النقطـة

مثول الذات في صميم الوجود المطلق

 

 

 

رياض عبد الواحد

 

 

مابين النقطة والمعرفة الأصلية مساحة واسعة قد تملؤها الحروف، التفاصيل، الهذيان، المعارف والأحزان. هذه جميعاً  تتمحور فـي النقطة / المطلق  لتحقق حضوراً شيئياً لكلّ الموجودات التي تحيط ب (أنا) الشاعر، أو (أنا) الآخر، لذلك تمتد النقطة وتتسع في المكان، تتسع لتصبح علاقة احتجاج، محاولة في الجنون، أو في ما يشكّل مكوّنات كريات دمها المسفوح على الأبواب والأحلام، لتكون نقطة البدء و نهاية الأفق الروحي. هي ربما، عزلة الذات عن الآخر بكل مايحمل من تعاملات تؤثر هنا أو هناك على ما يحيط بها أو هي تجاوز ماتحمله منفصلة مرّة بكيانها ومتحدة مرّة أخرى بما يشاكلها من حروف هجائية أو علامات صوتية  تتوحّد لتعطينا صورة مرئية ومحسومة  للعام من خلال ما يترشح من الخاص الذي ينظر الى الأشياء وينفذ فيها من خلال كوّة النقطة واستطالات الحروف.

إنّ مافعله الشاعر أديب كمال الدين على مستوى المنجز الشعري ليس سهلاً. فهو أراد أن تكون له لغة منظورة، أي ذات بعد فني لذلك حاول الاعتماد على المختزلات (النقطة والحرف) ليؤلف بين ماهو داخلي وما هو خارجي، ويمازج بين ماهو زماني وما هو مكاني في ما يخصّ حقيقة الوجود الإنساني الذي لايقرّ له قرار  

لا شيء ـــ طفولة

لا جدوى ــ صباي

لا معنى ـــ لذتي

لا مستقر ــ جثتي

هذه التقابلات تخفّف شدّة الصدمة عند المتلقي، بيد انها لا تستطيع أن  تهبنا نهاية تكون في صالح الكفّة الجيدة، وهذا مايجعلنا نستتنج أو نصل الى قناعة تحيلنا على عدم تجذّر الذات التي يتحدث عنها الشاعر/ وهي ذات الشاعر في الأغلب، فهذه الذات طافية في فضاءات غير مستقرة وان كان مركزها غير متحول (النقطة) غير انها أرادت المقايضة، وان بدت تك المقايضة غير فاعلة في إنقاذ تلك الذات مما يعرش فوقها من تعب مكدود:

لكنْ بدل أن تبتهج أسطورتي

أطلقتْ عليّ النار.

 إنّ هذه المناصفة التي احتلت مساحة في قصيدة (محاولة في سؤال النقطة) لم تحدث خلخلة في جو القصيدة العام، بل أعطت فضاءَ القصيدة العام لذةَ التضاد المعرفي المبني على كلمات يملأ فضاءها ذلك التقابل بما لا يجعله متمكناً من إحداث شرخ في هيكل القصيدة العام.

إنّ حركة قصائد ديوان (النقطة) التي تلمع فيها ارهاصات الذات/ داخلية أو خارجية  نمت بين خط وهمي بدايته في الماضي وامتدادته في الحاضر، وقد جسّدت الجمل الاسمية التي جاءت مفتتحاً لكلّ قصائد الديوان تتكثـف ارهاصاتها مشيرة من خلال الشفرات الخفية التي يستنطقها الشاعر من أجواء عالم النقطة كاشفاً لنا قدرته على خلق كينونته غير المستقرة الباحثة عن سرّها في الآخر/ المطلق الذي تتوّحد فيه من أجل الوصول أو الالتحام به من خلال التصورات التي تبدأ من النقطة  لتنتهي في غيب (الهو) الذي ليس كمثله شيء .أزمة الذات إذن لا تكون في الخضوع الأعمى الى العبث واللاجدوى ولا تركن الى الفوضى بل تركض خلف مشتهاها من خلال الخلاص الروحي باتجاه ماهو حيوي وغير حياتي، آني في التحصيل. وهي بهذا تؤسس تاريخاً انتقالياً مما هو جزئي الى ماهو كلّي،  ومما هو نسبي الى ماهو مطلق وهنا تظهر المعادلة كالآتي : الذات  = النقطة = الهو.

 إنّ تحوّلات ذات الشاعر هي تحوّلات اتجاهية باتجاه تأسيس موقف روحي يتجاوز (كثافته نحو كينونته، نحو وجوده غير اللاذاتي= علاقة حركة النقطة المكانية بالزمان أي صلته بالمطلق). إذن هو لا يستكين داخل ذاته ولا يقف عند حدود عالمه الخارجي، غير انه يتحرك في ضوء المرسوم على هذا الخط الممتد بين تلك الذات وهذا العالم ليرسم خطا ً للتعبيرعلى لائحة الزمن:

 هكذا كنتُ صحراء فكان الحرفُ جَمَلا ً

هكذا كنتُ ضياعاً فكانت النقطةُ معنى

هكذا كنتُ حتى امتلأت

هكذا طرتُ أنا وجَمَلي

طرتُ كغيمةٍ من نور.

 بهذا الثقل الروحي يحمل الحرف والنقطة الخلاص (لاحظ المقابل للذات الذي تمثله تاء المتكلم) 

كنتُ صحراء ـــــ   جَمَلا ً

كنتُ ضياعا ً ـــــ  النقطة

كنتُ   ــــــ حتى امتلأت ُ

 في هذا الجو التقابلي تتشكل صورة المطلق ـ  الهو على هيئة نور منقذ للذات مما اعتراها في مسيرتها الطويلة .

 إنّ ديوان (النقطة) يترك فينا أثراً واضحاً من خلال تقنيته السمعية والحسية. إننا هنا ازاء عمل جديد بدلالة الموقف والاقتراحات اللغوية التأملية  ذات الدفق الهادىء النزاع الى توسيع افاق المتلقي وتحرّيه عما يمكن وراء مثل هذا التناول الشعري الجديد والذي يمكن أن نقول  فيه من دون تردد بأنّ صاحبه له قصب السبق في هذا الميدان الذي ترك فيه وعليه بصمات واضحة ستبقى علامة مضيئة له في تجربته المتفرّدة التي نحتها بتعب وجهد واضحين في مشغله الشعري الذي أنتج لنا مشغولات شعرية تستحق الثناء. 

 

**********************************

 نُشرت في صحيفة العراق – 15 كانون الثاني 2000

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 251 253

 

 

الصفحة الرئيسية