الحرف في ضيافة القصيدة

 

 

 

 

 

 

  د. صالح زامل حسين

 

 

 

 

 

في هذا المبحث، نحاول أن نجد تأصيلاً لتجربة الحرف باعتباره بنية تستنطق لتكون مادة لقصيدة ونموذجاً لدراسة مجموعة (النقطة) للشاعـرأديب كمال الدين، أما الجانب الآخر في هذه الدراسة فهو إيجاد صلة بيـن العنوانات الداخلية للمجموعة ومشروع الشاعر: الحروفي . 

(1)

 يأتي التأصل في الحرف متأخراً وهامشياً داخل المنظومة الفكرية الإسلامية ولعل ذلك محمول على صلة التراث بالشفاهية التي كرّسها ـ في مرحلة تالية ـ القرآن الكريم، عندما ارتبط النص القرآني عنـد الفقهاء بجماليات الصوت وتحريك اللسان عند القراءة (1) على الرغم من ان القرآن احتفى بالكتابة، لكنها لم تكن هي الحافظ للنص، وانما الحفظ له صلة بقدسية النص (إنا نزّلنا الذكرَ وإنا له لحافظون ). وانّ الحروف التي كانت اسماً لأربع سور ومفتتحاً لتسع وعشرون سورة قـد دفع العلم بها الى الغيب. وفي هذه المفتتحات غلبة حروف بعينها، وهي الميم واللام، والألف، والحاء، والراء بالتوالي. كما نستطيع أن نحصي حروفاً أخرى مثل س، ص ، ه ، ك، ، ق ، ن ، ي ، وكلّ الحروف التي ذكرت مما نسميه غير معجمة عدا الثلاثة الأخيرة وهي القاف والنون والياء التي لا يزول اعجامها إلاّ بنقطة ، وهذا يشير الى ان قيمتها في المفتتحات لا تقف عند كونها منقوطة أو غير منقوطة ، فضلاً عن ذلك ان الأبجدية المتألفة من الثمانيـة والعشرون حرفاً ، خمسة عشر منها منقوطة وهذه الملاحظة نطلّ بها على وهجة اشتغال الشاعر أديب كمال الدين في الحرف والنقطة.  

 لو تأملنا هذه الحروف مرّة أخرى ، في فضاء الابتداءات لوجدنا الألف متقدمة بامتياز ، لذا منحه المتصوفة وبعض المفكرين الإسلاميين مكان الأوائل بين الحروف إذ (هو أول الحروف التي سجدت لآدم) (2) ولعله لهذا السبب تقدم بالأبجدية ، وتصير الحروف (كائنات روحانية خلق الملائكة على عددها)(3) وهي وإن اختلف في تأويلها فهناك إجماع نظر إليها بأنها ( ساهرة على فضاء السور القرآنية ) ( 4) .

على انّ المتأولين يقفون عند باء (بسم الله الرحمن الرحيم) طويلاً ( فيجعل المتصوفة نقطتها لشيوخهم ، وبعض طوائف الشيعة يجعلها لعلي بن أبي طالب) ( 5) ويذكر المفكّر هادي العلوي في مداراته ( 6 ) نكتة في هذا الصدد هي للشاعر النجفي محمد علي اليعقوبي يهاجم فقيهاً شيعياً أفتى بحذف اسم علي من الآذان فيقول :

محا نقطة الباء عن الآذان                                    لترضى به النقطة الرابعة

 ويقول العلوي (ليست نقطة الباء أية نقطة كانت بل هي باء البسملة ، فهي نقطة لها موقع دال وكينوني ولو سقطت لاختل نظام البسملة وكذلك يختل الآذان بسقوط اسم علي منه (7 )  .

ولعل من تأمل باء (بسم الله) كانت نظرة الفراهيدي لفحولة الباء من جهة الجنس عندما ذكر في معناه (انها الرجل الكثير الجماع) ( 8 ) .

