في انتظار غودو:

الدراما التي نُسِفتْ والشعر الذي أُطلِقَ حيّاً

أديب كمال الدين

 

 

 

 

 

   تبدو مسألة الانتظار في مسرحية الكاتب الإيرلندي الشهير صموئيل بيكيت (في انتظار غودو) هي كلّ محتوى مسرح العبث. هي دون أدنى شكّ موضوعته الأساس، بل روحه بعبارة أدق. ومردّ كل هذا، ان الانتظار بحد ذاته عبث حقيقي خالص لا تشوبه شائبة، خاصة عندما يكون الشيء المنتظر لا وجود له أصلاً أو لا معنى له، بل لا هيئة له.

  فمن هو غودو هذا؟

  أهو المنقذ، أم الشافي أم من يجعل الحلم حقيقة؟ من هو؟ أهو الأمل، الفرح، السعادة؟ أهو الموت، الفراغ، اللاجدوى؟ من هو هذا القادم الذي يقضي أبطال بيكيت حياتهم في انتظاره دون جدوى، وسط يأس كامل، وطبيعة جرداء: أهو الطفل الذي جاء لهم بعدة أخبار متناقضة، مرّة يقول إنه سيجيء، ومرّة يقول إنه لن يجيء اليوم؟ أهو (بوزو) القوي المستعبد لـ (لاكي) المستعبد الراضي باستعباده؟

 من هو غودو: أهو الزمن الذي يحطم البشرية شيئاً فشيئاً، ويقودها، وهي ساهمة لاهية، لتشرب من كأس الموت؟ أم هو العبث: حيث لا شيء يحدث ولا أحد يجيء ـ كما تقول المسرحية ـ وحيث باطل الأباطيل باطل؟ ولماذا لا يجيء أبداً؟

  إن لغزية هذا القادم الذي لا يجيء أبداً وسرّيته وغرائبيته وابهامه المطلق قد ألقى بظلال عميقة على مسرح صموئيل بيكيت (1906 ـ 1989). فهو، أي غودو، قد نسف تقاليد الدراما المتعارف عليها، مثلما نسف تقاليد الحوار وتطور الحبكة المسرحية وصولاً إلى الذروة. هنا الحوار مقطوع، مبهم، مرتبك، لا يوصل رسالة ما، أي رسالة كانت. والمتحاورون لا يقولون شيئاً مفيداً. ربما لأنّ فاجعتهم، أعني حياتهم (التي هي حياتنا دون أدنى شك) أكبر من أن توصف، وأكبر من أن يُعثر لها على حلٍ ناجع. هكذا نراهم يتحدثون فقط، لتمضية الوقت انهم يتحدثون عن أيّ شيء كان ليقتلوا الصمت. فالصمت مرعب وسط طبيعة جرداء، والانتظار أكثر رعباً.

 

 

  يقول مارتن اسلين في كتابه (دراما اللا معقول ـ ترجمة صدقي عبدالله حطاب): عندما ظهرت مسرحيات بيكيت ويونسكو وجنيه وأداموف على المسرح لأول مرّة حيرت معظم النقاد والمشاهدين وأثارت سخطهم. ولا عجب في ذلك إذ ان هذه المسرحيات تهزأ بجميع المعايير التي ظلت تقاس بها المسرحية قروناً كثيرة. ومن هنا لابد أنها تظهر كأنها تتحدى الناس الذي يؤمون المسرح وهم ينتظرون أن يجدوا أمامهم عملاً يدركون أنه مسرحية محكمة الصنع. ويتوقع في المسرحية محكمة الصنع أن تقدم شخصيات دوافعها مقنعة وتصويرها صادق. أما هذه المسرحيات فهي تجيء، في الغالب، خالية من كائنات بشرية يمكن التعرف عليها، تقدم على أفعال خالية من الدوافع تماماً. وينتظر أن يجيء الاقناع في المسرحية محكمة الصنع عن طريق حوار ذكي ومنطقي البناء. ولكننا نجد في بعض هذه المسرحيات حواراً يبدو وكأنه ينحدر إلى مستوى الثرثرة التي لا معنى لها. ويتوقع أن يكون للمسرحية محكمة الصنع بداية ووسط ونهاية حبكت ببراعة. أما هذه المسرحيات فانها تبدأ، في الغالب، عند نقطة متعسفة، وتبدو وكأنها تنتهي بشكل اعتباطي أو تعسفي. فإذا قسنا هذه المسرحيات بجميع المقاييس التقليدية في التذوق الأدبي للمسرحية نجدها ليست رديئة بطريقة مقيتة حسب، وانما لا تستحق اسم الدراما. إذن، إذا لم تكن المعايير النقدية في المسرحية التقليدية لا تنطبق على هذه المسرحيات، فلابد أن هذا يرجع إلى اختلاف في الغاية، وإلى استخدام وسائل فنية مغايرة، وباختصار لأن هذه المسرحيات كانت تبتدع وتطبق تقليداً مسرحياً مغايراً. فكما انه لا معنى لشجب لوحة تجريدية لأنها تفتقر إلى المنظور أو مادة موضوع يمكن التعرف عليها، فكذلك لا معنى لرفض مسرحية: «في انتظار غودو» لأنها تفتقر إلى عقدة يعتد بها. إن فناناً كموندريان، عندما يرسم صورة من مربعات وخطوط، لا يريد أن يصوّر شيئاً في الطبيعة، ولا يريد أن يبتدع منظوراً. ومثل هذا يقال عن بيكيت عندما كتب مسرحية «في انتظار غودو» فهو لم يرم إلى حكاية قصة، ولم يرد أن يعود المشاهدون إلى بيوتهم قانعين بأنهم عرفوا حل المشكلة التي طرحتها المسرحية، ومن ثم فلا داعي لتأنيبه على عدم قيامه بشيء لم يسع إليه أبداً.

