فلسفة " المعنى" بين النظم والتنظير

دراسة في مجموعة " أخبار المعنى" لأديب كمال الدين

 

واثق الدايني

 

القسم الثالث

 

 

 

- ينقلب ( المعنى ) الى فاعل قوي مهيمن أداته ( اللامعنى ) ليجلس الشاعر في ( تاء الموت ) قليلا فيقول :

( ح ) (( حاصرني المعنى باللامعنى

      أجلسني في تاءِ الموتِ قليلا .... )) ( خيانة المعنى ص 58 )

- هنا يظهر ( المعنى ) سطوةً وقوةً وأداته عاتية وقاتلة . إذ هي ( اللامعنى ) بينما في المثال ( و ) كان الرأس يبحث عن معنى ( مفعول به ) منفذاً ! فهل في ذلك مفارقة أو تناقض مما ذكره ( وليام امبسون ) في نوع الغموض رقم ( 7 ) ( راجع 4- 3 – 1 ) في الواقع ليس ثمة ( تشويش أو تناقض ، لأنّ الشاعر كمال الدين جعل من المعنى  في طول الديوان وعرضه  كلمة متعددة  المعاني على نحو شامل وعلى نحو محدود معا ، أي ان كلمة ( معنى ) واحدة تحمل أكثر من معنى في الوقت نفسه اما ( تورية ) بلاغية أو احتمالات تأويلية وكذلك مجموع كلمات ( معنى ) في المنظومات كلها إذ لابد ان يعطي معاني متعددة . وقد يؤيد التحليل ذلك تماماً كما فعل حتى الآن . فقد يتضمن البيتان هنا معنى أساسياً ومعنى ثانوياً الاّ انّ ( نسبية ) الأساسي الى الثانوي متغيّرة ! وما ذلك الاّ بسبب كلمة ( الموت ) في الشطر الثاني  ، فالقارىء ( المقاتل ) في السياسة والحرب تؤثر فيه كلمة ( حاصرني ) وهي كلمة ذات طبيعة ( عسكرية ) وبفعل الايحاء الذاتي لها تجعل من الموقف عسكرياً أو قتاليا . ومن الطبيعي أن يكون الموت أحد احتمالاته ! أما ( تاء ) الموت هذا فتخضع للتأويل الرمزي الموضح في ( 4- 3 – 3 الجدول ) . ولما كان التعبير( أجلسني ) يحدد حيزاً فإنه ( تابوت )على الأرجح ليذيق شاعرنا هول العذاب النفسي قبل الخاتمة ! وبإنتقالة ( انقلابية ) تخضع للمعنى الثانوي ، فلقد يصير الحب والكراهية سببا وأداة هنا ويصبح ( التاء ) ( تحتا ) أي : تحت الموت ، وهو قريب من التابوت في المضمون الاّ انه من غير تابوت ! ولو قرأ هذه الأبيات ( عاشق رومانسي ) لبدأ بالحب والبغض معنى أساسيا ثم يجعل من الحرب والقتال معنى ثانويا ومافي ذلك خطأ ! ورغم أننا انتقلنا عبر الاستقراء الذي يبدو سليما في ترابطه الى مبدأ سايكولوجية المعنى أو الدلالة إذ (( يكثر الجدل حول سايكولوجية المعنى بسبب اتساع مجال استعمال الكلمة ولها عنصران هما النية والمغزى ، تختلف حولهما نظريات المعنى عن بعضها البعض . لكنّ المشاكل المتعلقة بعلم النفس تدور في معظمها " حول المغزى دون النية " وفي هذه الحالة يدور الجدل الرئيسي بين من يعدون المعنى مسألة ادراكية في الأصل وبين من يعدونه مسألة انفعالية أولا )).

- سواءً أكان التعبير " حول المغزى دون النية " مقصوداً أم كان ( من دون النية ) وهو المرجح حسب السياق ، فإنّ محاولة بلومفيلد تدخل في هذا النوع من علم النفس السلوكي ، إذ لا سبيل للتوصل الى الإستجابات ( الصحيحة ) من غير ( معرفة ) المغزى فضلاً عن النية لأنّ الألفاظ قد ( تتراصف ) في الحديث أو الكتابة لتعكس المعنى غير المقصود أصلاً بسبب

 ( فقر ) الخبرة في التعامل القواعدي – النحوي الصحيح .

- في تركيبة ( إضاءة المعنى ) الشعرية نقرأ هذا النظم المركّب الجميل للبحث في ( فارق المعنى ):

( ط ) * ((  سأضيء المعنى ... ))

** (( أضيء المعنى كافاً في هيئةِ  ساحرة... ))

أضيء المعنى فجرا ًمن فتنة ِ ميسمكِ الغامض في شفتي

وسط رمالٍ عارية

سأضيء المعنى أحشاء غامضة التكوين و وهما ً يتجلّى  .

 سأضيء المعنى قصةََ سـيدةٍ تنمو وسط صحار ٍو سيوف ٍ و فرات))

*** (( سأضيء المعنى نونا ًلا تفنى

 فيكون المعنى أن أنتظر المعنى ))        ( إضاءة المعنى ) ص 67

- من الممكن معالجة أيّ من الاقتباسات (* ) أو ( ** ) أو (*** ) على نحو منفصل ، بعضها عن البعض الآخر الاّ انّ معالجتها مجتمعة يوفر لنا غاية جديدة تماماً هي الكشف عن صيغ مايسمى فارق المعنى أو مانسميه بالتمايز بين الجمل المتناظرة والكشف عن الكلمة التي تسبب الفرق بين كل معنيين .

- انّ الكشف عن سبب الاختلاف هنا يقود الى ( تفحّص ) موضع كلمة ( المعنى ) التركيبي و البلاغي ، ففي جملة ( سأضيء المعنى ) وحدها حصر لمعنى ( المعنى ) على نحو مفتوح مطلق ولكن في جملة ( أضيء المعنى كافا ) وجملة ( أضيء المعنى فجرا..) تجعل من المعنى مشبها بوصفه ( كافا ) و ( فجرا ) و( أحشاءً ) و( قصة سيدة ) وأخيرا ( نونا ) مع الصفات الملحقة بكلّ موصوف من ( المعنى ) المشبه به . هنا علينا البحث في ( رمزية ) الحروف الملحقة بكلمات  (المعنى ) فضلا عن كلمات ( المعنى ) نفسها . وعندما ( ندخل ) البيت الأخير : ( فيكون المعنى أن أنتظر المعنى ) عدنا الى ( المطلق المفتوح ) في ( المعنى ) ( الثانية ) . أما الأولى فمن خيارات الكلام الواضح التقليدي : ( فيكون المعنى ) بخلاف ( أن أنتظر المعنى ) القريب من انتظار( غودو ) في المسرحية الشهيرة !

