"أربعون قصيدة عن الحرف" للشاعر "أديب كمال الدين":

وعي الموت السالف والحادث أو حِكمة ما بعد الأربعين

 

أ‌.      د. مصطفى الكيلاني – تونس

 

 

1- الاستمرار في استقراء الحرف.

 

يستمرّ أديب كمال الدّين في استقراء الحرف بالما-وراء الماثل فيه أو المُحايِث له، ولكنْ دُون التقيُّد بظاهر علاميّ، كتحديده، تقريبا، بالنون أو الحاء أو الجيم مثل السابق من أعمال التمثُّل الشعريّ. فالحرف في “أربعون قصيدة عن الحرف” هو مُحصّل تجربة الكتابة الحُروفيّة منذ بَدْء التفكير فيه خلال تفاصيل(1976) ومرورًا بـ”ديوان عربيّ”(1981) وما عقب ذلك من مجاميع شعريّة.

إلاّ أنّ الاستمرار في الاشتغال عليه ليس من قبيل التكرار الدالّ على ثابت الحال والمعنى وانّما هو “تكرار التحوُّل”، إذا جازت العبارة، الّذي يختصر ويختزل في الآن ذاته مَجْمَع القُوى الدلاليّة الكامنة في الحروف العربيّة عند انتهاج سبيل خاصّ في استقدامها إلى مجال الكتابة الشعريّة. وإذا الحرف في هذه المجموعة الشعريّة الحادِثة هو محصّل أفعال مُرَاكمة عند وصف حالات سابقة وجهد مستعاد يُراد به الاحتفاء بالرمزيّة الكامنة فيه وإحياء البعض من لحظة الدهشة آنَ التواصُل البدئيّ معه في طفولة التعلُّم، ثمّ عند اكتشاف العديد من طواياه وخفاياه عبر سنين العمر.

“فالأربعون” هو لفظ دالّ في الظاهر على عَدَدٍ مُحَدَّد. وفي ذلك ما يفتح علامة العدد على بُعد رَمْزيّ مُمْكن قد يُراد به الإلماح إلى العُمُر، بما قد يدلّ عليه لفظ “الأربعين” من رسوخ تجربة الكتابة (الحرف) والوُجود في ذات الحين.

 

2-  العناوين أو النصوص– العتبات.

 

وإذا نظرنا بَدْءًا في عناوين القصائد (النصوص-العتبات) في صلتها بالعنوان الرئيسيّ (أربعون قصيدة عن الحرف) تبيّن لنا الواصل المكانيّ بينها (سيدني وأديلايد في المهجر الأستراليّ) حيث تخضع أشياء العالم الخارجيّ لتداعيات حالات الداخل.

وما الحرف عند تمثُّله وإعادة تمثُّله إلاّ تسمية مُختَصَرة بكثافة مُتعمَّدَة لِمجمع حالات ومواقف تُقارب وتُباعِد بين الوطن والمهجر، بين زمن كان وآخر يكون، بين وقائع الوُجود الّذي تحقّق ووعي الموت الآخذ في التعاظُم والتوقُّد استباقا لِنهاية وشيكة قادمة، وإنْ تعدّدت الأعوام.

فقارئ عناوين القصائد المذكورة يُلاحظ مجالاً لتناصّ وسيع يصعب تقييده بظاهر المَوْقع ومُطلق الحرف، كأن تعمق الدلالة الحروفيّة وتستثري بالرموز العَقَديّة والعِرفانيّة والأنتروبولوجيّة آنَ الإحالة على نوح وكلكامش وتَموْقُع الانفراد والبُرقع والمُلغَز والكامن في التخوم القصيّة للحياة  والموت والمواطن الخفيّة المُشتركة بين الحال الإيروسية والحال الباتوسيّة ووحشة المكان– المهْجَر (سِدْني) وإشراق المحبّة وتداعيات الحال الكاتبة السرياليّة أحيانا لِمُغالبة العبث بِمُمْكن المعنى وبعض مواقف الاستذكار والتماهي الاضطراريّ مع الرمز الحروفيّ فرارًا من جحيم الوضعيّة السالف والحادث ودائرة الحزن القديم والمستعاد بِمُجمل تاريخ الفاجعة الفرديّ والجمعيّ وانفتاح القصيدة على حادث رثاء الذات والوطن بتوظيف راهنيّ للحزن لم يألفه تاريخ الشعر العربيّ، قديمه وحديثه.

