موت النقطة

قراءة في المجموعة الشعرية "النقطة" للشاعر العراقي أديب كمال الدين

 

 

د. مقداد رحيم

 

 

  

   يبدو الشاعر أديب كمال الدين منشغلاً طوال الوقت بأبجدية الحروف، كما كان انشغل بها المتصوفةُ، ثم شعراءُ العصور المتأخرة على نحوٍ آخر مختلف من حيث الدلالة الرمزية لكل حرف. غير أنَّ أديب كمال الدين يمزج بين الطريقتين ليؤسِّسَ له منهجاً خاصاً به هو.

  فهو يختلف عن المتصوفة في أن دلالات أحرفهِ لا تحقق النشوة المطلوبة ولا تقتربُ من الغاية المنشودة حيث السعادة المطلقة كما هو الحال لدى المتصوفة، ويتفق مع أصحاب المنهج الثاني في بعض نصوصه فتُعطي بعض أحرفهِ الدلالات التي يُخفيها وراء كل حرف.

  وفي مجموعته الشعرية "النقطة" تأخذ النقطةُ دلالتين أساسيتين هما نقطة الحروف ونقطة الدم، وكلتا الدلالتين تتسعان أحياناً وتتحدان أحياناً أخرى لِتشكِّلا معادلاً موضوعياً للشاعر نفسه، فهو النقطة في حروفه، وهو النقطة في دمه، وهو النازف دائماً، المقتول دائماً. يقول متحدثاً عن النقطة وعن نفسه في آنٍ معاً:

 

 كانت النقطةُ تحت

وقتها كنتُ ملكاً عاشقاً

ثم انتقلت النقطة فوق

فصرتُ صعلوكاً فشحاذاً فلا شيء! ص70

 

   وبين النقاط والحروف تدور ثلاثة أشياء دوراناً جليَّاً في جملته الشعرية في هذه المجموعة، هي الموت والدم والطفولة الضائعة، وجميعها تحمل دلالاتٍ سلبيةً وتشير إلى العدم. إنَّ دوران الشاعر حول هذه الألفاظ يدلُّ على تمكنها من نفسه، واستحواذها على أفكاره، وهو في كل ذلك إنما يرثي نفسه بإمعان واضح، ويُعلن عن امِّحاء وجوده في الحياة.

    فأما لفظ الموت فله حضوره المهيمن، فقد تكرر أكثر من أربعين مرة، ومن ذلك: (الموسيقى تجيء/ فأقومُ من الموت إليها. ص27، بكيتُ حتى سالت روحي. ص53، أم أني سأدخل في إيقاع المغني العجيب/وأغرقُ فيه حتى الموت.ص62، أم أنه كُتب عليَّ أن أرى جسدي/يموت أمامي عضواً عضواً؟.ص78، وأبكي حتى أموت/ثم أولدُ كي أبكي ثم أموت. ص82، البارحة متُّ. ص94، فسقتني السمَّ/لأموت إلى الأبد. ص100، أنا الساحر الذي أُحرقَ حياً حتى الموت. ص104.)، وبما أنه والنقطة سواء فهو يبحث عن حقيقتها إذ يبحث عن حقيقته هو فيصل إليها فإذا هي تتجلَّى في الموت نفسه: (أنا أبحث عن حقيقة النقطة/حقيقة النقطة في الموت. ص72-73).