 لنقرأ النص مختصراً الى مايسميه جومسكي الجملة النواة أو الأساس ثم نرى :

( ي ) (( سأضي المعنى ....

      فيكون المعنى أن أنتظر المعنى ))

هنا اخترنا الشطر الأول (عنوانا في أصل النص ) مع الشطر الأخير ( خاتمة الموضوع ) ومركزاً لمعناه فظهر لنا ( نص جديد ) هو في الحقيقة مكمن ( المعنى) المستهدف، وإذا حذفنا ( جوازا ) جملة ( فيكون المعنى أن .....) مع إضافة حرف واحد فاننا نقرأ :

( ك ) ( سأضيء المعنى ... وأنتظر المعنى )

     أو ( سأضيء المعنى ...لأنتظر المعنى )

فإنّ ( فارق المعنى ) يبدو شديد الوضوح نسبة الى النص الأصل ، أي ان ( المعنى ) المضُاء ليس ( المعنى ) المنتظر ، فما هما اذن ؟ في هذا الاختزال توافق مع بعض منطلقات جومسكي في ( النظرية التحويلية) في ( النحو ) على نحوٍ لفظي غير رمزي . هنا تبدأ مشكلة تحديد المعنى حسب سياق بحثنا هذا مع رحلة التأويل الممتعة بالعودة الى أصل النص كاملاً والإفادة من سياقاته الرمزية ( الفلسفية ) و ( الدلالية ) معا ، الاّ ان ( الأوتوقراطية ) المجددة أو لوحدها لا تستطيع ان تقدر كلّ المعاني التأويلية لكلّ كلمة ( معنى ) وردت في المقطع المقتبس ، وسواء أكان القارىء من المحيطين بنظرية جومسكي أم لا فإن ( فارق المعنى ) يجعل دلالة كل ( معنى ) مختلفة عند ( س ) من الناس و( ص ) منهم ... الخ ، بل لو حاولنا ( ترجمة ) المقطع ( ط )  الى الوضوح الدال ، مستعينين بإعطاء كل حرف رامز دلالته (الفلسفية أو الصوفية أو البلاغية ) حسب التقدير الذي يراه القارىء طبقا لسياق البيت ، وفي الوقت نفسه وبمطابقة مدلول ( المعنى ) للسياق نفسه يقترح القارىء مقابلات تعويضية ( تأويلية ) يراها مناسبة فإنّ صوراً كثيرة وصيغاً عديدة لهذا المقطع تفرض وجودها بصفتها نظما شعرية مستقل بعضها عن بعض بدرجات متفاوتة أي ان المقارنة لدرجة التناظر أو التماثل تمثل الحد الأعلى والأختلاف درجة التناقض يمثل الحد الأدنى . ولكن أيّ من الحدين يُعدّ العامل المحدد لصحة التأويل ؟

في الواقع يتعين اللجوء الى قبول جميع التأويلات الأوتوقراطية من غيرتحفظ حتى يصار الى تأويل أللوقراطي ( جمعي – موحد ) يمثل المجموع كله فيرفض التأويلات الأوتوقراطية قبله –  التأويل الآني ، إذن ، هو تأويل أوتوقراطي للباحث بوصفه قارئاً حسب تتقلب قي جنباته نوازع مشتركة أو متناقضة بإزاء الشاعر أو نظمه في الأصح ويتأثر بتجربته القبلية والبعدية معا حيال ( المعنى ) بحكم التخصص بالثقافة والمتابعة ، وبمحاذاة ( التأويل ) بأثر النص فرضاً وكما يأتي :

(( سأضيء الكمال ... ( تصوف صرف )

أضيء الكمال كينونةً في هيئة ساحرة تستحضر هيبة خيبات ( تصوف – فلسفي )

أضيء الكمال فجراً من فتنة ميسمك الغامض في شفتي وسط رمال عارية ( تصوف )

سأضيء الكينونة أحشاءً غامضة التكوين ووهما يتجلّى .... ( بلاغة كناية )

سأضيء الكينونة قصة سيدة تنمو وسط صحارٍ وسيوف وفرات ( بلاغة استعارة )

سأضيء الكمال ناموساً لايفنى ...    ( تصوف – فلسفي )

فتكون الكينونة أن أنتظر الكمال ))    ( فلسفة – صوفية )

- إذا كان ( لناقد ما ) أن يستدرك أو يتحفظ على مثل هذا التأويل ، بإطار منهج هذا البحث  ، فإنّ استدراكه وتحفظه لايسريان قط على تأويل البيت الأخير : (( فيكون المعنى أن أنتظر المعنى  ( تطابق ) فتكون الكينونة أن أنتظر الكمال ))

- أي انّ ( التطابق ) في الجملتين نبع من صميم مقومات الفلسفة الصوفية والتصوف الفلسفي  وانّ محتوى جملة التأويل : ( فتكون الكينونة أن أنتظر الكمال ) غاية في التناغم والانسجام مع توجه كل محبّ لله بصفاء النفس وزهدها وورعها ، إذ بتوحّد جسمه وروحه ونفسه يبلغ أقصى درجات الحب والوجد والعشق في الكمال ، في العبودية المطلقة لله وحده والفوقية المطلقة على سائر المخلوقات دون البشر على نحو خاص .

