سلطة التناص الديني في شعر أديب كمال الدين

 

 

وديع العبيدي

 

 

 

التناص بمختلف مستوياته وصوره انعكاس لطبيعة الصيرورة الثقافية القائمة على مبدأ [المدخلات- المخرجات]. النص كمعطى ثقافي هو ترجمة لبيئة ثقافية معينة، وعبر قراءة التناص يمكن استنتاج أو استكشاف طبيعة بيئة النص والميكانزمات الفاعلة فيها ومعطياتها التي يمثل النص الأدبي أحدها. التناص أو التناصص تعبير حديث مصطلحاً ولكنه متعارف ومألوف  من قبل ، يدل على مدى تقارب (نصين) من بعضهما، تقارباً لفظياً صورياً أو تقارباً دلالياً موضوعاتياً، والأول هو الأكثر وروداً وعناية في القراءات النقدية.

 أهمية التناص تتجاوز النص الأدبي وصاحبه بالمنظار الاجتماعي، إلى طبيعة العوامل المؤثرة في البيئة واتجاهاتها، وبالتالي أثر هذه العوامل في طرائق التفكير والسلوك والظواهر الاجتماعية والسياسية الطافية على سطح المجتمع. بحيث يمكن استنتاج طبيعة تلك العوامل واتجاهاتها في مرحلة محددة، مثل مرحلة الحرب وما بعدها هنا. بعبارة أخرى يمكن الافادة من قراءة التناص في رسم خارطة المكان والزمان. ووفق قراءة أوسع لظاهرة التناص يمكن تصنيف بيئة معينة [أو فترة زمنية معينة] وفق معيار اجتماعي ديني أو سياسي، اقتصادي زراعي أو صناعي، مستواه من الحضارة وتنافذه الثقافي مع الآخر. ان التناص داخل بيئة ثقافية محددة، ليس سوى الـ(تنافذ) مع بيئة ثقافية غير محددة أو خارجية. وهكذا يمكن الانتقال في عملية التلقي الأدبي من مجرد القراءة النقدية الفنية إلى القراءة الاجتماعية بتموضعاتها وتناصاتها المتداخلة في الاطار العام للبيئة والمرحلة.

وقد برزت ظاهرة التناص بشكل ملحوظ في الشعر الحديث للعقود المتأخرة، في أثر النكبات والكوارث والظروف غير الطبيعية التي ألمت بالعراق، وانعكست في الخطاب الثقافي، الشفاهي والتدويني لأبنائه. ان دراسة شاملة في هذا المجال بالكاد تستثني شاعراً أو كاتباً من هذه المرحلة، بيد أن ذلك يقتضي التوفر على مجمل المدونة الشعرية أو الأدبية لراهن المشهد العراقي الثقافي، المولغ في تشظيات جغرافية لا نهاية لها، ناهيك عن أن هذه الدراسة سوف تفضي بعد قليل إلى جملة تماثلات وقواسم مشتركة ومتبادلة، نتيجة عمق سكاكين الكارثة وتشابه النسيج الاجتماعي والثقافي في العراق.

تتسم الفترات العصيبة من حياة الأمم والمجتمعات والمتمثلة بالكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات أو الكوارث البشرية كالحرب أو المجاعة أو الأوبئة باهتزاز أو انهيار البنى والقواعد التحتية والأساسية للفرد والجماعة، نتيجة اضطراب عوامل الاستقرار المادي والاجتماعي، انعدام الأمن والنظام وانتشار البطالة والفساد. وينعكس الاضطراب السياسي والاقتصادي على المجتمع في صورة الأزمات الاجتماعية والقلق النفسي والكآبة وآثارها المدمرة خاصة وعامة.

