. وبهذه الكيفية لا تقف هذه الإشارات عند معناها الصوفي الذي يستبطن المعنى الخفي والدلالة المتوارية، فحسب، وإنما هي إشارات تفصح عن مكنون الذات الشاعرة، وتعبر عن رؤياها من خلال بلاغة شعرية تقصد الشفافية والوضوح، وتنبني على جمالية البوح والإفصاح. وبهذه الكيفية ينبني متخيل الديوان، ككل، على لمحات صوفية جلى، وعلى نغمات شعرية تجمع الأسى والفرح في رؤية إنسانية عميقة لها جذور في الكون والحياة.

***********************************

مواقف الألف – شعر: أديب كمال الدين – منشورات ضفاف- بيروت، لبنان 2014

 

 

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

الصفحة الرئيسية