- أما معالجة ( سأضيء المعنى ) بتأويلها الى ( سأضيء الكمال ) من دون تأويلها ب ( سأضيء الكينونة ) فإن لنا مذهباً بلاغياً في ذلك وأيّ مذهب ! بدءاً ليس في تأويل النظم هذا الى ( سأضيء الكينونة ) خطأ ما أو انحراف عن دليل فكّ الغموض الذي نتوسل به عبر هذا البحث : ( 4 – 3 ) بكل فروعها ، الاّ انّ السمو البلاغي غائب إطلاقا عن هذا النحو وبلجوئنا الى : ( سأضيء الكمال ) جاوزنا قدرة البشر العادية في الواقع لأنّ الكمال ( مستوى غائي ) لايدركه الاّ قديس أو وليّ صالح تماماً وان جمعتنا المؤوَّلة لاتمنح البشر هذه السلطة الخارقة لذلك فإن وضعها في صدر النظم لذو مغزى بلاغي عظيم إذ هو ايجاز الحذف ، فإضاءة المعنى أصلاً وإضاءة الكمال  تأويلا تخضع لإرادة الله بتقديرها جملة محذوفة من النص بتقدير : (سأضيء الكمال ...بإذن الله ) أو ما يناظر ذلك وتلك إحدى مشاكل التصوف والمتصوفين ( المتفلسفين ) بما لايدركه العادي من الناس بل الخاصة منهم حسب ! وفي الوقت نفسه إذا انتقلنا بالتأويل الى القول : ( سأضيء المعنى ( يطابق ) سأضيء الكينونة ) فإنّ أيّ مدلول ذي مغزى لن يقع بين أصابعنا ! من هنا فإنّ فلسفة هذا المقطع تكمن في ( توجهه ) الرمزي الصوفي التام ( راجع 6 – 2 ) وبُعده اللانهائي المطلق ( راجع 6 – 3 ) وبجمع ( التوجه ) إياه الى ( البعد ) اياه نحصل على فلسفة المعنى التي نجادل فيها ومن إجلها في ( 6 – 4 )

6- من الاستقراءات الى الاستنباطات

6 – 1 الاستنباطات العامة خلاصة :

-  قدمنا في المعالجات الاستقرائية في ( 5- 2 ) عروضا تحليلية ارتبطت ( بنوع المعنى ) في الغالب الأعم مستفيدين في ذلك من النهجين القبلي والبعدي في الاستدلال المنطقي حتى صار كلّ شيء واضحاً ومعداً لنوع آخر من الدراسة إذ هو ( الاستنباط ) الاسنباط المستند الى كلّ نص شعري مهما كان طول مقطعه الشعري مع احتضانه كلمة ( المعنى ) على أي تصريف أو صيغة جاءت ضمن مادة العرض نظما ( 5 – 1 ) حتى ظهر أمامنا جليا السؤال المتوقع الذي ( يلح ) في تحديد الجواب إتماماً لعلمية البحث وموضوعيته ، إذ هو : هل يمكن استنباط ثوابت أو حقائق أو تصنيفات غير مكررة من كل ما تقدم من عروض وتحليلات ( نظرية ) و ( تطبيقية ) ؟ وسرعان ما كشف لنا سياق العمل المنجز في هذا البحث ان الجواب الأكيد : نعم ،  اما الاستنباطات ( العامة ) فيمكن جعلها خلاصة ( لنتائج البحث ) وليس خلاصة البحث نفسه ، لأنّ البحث قدّم نفسه بإيجاز ولا ضرورة لخلاصة له اما النتائج فإنها من الأهمية ما يتعين تبويبها بالنظام العلمي الموضوعي الذي تستحق ، واما ( تفاصيل ) الاستنباطات عالية الأهمية فلها عرض منفصل أو مستقل لاحقا ، لنبدأ بعرض الاستنباطات العامة كما يأتي :

( أ )  قدّم المبحوث صيغاً شعرية حديثة تعتمد على متضمنات " المعنى " أو" ظلال المعنى " غير المعروفة أو غير المعلنة أساساً ، وعلى نحو تلقائي غير خاضع لمنهجية حسابية ، ولقد يتفق ذلك مع طبع الشاعر وطبيعة الشعر الحديث على أيّ نوع كان ، مما لم يقدم عليه شاعر من قبل *

( ب ) كشف التحليل المقدم في هذا البحث وبخاصة في ( 5 – 2 ) عن النزعة الفلسفية في تناول " مشكلة " دلالة كلمة " المعنى " وذلك بإخضاعها الى "اللامسلّمات " من طريقي الغموض المتنوع والتأويل المتعدد فضلا عن الأفتراق عن المألوف المعروف .

( ج ) تكشف النزعة الفلسفية الموضحة في ( ب ) انّ للمعنى ( توجهات ) معينة أو مجموعة من الصيغ الوظيفية الدالة وفي الوقت نفسه تكشف ان للمعنى ( سعة ) محدودة أو مجموعة أبعاد دالة يمكن التعبير عنها رياضيا:

Deuced meaning Capacity. Dimensions of the meaning

( د ) يمكن التعبير عن ( ج ) أعلاه بالنماذج المصنفة حسب طبيعة الغاية أو الاستنباط المثبت بل يمكن اشتقاق العلاقة بين ( توجهات ) المعنى و ( سعة ) المعنى تحت سقف ( فلسفة ) المعنى حسابيا ونظما معا .

( ه ) إنّ طبيعة النتائج المتحققة عبر هذه الاستنباطات لم تكن لتأتي من الاعتماد على المنظور العربي فقط للمعنى ومعنى المعنى ، ولم تكن لتتحقق أيضاً بالمنظور الانكليزي فقط ، الاّ انّ اخضاع النص المبحوث للمنظورين العربي والانكليزي أي القديم والحديث ، رغم تعذر حسم مفهوم ( معنى المعنى ) حتى الآن ، سهّل إيجاد هذه النتائج الوصفية الخارجية من دون الاخلال بالأهمية النسبية العالية للنتائج المتحققة نفسها على طريق أنواع المعنى بإضافة مصطلحي : توجّه المعنى وسعة المعنى :

Meaning orientation and meaning capacity

6 – 2 توجّهات المعنى المستنبطة أو مجموع الصيغ الوظيفية الدالة لكلمة المعنى

- في الإشارة التي وردت في ( 6 – 1 – ج ) و ( 6 – 1 – د ) مايصير سبباً لإفراد هذه المادة لتكتسب درجة الوضوح المناسبة في حقل الاستنباط الذي نبحث ، إذ ان هذه التوجهات ليست ( لامسلمات ) أو ( قضايا ) فلسفية تولّى النظم المبحوث محاولة تصويرها قبل معالجة مشكلة حلها فحسب ، بل هي ( جميع ) القواعد أو المبادىء الفلسفية التي تركت آثارها في