تختزل المفتتحات بشكل واضح وتؤشر للأهمية التي ستأخذها الحروف في الفضاء الرمزي  وخاصة عند المتصوفة أو في الممارسة التخطيطية ( 9)

التي ستخرج بالحرف والكلمة من سلطة الصوت والدلالة المقترنة به الى الحركة الصورية التي تمثلها الزخرفة أو أشكال الخط التي عوضت فـي تنوعها ، الى حد ما ، في منظومتهم عن الرسم للمجسمات ، فليس غريبـا بعد ذلك أن يكون الالتفاف للحرف على انه اقتران بالشكل عند شاعر مثـل المتنبي في قوله:

أول حرف من أسمه  كتبت                                    سنابك الخيل في الجلاميد 

وهو يمدح سيف الدولة الحمداني وأسمه الأول (علي) والسنابك حوافر الخيل والجلاميد الصخر وشكل الحافر وقد حوطته الحدوة يشبه حرف العين ، فيكون الشاعر بانساق مع المنظومة السائدة.على انّ أول ملتفت للحرف في عصرنا الحديث على انه بنية بذاته هو الفنان التشكيلي والعراقي على وجه الحصر في أعلامه المهمة كشاكر حسن آل سعيد في تجاربه الصوفيه للحرف في اللوحة، وضياء العزاوي في اشتغاله على الشعر والرسم منذ تخطيطاته لمجموعة مظفر النواب : للريل وحمـد ، الى رسوم المعلّقات الى مختارات المتنبي الى عذابات المتنبي ، فهل نستطيع بعد ذلك ، أن نقول ان التفات الشاعر أديب كمال الدين في تجربتـه مع الحرف إنما تأتي من نظر في المنظومة الثقافية العراقية ومنها اللوحة التشكيلية ، على وجه الخصوص ، بعبارة أخرى هل نجد الرسم في الاشتغال على الحرف عند الشاعر ، لنرى ذلك في الامثلة التي سنختارها من المجموعة يقول : (كانت الهاء توزّعني ذات اليمين و ذات الشمال) ص 75

 والتمعّن في رسم الهاء إنما يكون الابتداء من اليمين الى الشمال، ويقول:

( مددت ُيدي إلى الله

 ....

سارعَ ليضع وسط الحرف نقطة 

 فأمتلأ قلبي ذهباً ودنانير فضة) ص 91 .

 إنّ الذي يعطي يوصف بمساحة الكفّ المستوية والذي يطلب تكون كفه فيها تكوير الى القعر، وهذا التكوير إذا علته النقطة صار أشبه برسم النون وهو أول كلمة (نول) بدلالة العطاء ويقول:  

(أبي 

 أيها الشفوق كهلال العيد) ص 102  .

وليس بخافٍ أن هلال العيد بإحالته نحو اليمين يشبه رسمه حرف الراء وهو أول الرحمة وهي مرادفة للشفقة وقد ينظر الى رسم الكلمة فيفتتها مثل كلمة جنس:

(نحن نركض خلف جيم و سين وبينهما النون عارية كالمتاهة) ص84

 أو

(هل أبيع حبي ؟

 قد فعلتُ

و من اشتراه ؟

  اشترته النساء اللاتي لا حاء في بائهنّ ولا باء في حائهنّ) ص37

  فإذا تأولنا هنا الباء بالدلالة التي ذكرها الفراهيدي (كثرة الجماع) ونؤول الحاء بالحنان، تكون الدلالة التي فككت فيها الكلمة أو فتتت إليها انكسار صور الكمال الغائب وغياب أحد المكملتين الحنان أو الجماع. هذا التفتيت اشتغل عليه الاوائل في المعنى كقول أبي الطيب:

سميت بالذهب اليوم تسميةً                     مشتقةً من ذهاب العقل لا الذهبِ

وهو نظر في الجناس الذي يطلب التأمل في رسم الكلمة، لكن من الواضح إن قصيدة أديب خرجت من سلطة  الحركة المقترحة للعين في حركة صوتية مرئية وبمرجعية  تبحث عن تفرّد، وان كانت تعود للتكثيف الصوتي من خلال مجاورة الحرف للكلمة، لكن، كما قلنا، ليس بغيراقتران مع التأمل في تشكيل الحرف وهي القراءة  التي يقترحها  للحرف، وهي منهمكة في بحث الصلة بين النقطة والحرف فتتأمل في الحرف محتضنا في خانته العلوية النقطة، أو مرتكزا عليها خانة سفلية، فتضفي للحرف المجرد بالرغم من تجريدها هي الأخرى معنى. يقول 

(وضائع كحرفٍ لا نقطة فيه

 كانت النقطة دمي 

 أنا تمثال الشمع) ص21  

(  2  )

