"شجرة الحروف" لأديب كمال الدين

تنظيف الكلمات من طعناتها

محمد العشري

 

 

"أنا النقطة

أنا الشمس المكتملة

وأنتَ البحر اللانهائي،

أيها الحرف،

أهبطُ فيكَ شيئاً فشيئاً

حتى أختفي تماماً".

 

  هكذا تمتد جذور الشعر إلى الأعماق البعيدة، لتصعد هادئة، وثابتة. تلك النبتة المكوّنة للقصيدة الشعرية، تورق ظلالها الوارفة، لتغطي كل شيء، حرفاً حرفاً، ونقطة نقطة في المجموعة الشعرية الجديدة "شجرة الحروف" للشاعر العراقي المغترب في أستراليا أديب كمال الدين، الصادرة حديثاً لدى "دار أزمنة" للنشر والتوزيع في الأردن. هي مجموعته التاسعة في مسيرته الشعرية الطويلة، والتي يخلص فيها لتجربة فريدة، تتخذ من الحرف وتشكيله أعمدة متينة في بنائه، وتكوينه الشعري، ولتصبح تسميته بـ"الحروفي" أمراً جلياً للقارئ إذا ما تتبع عناوين مجموعاته الشعرية السابقة، ومضامينها، منها: "تفاصيل"، "ديوان عربي"، "جيم"، "نون"، "أخبار المعنى"، "النقطة"، و"حاء".

  أربعون ثمرة هي إنتاج أديب كمال الدين الشعري في هذه المجموعة، تبدأ بقصيدة "وصف"، وتنتهي بقصيدة "مشاهد"، وهي إحالة ذكية من الشاعر، لجذب رؤية القارئ، ودفعه الى تأمل شجرته الشعرية، وتذوّق ثمارها. عينان مفتوحتان على الدهشة، تلقيان به في أحضان حروف عاشقة، يتوهج بعضها بالالتقاء مع البعض، وتلتذ بمواضع النقط فوقها، وتحتها، وداخلها، وخارجها، لتشكل في النهاية كياناً حياً:

 

 "كلما اتجه الحرفُ نحو نفسه

 حاملاً صرّة ملابسه

 واضعاً الشمس حلماً يتألقُ في عينيه

 راكباً حافلة المسرّة

 باتجاه فراتِ المسرّة

 وجد بانتظاره نقطةً غامضة

 مليئةً بالشوق والندم والألم".

 

   ولا بد أن القارئ في تلقيه قصائد تتغزل بجلال الحرف، سيكتشف أن لكمال الدين شاعرية خاصة تتعامل مع القصيدة بحرفية عالية، لا تخلو من ابتكار وإدهاش، ويبدو معها صانعاً ماهراً في تكوين مشاهده وصوره المتخمة بالنقش والزخرفة، إضافة إلى أن سمة سردية عريضة تنمو داخل القصائد، وتحركها لتخرج من إطارها المعدّ سلفاً، مثل قصيدة "شجرة الحروف"، والتي تحمل عنوان المجموعة:

 

 "ليس هناك من شجرةٍ بهذا الإسم

أو بهذا المعنى

 ولذا أنبتُّ هيكلي العظمي في الصحراء

 وألبسته قبّعةَ الحلم وحذاء طفولتي الأحمر".

 

   وهو على هذا النحو يبدو مثل بيغماليون حين تكتمل الصورة المشكّلة بأصابعه، وتكاد أن تتمرد عليه أو تخرج من تحت سيطرته، فيسابق إلى نسفها. ثم يهدّئ من روع القارئ بعد مشهد درامي كهذا، فيتبرأ من قصيدته، ويسافر في أحلامه، أو تتبرأ هي منه، وتجد لنفسها متنفساً أوسع بالابتعاد عنه. هناك يعثر عليه القارئ وقد انقلب من اللهو إلى الجد، ويكتشف تفاصيل عميقة الأثر، مسكوتاً عنها، تختبئ في لا وعي الشاعر، ولا تلبث أن يصرح بها، ليؤكد جديته:

 

"حدث أن سجنتُ مدى الحياة

 ولكي أبدد الوقتَ في سجني الأبدي

 زرعتُ شجرةً صغيرةً جداً،

 في الصحن المعدني العتيق الذي يضع

 فيه السجّانون طعامي

 فَنَمت الشجرةُ عاماً فعاماً".


  النجاة بالشعر، والفرار من سجن الوحدة، يضعان القارئ في مواجهة صعبة، مع ذات مغامرة، تقلب كل شيء هادئ، وتدفعه الى الحركة، أو الى الغوص العميق في ذاته هو، ليتأمل أسراره، ويفكر كيف يعلنها ببساطة، ويتخلص من شجنها الدفين وحفرها في الروح:

 

 "كان خطأ لا يغتفر

 أعترفُ بذلك أمام الجميع

 نعم،

 كان خطأ من العيار الثقيل!".

 

  هذا الاعتراف المضني، الذي جاء ببساطة، يتبخر أيضاً ببساطة أكبر، ويتيه في دخان الحلم، حين تتخذ تلك الذات صوراً فانتازية تحلّق فوق رأس الواقع، وتتموّه معه، لتصبح الصورة العجائبية ملمحاً بارزاً في شعرية أديب كمال الدين:

 

 "ضربت النقطةُ بجناحيها الناعمين إشارةَ السير

 فصهل قطارُ الكلامِ صهيلاً جميلاً

 صعد البخارُ من منخريه قليلاً قليلاً

 حتى هبط من باب القطار

 حرفٌ بملامح قاسية".

 

   ربما تنتمي الملامح السردية المفرطة في خلق دراما مشهدية، إلى الحكاية، وهي ما يدفع بالشاعر إلى أن ينبه قارئه إلى اختلاف التلقي النقدي للقصيدة الحديثة، من حيث احيائها لدى البعض، وقتلها على أيدي آخرين:

 

 "قال البلاغيون

 وأحدهم قابلني في شبابي

 وصرخ في وجهي:

 احذر أن تكتب شعراً فيه معنى!

 قلت: فهل أكتب شعراً لا معنى فيه؟

 قال: ولا هذا أيضاً!

 وأشاح بوجهه القاسي عني."

 

  ذلك تصدّ ماكر من الشاعر يغلق الباب وراء من يفتش في المثالب، ويترك كل شيء حسن أمامه. وربما يريد أديب كمال الدين أن يمسك بأصابع القارئ في حنو بالغ، ويخبره أنه هو كل ما يسعى إليه، ويكتب الشعر من أجله، من دون تعويل على النقد والنقاد، أو تشريحهم القاتل لجسد الشعر وروحه. هذا ما تشي به بعض جمله الشعرية:

 

 "يا مَن تقرأ لوح حياتي، أعني قصيدتي

 هكذا أختفي فيكَ وبكَ ومعك

 لأكون لا نهائيةً فيكَ وبكَ ومعك

 وأنت تمتصّني لتبتهج بأسراري

 أو لتضيع فيّ أو بي أو معي".

 

  من دون تعويل على أحد، يصبح المشهد تراجيديا في نهاية المجموعة حاملاً أصدق الصور التي يمكن أن تقابلها الذات الشاعرة، بعد زمن طويل من الفراق مع ذات الشاعر المثخنة بالجروح والغربة:

 

 "تنظّفُ كلماته من الصدأ والغبار

 وبدأ هو، بهدوء إلهي،

 ينظّفُ جسدها من الدم والطعنات.

 *************************

 نُشرت في صحيفة النهار البيروتية بتأريخ 26 آذار -مارس 2008

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home