 ( كلّ ) مقطع شعري تضمن أو احتوى كلمة ( المعنى ) حتى لو لم يكن مقصوداً به المعالجة الفلسفية أساسا ، أي انّ النظم الشعري الحديث في ديوان كمال الدين قد استطاع ان ( يوظف ) كلمة (المعنى ) ( بمنحها وظيفة ) على مسارات عدة تنتهي الى الفلسفة تماما ، حتى صار ( للمعنى ) ، بوصفه كلمة دالة ، صيغ دالة وظيفية يمكن تصنيفها وتعزيزها بالأمثلة النظمية المطابقة ، ومن البدهي أن لا تكون كلمة ( المعنى ) بمعناها التفسيري التقليدي اثباتا أو نفيا موضع احصاء أو تصنيف في هذا الصدد لأنها لاتمثل نهجاً فلسفياً بل لغويا حسب ، وخارج السلّم التصنيفي المستنبط . اما فرص ( تحليل ) أي نظم أو مقطع شعري ، على اختلاف أنواع التحليل ، مع تشخيص الصيغ الوظيفية الدالة فلسفيا فإنه يسري على النظم الشعري الخاضع لها كما حصل في جميع المناقشات السابقة تماما ، أي أنها تخضع لمعالجات التأويل وفك الغموض ( الدلالي والنحوي والحرفي الرامز ... الخ ) فضلا عن تحديد المعنى الرئيسي ( المعنى الأهم لكلمة ذات معنيين أو قريبا من ذلك ) والمعنى المزدوج ( في الكلمة أو الجملة التي تحتمل تأويلين أحدهما فقط هو المقصود من المتكلم أو الكاتب او الشاعر) تمييزاً عن التورية مما هو معروف بلاغيا وتفريقا عن ( المعنى ) المزدوج في أصل تعريف الغموض مما سبق مناقشته في ( 4 – 3 – 1 )

- يمكن اجمال التوجهات أو الصيغ الوظيفية الدالة ( للمعنى ) بما يأتي من الأدنى الى الأعلى غموضا :

( أ ) الغموض المزدوج :( والغموض = معنى مزدوج )

( كان المعنى قدّامي وورائي

يبحث عن معنى لطلاسمي العظمى ) ( ارتباك المعنى ص 57 )

- في هذا التوجه يمنح الشاعرمعنى ( للمعنى ) الأولى غيره في معنى ( المعنى ) الثانية إطلاقا ، فالتشخيص المعطى للمعنى الأول يجعله يحمل صفة العاقل ويقبل التأويل على أكثر من وجه ليس من بينها الوجه التقليدي : القصد أو التفسير ، اما المعنى الثانية فتحمل معنى القصد والتفسير حصراً الاّ أنه تفسير ما هو مجهول ومغلق : الطلاسم العظمى ، فالمجهول الذي يؤدي الى معلوم ليس كالمعلوم الذي يفضي الى مجهول ! والجمع بين الاثنين في نظم واحد لاشك توجه فلسفي لايثبت ولايستقر بإطار غموضه المزدوج ، أي الغموض رباعي المدلول !

( ب ) الغائية التقديرية

(( يبقى الجسد المدهوشُ عنيفاً لا يعرف للموتِ طريقاً أو معنى ))   ( أخبار المعنى ص 8 )

- في المألوف ان طرائق الموت وأسبابه معروفة تماما، وان تفسير الموت مباح على أكثر من صورة بيولوجية وفيزيائية وروحية ( نفسية ) واجتماعية وتاريخية ... الخ ، الاّ ان ( قلب ) هذه المعايير المطروحة من معلوم الى مجهول يفصح عن غائيّة تقديرية لقلب المسلّمة الى لامسلّمة وتحويلها الى مشكلة من جديد! إذ تربط الموت مشكلة بما يليه من حياة آخريّة وان طريق الموت أمام ( جسد مدهوش وعنيف ) حالة فيزيائية غير متاحة في الطبيعة فالمدهوش لا يصيرعنيفاً لأنه ينتهي بالتفكك والاندثار والفناء وهو الموت ، فكيف لايعرف له طريقا ؟! انه العذاب المقيم ، الكبت والحرمان والاحباط بوصفها جميعا : عنفاً داخلياً في جسد مهزوم في واقع الحياة ، من هنا فإنّ مضمون الغائيّة التقديرية في هذا التوجه ماهو الاّ تحويل المألوف الى ( لامألوف ) وتقويض المسلّمات واعادتها الى لامسلّمات فلسفيا .

( ج ) الرمزية الأدبية والفكرية

(( و دمي يهذي : كيف يصير ُالطارىء ملكاً والقاتلُ سيّدَ

لعبة ِأطفال ٍ فرحوا بشموس طفولتهم  ياسيدة ً قتلتْ  نوناً

تبحثُ عن صاد المعنى  ؟ )) ( نص المعنى ص 66 )

- يبدأ النظم بسؤال إنكاري وينتهي برمزين حرفين في ( ياسيدة ً قتلتْ  نونا ً

تبحثُ عن صاد المعنى ) اما ( النون ) فحرف رامز مستقل هنا وللقارىء أن يضيف الى معناه ما يشاء ! واما ( الصاد ) المقترن بالمعنى فلقد يدفعنا التأويل المجدول وقد يتوجب الاضافة ، الاّ اننا نريد أن نضيف هنا المعنى المرتبط بالصفة أو مايطلق عليه المعنى الوصفي : معنى يدل على صفة ولا يدل على موصوف ، أي ان تعبير ( صاد المعنى ) يصير فيه ( الصاد ) موصوفاً و( المعنى ) ( رمزاً ) : صفة دالة فيتألق التأويل من زوايا كثيرة رغم بنية التعبير القواعدية العادية . نريد القول انّ الرمز الأدبي أو الفكري قد لا يأخذ طريقاً سهلة واضحة ، انما يتضاعف الغموض في بنيته العميقة فيتحول الى نهج فلسفي وقضية يصعب حلها فعلاً ، لأنّ ( النون ) رمز أدبي – فكري على طريق الفلسفة فهي عندما تبحث عن ( صاد ) مقترن ( بالمعنى ) فإنما تزيد الغموض دخانا على دخان كلما حاولنا فكّ أسراره ! هنا نستذكر ان الرمز الأدبي أو الفكري ( السياسي أخيراً ) ليس ابتداعاً ابتدعه شاعرنا ، بيد ان مضاعفة الترميز هو من استعمالاته المبدعة بحق حتى ليمكن القول ان الرمز صار مربعا أو مكعبا !