 هذه العوامل، كلاً أو جزء، تلعب دوراً في دفع الأفراد للبحث عن مصادر الاستقرار الاجتماعي والذهني وتأمين حالة التوازن النفسي، حسب اتجاهات الموروث الاجتماعي والبيئي. ويعتبر الدين أحد أبرز مصادر الاستقرار الذاتي المحققة للأمان والتوازن النفسي عبر ما تجسده من قناعات ذهنية قطعية وتسليم نفسي مطلق. هذه الحالة وجدت تجسيداً لها مع استمرار حرب الثمانين وانتشار جملة إشاعات وأساطير ذات مرجعية غيبية ودينية تبرر عدم توقفها، ان مصادر النظام من جهة، وجهات دينية أخرى، كانت وراء تسريب تلك الاشاعات ونسبتها إلى (رموز تاريخية دينية) أو كتب وصحائف غامضة، من بينها (ملاحم وفتن) وغير ذلك، مما يعكس، أو يوجه طرائق التفكير والسلوك الاجتماعي. كثير من الجنود في مواضع الجبهة صاروا يصلون ويصومون، كثير من المدنيين في المدن والقرى وجدوا في طقوس الدين أماناً لم يكن يتوفر خارج نفوسهم. الكثيرون قرأوا القرآن والمصادر الدينية في تلك الفترة غير مرة، وازداد الاستشهاد بالآيات والأمثلة والأحاديث. وقد جاءت اجراءات الحصار الطويل (13 سنة) في عقب حرب طويلة (8-10 سنوات) ليزيد من عمق الكارثة ويرسخ أخطارها الاقتصادية والاجتماعية على الفرد والعائلة والمجتمع، وليزيد بالتالي، من عدد وعمر العوامل المؤدية للتعلق بالقناعات الدينية والغيبية كثوابت وحيدة إزاء مظاهر عدم الاستقرار وهيمنة الطارئ. مما انعكس بالحصيلة على الخطاب الثقافي والمدونة الأدبية.

 ان مقارنة هذه المرحلة من عمر الشعر العراقي بالرموز والأساطير الأجنبية في شعر السياب أو الرموز العربية التاريخية في الستينيات ملحقة بالرموز الصوفية واليسارية إبان السبعينيات كالحلاج والحسين وأبي ذر، يمثـّـل التناص ظاهرة أكثر تقدماً من مجرد الرمز والاسطورة والاستعارة، ذاك أن الاستعارة والاستعانة بالرمز هي مسألة خارجية، ومعطى [تنافذي] ثقافي خاضع لوعي قصدي، بينما التناص مسألة داخلية خاضعة للوعي الباطن والسيرورة الشعرية الخارجة عن القصدية والوعي. النص الابداعي، مهما تباينت تعريفاته، هو حصيلة خارجية لتفاعلات واحتراقات داخلية في مختبر الذات والمستويات غير الملموسة من بواطن الوعي. النص ليس نتاج لحظة راهنية وانما خلاصة سيرورة وصيرورة مستمرة قد تستغرق سنوات طويلة. ان بعض نصوص الحرب تولد اليوم بعد مرور عقدين، وبعض النصوص تؤرخ لطفولة بعيدة، وكلما استغرقت عملية الاحتراق الداخلي مدة أطول جاء النص أكثر نضجاً وتبلوراً. فالآنية واللحظوية لدى البعض نتيجة الانفعال السريع والتعامل المباشر المرتبط بظرف طارئ. ومن هذا المنطلق يأتي التناص (الديني) في صيغ مختلفة خارج سياق التخطيط أو النمطية. قصيدة التناص هي القصيدة المكتوبة خارج الوعي أو في الأعماق السحيقة منه. تلعب فيه الذاكراتية البعيدة والوعي الباطن وما ينطوي عليه من آلام وأحباطات ومكبوتات دور القيادة لتعويض الثالوث المحرم لحالة اليقظة.

 وهكذا، يمكن تقسيم التناص الديني - المؤشر في شعر أديب كمال الدين- إلى ثلاثة أقسام: تناص قرآني، تاريخ ديني، ميثولوجي سائد (متوارث).

 

1-  تناص قرآني

 

* كهيعص  [ مجموعة جيم]   >   كهيعص (مريم 1) 

*  لو أنزلنا هذا الفجر َالمحمومَ على جبلٍ للغيرةِ والشمس

لرأيتَ الماءَ سعيداً ..

والطيرَ يغنـّي شيئاً

عن ذاكرةِ العشب

لو أنزلنا هذا الفجرَ الأسودْ

وعلى وطن ٍ للحبّ

لرأيتَ الزهرَ الدافىءَ ينمو..

يلتفُّ على الجسدين وحيدا ً

ويمشط ُ شَعْرَ القلبْ

بأصابعَ من ندم أخضرْ

ويمشط شَعْرَ القـُبلات

بأصابعَ من بلّورْ

      لدن أزرق ْ

لو أنزلنا هذا الفجرَ المسجونَ على أرض ٍ

لا تنمو فيها الخيبةُ والصحراءْ

لرأيتَ الأقمارَ تجيءُ..

الأبوابَ البيضاءَ تقومُ عذارى

لرأيتَ الفجرَ عجيباً..

يحكي برنين الماء

عن خفق الحبِ وفاكهةِ الله.

 [ مجموعة جيم (إشارات التوحيدي)]  > (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) (الحشر 21) 

*  نقطتكِ وسعتْ ثواني أيامي.. [ مجموعة نون]  > {رحمتي وسعتْ كلّ شيء} (الأعراف: 156].

