ما بين (نون) و(النقطة) لأديب كمال الدين:

كتابة النص الشعري المختلف

 

 

د. مصطفى الكيلاني

 

 

 

اللغة ووعي الموت حدان يلتقيان، يداخلان في شعر أديب كمال الدين ، إذ يفكك الشاعرُ اللغةََ بالقصد كي يصل بها الى تخوم العدم، كي يخترق صوتية الحرف محاولاً بذلك استعادة بهجة الكلمة ووهج الصوت المعبّر عن التواصل الحميم بين ظل الفكرة وظواهر الأشياء. ولأنّ الحياة تراكم صور، بها يثبت التكرار فالموت هو السكين القادر على اختراق كثافة الوجود لإحداث الانقطاع وتفكيك المتصل. إذ ترغب الذات في مغامرة الخروج عن السبل المسطورة بالاندفاع الى أقاصي تجربة الحياة والكتابة معا، وتؤثر مقاربة نقيض الحياة على الانحباس داخل دوامة الزمن المستعاد و أحكام القبيلة:

 (أريد كأساً من الموت لا يحتجّ عليه أحد

 ولا يمنعه عليَّ أحد

ولا يرى أحد جدوى من تحريمه

على قلبي الطيب حدّ الموت) (1)

فيلوذ الشاعر بأصل اللغة المنفتح على البدء الأول وبنقيض العقل، أي الجنون تبعاً للتسمية الشائعة، وباللامعنى، بأعتباره الفراغ أو السلب المنشىء للمعنى، أيّ معنى، وبالتحرّر من مسبق إيقاع التفعيلة سعياً الى مقاربة (الشعري) لا الشعر في تكرار نمو القصيدة ، وبالعشق الواصل بين لذة الكتابة وعذاب الوجود، وبالسؤال المتردد بين بداية الحياة وحالاتها القصوى عند الاصطدام بسلطة العدم:

 (ماجدوى أن أحبك

إذا ما اقترنتِ بالموت ؟)  (2)

 إنّ رجوع أديب كمال الدين الى أصل اللغة محاولة جريئة لا تخلو من أخطار لاستقراء جينالوجيا المعنى في تاريخه الأول الكامن في راهن الكلمة وسعي الى إنشاء مستقبل لماضٍ أنتج قيمة لكائن استطاع أن يحوّل الأشياء الى رموز دالّة بذاتها في حضور التكلّم وفي الغياب، وفرار من رعب اللحظة حيث فراغ الامتلاء الكاذب وفوضى النظام المستبد وتخبّط الفرد في الفراغ :

( أسقطُ في الفراغ

وأصعدُ

أصعدُ

أصعدُ

فلا أجد إلاّ الفراغ يُقبّل نفسه) (3)

وإذا الراهن سجن رهيب ، لفقدان قيمة البدء . ولا منقذ من السقوط الكامل سوىالرجوع الى(الأصل المنفتح) بدلالة (مستقبل الماضي) استناداً الى ثالوث ممكن للمعنى ، هو الشعر والحب والموت . فقد يتحقق بالشعر إمكان الحوار مع الذات كي ينجو الفرد الشاعر من الطلقة الأخيرة:

(أيها الشعر 

تعال

اركض

أنقذني

من الطلقة الأخيرة القادمة باتجاه رأسي

......

الميّت !) (4)

وقد يتحقق بالحبّ انفتاح الذات على الآخر ونجاة أيضاً من واحدية الصوت والمعنى:

(من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّكِ

لأنّي أحبّكِ

كما يحبّ الربيعُ أولَ نحلةٍ تقول له :

صباح الخير أيها الرجل المشمس) (5)

 ويستطيع الكائن بوعي الموت تحويل وجهة العادة من الوجود السائد الى إمكان الوجود المختلف:

(الموت لذيذ

لأنّ المعنى كامن فيه.) (6)

وإذا ثالوث الشعر والحبّ والموت يتناظم ليصف كارثة استبداد(الأصل) الساكن المنغلق بالأصل المنفتح و (العشيرة) (بالفرد) ويميط اللثام عن خيانة اللغة للكائن، كما تتواصل دوالّه لنشدان قيمة ما، لعلها محصّل الصفات الضمنية الكامنة في دلالات لغة الشعر و هوية الحبّ وتخوم الحياة القصيّة المفضية الى الموت. وقد يتأكد الموت معنى مرجعياً لكل المعادلة الحادثة أو الممكنة بعد أن ثبت انهيار كل القيود الموروثة والناشئة. إذ تتكثف دوالّه وتتعدد دلالاته في ديوان (النقطة) سعياً الى بيان (اللاجدوى) و (اللامعنى) و (اللامستقر) (7) فيمتلك السوادُ والخواءُ والبترُ والانقطاعُ واجهة المشهد الموصوف، ولكن الإشارة ماثلة في الأثناء الى مُنتظر قد لا يتحقق، ذلك القادر الوحيد، افتراضاً، على إنهاء الفاجعة واستعادة الأمل:

(الصباح قطعة كفن

فتعالي يا نقطة الطفولة

قبّلي خرابي كلّ سنة مرّة

وضعي على رأسي الذي شيبّته الحروب

حرفَ أمل و غصن حياة) (8)

كذا يبدو ديوان (نون) تفكيكاً بَدئياً لصوت الكلمة بالانزياح عن المركز الواحد الى تعدّد النبرات، واختراقاً عنيفاً صادماً لعالم اللغة الداخلي، وتدشيناً لطور جديد في كتابة النص الشعري المختلف الذي تواصل لاحقا بديـوان (النقطة) (9) وقد لا ينقطع.

  ********************************

(1) أديب كمال الدين (نون) ، بغداد  : مطبعة الجاحظ ، 1993  ص 28

(2) السابق ، ص 32

(3) نفسه ، ص 40

(4) نفسه ، ص 42

(5) السابق ، ص 55

(6) السابق ، ص58

(7) انظر (محاولة في الانتظار) ص 44 - ( النقطة )

(8) السابق ، ص76

(9) ( النقطة ) ، بيروت – عمان -  المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، الطبعة الثانية ،  2001

وسبق أن نشرت ببغداد عام 1999  .

 

************************************* 

  نُشرت في صحيفة الدستور الأردنية 28- حزيران 2002

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 37 - 40

 

الصفحة الرئيسية