 ( د ) التصوف فلسفة ( الرمزية الصوفية ) أو ( الصوفية الرمزية )

(( قال الأخضرُ حين تقبـّل موتي اليوميّ  ..

وحرماني الأزلي ومقتلَ شمس طفولتي الذهبيّة  ..

في باب المعنى  :

خذ ْ من كافي حائي

خذ ْ منها قافي   ..

وتأمّلْ فيها لامي ، ألفي لامي ..)) ( كاف المعنى ص 77 )

- في لغة التصوف رموز خاصة محدودة التداول صعبة المحاكاة عصية الممارسة ! الاّ انّ تقريبها للذهن ليس متعذراً في النظم على نحو خاص . أحسب ان كمال الدين اختار في نظم ديوانه هذا السبيل ، الا ان هذا الاختيار لايعني ( الوضوح ) نقيض ( الغموض ) : مزدوج المعنى! فمن الصحيح ان يكون الرمز هنا كناية بلاغية محددة ، الا ان الصحيح أكثر هو الترميز الصوفي ( بالأخضر ) و( باب ) ( المعنى ) تليهما الحروف الرامزة على ثلاثة محاور تأويلية : فلسفية وصوفية وبلاغية ( راجع 5 – 2 – ط للمقارنة ).

- يقول الشاعر في موضع آخر من القصيدة ( الأخضر ينبوعي ، أتجلّى فيه ولايتجلّى في أعضائي ) والتجلّي لايحصل الاّ مع المتصوفة الزاهدين العابدين . وبالمثل ، فإن مفردة ( الباب ) معبّرة عن كل مصير أو ابتداء في العبادة ، باب : مكان العبادة ، باب : الجنة وأبوابها ، باب : مراقد الأئمة والأولياء الصالحين مهما كانت قدسية أسرارهم غامضة أو واضحة للناس . والمعنى إذن من هؤلاء حصراً ! اما معنى ( المعنى ) في جملة ( في باب المعنى ) فيحمل مشكلة حرف الجر ( في ) ليزيد التأويل حرجاً ولانصيب لنا هنا في محاولة فكّ هذا الرمز لأنه لايدخل في منهجنا ، بل يمكن الاشارة الى آخر القصيدة إذ يقول شاعرنا :

(( فإنْ شئتَ الكاف إليك َ تكون دليلا

لتقودكَ نحو الأخضر: نحْوي  يا أعمى

نحْوي فالكاف تجلـّتْ و بدتْ  ثاقبة المعنى ))  ( ص 78 )

فإذا كان الأخضر هو الشاعر نفسه فإنّ الأخضر في أول القصيدة ( أعلاه ) ليس هو ! والا أصبح فاعل (تقبّل) مستترا ويتوجب تقديره ، وهذا مذهب صحيح أيضا الاّ انّ الغموض الدلالي يزداد بسبب الغموض النحوي في بنية ( صدر ) القصيدة و ( عجزها ) ، وهو جميل عندنا : في الوقت نفسه نرى كلمة التجلّي في تعبير ( فالكاف تجلّتْ ) ، و( الكمال ) أحد التأويلات الصوفية الكريمة لهذا الحرف حتى ليُقال عن أحد الصالحين ( عاش في عشق ومات في كمال ). وفي الواقع انّ ( صوفية ) المقطع لاجدال فيها أو مناقشة الاّ انّ ( بنيته ) تقود من غموض الى غموض وهذا هو سرّ التصوف في استعمال اللغة حتى ليخيّل لنا الزلل والخطل في هذا الاستعمال عند مَن لايعلم ما التصوف فيحصل مايحصل من قطع الأعناق !

( ه ) البلاغة فلسفة

((  وضع المعنى الرأسَ على الرمح

ومضى يحمله في الطرقات

وسط صهيل الناس . )) ( خيانة المعنى ص 58 )

- من بين عشرات الصيغ التعبيرية البلاغية التي هي سمة الديوان موضع البحث ، انسحب الاختيار على هذا المثال الجميل الذي يفتح أبواب التغيير والمساجلة في إعادة الصياغة ومحاورة السبب والنتيجة في المغزى والنية معاً ! ففي الشطر الأول من هذا المقطع : ( وضع المعنى الرأسَ على الرمح ) ، إذ ( المعنى ) فاعل و ( الرأسَ ) مفعول به وشبه الجملة ( على الرمح ) حدث تاريخي ، بل أحداث تاريخية مكرورة ، وقطع الرؤوس مكرور ، ووضعها على الرماح مكرور والدوران أو التجوال بها في الطرقات مكروران ، في الصين وفرنسا القرن السادس عشر وما دون ، والعرب قبل الإسلام وبعده ، الاّ انّ قطع الرأس ، أي رأس ، ليس بمكافىء لأيّ قطع رأس آخر غاية وسببا ً ! تلك هي المسألة في هذا النظم ، فالصيغة الفصيحة التي قدّمت ( المعنى ) فاعلاً ورأس ( الشهيد ) ( على الرمح ) مفعولين لا تحمل ( استثناءً ) في الصيغة أو ابتداعا في التعبير . إذ ثمة صيغة أكثر بلاغة ، بل تجعلها في عمق الفلسفة بحق ! فلو قلنا :

( وضع الرأسُ المعنى على الرمح )