       أما لفظ الدم فقد تكرر أكثر من أربعٍ وعشرين مرة، وأكثر من نصف هذا العدد للطفولة الضائعة، في قصائدها الثلاثين:

1- أنا الذي بنيتُ المأساة بدمي.ص7

2- والرغيف هنا مغموس بالدم. ص11

3- أنا دم أخذته السماءُ ولم تعطه الأرض. ص14

4- كانت النقطةُ دمَ الجمال/دمَ المراهقة/دمَ اللذة /دمَ السكاكين/ دمَ الدموع/ دمَ الخرافة/ دمَ الطائر المذبوح/ كانت النقطةُ دمي. ص21

5- فلم يبقَ لي منكِ سوى النقطة/ نقطة الدم. ص32

6- محتفلاً بدمي../فرحاً به.. ص38

7- لُطمتُ على فمي حتى سال دمي. ص40

8- أريد أن أبدأ أو أنهي سمفونية دمي. ص46

9- من دمكِ اقتبستُ موتي. ص48

10- ركبتُ زورقي متجهاً إلى بحيرة دمي. ص52

11- وضعتُ رمحاً على بابي/ خضبتُه بدمي. ص53

12- كيف نخرج والطريقُ إلى النهر/زلزاله كالحجر/ وأحداقه من رغيف مدمَّى؟ . ص65

13- فلن أترك سوفوكليس يقلع عيون مخلوقاته/على خشبة دمي. ص79

14- لا شأن لي إلاّ بما يكتب الشاعر/ في حروف دمه. ص81

15- أتجلّى في ذيل الشمس/ الملآن بالدم والغبار والأنين. ص86

16- أين أنتِ/ لتعيدي إلى دمي طبول أفريقيا. ص96

    بل إنَّ بين ثنايا كلماته ما يُوحي بالرغبة في الانتحار، وحيث لا يتأتى له ذلك في الواقع، فقد لجأَ إلى خيالهِ ليحقِّقَه فيه، فانصبَّ في شعره، ومن ذلك قوله: أعجبني موتي/وحين حاولتُ أن أكرره/ جننتُ. ص28، وضعتُ رمحاً على بابي/ خضبتُه بدمي.ص52، من أجلك افتتنتُ بالموت.ص33، هل أجرِّبُ الموت؟. ص36، .

   وتتجلّى رغبته في الانتحار بإصرار في قوله:

 كلّ يومٍ أطلقُ عليكَ النار ولا تموت

أشفقُ عليك لأنكَ قويٌّ كالثور المجنح

ووحيد كمرآة أعمى

وغامض كرأس مقطوع

ووحشيّ كدبابةٍ تسحق طفلاً

وضائعٌ كحرفٍ لا نقطة فيه

وساذج كأنكيدو

وخاسرٌ ككلكامش

أشفقُ عليكَ لأنكَ تشبهني تماماً

لأنكَ أنا! ص33

    يقف الشاعر إذن على شفا مأساةٍ عميقة الغور، لا يستطيع معها إخفاء فورانه، أو السكوت على أحزانه، فما سبب هذه المأساة؟. إنَّ مَن يتفحَّص حياة الشاعر أديب كمال الدين يراه مهدورَ الطفولة، ضائع الشباب، وليس أعزَّ على المرء من هاتين المرحلتين في حياته، وقد أحسنَ هو غايةَ الإحسان فعبَّر عن ذلك بجلاءٍ شديد، وبوحٍ صادق. هاهو يُشبِّه طفولته باللقلق وهو طائر يختلط لون السواد فيه بالبياض، ولا يبني عشه إلا في الأماكن العالية البعيدة إمعاناً منه في رسم الصورة المناسبة لطفولته النائية فيقول:

 طار اللقلقُ

لقلقُ طفولتي

بعيداً بعيداً

غير أنَّ اللقاء به

ظلَّ حلماً ينمو فيَّ

كما تنمو النار في فوَّهة البركان. ص22

    وأيُّ معنى لهذه الطفولة وهي لا تساوي شيئاً على الإطلاق؟، بل هي ضائعة أو مسروقة، فلا يعرف لها معنى ولا يفقه لها سراً:

