التغزّل بالقصيدة على طريقة أديب كمال الدين

مقاربة نقدية في قصيدة (غزل على طريقة فان كوخ)

د. أحمد جار الله ياسين

 

 

 

 

 

1.

لأجلِ أنْ أشمَّ عطرَ حرفكِ المُطَلسَم

الذي يشبهُ عطرَ عشتار وبلقيس

فإنّني مستعدٌ أنْ أنبشَ بقلبي

مكتبةَ آشور بانيبال

وأرتدي درعَ  نبوخذنصّر ومعاركَه الغامضة

وأصفَ للفقراءِ والمساكين

مزايا قوانيني: أنا حمورابي العظيم.

2.

لأجلِ أنْ أشمَّ خفايا حرفِكِ اللاذعة

فإنّني مستعدٌ أنْ أضيع

كقبيلةٍ يقتلُها العطشُ في الصحراء،

كمدينةٍ يمزّقها زلزالٌ مفاجىء،

كسحرةٍ يأكلُ بعضهم بعضاً.

3.

لأجلِ أنْ أشمَّ خفايا حرفكِ البضّة

فإنّني مستعدٌ أنْ أهديكِ أذني

كما فعلَ فان كوخ

وأنْ أبكيكِ العمر كلّه

مُحاطاً بالنسورِ والصقورِ والثعالب

كما فعلَ غويا

وأنْ أتركَ الحوت يبتلعني

كما فعلَ ذو النون

وأنْ أضيّعَ قائدَ جُنْدي إلى الأبد

كما فعلَ داود.

4.

لأجلِ أنْ أمسكَ جمرةَ حرفِكِ

التي تملأُ الكفّ

فإنّني مستعدٌ أنْ ألقي بنفْسي

في النهرِ

كأيّ مراهقٍ يحبُّ لأوّل مرّة

ويجنُّ لآخر مرّة .

( غزل على طريقة فان كوخ / أديب كمال الدين)

 

  إن اختيار الشاعر أديب كمال الدين طريقة فان كوخ الجنونية في التغزّل عنواناً لنصّه (غزل على طريقة فان كوخ) المنشور في مجموعته (حاء) الصادرة ببيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 98- على الرغم من تعدد نماذج التغزّل فيه المنسوبة لأكثر من شخصية- يشير إلى أنها كلها في النهاية أساليب غير تقليدية وخارج حدود المنطق. ولعلّ ضمّها تحت عنوان يشير إلى طريقة  فان كوخ يعني أن هذه الطريقة هي الأكثر جنوناً وخرقاً للمألوف، لأنّ من المعروف في السيرة الذاتية والنفسية المضطربة لهذا الفنان التشكيلي الهولندي أنه أهدى ذات مرّة أذنه بعد قطعها إلى امرأة  تعرّف عليها في إحدى الحانات، وهي التي مزحتْ معه وطلبتْ منه أذنه الجميلة عربوناً ليثبت إعجابه بها. فذهب إلى منزله وقطع أذنه، وجاء بها في علبة كبريت كبيرة وقدّمها هدية لتلك المرأة التي أصيبت بالإغماء نتيجة الصدمة عندما رأت الأذن المقطوعة وصاحبها الذي غطّى رأسه بالضمادات البيض المبقعة بالدم، بمعنى أن فان كوخ كان فناناً حتى في سلوكه الحياتي. وبتعبير آخر كان سلوكه شعرياً – من مفهوم الشعرية – لأنه خرج عن الأسلوب المألوف في التغزّل وعدل به إلى أسلوب آخر غير عادي وبذلك دخل منطقة الشعرية التي تخرق المنطق مثلما تخرق لغة الشعر منطق اللغة النثرية العادية ...