لتبدل موضع الشهيد من معرّف بالرأس المألوف الى معرّف بالمعنى السامي المكنون ! أما الرأس فسيعود الى ( القاتل ) تصغيراً بلاغياً غير محبوب ! وحتى لو قرأنا الشطر مع تغيير التحريك هكذا : (وضع المعنى الرأسَ على الرمح ) ( من غير النظر الى ناحية الوزن مجازاً ) لحصلنا على المضمون البلاغي السابق زائداً حسنة بلاغية أخرى بتقديم المفعول به وتأخير الفاعل ، أي تقديم ماحقه التأخير . وفي تسويغ لاختيار الشاعر : نحسب انه ارتأى مضاعفة الغموض في تأويل ( المعنى ) فاعلا ،  ذلك على تعريف ( الرأس ) مفعولا ، أي أن ( التركيز ) وقع على المجرم وليس على الضحية ،تحذيرأ من تكرار مماثل ومستتر جداً ! ولما لم يفصح عن ( الرأس والمعنى ) : أين ومتى ، وذلك من طبيعة هذا النظم حتماً ، فإن الرأس هو : رؤوس ، وأن المعنى معان على مرّ العصور والأجيال ،وهكذا يذهب بنا النظم الى ( وسط صهيل الناس ) حيث كلمات ليس بينها اقتران تقليدي ( أنف مستدق وعيون حوراء ) إذ التقليدي : ( صهيل الخيل أو عويل الناس ) فإن نحن جعلنا منه سخرية فإن الحظّ لايحالفنا على نحو مناسب ، وان جعلناه في موضع ( تبادل الحواس ) أو تحت ( الحس المتزامن ) ( نسمع ألواناً ونرى أصواتاً ) أصبنا قليلاً من الصواب لا كلّه ، وفي الحالتين حيرة أمام جمال التعبير: صهيل الناس ، إذ في اعادة الصهيل الى الخيل مغزى آخر( فروسي ) إذ لم تحمل ( الخيل ) ولم يحمل الحصان يوما صفة سيئة بل العكس صحيح حقا ، وانّ تحويل ( عويل الناس ) الى ( صهيل ) تورية متقدمة عن حال الناس ازاء هذا المشهد الرهيب بتحويل الحزن المكتوم الى فرح معلن يوماً ما ، ولكن في مدلول جملة : ( ومضى يحمله في الطرقات) معنى الارهاب المفضي الى الحزن المكتوم والفرح المؤجّل والذي اختفى في السلوك الفردي وحلتّ محله أشكال أخرى من قطع الرؤوس الجمعي .

- أين تكمن الفلسفة في هذه البلاغة ؟ انها تكمن في ( الموقف من الموقف ) إياه ، إذ ليس ثمة ندب أو تحريض أو تضرّع ! انما ( قضية ) الإنسان يقطع رأس الإنسان ، الباطل يذبح الحق ، القوة تصرع الأعزل ، والسبب هو الفكر ، المبدأ ، الغاية ، من سقراط الأول حتى آخر سقراط قبل يوم الدين : هذه هي فلسفة البلاغة ، وبلاغة الفلسفة في آخر كل مطاف في نظم كمال الدين ، ولكن في تسمية مباشرة ( لجد ) الانسانية ، ونحن اذن أحفاده ! يذكر الشاعر ترميزاً :

ونبوخذنصر يرسم روحَ المعنى في قلبي  ))

ويعاشرُ أفخاذَ النسوة مجنوناً مثلي  ..

قومِي ، أثلجني موتُ أبي ، عذبني دهري الأعمى  ..

صرخات ُالجدّ المحمول على رمح المعنى ))  ( أخطاء المعنى ص 11 )

لم يرد ( المعنى ) هنا فاعلاً بل مضاف الى الرمح وفاعل في العمق ( البنية العميقة – جومسكي ) أي ان يناظر (وضع المعنى الرأسَ على الرمح ) في المعنى ويختلف عنه في القواعد وبعض المفردات ( جد = رأس ) أما (نبوخذنصر يرسم روح المعنى في قلبي ) فيمكن اختزالها الى الجملة النواة ( هو: يرسم روح المعنى : في قلبي ) إذ بزيادة ( في قلبي ) وتقليص نبوخذنصر تبقى جملة ( يرسم روح المعنى ) وتبدأ البلاغة دورها ! نبوخذ نصر كناية عن ( ؟ ) أو ( استعارة ) ( ؟ ) و ( يرسم روح المعنى ) بتحويل الروح الى ملموس ومرئي وذي أبعاد ، والاّ فإنه لوحة بيضاء خالية أو سوداء معتمة ! وعودة الروح الى ( المعنى ) المجهول يجعل الغموض مضاعفا والتأويل مثلثا أو مربعا . وتستمر( معركة ) التأويل داخل المجاز والاستعارة من غير أن نصل الى مايريد الشاعر ! بل قد نصل الى مانريد نحن ( أوتوقراطيا ) فقط !

 :  مجموع أبعاد المعنى الدّالة 3 – 6 

يمكن إدراج الأمثلة الشعرية المطابقة الآتية :

( أ ) اللامعنى الشامل ( المطلق )

Absolute non - meaning

 

(( لاجدوى  ...

هربتْ سيدة ُالجسد الطافح بالحبّ ْ

نحو البحر العاري بفحيحِ الاجسادِ ، أنينِ الرغبات 

نحو المدن الموءودة باللامعنى  ... )) ( ضحك المعنى ص 74 )

( ب ) اللامعنى المتعدد

Poly non - meaning

(( وامتدّ الجسدان بنا ، أخذانا للاّمعنى )) ( ايقاع المعنى ص 59 )

((أبكي ، أتدثر بالصمت وأغفو

وأقومُ وأدعو و أصومُ ، أناشدُ بابَ المعنى

بكلامِ اللامعنى  )) ( صراخ المعنى ص 44 )

( ج ) اللامعنى المحدود

Limited non – meaning or meaningless

(( قومِي ، لامعنى للهاث الخوف ، نياط الممنوع )) ( غين المعنى ص 29 )

 صاح فراتُ الأجداد المكتهلين بموت اللامعنى )) ( وصول المعنى ص 79 ) ))

- في اللامعنى المطلق ينفتح التأويل على مصراعيه ثم يتقيّد قليلا في اللامعنى المتعدد حتى يبدو ضيقا في اللامعنى المحدود ، وذلك هو معيار التصنيف في النظم المبحوث ، كما يسري هذا الاستدراك على ( المعنى ) المطلق والمتعدد والمحدود ايضا في الاقتباسات الآتية :

( د ) المعنى المحدود ( الغائي )

(( علينا بالرقص لأنّ المرأة شيء باطل 

والطفل كذلك ، والسيف قويّ ، والمعنى مكتنز في الرقـص

فارقصْ ! ))                 ( أنا وأبي والمعنى  ص 14)

( ه ) المعنى المتعدد

Poly - meaning

(( الجمعُ يصفّق ُسخفاً ، فأنا لم أعلن أبداً عن أسماء دمي

لم أعلن عن أسماء المعنى )) ( أسماء المعنى ص 69 )

