قراءة في نون

 

          

         مهدي شاكرالعبيدي           

 

 بعد مجموعاته الشعرية الثلاث السابقة: ديوان عربي، تفاصيل، جيم، يصدرالشاعر أديب كمال الدين مجموعته الأخيرة المعنونة (نون)، غيرمحتفل هذه المرة بالجرس الموسيقى المألوف في قصائد القدامى والجارين على منوالهم في الوقت الحاضر، ولا مشاكلاً مقتفياً سليقة دعاة الشعرالحرأو الجديد، إنما نلفيه سالكاً الجدد الذي يترسمه أرباب قصيدة النثر حيث لايمكن بحال أن يسوق الشاعر عباراته النثرية عبر أسطر كما هوشأن كتاب المقالة أو أي فن أدبي آخر، ذلك إن ما تزخر به تعابيره تلك من موسيقى أسميناها داخلية نظراً لعفويته وصدوره عن محض الطبيعة، فضلا عن الصدق الذي يتمثل في شعوره، يستدعي أن تستقل كل عبارة مستوفية معناها كاملاً بسطر دون إنبتات صلته بما يتلوه أو يسبقه من معاني سائر العبارات وقد قدر لأديب الذي ماعهدته يوماً الاّ طلق الأسارير مشرق القسمات حتى كان لا يعنيه من أمر الحياة شيء ، أن يفرض وجوده في الوسط الادبي فرضاً هو مستحقه على أية حال من خلال مواصلته النشر في صحفنا ومجلاتنا المعهودة جميعاً لقصائده المجودة ومقالاته الممتازة، فلك أن تعجب أو تتساءل من أين و كيف انست روحه ونزعت إلى هذا الحزن المرير الذي يتعارض هو وهذه الوضاحة التي يفيض بها كيانه، وهذا اللطف البادي الذي يخيل للاخرين أنهم بازاء فرد من الناس لا يواجه في حياته ضائقة أو يشتغل وجدانه بهم نفسي أو وجداني؟ حتى اذا عنّ لك أن تقرأ قصائده النثرية في المجموعة (نون) بدءاً من المعنونة بالحرف (قاف) مروراً بجنة الفراغ، فخطاب النون، وأحبك كما أحبك، وانتهاء بخطاب الألف وجدت رغم ما يشوب العنوانات المارة من إغراب وغموض في موحياتها ودلالاتها أنك  تقف حيال شاعر لا تملك الا أن تمحضه إعجابك  وتشهد له باصالته وعليها وكونه مبدعاً حقيقياً، لم ينهد لمراس الكتابة  شعراً ونثراً على سبيل  المجاراة ومحاكاة ما يولع به ويعنى ذوو القرابة وبعض الأرحام أو يأخذون به انفسهم من إهتمام في مجال الأدب علماً ان ذلك امتد عقوداً متتابعة  في تاريخ الأسرة صنو يتمم ويستكمل ما شرع فيه صنوه من تطويع الأدب لخدمة الجماعة وزيادة ارتباطهم بها، وعقد الأوامر الحميمة  بينها وبينهم كنتيجة  طبيعية غير متوخاة أصلاً ، لتحسسهم مشكلاتها ووعيهـم حقيقة أوضاعها، وكان لزاماً، كأمر محتم، أن تستوعب إفهامهم ما في تراثها من رؤى ومضامين  بله يكونوا طليعة المعتزين  بمكونات هـذا التراث العظيم من جوانبه كافة، والأدبي منها على وجه الخصوص، فلا مراء أن تستكنه وتستقريء من خلال الاستغراق في قراءة قصائد ( نون) أن أديب كمال الدين  رغم جدته في صياغاته، وحتى إزدرائه أيضاً أن يظل أثر بعض أعلام النهضة  الأدبية المعاصرة ، ممتداً في العالم العربي  ومتطلباً من النابتة، جيلاً بعد آخر أن يسترفدوا من نتاجات أولاء الأدباء المحدثين .

 

 

 

 وفي هذا بعض التطرف أو الخطل في تقييم حقائق الأشياء والنظر اليها. قلت لا مراء أن نجتلي بصورة واضحة ملموسة إلمامه  وإحاطته  بمعطيات الجهابذة والأساطين من أدباء وفلاسفة ومتصوفين  أمثال الجاحظ والتوحيدي وابن عربي، إن لم أجزم بحرصـه الفائق على أن يقرأ القرآن  ويتأمل سوره بياناً وفحوى من حين لآخر أو يمعن نظراً في بعض أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، لاسيما مراثي أرميا ونشيد الأناشيد والأمثال من الأول على  وجه الخصوص. فها أنت بازاء أداء واضح أو نمط من التعبير، لا يقتضيك عسراً ولا مشقة في فهمه وتفسيره  ومع ذلك يظل في نفسك ثمة رغبة في أن تظفر بعصارة أو محصلة أو خلاصة  من هذا  التدفق والعذوبة والطراوة  في الأسلوب  الذي يجرك جراً لتمعن فيه قراءة لا تعرف عندها توقفاً وعنها انقطاعاً وهاكم: 

 

في حبّكِ أحببتُ النون

وتشبيهاته: الهلال والنقطة

في حبّكِ أحببتُ النهاية التي تنتظرنا

 والتي لا يكفّ لسانكِ العذب عن التلويح بها

في حبّك أحببتُ الصعلوكَ والإمبراطورة

فبكيتُ على الأول الذي هو أنا

ومدحتُ الثاني الذي هو أنت

في حبكِ صرتُ عبداً بعد أن كنت سيّداً

وطفلاً بعد أن كنت شيخاً

ونقطةً بعد أن كنت حرفاً 

ومع ذلك

فقد بقيتُ أحّبك

وأحبّك

وأحّبك

حتى تحوّل قلبي إلى شمسٍ من الحروف.

 

**************************

نُشرت في صحيفة العراق 19 شباط - فبراير 1994

 

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home