كذا “أربعون قصيدة عن الحرف” لأديب كمال الدّين هو محصّل تجربة في الوُجود والكتابة الشعريّة واستمرار في نهج التجريب الحُروفيّ بما يصل بين علاميّة الحرف وتدلال الطيف الماثل فيه. إلاّ أنّ اشتراطات الكتابة الحادثة تستدعي إضافة التكرار خَوْفا من التلاشي في التجريب المحض أو التجربة الرافضة لِثابت الأسلوب. لذا يُمثّل الحرف بالنسبة لأديب كمال الدّين آخر قلاع المعنى المُتبقيّة في وجود فرديّ وجمعيّ مُهَدَّد بالتلاشي الكامل في جامد السُنن الشعريّة الموروثة المستهلَكَة أو غياب الوُجهة والاتّجاه مَعًا عند الانخراط في نهْج كتابة شعريّة مُعاصِره.

 

3- وقفة تأمّل في نهج الكتابة الشعريّة العامّ.

 

إنّ “أربعون قصيدة عن الحرف” هو بمثابة وقفة تأمُّل في نهج الكتابة الشعريّة العامّ لتثبيت أساليب في الكتابة ومزيد التثبُّت مِن قيم جماليّة واخلاقيّة، كأن تحرص الذات الشاعرة على تكرار الكثير من الحالات والمواقف السابقة.

إلاّ أنّ جديد الحروفيّة، هنا، ماثل أساسا ومرجعا في استباق شاعريّة الموت بِوعي اللحظة ومُحصَّل تجربة الزمن السابق وانتظار الموت- الحدث واستثمار حالات هذا الانتظار. فكيف يطفو وعي الموت على سطح الدلالة؟ وكيف يَعْمق ليحتجب؟ وما دلالات الوُجود الماثل فيه وبه؟ وكيف يُظهر ليُضمر معاني الكارثة السالفة والحادثة والقادمة، على حَدٍّ سواء؟

إنّ مُتعقّب تدلال الموت في “أربعون قصيدة عن الحرف” لأديب كمال الدّين يُلاحظ توجُّه الذات الشاعرة إليه لينكشف بعضه في الأثناء واحِدًا مُتعدّدًا بِضَرْبٍ من التكرار والاختلاف الدلاليّيْن، إذْ هو بمثابة حِكمة البدايات عند تمثّل نوح الّذي كان ليستمرّ حكايةً تُستعاد بأن تُروى عبر الأزمنة وتختصر قصّة الكينونة مُجْمَلَةً بالحدوث والانقضاء، شأن الكائنات، كُلّ الكائنات، بما في ذلك الحرف الشاهد على الأنا الناطق به والمكتوب أو المُنْكتب أيضا من خلاله:

 

“ستموت الآن

أعرف، يا صديقي الحرف، أنّكَ ستموت الآن...”

 

فهذا المصير المنتظَر يختصر ويختزل في الآن ذاته قصّة المآل الّذي هوالعدم، بدْء الوُجود ومرجعه، الأصل الأوّل الّذي به تُحَدّ كُلّ الأصول.

وما الوجود، هنا، إلاّ وضع استثنائيّ مشروط بالبدء والانتهاء ليظلّ العدم هوالثابت الأزليّ، كالبحر العظيم يبتلع كُلّ الأنهار والأودية والجداول كي ينسال هو الآخر إلى ما لا نهاية ويفيض في كُلّ الاتّجاهات. وكأنّ طوفان نوح، بهذا التمثُّل الأُنطلوجيّ الضارب بجُذوره في أعماق تاريخ الكينونة، إعادة تشكيل سرديّ للتعالُق الأزليّ الماثل بين الوجود والعدم، برَمْزيّة الفيْض المائيّ والسفينة           وإرادة الحياة لدى نوح ورفاقه أو تُبّاعه الأوائل.

وكما يتّصف الوجود، أيّ وُجود، بالنُقصان والمغامرة والمخاطَرة أمْكن لنُوح أن يُثبت بصفات الكينونة ذاتها أنّه قادر على مُغالبة الفيض بالسفينة وإرادة الحياة عند الإصرار العجيب على البقاء. فحقّق النجاة ليضمن بذلك استمرار النوع البشريّ في الوُجود، مثلما عبّرت الذات الشاعرة عن الرغبة في بقائها بالحرف وبقاء الحرف بها وُجُودًا ورَمْزًا لِوُجود عند الاستنجاد بِنُوح- الرمز الأبويّ لكافّة البشريّة وما تُمثّله حكاية الطوفان من معنى الأمل الماثل في وُجوده الّذي كان ولا يَزال بِدلالة الرمز المستعاد.