( و ) المعنى الشامل ( المطلق )

Absolute - meaning

((زمن كالقارب  يسقط ُ من أعلى الشـلال ويمضي من يوم ٍ

حتى يوم ٍ ، من سنة ٍ حتى سنة ٍ، من قرن ٍ حتى قرن ٍ ، يتجلّى

 بوذيا ً في الأدنى ، صوفيّا ًفي الأعلى ، ملكا ً في المعنى ،

رأسا ً يُحْمَلُ  فوق الرمح الى أقصى الأقصى . )) ( زمن المعنى ص 64 )

(( تركانا نُذبح نُؤسر ، نُـقتـَلُ من فرط اللذّة

فتساءلتُ كدرويشٍ أعمى عن معنى المعنى

وتساءلت كطفل ٍ عن معنى الماء  ! ))  ( ايقاع المعنى ص 59 )

( ز ) التقابل أو التموضع المشترك

Interchange

وعلامته اللجوء الى التعبيرين : المعنى واللامعنى معا بما يجعل التأويل ( صفرا ) رغم تعدد فرصه لأن التقابل يزيل بعضه أثر بعض كما في قول شاعرنا :

(( يالطفولة أعضائي ونعومة أغنيتي حدّ دخول المعنى في اللامعنى ))

(رومانسية المعنى ص 60 )

واذ هو تقابلُ كل نقيضين في الواقع ، الاّ ان المعنى يأخذ هيئة ( الخير – الموجب ) واللامعنى يأخذ هيئة ( الشر- السالب ) وان الانتقال ( من – الى ) يخضع لصفة ( الداخل ) أولا : المعنى أو اللامعنى ، في اللامعنى أو المعنى على التوالي ! ومن الطبيعي ترجيح دخول اللامعنى في المعنى في هذا السياق ، إذ بهذا التوجّه ( الدخول ) تحوّل من السالب الى الموجب تحت أي تأويل كان .

- إنّ التقابل أو التموضع لا يتبع ( سعة المعنى ) على الوجه الأكمل انما يجمع بين ( سعة المعنى ) و ( توجه المعنى ) في مقوماته وبنيته ودلالته معا .

6 – 4 فلسفة المعنى ثنائية وقانونا

- يتضح لنا في ( 6 – 2 ) و ( 6 – 3 ) ان معالجة ( توجهات المعنى ) جاءت منفصلة عن ( سعة المعنى ) تأكيداً لأهمية كلّ منهما وتأثيرهما في الاستنتاج العام المنتظر ، ومن الواضح أيضا أن تطبيق المذهبين التحليليين معا على النص الواحد ممكن وملزم معا ! إذ لايمكن لأيّ من المذهبين ( بلورة ) تعريف ( لفلسفة المعنى ) بمعزل عن الآخر بين أمواج بحر هذا الديوان الثر .

- للتدليل على صحة هذه العلاقة وسلامة هذا الترابط يمكن معالجة أيّ نص من الاستشهادات في ( 6 – 2 ) في ضوء المعطيات ( 6 – 3 ) أو بالعكس ! فالمعنى المطلق في تعبير ( ملكاً في المعنى ) المذكور في النص ( 6- 3- و )

(( زمن كالقارب يسقط ُ من أعلى الشـلال ويمضي من يوم ٍحتى يوم ٍ ، من سنة ٍ حتى سنة ، من قرن ٍ حتى قرن ٍ ، يتجلّى بوذياً في الأدنى ،  صوفيّا ًفي الأعلى ، ملكا ً في المعنى ، رأسا ً يُحْمَلُ  فوق الرمح الى أقصى الأقصى )) ( زمن المعنى ص 64 )

لايمنع أبدا تحديد ( توجّه ) المعنى ( العام ) في اثبات نص الاستشهاد بيتاً بيتاً ، فالأول أحدث صيغة وظيفية بلاغية – فلسفية باللجوء الى الزمن وتشبيهه بالقارب فالسقوط ... الخ ، إذ كيف يتم التشبيه الثاني المستتر ( لسقوط الزمن ) بمعنى زيادة نوائبه وكوارثه أو بمعنى تواليه على شكل وحدات من الأيام والسنوات والأجيال والقرون بسقوط القارب من أعلى الشلال ؟ انها بلاغة محفّزة على التأمل والتدبّر اطلاقا ! وفي البيت الثاني ( يتجلّى بوذياً في الأدنى ) وهو يضمر معنى اجتماعياً يخص حضارة جنوب شرقي آسيا حصرا ، ( صوفياً في الأعلى )

بمعنى اجتماعي نظير للمعنى الثقافي عن الواقع الديني الأسلامي المتميز في جميع أنحاء العالم حتى اذا وصلنا الى ( ملكاً في المعنى ) انطلقت الرمزية ( الأدبية ) الى ذروتها عبر صلاحيات الملك الدستورية ( فوق الجميع ) ليقترن مع المعنى ( الشامل أو المطلق ) بقوة ثم ينحدر الى المعنى المتعدد في ( رأساً يُحمل فوق الرمح الى أقصى الأقصى ) حيث الرمزية السياسية المنبثقة من الرمزية الأدبية الفكرية نفسها .

- ويعكس الاقتباس ، بالعودة الى ( 6 – 2 – ج )نجد ان البيت : (( يبقى الجسد المدهوشُ عنيفاً لا يعرف للموتِ طريقاً أو معنى )) يؤكد ( مطلق ) المعنى من خلال النفي المزدوج ، المعرفة طريق الموت ثم معنى الموت نفسه ، فلقد اقترنت ( الغائيّة التقديرية ) ب ( اللامعنى المطلق أو الشامل ) تماماً ، فالجهل بطريق الموت ومعناه يعنى ( اللامعنى ) ازاء وجوده وكينونته بإرادة الفاعل ووعيه : الانسان .