 1- وحين أفلستُ

بعتُ اللاشيء مقابل طفولتي

واللاجدوى مقابل صباي. ص50

2- لو دخلت نقطتي في هلالك

لاستعدتُ طفولتي المسلوبة

من سوق اللصوص والمرابين. ص67

3- أنا اللص الذي سرق الزمنُ طفولته البريئة. ص105

4- دعيني أتعرفُ إلى بطنكِ النحيل

لأعرف سرَّ الطفولة الضائعة. ص99

    وتقف طفولته في طابور أشيائه ومتعلقات حياته التي يرثيها وخصَّها بقصيدته "محاولة في الكتابة" وهي قصيدة تقطر ألماً ومرارة، غير أنَّه يرسمُ لطفولته بعض الملامح من خلال سرد بعض ذكرياته في مدينته الحلة:

 بحثتُ عن طفولتي في أغنية قديمة

بحثتُ عنها في نخيل بابل والعراق

وسألتُ عنها ليل الحلة

فلم أجدها إلاّ في كفّ طفل شحاذ

يجلس قرب الجسر العتيق

ويمد يديه للعابرين الساهمين

يضحك تارةً، يبكي أو ينام. ص59

    ولا يجد أديب كمال الدين غير الموت عزاءً لضياع تلك الطفولة البريئة:

 إلى الحظ

أرسلتُ رسائل شديدة اللهجة،

شديدة التقريع:

"أنتَ من أفسدَ طفولتي

وحطم شبابي

وأربك شيخوختي".

ضحك الحظ، وقال:

"حسناً،

سأجعل من موتك

مناسبةً مليئةً بالبهجة والشموع!". ص108

    غير أنه مع ذلك ما يزال يحنُّ إلى طفولته، ويعيش على ذكراها، ويتمنى لو عادتْ إليه لا لمعاندة الزمن والسير ضدَّ إرادته وقَدَره المحسوب بدقة متناهية، وإنما لأنَّها معادل موضوعي للفرح الذي يتطلَّع إليه الشاعر، وحيث هي كذلك فالشوق إليها يستحيل شوقاً إلى الفرح نفسه حيث تتمنَّعُ عودتها على أجنحة ذلك اللقلق النائي:

 يا لقلقي

متى تجيء حتَّى أكفَّ عن البكاء؟

متى تحطُّ حتى أكفَّ عن الدموع؟

متى تحطّ حتى ألمس السعادة

في منقارك الدافئ

وأحسّ بصباي

يضحك في بياض ريشك العجيب؟. ص25

  ولكن كيف تَضيع الطفولة؟. ترعرعَ الشاعر في العراق وما لبث أن فتح عينيه على بلدٍ يقف لهُ الأعداءُ على الأبواب فجأةً، ولا يشغلهم غير إعلان الحرب عليه، بحسب الخطاب السياسي المُعلَن، ولذلك وجب عليه أن يشمِّر عن ساعديه ليخرج من حربٍ ليدخل في أخرى، فأي طفولةٍ هذه التي تعلكها الحروب المتتالية؟، أليس من المعقول والحالة هذه أن تتوشَّح بالسواد، فلا تنجو منه حتى الصباحات؟!:

 الصباح قطعة كفن

فتعالي يا نقطة الطفولة

قبِّلي خرابي

كلّ سنة مرّة

وضعي على رأسي الذي شيَّبتْهُ الحروب

حرفَ أمل وغصن حياة

تعالي، فالصباح عباءة سوداء

عليها سقطَ عصفور روحي كسير الجناح. ص88

    أما شبابُه فليس هو بأقلَّ ضياعاً من طفولته، وهو ضياع يتحمل الوطن مسؤوليته التامة: (خذيني فعلى الرماح حُمل رأسي/ وعلى الورقة البيضاء سُفح شبابي. ص34، وشبابي الذي غيّبته دجلة الغموض. ص89)، فإذا ضاعت طفولة الشاعر وتبعها شبابه فما الذي بقي لديه غير الضياع التام والهلاك؟:(وَضِعتُ حتى اكتشفتُ أرخبيل الضياع. ص71، أهي قليلة مناسبات ضياعي وهلاكي/ حتى تضيع، يا صوتي، وتهلك؟. ص77)، وهو الضياع الذي يساوي الموت الذي أمعن فيه الشاعر أيما إمعان، كما مرّ.