  من هنا جاء اختيار العنوان السابق، لأن الشاعر وجد أكثر من عامل مشترك بينه وبين فان كوخ في التغزّل ، فكلاهما فنان مبدع يبحث عن الشعرية في الفن والحياة ، وكلاهما يريد خرق المألوف في التغزل، وكلاهما لا يستبعد اقترابه من عالم الجنون في لحظات التجلّي الفني، وإن كان الشاعر يختلف قليلاً هنا عن فان كوخ لأن الاخير اقترب حقيقةً من الجنون، واتهم به في الواقع، في حين أن الشاعر كان يمارس جنونه بالصور واللغة والرؤيا بوعي يتحكّم سراً بمسار الخروقات الشعرية الفنية في النص ...

1.

لأجلِ أنْ أشمَّ عطرَ حرفِكِ المُطَلسَم

الذي يشبهُ عطرَ عشتار وبلقيس

فإنّني مستعدٌ أنْ أنبشَ بقلبي

مكتبةَ آشور بانيبال

وأرتدي درعَ  نبوخذ نصّر ومعاركَه الغامضة

وأصفَ للفقراءِ والمساكين

مزايا قوانيني: أنا حمورابي العظيم.

   في المقطع الأول يتغزّل الشاعر بعطر الحبيبة لأنه عطر طبقي يشبه عطر نساء اشتهرن بالجمال والذكاء (بلقيس وعشتار) ومن أجل هذا الهدف فإن الشاعر مستعد للقيام بأفعال خارقة تمسّ علامات تاريخية معروفة، الفعل الأول مجهد ومتعب للذات لأنه يجرّها إلى نبش ثقافي وروحي لمكتبة آشور بانيبال، والفعل الثاني خطير يزجّ الذات في تجربة التعرض للموت في المعارك (أرتدي درعَ نبوخذ نصّر ومعاركَه الغامضة)، والفعل الثالث  يتعلق بجهد كلامي وفكري لتقريب قوانين حمورابي من الفقراء.. وفي الأفعال الثلاثة جميعاً نجد ذاتاً عاشقة للآخر تبذل جهداً جبّاراً من أجل التقرّب من الحبيبة أو بالأحرى من حافات الحبيبة لأن التقرّب هنا يقتصر على التغزّل بشم عطرها فقط .

2.

لأجلِ أنْ أشمَّ خفايا حرفِكِ اللاذعة

فإنّني مستعدٌ أنْ أضيع

كقبيلةٍ يقتلها العطشُ في الصحراء،

كمدينةٍ يمزّقُها زلزالٌ مفاجىء،

كسحرةٍ يأكلُ بعضهم بعضاً.

إنّ حاسة الشم تتقد في فضاء التغزّل ويتصاعد الاحساس بها في حضور المحبوب .. لذلك تحضر ثانية في المقطع الجديد ، لكن هذه المرّة يمتزج الجانب الشمّي بالجانب القولي (خفايا حرفك اللاذعة) في لحظة استقبال الشاعر لحضور المحبوبة، ومن أجل هذه اللحظة اللذيذة يستمرّ الشاعر مُنتشياً بإطلاق وعوده الخارقة لإثبات حبّه وتغزّله وتودّده للمحبوبة. فهو يتجلّى عبر التشبيه متقمّصاً مصير قبيلة بأكملها تعاني العطش والضياع في الصحراء أو يتماهى مع فضاء واسع مثل المدينة التي يمزّقها زلزال مفاجئ أو ينخرط مع سحرة يأكل بعضهم بعضاً .. وفي الصور الثلاثة السابقة أو كما سميناها بالوعود المقدمة برهاناً على تغزّله وولعه بالمحبوبة ، يبدو الموت نهاية للذات ، وفي ذلك برهان جنوني غزلي  أيضا على طريقة فان كوخ في إثبات الحب للآخر ..

3.

لأجلِ أنْ أشمَّ خفايا حرفِكِ البضّة

فإنّني مستعدٌ أنْ أهديكِ أذني

كما فعلَ فان كوخ

وأنْ أبكيكِ العمر كلّه

مُحاطاً بالنسورِ والصقورِ والثعالب

كما فعلَ غويا

وأنْ أتركَ الحوت يبتلعني

كما فعل ذو النون

وأنْ أضيّعَ قائدَ جُنْدي إلى الأبد

كما فعل داود.

