شجرة الحروف لأديب كمال الدين

 

نبتة الذات التي ترى الشـمس

 

 

شوقي مسلماني  

 

 

لا حدود جغرافيّة أو زمانيّة لدنيا الشعر، حتى يمكن القول من دون تحفّظ أنّ هناك حيِّزاً محفوظاً لكلّ قائل، من دون أن يعني ذلك أن الطبيعة شأنها نافذ على كائنات دون أخرى. وشخصيّاً لم يتسنّ لي أن أقرأ أيّاً من مجموعات الشاعر أديب كمال الدين بدءاً من مجموعة "تفاصيل" - 1976 حتى مجموعة "ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة" - 2006 وما بينهما من مجموعات تشي عناوينها بمحفّزات الأحرف العربيّة وإيحاءاتها وأشكال رسمها على الخلق الشعري مثل مجموعة "جيم" - 1989 ومجموعة "نون" - 1993 ومجموعة "حاء" 2002 وغيرها من المجموعات.

إنّما أخيراً وجدتُني فجأةً بصحبة "شجرة الحروف" وهي أحدث مجموعة للشاعر كمال الدين العراقي المولد والنشأة والهوى والألم والتيه، ويخفق قلبها بأكثر من أربعين لوناً وقصيدة تمتح من ميثولوجيا التوحيد كما وصلتْ إلى الإسلام من اليهوديّة والمسيحيّة، ومن تعابير قرآنيّة واضحة، وحوادث السيرة النبويّة، ومأساة الحسين بن علي، مثلما تمتح من تجربة خاصّة تتعلّق بالطفولة والشباب والحبّ والمرأة والأماني والآمال ضمن سرد صبور يسيل من قلب يصرّ على قول كلّ شيء ومن كلّ سبيل، فهو يفيض في لحظة بعينها كأنّما الذات تبثّ الذات في العالم المشظّى والمرعوب.

ها هو يتسلّق "شجرة الطفولة / بعينين فرحتين" تحت أنظار الأرواح السماويّة، لتنقصف هذه ويسقط هو مِنْ شجرتِه ويتسلّق "شجرة ثانية / تُدعى: شجرة الحبّ". ويطوف فيها وحيداً، وليسقط منها، ثمّ بجبريّة ليرى ذاته يتسلّق شجرة "تُدعى: شجرة الموت"، أو يصعد طريق الجلجلة

 

"هكذا أُلقيتُ في الطوفان

كان نوح يهيىء مركبه لوحاً فلوحاً

وَيُدخلُ فيهِ من كلّ زوجين اثنين

كنتُ أصرخ:

يا رجلاً صالحاً

يا رجلاً مُبحراً إلى الله

خذني معك."

 

 

 إلاّ أن نوح الذي ظلّ يدعو الناس إلى مركبه وحمل "مِنْ كلّ زوجين اثنين" حالَ دونه، وأوصدَ البابَ بوجهه. ومرّة أُلقي في النار مع إبراهيم الذي يحبّ لتكون "النار على إبراهيم برداً وسلاماً" أمّا عليه هو فسعير حرمان وقهر وأحقاد. ومرّة هو يوسف، وأُلقي في البئر:

 

"قالوا: يا أبانا قد أكله الذئب.

فبكى أبي،

وكان شيخاً جليلاً،

حتى اخضلّتْ لحيته بالأسى والحروف.

لكنّ السيّارة إذ وصلوا الى البئر

ما قالوا: يا بشرى هذا غلام

بل قالوا: وا أسفاه هذا هلام.

وتركوني في البئر

يمزّقني الظلامُ ..."

 

 ومرّة احتمى بالقصيدة التي خالها تنجو فإذا بها في قبضة وحش

 

" أخذَ يضربها بأخمص المسدس

على رأسها

حتى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة

ونقاطاً أكثر

دون أن تعترفَ بسرّها ومعناها".

 

 لأنّها الأوّل والأخير، ولها الإنتصار.

 

 

 الشاعر أديب كمال الدين في المجموعة الجديدة: "شجرة الحروف"ـ دار أزمنة، غلافها للفنان الياس فركوح، هو المبتعد أبداً، قائلاً الشقاء والعسف، قائلاً بغداد التي تتداولها المخالب وتدمِّر في روحها الهمجيّة، قائلاً شجرة الذات التي ترى الشمس حتى وهي في جوف الليل.

 

 

************************

نُشرت في صحيفة النهار البيروتية بتاريخ   التاسع من آب - أغسطس 2007

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home