 * حتى أجد حروفي سكارى وما هي بسكارى .. [مجموعة نون]  > (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد) (الحج 2)

 * من قال لذاكرة التفاح كوني..  كانت شجراً محترقاً .. [ مجموعة جيم] < (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) (سورة الأنبياء:69)

 

ولذا هذي المرّة  *

ستكونين امرأة من حرف

أخرجكِ متى أشاء

أمام جمع الوحوش

بيضاء من غير سوء

بيضاء لذة للناظرين..

   [قصيدة غزل حروفي: مجموعة حاء] < (واضمم يدكَ الی جناحكَ تخرج بيضاء من غير سوء آية أخری ) 

طه ( طه 22 )22

(ونزع يده فإذاهي بيضاء للناظرين) ( الأعراف 108 )

  

2-  رموز وإشارات دينية

 

 *  صرخ الساحر في وجهي ارقص، قلت بأني أعمى..  [ مجموعة أخبار المعنى]  > ( قال لي اقرأ قلت ما أنا بقارئ )

* ألف تنتظر من الكاف الرحيمة أن يقول: كنْ! ..           [مجموعة نون]

* النقطة تسخر مني في ألم عظيم..                         [مجموعة نون]

* وتقول الكاف: النون لك ولو بعد حين!                    [مجموعة نون]

* أتذكر أنني قدتك إلى الهاوية

 -أيها الحرف-

قدتك إلى السعير، فجهنم، فسقر

 ثم ألقيت بك في مهاوي الجحيم..   [ قصيدة اعترافات النقطة]

 

3- ميثولوجي سائد

 

* أفرح وأعرف أن فرحي

 لا يقودني إلا إلى السعير..       [مجموعة نون]

* وعد الكاف حق ولو تحقق بعد الموت!                  [مجموعة  نون]

* كفّان قد قُطّعا في الليالي إليّ

 (فجاءا) برأسي إليّ..  [مجموعة أخبار المعنى]

* فدمعتكَ صارت نقطة ً

 تضيء بزهد الأصلع البطين ..

وتعيد – يا أسفي على يوسف- ليعقوب الأعمى

 مَن ضاع في البئر صبيا .. [ مجموعة حاء ( قصيدة دمعة مضيئة)]

* منذ أن بكى نوح ابنه

 وهو يغرق أمامه

منذ أن صرخت أم موسى

 وهي ترى ابنها يتموج وسط البحر    

ونبتَ لي معنى

 معنى وحشي أسود

كرمح (وحشي) الذي اغتال به سيد الشهداء..  [ مجموعة حاء ( قصيدة جيم شين)]

 

نستنتج من ذلك ان سلطة اللامعقول وانغلاق دوائر الواقع استحثت نزوعاً للحفر في أسئلة تتجاوز الواقع السياسي الذي يتفق كثيرون على تسفيهه واستهجانه، إلى مناقشة الأرضية التاريخية التي يشكل الراهن امتداداً لها، ووفق أسس منطقية وفلسفية متداخلة. تتيح مستويات متعددة من عمليات تفكيك وتركيب والأسس والعوامل وإعادة هيكلة واقعية تاريخية تنسجم أو تستجيب للواقع الشائك. ان المثقف يفرز نفسه في هذه النقطة عن النسيج العام. وبالتالي فهو لا يتعامل مع الرموز والاشارات والنصوص في إطار تقليدي جامد، وانما يغير في وظائفها ودلالاتها واتجاهاتها، في عملية تتجاوز محنة الفكر للحصول على معادل نفسي وتفريغ تراكمات الوعي الباطن ازاء قمع الواقع. وبالتالي، هيمنة عناصر الغيب والمطلق وما إليها على النسيج العقلي العراقي لتلك المرحلة، والتعويل على سطوة العوامل الخارجية لتفسير مقدرات الحياة جراء اختزال الانسان في صيرورة التاريخ، ومع استمرار تردي الأوضاع في البلاد وتقلبها في الكوارث  تم فرز المجتمع العراقي إلى خندقين، لعبت متوالية الانزياحات الثقافية دوراً في تراجع حركة الثقافة في الداخل لصالح القوى التقليدية وأنماط التفكير الجامدة التي وسمت مرحلة ما بعد الدكتاتورية. 

وبمقارنة نصوص الشاعر ضمن المشهد الشعري الراهن، نلحظ تراجع نسبة الرموز ذوات المرجعية التاريخية العراقية القديمة أو التاريخ العربي الوسيط أو الرموز ذات المرجعية الأجنبية كأساطير الاغريق والرومان. مما يكشف عن خاصة أخرى تضاف إلى تمايزه الحروفي وبناء تجربته المميزة.

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية