وقت غير مناسب

 

 

قصة: ميخائيل لاكاربال- أفخازيا

ترجمة: أديب كمال الدين

 

 

 

 

يعرف الناس الذين يقطنون الجبال كم هو سريع أن يتبع الظلام الغروب، وكم مظلم هو الليل، أحياناً، في الوهاد ذات الحافات الصخرية وبخاصة في الوديان كثيفة الأشجار. ليل كهذا تماماً هبط على وادي يودهارو. كان الظلام كثيفاً جداً، لذلك فإن المرء ـ باستخدام التعبير الأفخازي ـ لا يستطيع أن يرى الإصبع يهدد بوخز عينيه.

 

ظهر غوني الياس الذي يبلغ العشرين عاماً خلسة من الغابات وانسلّ إلى مزرعة غدلاتش. تسلّق السياج واندفع بشكل خفي كالسهم عبر الفناء إلى الجدار الخلفي للكوخ الذي لا شباك فيه وأخفى نفسه ما بين الأغصان العتيقة الكثيفة المتنامية.

 

كل شيء حدث بلطف فتنهّد غوني بارتياح: ها هو أخيراً في مواجهة هدفه! إنه على مقربة من الوقت الذي سيصفّي فيه حساباته مع غدلاتش. مرّ نهاران وليلتان منذ أن قتل كابش غدلاتش أخاه: غودس. ولكن لم يتم الثأر بعد من القاتل.

 

كان ذلك وقتاً طويلاً، طويلاً جداً بالنسبة لشجاع مثل غوني. حقاً ان جثة أخيه لم تودع الأرض بعد وأن نحيب النساء وأنينهن لم يزل يصّاعد إلى السماء. كان ينبغي عليه أن يقتل غدلاتش قبل أن تنزل جثة أخيه في القبر. وإلاّ: كيف له أن يشهد الجنازة؟ تخيّل غوني بوضوح نظرات التأنيب الحادة التي سينالها من أقاربه.

 

ليس بدون سبب إن كانت هناك أغنية عن أرغون سيّد قرية آتاسي. كان أخوه قد قُتل ليلاً، وفي تلك الليلة نفسها ثأر أرغون من القاتل. لم يسمح للقاتل أن يعيش ليرى الشمس. كان سريعاً في إنزال البلاء المفاجئ. لا عجب أن كانت هناك أغنية عنه.

 

لا أحد سيغني أغنية عن غوني. ألم يطارد غدلاتش كل هذه النهارات والليالي حتى الآن؟ ولكنه لم يكن في مكان ما ليتمّ العثور عليه: لا في القرية ولا في البيت ولا في الغابات، كما لو أنه قد تلاشى في الهواء. بأية طريقة ماكرة قد اختفى. اللعنة عليه. كان مدركاً تمام الإدراك أنّ عليه أن يدفع ثمن ما فعل. مهما يكن من أمر، فإن هذه المسألة يجب أن تُحسم بأقصى سرعة ممكنة. وإذا تأخرت بأية نسبة تأخير، فإن فتيات القرية يمكن أن يؤلفن أغنية عنه ويحتقرنه إلى الأبد.

 

فجأة، انبعثت ضجة من داخل الكوخ. أصغى بقلبه القافز من البهجة، فميّز صوت غدلاتش. كان غدلاتش في الكوخ!

 

ولكن كيف يمكنه أن يُخرج غدلاتش إلى الفناء؟ إنه لا يستطيع أن يُطلق النار على غدلاتش وهو في الكوخ خوفاً من أن يجرح زوجته أو أحد أطفاله. ذلك ما سيجلب له العار أيضاً.

 

بانتباه شديد، أزاح غوني أملوداً في حائط الأماليد ووضع جبهته قريباً من الثقب وحدّق بتركيز. كان الكوخ في ما يشبه الظلام، والضوء الخافت المضطرب الذي ينبعث من موقد النار ينتزع الشكلين الأسودين لكرسي ومصطبة من الظلمة. خفتت الأضواء، إذ كان من الجلي أن العائلة قد تناولت عشاءها وأوت إلى فراشها.

 

قرر غوني أن ينتظر حتى الصباح.

 

بدا الليل لا نهاية له.

 

لم يغلق غوني عينيه لحظة واحدة. أصغى إلى كل صوت منبعث من الظلام المحيط به. حاول أن يكمن دون حراك، ذلك أن أية حركة إهمال بسيطة يمكن أن تدلّ كلاب غدلاتش عليه.

 

ما زال الفجر بعيداً حين سمع غوني أحدهم يتحرك حركة ضئيل داخل الكوخ. في الحال فإن شعاعاً نحيلاً من الضوء بزغ خلال الظلمة. حدّق غوني من خلال الثقب. كان غدلاتش مرتدياً ملابسه الداخلية وحاملاً شمعة بيده وهو يبحث عن شيء ما. من الجلي أنه وجد بغيته فجلس على المصطبة بجانب موقد النار في وسط الكوخ وثبّت الشمعة فوق حافة المصطبة. بعد أن أراح نفسه، بدأ يقطّع أوراق التبغ. كان غوني يرى وجه عدوه بوضوح.

 

فكّر غوني: لقد وضعه القدر أمامي.

 

بسرعة أقحم ماسورة البندقية في الثقب، وحرر نابض الأمان وسدد البندقية باتجاه غدلاتش.

 

تناهى الصوت المرعوب لزوجة غدلاتش والتي استيقظت منذ لحظات: «هذا جنون! اطفئ الضوء. أسرع».

 

قال غدلاتش: «نامي. لا تخافي. ليس هناك من شيء لتقلقي بشأنه».

 

فكّر غوني وأصغى بمتعة إلى المحادثة داخل الكوخ: «ليس هناك من فرق إن قتلته الآن أو بعد دقيقة».

 

لكنّ زوجة غدلاتش ألحّت: «بسرعة اطفئ الشمعة. لقد جعلت الشمعة أمامك تضيء. إن كان غوني يتجوّل في مكان ما قريب، فإن ذلك سيكون الوقت المناسب له». اعترض غدلاتش: «أنت مخطئة. الوقت غير مناسب على الإطلاق».

 

«لماذا؟» كان هناك ارتباك في صوت زوجته.

 

«هل تعتقدين أنني لا أعرف أن غوني يطاردني في هذين النهارين والليلتين ليثأثر لمقتل أخيه؟ لكنني أعرف أن غوني شجاع وباسل أيضاً.

 

صرخت زوجته: «ها، فأنت تعرف». أكمل غدلاتش كلامه بهدوء: «انتظري لحظة واصغي لما يجب أن أقوله. أنا أعرف، كذلك، أن غوني الياس محارب نبيل. إنه لن يُطلق النار أبداً على رجل أعزل نهض للتو من فراشه ولا يرتدي سوى ثيابه الداخلية. الآن أنت تعرفين لماذا يكون هذا الوقت غير مناسب على الإطلاق لرجل مثل غوني الياس».

 

واستمر غدلاتش في تقطيع أوراق تبغه.

 

سحب غوني بندقيته من الثقب. أرجع بهدوء نابض الأمان إلى الخلف. بصق باشمئزاز وهو يغادر مكان اختبائه.

 

 

 

 

 

 

 الصفحة الرئيسية