قراءة في (قصيدتي المغربية) لأديب كمال الدين:

أهي قصيدة مهذبة ومتوحشة؟!

 

 

نور الحق إبراهيم

 

هذه قصيدة بربرية عراقية أسترالية, لطيفة مهذبة متوحشة في آن, بريئة مغرية حالمة, لشاعر عُرِفَ بسقي الحروف منذ نعومة أظفاره, في عالم الشعر, حتى نبتت من تلك البذور الحروفية شجرة وارفة الظلال, متنوعة الأوراق والأزهار والثمار, ظل يتولاها بالسقي والرعاية ويقطف منها ما شاء من على أغصانها حتى تجاوز الخمسين من عمره, أطال الله عمره.

قصيدة رمى القدر قارئها في أحضان حروفها وهو يعد "ديوان المغرب لشعراء المشرق" بعدما لاحظ افتتانهم بالرباط والبيضاء وأغادير وطنجة وفاس ومكناس ووجدة ومراكش وغيرها من المدن المغربية الساحرة, كما افتتن بروعة جمالها وسحر طبيعتها الأوروبيون أيضا قديما وحديثا.

وهي تتكون من ستة مقاطع تبدأ رطبة دافئة كميم المغرب المعطاء, ميم المحبوبة مكناس وأخواتها الرائعات, شفتاها على لسان النقطة, تتممها أوصاف أخرى ليبدأ الشاعر كتابة قصته معها بأبجدية غير معهودة, تتوافق مع تجربته الفذة في عالم ساحر طاغ, هو به مسحور غارق حتى أذنيه, يستنجد بالعظيم, يستعيذ به ويلجأ إليه ليفك عنه طلاسم السحر الذي ابتلي به. طقس ديني في مواجهة طقوس سحرية, وانتظار لمعجزة سماوية يتلاشى بعدها الشاعر كدخان.

ما أعذب اتكاء القصيدة على الحرف والنقطة, كموجتين هائمتين إحداهما في نهر أسترالي تلاحق موجة في عرض الأطلسي, ونسمة فوق جبل أسترالي تستجوبها نسمة على جبال الأطلس, تجري معها حوارا على الهواء الطلق مباشرة. تبدأ نقطة الشاعر بالاعتراف! حبيبته المغربية لها ميم رطبة دافئة وسين سحرها مفتوح اللب للغواية, للوحوش المهذبين, وألف أنوثتها حاد أملس كالأفعى! ولا يكون ذلك إلا بعد تذوق ومشاهدة عيانية أو سماع مغري وقراءة مغوية أو حتى حلم كسيح!

"قالت النقطة:/ حبيبتي المغربية/ لها ميم رطبة دافئة/ وسين فتحتْ لبّها للوحوش المهذبين/ ولها ألف مثل أفعى الكلام".

هل الميم شفتان مطبقتان كما في حالة النطق بالميم, كما في مقدمة الحب وذروته, أم عضوان آخران من أعضاء الأنوثة يضاهيان الشفتين في تلك الحركة! المطلع يشير إلى الواجهة, الوجه, العينين, الشفتين.. ومن هنا لعل الميم أيضا هما العينان الدامعتان الدافئتان, لكن جو القصيدة لا يوحي بالحزن من جهتها, فهما إذن عينان رطبتان ظلالهما بالسحر الظاهر والدفء الحنون, وشفتان مطبقتان كأحلى ما يكون الانطباق. أما لب هذه السيدة, لب غوايتها وإثارتها, فهو مفتوح على فضاء الشاعر, كانفتاح قصيدته على فضائها, والنقاش المدلل متواصل طوال السهرة أو الـ م س ا.. المساء الحالم بنهرها المقدس.

هذا هو المطلع إذن, ميم وسين وألف, حروف مقطعة ترمز إلى مدينة متألقة مغرية, سيدة مكتملة الأنوثة ساحرة العينين والشفتين, أليفة إلى أبعد حد وأقصى مدى, ثم ماذا؟ يزيدنا المقطع الثاني بأوصاف أخرى, فهي بربرية حالمة, "لها باء غير باء البسملة", وحروف سحرية أخرى خاصة بها, و"حلم من جنون مؤكد" يحتاجه الشاعر كحبة من دواء في زمن الانفصام النكد, كنسمة عليلة في الأجواء الملوثة, تسري إليها منه فتجن أوصال حلمه.