كَذَا يتّضح الموت عند البَدْء حكايةً لِرمز، قوّة حافزة على الأمل بِتعالُق وضعيْن، بين نوح الجَدّ يُغالب الهلاك والحفيد (الذات الشاعرة) يُضانك الكارثة ولا يستكين.

4- لعبة التماهي مع كُلّ من الحرف والأسطورة.

وبالقصد الإستراتيجيّ ذاته تتعاظم شهوة الكتابة في الأسطورة وبها كي تُواصل الذات الشاعرة مُمارسة لعبة التماهي مع علامة رمزيّة أخرى اتّخذت لها “كلكامش” تسميةً.

فكلكامش هوالاسم الآخر لهذا الأب الأوّل، صانع الحضارة ومُبدع القيمة الأولى كي يتأكّد، تقريبا، بشكل آخر أنّ الموت هو بمثابة الوُجود المحض مادام الحفيد يُواصل رحلة البقاء ويستعيد بالذاكرة الحينيّة آثار الجدّ أو الأب الأوّل الّذي كان. فتنطق القصيدة، هنا، بحكمة “رجل الأربعين” وما بعد، ذاك الّذي طوّف في أقاصي الوُجود واستعار من الأسطورة (أسطورة الأجداد الأوائل) ما بِه تُصاغ الحِكمة الأزليّة الّتي مفادها نشأة الوعي الكينونيّ بالموت، مرجع كُلّ القيم الأخلاقيّة وهادمها عند اصطدام الذات العاقلة المُتخيِّلة الحادثة بنقيض الوجود الّذي هوالعدم، مبعث الفساد والتفكّكُ حَدّ التلاشي.

وكما تروي حياة الفرد بِضَرب من الاقتصار والاختصار حكاية الوُجود كاملا، ما كان ويكون وقد يكون فإنّ الحرف هوالصدى أو الظلّ أو الطيف أو الوشم أو الرشم أو الأثر الحاضر في الآن حضور صاحبه (الذات الشاعرة) والغائب مستقبلا لِمَا يفعله الزمن في تقادُم ذلك الأثر حَدّ الانطمار، حتّى لكأنّ شيْئًا مَّا لَمْ يَكُنْ. في ذلك يكمن سرّ الإبداع لمدى اقتدار الكائن البشريّ بالفكر والعمل، باللّغة         والإنشاء على الاسترجاع والاسْترهان والاستباق عند تمثُّل وعي البدايات أو موت السلف  واستحضار رمْزيّة الفِعل المُحايِث له وتحويل انتظار الموت الفرْديّ إلى عمل مُخصِب حضارةً وثقافةً، عمارةً وتأسيسا للفكر والإبداع .

لذا يكتمن الحرف تجارب السلف والخلف مَعًا، الأوائل ولاحقيهم بِتاريخ التواصُل والانقطاع، التراكُم والإبدال.

 

5- الحروفيّة هي الوجه الآخر لتاريخ الأُصول.

 

إنّ الحروفيّة، بهذا المنظور، هي الوجه الآخر لتاريخ الأصول، تاريخ الذات الفرديّة في تواصلها مع تاريخ الأرض (الوطن)، كأن يتواصل الحرف ونوح وكلكامش وأوروك القديمة والعِراق الحادث.

وإذا “الموت” في “أربعون قصيدة عن الحرف” هو الدلالة المرجعيّة الّتي وَرَدَ ذِكْرها في قصائد المجموعات الشعريّة السالفة. إلاّ أنّ حضورها يُمسي مُولِّدًا فاعِلا في منعطف “الأربعين” بنُبُوّة الشاعر وعِرفانيّة القصيدة مَعًا، وبتسريع الزمن عند النظر الاسترجاعيّ والاسترهانيّ والاستباقيّ في ذات السياق. فيستفيد أديب كمال الدّين من صورة الحرف في تعالُقه مع النقطة، بما يُذكّرنا “بنون”، تحديدًا، كي نتمثّل في الأثناء رحلة الوجود يخوضها الموجود على شاكلة التكرار والإضافة، بما يُمْكن تسميته “حركة التكرار” تبعا لِنسق دورانيّ يُؤكدّ في الآن ذاته على شاعريّة تجربة الكتابة  وعِرْفانيّة أبعادها الصوفيّة عند استخدام الحركة الدورانيّة حيث يلتقي الداخل والخارج أو يتماهيان عبر ذاتٍ رائيّة مَرْئيّة، بمدْلول الرؤيا، تحديدًا.