العنوان بنية لها وظائف عديدة، فهو الثريا في فضاء النص، والعتبة لمساربه ورحلته، ومسيج لجغرافيته، والضلع (10) المقترح بأن النص يرتكز عليه، وهنا يكفّ العنوان عن أن يكون حلية (11) ، وهو التسوير الذي اشتغلت عليه بنية العنوانات في مجموعة أديب (النقطة) بالرغم من سيادة نسق تكراري مركب اسمي تقدم كل عنوانات القصائد هو(محاولة في ....) التي كانت بؤرة للعناوين كافة، تتشظى عنها حالات الى النصوص المختلفة، وهذه البؤرة من الممكن ان تلحق العنوان الرئيس للمجموعة (النقطة.. محاولات) لقد اختزل المركب الاسمي ألق التنوع في العناوين إلى نسق واحد هو (محاولة في ...). إنّ المعجم يحيل الى جهة اشتغال الشاعر فيما نعده مشروعاً، إذ دلالة المحاولة هي طلب نيل الشيء بحيلة وذو الحيلة القادر التصرف بحذق والكتابة عموماً تتضمن الحذق سواءً كانت حرفة أو دونها، فهي متوجهة الى مرسل اليه تحاول أن تحرضه أو تحثه أو تثيرهإ.انّ عنوان (محاولة في ....) إعفاء للشاعر من ان ما يقوله هو المطلق أولاً وثانيا ًانه يخوض في مشروع هو بلاشك مشروع الحرف الذي يتكرر في عنوانات المجاميع السابقة للشاعر (جيم)، (نون) فيوحي بانفتاح التجربة واستمرارها قد يكون الى مجاميع تالية، وثالثا تحيل الى التواضع ولعلها تقابل (الله أعلم) أو أنها في إسارها، أن لا أحد يحيط بشيء سواه ، فالإنسان كائن ناقص ولذلك يطلب الكمال، وهي تحاول أن تقنعنا إن ما يفعله كدّ واشتغال يحيلنا الى الدلالة المقترحة لقرائته، لأنّ العنوان خارج إطار الخطاطة الأولى للقصيدة وخارج هيمنة لحظة الكتابة، وإنما يكون حاضرا ًبعد اكتمالها غالباً، والشاعر بعد أن أغلق صدفته اقترح باباً مفترضاً للدخول إليها، وذلك واضح فيما تقدم، ولا تكف المجموعة عن تقديم الدعوة للمحاولات الافتراضية في هذا المشروع عندما تحاول الهيمنة على المرسل إليه لتنتهي لمجموعة من الآراء، لحقت قبل فهرس المجموعة وقبل تعريف الشاعر الذي عزل خارج المتن المفهرس وهي رأي فلان ورأى فلان، ليؤكد تلقياً موازياً لافتراضاتة ومؤكداً لبنية التكرار التي تقصد التسويد ، وهذه البنية التي يميل اليها الشاعر يمكن ان نلاحظها في بناء القصيدة كذلك لعلها تقابل الوحشة والعزلة والانفراد على مستوى التجربة التي يخوضها منفرداً في الحرف وعلى المستوى النفسي بافتراض التجميع الزائل الذي يجد مداه، على الأقل في توحّد النفس في الكتابة التي هي بحث عن آخرين.

 

****************************************

(1) الجسد والصورة والمقدس في الاسلام / فريد زاهي- أفريقيا الشرق 1999 بيروت- المغرب/ص 132

(2) م.ن ص 133

(3) م.ن ص133

(4) م.ن ص 133

(5) مدارات صوفية /هادي العلوي/ مركز الأبحاث والدراسات- المدى – دمشق  1997 ص105

* النقطة الرابعة من الواضح إنها جناس وهي أشارة للنقطة الرابعة من  برنامج المساعدات الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية  وهي تخص العالم الخارج من النير الكولينيالي الى هيمنة جديدة في صورة مساعدات / انظر مدارات صوفية.م.س ص 107-108.

(6) مدارات صوفية /هادي العلوي / مركز الأبحاث والدراسات- مدى-دمشق 1997 ص105 

(7) م.ن ص105

(8) الجسد والمقدس .م.س ص 134.

(9) م.س ص 133.

(10) الشعر العربي الحديث: بنيته وإبدالاتها- محمد بنيس– دار توبقال – المغرب- ط1 1989- ص 1/ 102

(11) المصدر السابق 1/ 113

************************

 نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية - العدد  1207-10 مايو- آيار 2002.

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 193 - 198

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home