"حبيبتي المغربية / لها باء غير باء البسملة/ ولها حلم من جنونٍ مؤكّد/ أحتاجه مثلما أحتاج إلى حبّةٍ من هواء".

حتى الآن لم يكتب الشاعر عنها شيئا! أو بالأحرى عن قصته معها, أو عن تفاصيل الحلم بها, لأن الأبجدية المتوفرة معه لم تسعفه, حقا لم تسعفه في وصف الجمال المرتأى أو المنشود, يحتاج إلى أبجدية أخرى من معاول وسكاكين وهذيان ونزيف, وهي حالة طالما تنتاب الشعراء وتوقعهم في الحيرة من أمرهم.

"سأبدأ كتابة هذه المغربية/ لكنْ، بماذا؟"

توقف مبكر, استدراك مفاجئ, سؤال عاصف حذر, اختناق مروري على مستوى الحرف والحلم, إشارة حمراء, عيون نفسية تتطلع نحو متابعة الاعتراف الخطير, أي محاور ظريف هذا, يلتفت بعيدا عن الكاميرا, أي سائق شاعر هذا, يكبح عربته وهو لما يمض بعد, ماذا هناك؟! يصوب عينيه الدامعتين نحو العالم, ويأتي الجواب دمويا:

"أحتاج، هنا، إلى أبجديةٍ من معاول/ أبجديةٍ من سكاكين/ إلى أبجديةٍ من هذيان مركّز/ ونزيفٍ مؤكّد".

للأسف, حتى هذه الأدوات لم تسعفه! يستشعر ضعفه المؤكد, يستنجد بالقادر, بالقاهر, بخالق الأبجديات, ببارئ الأجنحة. يستمده العون, يريد الطيران بجناحي نسر وعيني صقر, لينتقل من عالمه المتوحش ومن غربته الموحشة إلى عالم بربري ناعم, من حياة العبث والضياع إلى عالم مكثف بالسحر تفتح اللغة فيه ساقيها للريح القادم!

وتومض له المغربية, القصيدة, الحلوة, الجميلة, الفاتنة, الساحرة, وليس بيده حيلة ولا في حضنه بستان, وإنما غربة وحرمان, وجنون وافتتان, وإرهاق ذهني وهذيان. ما فائدة المعنى حين يتوه في اللامعنى؟ ما جدوى الإرهاق الفكري المستمر في معنى الحياة وشؤون الكون والأحياء, بلا ساعة متعة أو ليلة لذة أو سفر حالم طليق! ما فائدة البراءة حين تكون من أسباب الحرمان والشقاء! وهل الإنسان الشاعر كالملائكة بلا شهوات!

لم يبقَ في الأفق سوى المطالبة بالمعونة الإلهية, "أعتّي إلهي, فقصيدتي المغربية تومض لي", يكررها مرتين, لأنه وميض مستمر, بلا توقف, يؤرقه ليلا ويخايله نهارا, ويسد عليه الأفق في المشرق والمغرب, فيذوب في دنيا الشعر والحلم كما يذوب السكر في الماء, و شهد الرضاب في الثغر المتعطش, وإلا لم تظهر القصيدة بهذه الروعة!

إعجاب الشاعر بحبيبته المغربية وجنونه بسحرها وتعطشه إلى نهرها العذب جعله يخاطب الله مباشرة, يباركه ويتعالى به, كأنه يبارك حبيبته ويتعالى بها, وكان ليس مثلها شيء في مدن المغرب يضاهيه حسنا وجمالا. يتساءل من حيرته وضعفه أمام الجمال المغربي, كيف يطير بجناحي نسر إلى مدن السحر؟ و: "كيف لي أن أعانق فاس ومكناس/ أن أبايع عرّافةَ السحرِ والجنس/ في بلادِ الرباط؟"

ثم يعتمد الشاعر على طقس ديني ليواجه سحر الجمال وكأنه سحر حقيقي, فحبيبته المغربية ساحرة تنفث في عقد السحر الجمالي الذي لا طاقة للشاعر باحتماله ولا طاقة لعقله وحسه الشعوري بدفعه. لذا, يستنجد بالدين في جو مهيب يحتشد برموزه القوية, البسملة والحوقلة, جيرائيل ومكائيل, إلى جانب الرموز الطبيعية الجارحة كالصقور والنسور.