أما المقطع الثالث فإنه يدعم ما سبقه لأنه استمرار لوعود جنونية وخارقة من أجل التغزل بالآخر، وهنا يظهر فان كوخ صراحة عبر تبنّي الشاعر لأسلوبه في التغزل (قطع الأذن) وحضوره هنا ضروري لتفسير العنوان والتلميح إلى سبب تبنّي تلك الطريقة في التغزل واختيارها عنواناً شاملاً للنص.. ويدعم الشاعر حضور مثل هذه المرجعيات التشكيلية الإنسانية بالإشارة إلى الرسام الإسباني الثائر غويا الذي كان مِن المبكّرين في خرق الرسم الكلاسيكي، وكأنه بذلك الخرق ينضم لقائمة الرموز الإنسانية التي استعان بها الشاعر في دعم موقفه الخارق  من المحبوبة، لأنه في نهاية المقطع يوظّف مرجعيات دينية معروفة في تشكيل صور وعوده الخارقة من أجل التقرّب من الآخر .

 4.

لأجلِ أنْ أمسكَ جمرةَ حرفِكِ

التي تملأُ الكفّ

فإنّني مستعدٌ أنْ ألقي بنفْسي

في النهر

كأيّ مراهقٍ يحبُّ لأوّل مرّة

ويجنُّ لآخر مرّة.

ولأن الاستعانة بالنماذج الانسانية المعروفة تاريخياً أو فنياً أو دينياً قد تبدو مرهقة  لروح التغزل لديه أو غير كافية للتعبير عن تغزله أو تحمل شيئا من التعقيد بسبب الثقل الدلالي لتلك الرموز ، فإن الشاعر في النهاية يعود إلى اختيار صور أكثر بساطة للتعبير عن حبه (إنّني مستعدٌ أنْ ألقي بنفْسي/ في النهر)، وهي صورة حاضرة في ذاكرة العشق وتاريخ المحبين ، وليست مستبعدة من أول الاختيارات في قائمة الحلول التي يفكّر بها أي عاشق بدأ الخطوة الأولى نحو الجنون في عشقه لاسيّما بعد أن تخلّى الشاعر عن تقمّص مثل تلك الشخصيات ( المثال ) أو ( المثل العليا ) السامية ويلجأ إلى تقمّص أبسط النماذج الانسانية وأعني بها شخصية المراهق الذي يتورّط بالحبّ لأوّل مرّة ... وينتهي به الحب إلى الجنون...

وعلى الرغم من تعدد أساليب التغزل بالآخر الا أن ذلك لا يعني أن الشاعر اختتم الحلول كلها أو جرّبها جميعا لأن ثمة أساليب أخرى لم تزل قائمة فالحب أو التغزل مطلق لا حدود له لاسيما بعد أن يعبر به العاشق حافة المنطق ليدخل فضاء الجنون .. وليس ضرورة أن يكون ذلك التغزّل كلّه موجّهاً نحو أنثى من البشر ، بل ربما كان كلّه موجّهاً نحو أنثى من الكلمات اسمها القصيدة لأن أكثر أعضاء هذه الأنثى حضوراً في مصيدة التغزّل هو (الحرف) (جمرة حرفكِ /خفايا حرفكِ البضّة /عطر حرفكِ المُطلسَم) .. وهذا التأويل الأخير هو ما نميل إليه ..لأن الأنثى/ القصيدة ..  أكثر استفزازاً لتغزل الشاعر من الأنثى/ الانسان ، لاسيّما لدى شاعر يمثل الحرف وبعده الرمزي  جانباً مهماً من رؤيته للعالم والحياة والفن .

***********************

د. أحمد جار الله ياسين: ناقد وأكاديمي

*****************************************

نُشرت في جريدة العالم البغدادية في 3 حزيران - يونيو  2015

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home