قراءة في (أربعون قصيدة عن الحرف)

 

 
نصر جميل شعث

 

'   أربعون قصيدة عن الحرف' هو عنوان الإصدار الجديد (دار أزمنة، عمان، 2009) للشاعر العراقي، المقيم في أستراليا، أديب كمال الدين. وفي أوّل مفارقات قراءة في هذا العمل أنّ عنوانه الرقم، يأتي مساوياً لعمر تجربة الكتابة عند هذا الشاعر الذي يصرّح بها، غيرَ مرة، في قصائد انشغلت بشعرنة الحرف والنقطة، حتى وصفته أعمال نقدية صادرة للتو ب'الملك الحروفي".
   يقول أديب  كمال الدين " كُتِبَ عليّ أن أموت كلّ ليلة لأربعين عاماً'. والحرف الذي هو حجرُ الكلمة التي يكتبها الشعراء لتكون أثراً دالاً عليهم في غيابهم؛ هو الآخر سوف يموت. هذا ما يقررّه أديب كمال الدين منذ السطر الأول في قصيدة الديوان الأولى 'جاء نوح ومضى'، يقول: 'ستموت الآن/ أعرف يا صديقي الحرف أنك ستموت الآن'. أو كما جاء في هذا النبأ العظيم: 'مَن سيصدق أن الحرف الذي حمل المعجزة/ سينهار أمام الموت (و) النقطة التي واجهت الأعاصير والنار والزلزلة/ ستبكي في حضرة الموت/ مثل أعمى أضاع الطريق إلى البيت! '
هي صداقة أو حتمية لدود تربط الشاعر بجدلية الموت والحياة وتدفع بامكانيات أربعين عاماً، من رواج القلق، في تجربة هذا العمل الذي يتناصّ مع التاريخ والميثولوجيا متخذاً من حادثة الطوفان والرموز الميثولوجية العراقية ركائز تختزل الدلالة الكبيرة في الحرف في صفته نواة الكتابة، 'تتحمل كلّ هذا العذاب السحريّ/  والكمائن وسط الظلام/ والوحدة ذات السياط السبعة..'. رثاء بايقاع طقسي عميق، وخيبة أمل في النجاة: 'جاء نوح ومضى/ لوّحنا له طويلا/ بأيدينا/ وقمصاننا، وملابسنا/ ودموعنا الحرّى/ لوّحنا له بيتمنا الأبدي'.

    وإضافة لعلاقة الصداقة بين الشاعر والحرف، والتي جعلت الشاعر يصارح حرفه أو ذاته المرئية في الحرف؛ أيضاً، هناك تجاور وتشابه أقدار الحرف والشاعر مع النهر والبحر والمطر والولادة والحديقة، أو بعبارة أكثر حساسية تجاه النقد، هناك تناصّ، لا مناص منه، مع بدر شاكر السيّاب في صفته مدوّن رموز وطقوس المأتم العراقيّ الحديث في قصائد المطر، الحب، والموت. فمن حدائق الحياة إلى حدائق الموت، بالإشارة، هنا، إلى قصيدة السيّاب 'حدائق وفيقة'، وتقول نهايتها: 'مثل نافورة عطر وشرابِ/ وخيال وحقيقة/ بين نهديك ارتعاش يا وفيقة/ فيه برد الموت باكِ/ واشرأبت شفتاكِ/ تهمسان العطر في ليل الحديقة'. الموت بين نهدي 'وفيقةِ' السيّاب، هو ذاته الموت بين نهدي 'عشتار' الشرق، أو 'ربة المعبد' الغريق، حيث ينادي الشاعر كمال الدين في قصيدة 'رقصة سرية' مُستحدثا مجيء ما كان: 'إلهي/ غنّت ربّة المعبد الحبّ والحبّ كلهّ...'. وإلى الآن، لم يزل الشاعر يراقص صوتها أو حلمها درويشاً نصفه نار ونصفه طين'.


   في ليل حديقة السيّاب أو أديب كمال الدين، ضيّع الطفل دراهمه السبعة، ذلك هو طفل الشاعر الذي كبر وتزوج وهاجر وكتب حرفاً عجيباً و(ماتَ) أو كاد، لكنه لم يزل ينظر إلى الحديقة، ويبحث في قصيدة سماها الشاعر كمال الدين 'دراهم كلكامش' عن صداقة مع الحياة تفضي إلى السعادة الضائعة والخلود فـ: 'كل درهم كان اسمه السعادة/ وكل درهم كان اسمه العيد/ أو الغيمة/ أو الشمس/ أو البحر، أو قبلة الأمّ.../ وكان عبارة عن سرّ وجده كلكامش/ ثم ضيّعه في الحديقة'! لكن لم يعثر الشاعر، لغاية الآن، على تلك الدراهم السبعة. ولأنه ليس من خيار إذن : 'لبسَ الشاعرُ الجمجمة/ صار خوفه وملله وشوقه جماجمَ مكتوبةً بلسانٍ عربيّ مبين'!
    تلك هي عوالم وطقوس أديب كمال الدين في 'أربعون قصيدة عن الحرف'، الشاعر العراقيّ الحيّ الذي يكتب هذه الحروف بقلمه المرتبك، والذي يتوقف كلّ دقيقة؛ ليتأكد من أنّ أصابعَه لم تزل تستطيع الكتابة' إلى الحياة وعنها ولها كفعل مقاومة، مقاومة الموت بأسباب الحياة، حيث في قصيدة عنوانها 'اعتذار' يقول صديق الحرف:

   'في حياتي/ قرأتُ الكثيرَ من قصائد الشعراء الموتى/ حتى امتلأتُ باليأس والموت/ فمتّ/ في حياتي القادمة/ سأقرأ الكثير/ من قصائد الشعراء الذين لم يُولدوا بعد/ علّي أحيطُ بأسباب الحياة/ إلى الأبد'.

*****************************************************

أربعون قصيدة عن الحرف- شعر: أديب كمال الدين- دار أزمنة للنشر والتوزيع- عمّان 2009

نُشرت في صحيفة القدس العربي - لندن بتاريخ 30 - 10 - 2009

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home