   ويستغرقُ الشاعر في مشروعه الشعري المستفيد من إمكانات حروف الأبجدية في التغيُّـر تبعاً لأوضاع النقاط من فوق أو من تحت، فتتغيَّر معاني الكلمات تبعاً لذلك، وهو في هذه المجموعة يستفيد مما تفعله النقطة عندما تنتقل بين الأمكنة في الكلمة الواحدة، ويمكن أن ننظر في قصيدته "محاولة في حقيقة النقطة" لنكتشف فلسفة الشاعر في ذلك:

 1-كانت النقطة تحت

وقتها كنتُ ملكاً عاشقاً

ثم انتقلت النقطة فوق

فصرتُ صعلوكاً فشحاذاً فلا شيء!

2- استمرَّ صعود النقطة عشرين عاماً

بالتمام والكمال

خلالها حلّقت الطائرات مرّتين

واحترقتْ مرتين

فاستبدلتُ رائي بالألف

وعيني بالدال ودالي بالياء والباء. ص70

    ففي هذين المقطعين من القصيدة يحاول الشاعر أن يصنع مشتركاً بين تغير أمكنة النقطة وتغيُّر ماجريات حياته، فكأنهما شيئان متلازمان، ففي المقطع الأول يقارن بين حالتين: حالة مزدهرة يقابلها وجود النقطة تحت فيتحقق اسمه "أديب"، وهو يقصد الملِك "أوديب" بطل التراجيديا الإغريقية للكاتب سوفوكلس الذي ذكره الشاعر في موضعٍ آخر من مجموعته هذه كما مرَّ، ويشبِّـه نفسه بهذا الملك لتشابه الاسمين فضلاً عن تشابُه المحنتين من حيث النهاية المفجعة، وإنْ كان نصَّ على الجانب الإيجابي من الفجيعة متمثلاً بصفة الملك العاشق، وحالة مندحرة يقابلها انتقال النقطة إلى تحت فيتغير اسمه إلى "أودين" وهو إله الحروب والقتلى في المعارك بحسب الميثولوجيا الاسكندنافية، وإنْ كان نصَّ على الصعلكة والشحاذة.

   وفي المقطع الثاني يحاول الشاعر التأريخ لمأساته في الانتقال من حالة الازدهار إلى حالة الاندحار فيما هو واضح من السياق، غير أن التغيير هنا يتعدى انتقال النقطة إلى استبدال الحرف بحروف أخرى، استبدال حروف بلا نقاط بحروف منقوطة، فتمام الحروف الأولى غير المنقوطة التي ادعاها الشاعر اسماً له هو "رعد"، الذي استبدله باسمه الحالي "أديب"، بعد تلك العشرين عاماً.

   إنّ أديب كمال الدين شاعر ذو منهج خاص به، وقد أثبتَ خلال مدة طويلة من التجريب والتعميق أنه مخلص لمنهجه هذا غايةَ الإخلاص، ذاهباً معه إلى أقصى حدّ، مستفيداً من اكتشافاته الجديدة، ويبدو أنه يقف منه على جديدٍ في كل مرّة، على الرغم مما يعتور هذا المنهج من غموض وتعميات لا يستطيع القارئ العادي ملامستها، وإدراك مجاهيلها أحياناً. وقد بدا في هذه المجموعة دائمَ النزيف والأوجاع، محاطاً بالضياعات، مسكوناً بالانهزامات والانكسارت والخيبات، منكفئاً على اليأس، مهموماً بالذكرى...مقتولاً.

************************************************

 

 نُشرت في مجلة عمّان - عمّان - الاردن – العدد 129 آذار  2006 

 و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 199 - 205

 

 

 

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home