 إذن، فإن اللغزية المطلقة لغودو الذي لا يجيء أبداً أدت إلى نسف تقاليد الدراما التقليدية، ونسف مبدأ حدود الشخصية وملامحها ونموها، ونسف الحوار ورسالته، ونسف مبدأ تطور الحبكة الدرامية.

ولابد لكل ما نسف أن (يوضع) مكانه شيء جديد يعوض ما ضاع أو فقد أو اختفى. هكذا استخدم الشعر هنا بقوة. فالكثير من مقاطع (في انتظار غودو) يمكن اقتطاعها، لتتحول ببساطة شديدة إلى قصيدة حديثة. إنها المقاطع التي نرى الحوار فيها يتجاذبه بطلا المسرحية: فلاديمير واستراجون. وكذلك المقاطع التي يتقاطع فيها فلاديمير واسترجون في حوارهما، حيث لا رسالة تتداول بينهما، لا معنى ولا اشارة. إنه حديث فقط لتزجية الوقت وقتل ما يتولد من هذا الوقت من مخاطر لا تُحصى.

 

صموئيل بيكيت

وأحياناً يتطور شكل القصيدة الحديثة في هذه المسرحية، لتظهر لنا، أي القصيدة، بهيئة دمدمة بشرية خارقة أو هذيان آدمي رهيب ذلك الذي يطلقه بطل المسرحية (لاكي). إنه هذيان يفصح عن خواء البشرية المطلق ووصولها إلى درجات أقل من الصفر بكثير. إن ما قاله (لاكي) هنا، يمكن اقتطاعه، ونشره كقصيدة منفردة فيها الكثير من ميزات الشعر وملامحه. فيها التوتر والانطلاق العنيف نحو قول الحقيقة بطريقة جمالية مذهلة، وفيها بالطبع الانزياح الشعري الكبير.

  يقول مارتن اسلين: بينما تهتم معظم المسرحيات التقليدية في الدرجة الأولى بحكاية قصة أو توضيح مشكلة فكرية، ومن ثم يمكن اعتبارها صورة قصصية أو استطرادية من الاداء، نجد أن مسرحيات «دراما العبث» قد قصد بها في الدرجة الأولى أن تنقل صورة شعرية أو نمطاً معقداً من الصور الشعرية، وهي فوق هذا كله شكل شعري. إن الفكر القصصي أو الاستطرادي يسير بنهج جدلي ومن ثم يجب أن يفضي إلى نتيجة أو رسالة ختامية، ومن هنا كان ديناميكياً ويسير طبقاً لخط محدد من التطور. أما الشعر فيهتم، قبل كل شيء، بنقل فكرته الاساسية أو بالجو أو بكيفية الوجود.

ورغم كل هذا النسف لتقاليد الدراما المتوارثة، فإنّ مسرحية (في انتظار غودو) تبقى تحمل في داخلها الكثير من الترقب والتوتر. يحدث هذا رغم سكونية الاحداث، وإبهام الحوار، وارتباك الفعل المسرحي برمته، وهو المتأتي من ارتباك العالم، واللغة، والعقل، والمنطق، ومفهوم المنقذ في عقل صموئيل بيكيت الذي يعتبر من أهم كتاب المسرح المعاصرين وأعمقهم انجازاً وبخاصة في هذه المسرحية التي تعتبر أفضل أعماله وأشهرها على الإطلاق.

 إنّ الموقف في المسرحية يظل ثابتاً، حسب مارتن اسلين، وما الحركة التي نراها إلا تفتيح للصورة الشعرية. وكلما ازدادت الصورة غموضاً وتركيباً ازدادت عملية كشفها تعقيداً وجاذبية. ولهذا فإنّ مسرحية كمسرحية «في انتظار غودو» تستطيع أن تولد ترقباً وتوتراً درامياً بالرغم من أنها مسرحية لا يحدث فيها ـ بالمعنى الحرفي للحدث ـ شيء. بل هي مسرحية وضعت لتظن أنه لا يمكن ان يحدث شيء أبداً في الحياة الإنسانية. ولا نستطيع أن ندرك النمط العام للصورة الشعرية المعقدة الذي نواجه به إلا عندما تقال السطور الأخيرة وتهبط الستارة. فإذا كنا في المسرحية التقليدية نجد أن العمل يتحرك من نقطة (أ) إلى نقطة (ب) ونظل نسأل على الدوام: «ما الذي سيحدث بعد هذا»، فإننا هنا نصادف عملاً يتألف من التفتيح التدريجي لنمط معقد ونتساءل معه: «ما هذا الذي نراه! ماذا ستكون عليه الصورة الكاملة عندما ندرك طبيعة التكوين أو النمط».

هكذا، إذن، بدت مسرحية (في انتظار غودو) مسرحية اللاقول، ويراد منها أن تقول شيئاً، ومسرحية اللافعل، ويراد منها ـ ومن المسرح عموماً ـ أن يفعل شيئاً لينير لنا ظلمات الحياة وخواءها واضطرابها وقلقها. إنها مسرحية اللامنطق في عالم يتظاهر بالمنطق وفي داخله فوضى مرعبة. إنها مسرحية اللامسرح التي أصبحت المسرحية الأشهر في العالم!

 

 

              

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

الصفحة الرئيسية