ولهذا التمثُّل الشاعريّ العِرفانيّ تنزع الكتابة إلى ممارسة لعبة الأقنعة بالحرف وبما هو أبعد من الحرف (الما-وراء)، آن استعادة البعض من تاريخ الجريمة الدمويّ حيث الرؤوس تُقْطع كي تُرْفع على الرماح بمُجمل زمن الشهادة والاستشهاد، “كالمُتبرقِع” ينفصل رأسه عن الجسد ليستبدّ بِه ثِقل الأرض وما عليها نتيجَةَ القهر الّذي كان والقهر الّذي يكون .

وإذا “أربعون قصيدة...” أو قصائد الأربعين وما بعد مجال حِكائيّ يَرد شِعْرًا بالمُغامرة تصل إلى التخوم القصيّة للحياة والموت وتستثمر دلالات الموت لِتَجاوُز قُبح العالم وفظاعة المأساة وفجاجة الإثم إلى الكتابة بالحُبّ والحُبّ بالكتابة كي يستحيل الموت إلى قيمة تُضاف إلى الحياة لإكسابها معنى ما رغم العبث البادي عليها وتأثيث النزْر القليل من الفراغ، كأن يتحرّر الجسد، ولو مجازًا، مِن بعض ثِقله بالرقص الحروفيّ القديم واستقدام مُمْكن طيّات النحت بالطين لحظَةَ التراقُص أو التماهي:

 

“ولم أزل أراقصها

أو أراقص صوتها أو حُلمها

درويشا نصفه نار ونصفه طين! “

 

6- التمثُّل الحُروفيّ للموت.

 

تتعدّد صور الموت ودلالاته بهذه المغامرة الاسترجاعيّة، يتكثّر، يتغيّر، حَسَب سياق الجدْولة واعادة الجَدْولة في توزيع مُختلف المواقف والحالات. ولأنّ مآل الكائن، أيّ كائن، هوالانقضاء فقد انبجست من رحِم الحال الشاعرة العِرفانيّة حكمة وُجوب استباق النهاية المحتومة واعتبار الموت سائرًا هوالآخر إلى حتفه، لاتّصافه بالفرديّة، عكس الهلاك أو الفساد أو التلاشي الّذي هو صفة عامّة لِجميع الكائنات.

ولأنّ الموت وعي فرديّ، كما أسلفنا، فهو ينتفي بانتفاء هذا الوعي، أو انعدام الكائن الفرديّ، تحديدًا .

ذلك ما ورد موقفا حِكْميّا على لسان الحرف:

 

“حتّى الموت نفسه سيموت.

قال لي الحرفُ ذلك

وأفْرد جناحيه

لِيُحلّق كالنسرِ وسط  السماء”.

 

بِهذه التمثُّل الحُروفيّ للموت، إذا جازت العبارة، قدْ يُشبَّهُ الفرد هوالآخر بالحرف في زحمة الحروف–الكائنات أو الكائنات– الحروف ضمْنَ سِجلّ هائل هوالعالم وما في العالم بيَدٍ خلاّقة أبديّة. فإذا قلَّبْنا في صفحات هذا الكتاب الضخم اللاّ-نهائيّ أصاب العَشا البصيرة لكثرة الحروف وتداخُلها وتقاطعها وتواصلها وتعدُّد إمكانات تدليلها على ذات الشاعر الّتي هي بعض من ذات هذه القُوّة العُلْويّة الّتي حفزت الذات الشاعرة على إثبات مَوْجوديّتها بمَوْجوديّته العارضة جَسَدًا، الثابتة روحًا، المتحرّكة حيرةً وارتباكًا، المائلة إلى السكون حينما تتحرّر هذه الروح مِن ثِقل الجسد كي تُحلّق عاليا في سماء الكتاب الكينونيّ الحافل بصُور الجمال وأسرار المعاني.