هل هو توحش, كما يقول صديقي؟ لا, هو قمة الضعف الإنساني أمام الجمال وفتنته الساحرة الطاغية الباهرة. ينتظر الشاعر معجزة من السماء, في آخر وأطول مقطع, تقول للجمال المغربي, للحسن الملائكي, "كن فيكون" لتمثل له بشرا سويا, جسدا في متناول اليد, لغة في متناول الشفايف- وهي الحب الحقيقي على رأي عبدالحليم-, غيمة تمطره بالحب وتنفث فيه سحر الشعر, وليكن بعدها ما يكون:

"كنْ فيكون/ فإذا بالمغربية صارتْ كلامَ الجسد"..

"وتطلقني ـ أنا النقطة ـ فأهبط ُمن أعلى عليين/ إلى أسفلِ سافلين".

هبوط اضطراري لا حليلة لدفعه, كطائرة ورقية يعبث بها صبي لاه على شاطئ النهر, تهبط فجأة حين يبلل المطر أجنحتها وتضغط قطرات الماء على أعضائها وتعصف حبّات البَرد بمقودها, حينئذ تهبط مع الصبي الحالم نيران الدنيا والآخرة, نيران الغزاة والبدو والهنود الحمر وسحرة داود, نيران القراصنة والفراعنة وأنكيدو وكلكامش , نيران أور وبابل وآلاف المشاعل. كل ذلك على الشاطئ, أما موجات البحر نفسه, فيهبط فيها الشاعر متمهلا وهو يجتاحها بما تعلمه منها من طلاسم وما جرته على عقله من هذيان مركز, لا بد من الاجتياح المتمهل, الممعن في اصطياد اللذائذ على مهل, واحدة إثر الأخرى, كرزا بعد الآخر, كل يوم وكل ليلة, قوسا فقوسا, نهدا فنهدا:

"ثم أصعد أو أهبط في سهلها المغربيّ/ حتّى أصل إلى نهرها المقدس/ وأبدأ إحراقها شيئا ًفشيئاً".

ها قد وصل, وصل الحلم إلى ذروته, ليبدأ الإحراق العاصف ويستمر تجفيف الماء الساحر, إحراق الكل بلا استثناء وتجفيف الموارد بلا شوارد: كفاها التي قبلته وارتاح في راحتيهما من تعب الحب, نهداها المستعبدان رغم شموخهما, بطنها الضامر الذي أكل توحشه لب الحلم, سيقانها التي انتظرته طويلا وهي ترتعش, أجراسها وأنغام عودها الريان, أحراشها وساحلها البربري, بوابتها المقدسة الكاذبة, أسرارها التي ما إن تحرق بالكشف وتجفف بالوصل حتى يتلاشى معها الشاعر الحالم غيمة من دخان!

منتهى الحب والرغبة, منتهى الحلم والروعة, ذروة الضعف الإنساني, ذروة الاستسلام لمغربية باتت قصيدته في ليلة من ليالي ألف ليلة. هذا, والشاعر أديب كمال الدين لم يسافر إلى مدن السحر, كما يقول في أحد المواقع. أتراه قد صادف مغربية حسناء في العراق أو في أستراليا التي بها يقيم, فأقامت مشاعره ولم تقعدها؟ أم قرأ نصوصا لرحالة أستراليين وأوروبيين فهيجته ونفته في غياهب الحلم؟!

 

**********************

 

 

 

* نُشِرتْ قصيدتي المغربية في مجموعة: (ما قبل الحرف..ما بعد النقطة) – شعر: أديب كمال الدين- منشورات أزمنة- عمّان- الأردن 2006 – ص 54- 59

 

* نور الحق إبراهيم- شاعر وكاتب. من مواليد المدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية عام 1964م. حاصل على الماجستير في الإعلام من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1992م. أصدر ديوانه الأول "اعتراف" عام 2003م. أصدر ديوانه الثاني "حقل السكر" عام 2008. فاز بجائزة الرئاسة العامة لرعاية الشباب في المسابقة الثقافية المفتوحة للبحث والتأليف حول "أثر وسائل الإعلام في توجيه الشباب" سنة 1987م. أصدر كتابين في المجال الإعلامي سنة 1989م. عمل في حقل التعليم مديرا ومعلما خلال الفترة 1987- 2007م. ساهم في الكتابة الصحفية ونشر بعض أعماله على الشبكة العنكبوتية.

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home