- من هنا نستخلص ان ( فلسفة المعنى ) عبارة عن ( توجّه المعنى + سعة المعنى ) في النص الواحد بيتاً أو مقطعاً ، اما اشتقاق صيغة ( قانون ) لهذه العلاقة على وفق الاحتمالات المتاحة : ( ستة احتمالات في توجه المعنى وستة احتمالات في سعة المعنى ) فيمكن وصفها على النحو الآتي :

( أ ) فلسفة المعنى ( تطابق ) ( سعة المعنى + توجهات المعنى )

إذن : سعة المعنى = ستة احتمالات ( مجموع أبعاد المعنى الدالة )

توجهات المعنى = ستة احتمالات ( مجموع الصيغ الوظيفية الدالة )

إذن : فلسفة المعنى = ( سعة المعنى × توجّه المعنى )

إذن : فلسفة المعنى تظهر على : 6 × 6 = 36 احتمالا

( ب ) سعة المعنى   توجّه المعنى ( : لاتساوي )

إذن : فلسفة المعنى  سعة المعنى ( أو ) توجّه المعنى

توجّه المعنى ( كلّ يؤدي الى ) سعة المعنى ( ج )

إذن : فلسفة المعنى (تعطينا ) ( سعة المعنى + توجّه المعنى )

( سعة المعنى + توجّه المعنى ) ( تعطينا ) فلسفة المعنى . اذن :

- لم يقدم الديوان جميع الاحتمالات منظومة شعراً ، ولو فعل ذلك لخرج من رائدة شعر الالهام والتلقائية الى دائرة المنهج والتأليف ! فلقد قدم الأسس والمبادىء وترك التفاصيل للباحثين والمتخصصين ليستخلصوا منها منهجا جديداً ومبادىء جديدة تصلح للدراسة والمناقشة المنهجية من غير حرج  وهذا ماتحقق في هذا البحث كما تظن إن صحّ ماتظن.

 

 

" الهوامش "

 

( 1 ) أصل التعبير بالانكليزية ضمن الفصل الخامس من كتاب جون لاينز نفسه

Language and linguistics, an Introduction – Cambridge University Press – 1982 –P: 3 (5 – 1)

( 2 ) السابق : ص   136

( 3 ) انظر علم اللغة الاجتماعي – الدكتور هدسن – ترجمة د . محمود عبد الغني عياد ومراجعة د. عبد الأمير الأعسم – اصدار دار الشؤون الثقافية – بغداد- 1987  - ص 145

 ( 4 ) راجع علم الدلالة  : أف . آر . بالمر وترجمة : أ. مجيد الماشطة – اصدار الجامعة المستنصرية – بغداد 1985 – ص 5

( 5 ) انظر : علم الدلالة السلوكي لمؤلفه جون لاينز( فصلا في ( 1 ) أعلاه ) ترجمة أ. مجيد الماشطة- اصدار دار الشؤون الثقافية – 1985 – الموسوعة الصغيرة 179- ص 8

( 6 ) انظر ( 4 ) أعلاه ص 67

 ) انظر( 5 ) أعلاه ص 887 )

( 8 ) راجع البنى النحوية لمؤلفه جومسكي وترجمة د .يوئيل عزيز بمراجعة أ. مجيد الماشطة - اصدار دار الشؤون الثقافية – 1987 – ص 123

( 9 ) السابق ( ص 124- 125 ) في النحو والدلالة .

( 10 ) السابق ( ص 129 ) في النحو والدلالة .

( 11 ) راجع البحث القيّم : علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي – د . محمد حسين علي الصغير - اصدار دار الشؤون الثقافية – الموسوعة الصغيرة 335 – ص 19- 20

( 12 ) السابق ص ( 20 – 21 )

( 13 ) السابق ص ( 55 )

( 14 ) السابق ص ( 55 )

( 15 ) السابق ص ( 65 )

( 16 ) انظر بحث محاولات التجديد في الشعر العربي المعاصر – طراد الكبيسي - اصدار دار الشؤون الثقافية – الموسوعة الصغيرة 318- 1989 – ص ( 66 ) الخاتمة.

( 17 ) راجع معجم مصطلحات الأدب – مجدي وهبة – انكليزي – فرنسي – عربي – المصطلح Qasida  والمصطلح Text

( 18 ) السابق : مصطلح poem  اذ يقول ( بن ) مانصه بترجمة الباحث :( ليست القصيدة مجرد أيّ عمل أو تأليف يعدّه الشعراء بأبيات كثيرة كانت أم قليلة ، انما هو بيت واحد في بعض الأحيان  الاّ انه يجعل من نفسه قصيدة تامة ).

( 19 ) راجع : روجر سيمون في مقالته البحثية الممتازة : في التحطيم الذاتي للنقد العلمي الحديث – مجلة الثقافة الأجنبية - اصدار دار الشؤون الثقافية – بغداد ع1 – 1990 – ص 24 – هامش ( 3 ) ترجمة : كوثر الجزائري .

( 20 ) السابق : ص ( 14 )

( 21 ) انظر : إي . دي . هيرش في مقالته البحثية الممتازة : سياسة نظريات التأويل – مجلة الثقافة الاجنبية - اصدار دار الشؤون الثقافية – بغداد – ع1 – 1993- ص 9 -

ترجمة : د. مرتضى جواد باقر.

 ( 22 ) راجع ( 17 ) اعلاه المصطلح Ambiguity

( 23 ) المترجمون هم : جورج سيل ( و ) بكثال (و) ظفر الله خان و ( أم . أج شاكر – الةلايات المتحدة ) . ومن الطريف ان تأويل غموض الضمير ( he ) في ترجماتهم ( قد ) يأتي على أيّ من كلمتيّ ( الفرقان أو عبد ) لأن الفرقان كريم وعظيم مما يجعل معاملته معاملة العاقل ( الشخص الثالث ) جائزة أيضا على سبيل المدح ، وذلك ينقل الغموض النحوي الى الانكليزية عبر الترجمة !!

( 24 ) انظر ( 21 ) اعلاه ( ص 8 )

( 25 ) اعتمدنا هنا على  : معجم مصطلحات علم اللغة النظري – د. محمد علي الخولي – مكتبة لبنان – ط1 – 1982 –في تناول المصطلحات المتعلقة بأنواع المعنى .

( 26 ) راجع : موسوعة علم النفس والتحليل النفسي – انكليزي – عربي – د . محمد علي الحنفي- اصدار دار العودة – بيروت – 1978 – مادة meaning psychology

( 27 ) انظر : ( 25 ) أعلاه

( 28 ) انظر : ( 25 ) السابق

** انتهى **

*************************************************************

 

 محاضرة أُلقيت في اتحاد الأدباء والكتاب  في العراق بغداد 2 - تشرين أول -1996

ونُشرت في "الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 257 - 276

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home