فكيف يُمْكن، إذن، لهذا الصنف العالي أو المتعالي من الحروف أن لا يُمَسَّ بِجُنون كي يُطوّف في المواطن القصيّة المُلغزة للحياة والموت، ويمتحن وُجوده العذابيّ حَدّ اللذّة بالحُبّ؟ ولكنْ، حُبّ ماذا أَوْ مَنْ؟ حُبّ الحرف في ذاته أو الحرف الدالّ على ما به كان ويكون وسيظلّ كائنا في المستقبل الأبديّ، “بقُوّة القُوى”، ذلك الوَهَج النورانيّ يستقدم إليه استعارة الشعر وعِرفانيّة التمثُّل الصوفيّ  وحِكمة مَن جَرّب الحياة بالموت والموت بالحياة أو ادْرك أنْ لا معنى للحياة مِن غير موت وان لا إدراك” للأفكار الكُبرى” دون اللعب الخطِر بين هذين الحدّين، بين حياة مُهْلكة كُمونا وموت مُوجد.

 

7- الحرف الّذي يُظهِر لِيُضمِر ويُضمر ليُظهر.

 

إنّ الحرف، هنا، كما ترتئيه الذات الشاعرة واحد مُتعدّد، كأن يُظهر لِيُضمر ويُضمر ليُظهر، مثلما يصطبغ بحالات هذه الذات وتقلُّباتها كي يصطدم بالعجز عن أداء أيّ معنى حينما ينكشف العالم وُجُودًا غابيّا موحِشا يعجّ بمشاهد الكارثة والعبث. هُنا يُضحي مجالا للفسخ واعادة الإنشاء بإضافة “النقطة” اليه، كالسالف من محاولات تمعين (من المعنى) وُجوده بما هو أبعد من اللّذة والحِرمان، بما وراء اللذّة والانقطاع، الاحتفال المأتميّ أو المأتم الاحتفاليّ. فتحتمي الذات الشاعرة باللحظة، بتجريب القصيدة–القصّة عند توصيف عالم “سِدْني”  حيث الحركة المجنونة بقطاراتها “تركض من فجر إلى فجر” و”هذيان الدولارات” ومهزلة عالم ماديّ بلا قِيم والفوضى السائبة رغم فرْط النظام واختلال العلاقة الواصلة بين الحياة والموت:

 

“كان الموتى في قطارات سِدْني

يتأمّلون المشهدَ بانضباطٍ تامّ

وهم يتنفّسون بصعوبة.

وبين حين وآخر

كنتُ أراهم يبتسمون

أو خُيّل إليَّ أنّهم يبتسمون!”  

 

فيحتدّ الشعور بالموت عند الاسترهان ليكتمل بذلك مشهد “السقوط”، انحباس الأفق. وكأنّ الموت بمختلف سياقات استخدامه هواخر القلاع في الوجود، بل هوالحكمة المُتبقّّية الّتي بها تستمدّ ذات الموجود القوّة لتستمرّ في الوجود رغم كُلّ الهزائم والخيْبات السالفة والحادثة.

وإذا الموت لازمة دلاليّة تسكن “أربعون قصيدة عن الحرف”، كأنْ تتكرّر عباراته لتتماثل وتختلف بمنظور الانقضاء حينا والمُكابرة في إكساب الوجود المتبقّى معنى أحيانا، بالانتقال من حرف إلى آخر، شأن الانتقال من “منفى إلى منفى”.

لذلك تتماهى الذات والحرف، المعنى والعبث داخل الذات الواحدة “بتناصّ الحروف” أو تناصّ الوُجود الذاتيّ وهذه الحروف. فكُلّ العلامات/الدلالات تتهاوى في الأثناء: سقوط “الماضي، البيضة، البحر، القمر، الشاعر المهرّج، الطاغية، الحرف”، أي سقوط كُلّ الرموز السالفة والحادثة .

وكما يتراءى زمن الطفولة نحيلا بِماضي العذابات يتّصف الراهن في وعي الوجود والكتابة بالخواء ليظلّ المستقبل إمكانا خافتا لمعنى قد يتحقّق، وقد لا يتحقّق.

إلاّ أنّ هذا الإمكان المستقبليّ هو مشروع للإنشاء الحروفيّ أو الاستمرار فيه بمُراجعة المُنجَز الخاصّ به واعادة تشكيله، كأن تستعيد الذات الشاعرة شهوة الإبحار في الأعماق ردًّا على انهيار القيم في العالم الخارجيّ :

 

“وفي أعماقِ الثيابِ الممزّقةِ حلم

وفي أعماقِ الحلمِ نهر

وفي أعماقِ النهرِ صبيّ

وفي أعماقِ الصبيّ قلب

وفي أعماقِ القلبِ قصيدة

وفي أعماقِ القصيدةِ حرف

وفي أعماقِ الحرفِ نقطة

وفي أعماقِ النقطةِ متصوّف

وفي أعماقِ المتصّوفِ إله

إله ينظرُ إلى طائري المذبوح بعينيْن دامعتيْن”.

 

وبهذا التدوير اللّفظيّ والدلاليّ يُعيد أديب كمال الدّين كتابة الدائرة تتناسل دوائر بانتظام العلامات الحُروفيّة واللّفظيّة رغم اختلافها وتواصُل الأزمنة والماهيّات ضمن أعماق ذات واحدة تجمع بين مختلف الرموز والأزمنة والأمْكنة والأبعاد دُون فقدان الحركة الدورانيّة حيث التقاء الكُلّ والجزء/الأجزاء، أنا-الذات الشاعرة والاله بِمقام صوفيّ لا يُفارق بين الألم والانتشاء، بين حُبّ يُقارب حالة الموت وموت يتفانى في الرغبة حَدّ الاستعداد للاضمحلال الكامل.

 

8- الحرف بين الإنشاد الاستعاريّ والتركيب الكِنائيّ.

 

وكما تصطدم اللّغة بالعجز في أداء مثل هذه الحالات والمواقف تُضطرّ الذات الشاعرة إلى كسر عُنق العادة في الاستخدام اللّغويّ شِعْرًا بتغيير الوُجهة من شبه المطابقة عند وصف الحالات بتوليد مختلف الاستعارات الحُروفيّة إلى اعتماد ضَرْب من الكتابة السِرياليّة عن طريق بعض الصُور الكنائيّة بُغْيَةَ توسيع مجال الاستعارة بما يقترب من فظاعة المشهد الكارثيّ عبر مُختلف أزمنة الوُجود الذاتيّ بانتهاج علاميّة “السطر” في صلته بالحرف:

 

“السطرُ يمتدُّ كَتاء التابوت.

لا جدْوى، بالطبعِ، من البُكاءِ ومن الدمع.

لا جدوى، بالطبعِ، من لُهاثِ الكلب

ولا جدوى، بالطبعِ، من حديقةِ الحيواناتِ البشريّة:

حديقة القمرِ الأسود والكلبِ الرماديّ.”

 

للّعب الكاتِب، هنا، وجوه مختلفة، كالجدْولة وإعادة الجدولة باعتماد سياقات تجاوُر لفظيّ كثيرة،       وبالتدوير اللّفظيّ، والتمعين حَدَّ التعتيم، والتعتيم حَدّ التمعين، وبالانتظار دلالةً  وتِدْلالا، أو معنى وإمكان معنى، بمَجْمع تجارب “هاملت وماكبث والحلاّج والنِفّري وزوربا اليونانيّ...”. فلا شيء متبقّى عَدَا اللعب التناصّيّ والإلماحات التَرَاجيديّة يعتمدها الشعر عَادَةً، قديمِهِ وحديثِهِ، وتوديع المدن، كـ”عمّان” ثمّ الانتظار في مدن أخرى أو بالانتقال من مُدُن إلى مُدُن، الفرار من وضع إلى آخر (ربّما)، من حرف إلى حرف، من سرير إلى سرير، من الانتظار ذاته إلى انتظار آخر، من لذّة إلى وجه آخر للذّة، من عذاب جميل إلى عذاب أجمل (ربّما أيْضا)، من ألم إلى أمل  ومن أمل إلى ألم، من تشكيل حُروفيّ يختزل مأساة الوجود إلى تشكيل آخر، ثمّ الانتظار فالانتظار إلى نهاية محتومة قادمة، من ذكرى إلى ذكرى، من طاغية إلى زمن طاغية جديد، من سبيل إلى أخرى في زحمة الأمكنة، من وعي موت إلى وعي موت مُختلِف، من صورة جُمجمة إلى صورة جُمجمة، من موقف هازل إلى موقف أشدّ هزلاً أو ربّما جِدًّا، ثمّ الانتظار فالانتظار، التلهّي بلعبة الحروف للتجوال بين خطر وخطر، بين موت كان وآخر يكون، بل سيكون، بين فصل وآخر في دَوْرة فصول لم تعد كما كانت في ماضي أوروك القديمة، بين الفائدة واللاّ-فائدة، بين المُسَمّى واللاّ-مُسمّى عند العجز عن تسمية قصيدة (قصيدة بلا عنوان)، عند التماهي والتنابذ بين الأنا والأنتِ، بين النوم  والاحتراق، بين عذابات الذات الشاعرة ونهاية “أنّا كارينينا” لتولستوي، بين تقادُم الحرف وتجدُّد النقطة أو اصرارها على التجذيف في مُغامرة الإبحار الوُجوديّ بالكتابة والكتابة شِعْرًا بالوُجود، ليظلّ الانتظار في خاتمة “أربعون قصيدة عن الحرف” مصحوبا بالسؤال: “لماذا”، سؤال العاشق يُغيّب كُلّ الأشياء والرموز من غير أن يحتجب وُجود الذات لأهميّة “الشهادة”، هُنا، على ما كان،  ويستمرّ بقاؤه في الوُجود بضرْب من الاستثناء الّذي يقي تجربة الكتابة من العبث المحض:

 

“إلهي

وحدي كنتُ الحيّ الباقي،

الحيّ الشاهد على ما حدث،

أعني الحيّ الّذي يكتبُ هذه الحروف

بِقلمه المُرتبك حَدّ اللعنة

والّذي يتوقّفُ كُلّ دقيقة

ليتأكدّ من أنّ أصابعه لم تزلْ

تستطيع الكتابة”.

 

9- من قبيل الخاتمة: التمثّل العِرْفانيّ للحرف بصُوفيّة حَدَاثيّة.

 

هوالانتظار، ثمّ الانتظار، كما أسلفنا، ولكنْ بالكتابة تُكسب وجود الذات الشاعرة المعنى الوحيد المتبقّى، تقريبًا، وتدفعه إلى التوغّل في عالم الأعماق حيث المرايا تُفضي إلى مرايا، والمرايا تتعالق مع مرايا بأقدم الصُور كي يتأكّد لنا أثناء القراءة أنّ تجربة الكتابة الحُروفيّة في هذه المجموعة الشعريّة بعد اصطدامها بانحباس مُختلف الوضعيّات والأزمنة والأمكنة السالفة والحادثة تستحيل إلى          “حروفيّة صوفيّة“ تختزل قصّة العالم والموجود وتداعيات وُجودهما إلى لحظة الكتابة. لذلك يكتسب الجسد بالحرف والحرف بالجسد صفة العالم الأصغر يختصر البعض الكثير من قصّة العالم الأكبر، ويبحث عبر الحدود عن كثافة دلالة اللاّ-محدود، ويستقرئ الوجود المتبقّى بالموت والموت بهذا الوجود.

بُعْدٌ آخر، إذن، في مشروع أديب كمال الدّين الحروفيّ يدفع الحرف إلى ما هو أبعد من علاميّته الخطّيّة والرمزيّة والأنتروبولوجيّة مَعًا، أي إلى التمثّل العِرْفانيّ بصوفيّة حداثيّة تُغامر في خوْض تجربة وعي الاستبطان لِتُقارب بين اللاّ-مُتناهي في الصِغر واللاّ-مُتناهي في الكبر، بين الحضور الجسدانيّ وكثافة المعنى الروحانيّ عند مُنعطف ما بعد الأربعين، بخَوْض تجربة الموت الجميل الواعي الفاعل إبدَاعًا شعريّا قبل سماجة لحظة الانقضاء الّتي هي، في المحصّل، نهاية الكائنات، كُلّ الكائنات.

 

*********************************************

(*) أديب كمال الدّين، "أربعون قصيدة عن الحرف"، الأردنّ، دار أزمنة، 2009.

 

** فصل من كتاب الناقد التونسي أ. د. مصطفى الكيلاني بعنوان: "الحرف والطيف: عالم أديب كمال الدّين الشِعريّ (مقاربة تأويليّة)" تونس 2010 - نشر اليكتروني.

 

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home