الحُروفيّ

 

33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية

 

 

 المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007

368 صفحة من القطع الكبير

 

إعداد وتقديم

 الدكتور مقداد رحيم

 

 ق 4

 

 

الفصل الخامس: أخبار المعنى

 

 

دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1996

 

 

 

واثق الدايني

ريسان الخزعلي

د . محمد صابرعبيد

معين جعفر محمد

د . مصطفى الكيلاني

 

 

 

 

 

فلسفة (المعنى) بين النظم والتنظير

دراسة في مجموعة (أخبار المعنى) لأديب كمال الدين

 

واثق الدايني

 ص 257 - 276

 

 

 لن يتعامل هذا البحث مع هذا النظم المنتقى بمنظور نقدي أدبي - شعري (جمالي) أو (بنيوي) أو (بلاغي) على نحو محدود فحسب بل سيسعى إلى معالجته بمنظور (شكل) المعنى ومعنى المعنى ومدلول اللامعنى أساساً عبر إطار نظري تاريخي (عربي – انكليزي) وتحليل متعدد الأنواع على منهجي الاستقراء والاستدلال الفلسفيين مع الاستعانة بشيء من الرياضيات البيانية لنؤكد بعض المدلولات أو الاستنتاجات ومن ثم التوصل إلى حالة استنباط نراها صحيحة وعلى شكل فرضية مقبولة نظرياً، بل تعطينا، وقد فعلت، أحكاماً لامجال إلى نقضها بحدود فضائها ولا تسمح بإغفال أهميتها في العلاقة بين النظم الحديث، المبحوث  هنا، والتنظير الموثق بصدد (المعنى) و( معنى المعنى) ومدلول (اللامعنى) على وجهي  الاستعمال الوظيفي في اللغة الانكليزية: ( non-meaning + meaningless ) في سبيل إثبات فرضية البحث القائم على وجود توجه جديد في استعمال لفظة (المعنى) و(معنى المعنى) غير مسبوق أو مكرور ويمكن توصيفه بصيغة جديدة ربما على شكل "أبعاد" مستوياتية.

المكونات العامة في ديوان "أخبار المعنى"

تسعة وثلاثون نظماً موزعة على إحدى وثمانين صفحة متوسطة، كل نظم يحمل عنواناً تدخل في كلمة (المعنى) من دون أي استثناء، أمام متن كل نظم (النص). فقد يخلو من كلمة (المعنى) وقد يتضمن عدداً يبدو (كبيراً) نسبة إلى حجم النظم نفسه وما من معيار لتحديد (الكم) المستعمل من هذه اللفظة على صيغة مفردة أو بصيغة الجمع أو بتركيب (معنى المعنى) أو على هيئة النفي (اللامعنى) سوى السياق الشعري واختيار الشاعر أو إحساسه بالضرورة أو الحاجة إلى اللجوء إلى أي منها، حتّى وصل الرقم الاحصائي (في حالتي الاثبات والنفي)  إلى 75 استعمالاً منها 61 استعمالاً مثبتاً و 14 استعمالاً منفياً.

من النظم الذي خلا متنه من كلمة المعنى نقرأ:

 (أ) صورة المعنى

سقطَ الساحرُ في كأسي..

فبكيتُ على نفسي.  ص 56

(ب) مخاطبة المعنى

من أنت؟

وعلامَ أخاطبكَ، اللحظة، مجنوناً؟  ص 56

(ج) طيران المعنى

 وأصيّرُ جوعي حرفاً ورمادي حرفاً..

وأنيني حرفاً..

أركبها وأطيرُ إلى الموت.  ص 56

(د) إله المعنى

دع لي الباءَ ولا تأخذْها

فلعلّي ألقى نقطتها

ذات صباح أو ذات مساء

فأقومُ من القبر إلهاً

أبعث في جسدي الروح!   ص 56 

أما النظم الذي يحمل متنه أكثر من استعمال (للمعنى) فنقرأ:

* بيت المعنى

 - (للمعنى) بيت خَرِب.

- (للمعنى) باب أدخله، بهـدوء أسطوريّ، أخرجُ من

  بين ثيابي سكيناً غامضةً وأفتشُُ عن لحمِ عذابي وأقطّعه

 بحروفي المرّة وسط هدوءٍ أعمى، لأدندن في كأسي: للمعنى

  بيت، سكين، لحم ألـِق. (للمعنى) قمر، موت .(للمعنى)

 أعداء شرسون، و(للمعنى) ربّ وملائكة ونجوم. ص 68

 وقد يتضمن النظم صيغاً بين الصيغتين السابقتين.

* صورة المعنى

سقط الساحرُ في كأسي

فبكيتُ على نفسي

لا تتيح فرصة للفصل بين (الشكل) في (صورة المعنى) نصاً وبين مدلول (البيت) المرتبط به أو التابع له أو أن البحث في معنى  (المعنى) ضمن عبارة (صورة المعنى) لا يمكن فصله في الواقع عن (شكل) البيت اللاحق بها. وإذا اختلف التفسير بين الفرد (س) والفرد (ص) فإن سمة (التأويل) تحضر فوراً بمعنى منح الشكل تفسيراً (مختلفاً) إذ إن منح الشكل تفسيراً (واحداً) (سيف = مهند) لايعني إلاّ ترسيخ المعنى بعبارة أخرى وإن (السيف = سلاح حرب ورمز شجاعة وكناية فروسية) يصير تفسيراً على نهج الإيضاح Explanation  أما أن نمنح (المعنى) (معنى) غير متفق عليه تفسيراً، فإنه يصير بالتأكيد تأويلاً (يحق) بموجبه لكل قارئ (فرض) ما يشاء على مدركاته بمدركاته هو نفسه فيمتنع بها ويدافع عنها إذ يصير أوتوقراطياً في الأوتوقراطية (Autocracy = المستبد أو الذاتي الحكم)، وإذا ما قارن حكم التفسيري هنا بما يذهب إليه (الآخرون) ليكونوا معاً مجموعة (آراء) ازاء معنى (المعنى) في هذا النظم فإنه –القارئ– يصير ألوكراطياًAllocracy  (أي يحكمه الآخرون)، إلاّ أن القارئ – الناقد قد يعتمد على المعرفة المتحصلة قبل التجربة، أي قبل التقائه هذا النظم لأول مرة فيعيد خزينه عن  (معنى المعنى) ليوظفه في فهم هذا النص، فهو إذن قبلي Apriority  ويتبع القبيلة smِApriori ولا يسمح لتغيير حكمه الذي اقتنع به. أما إذا لجأ إلى الآخرين ليكونوا فريقاً جماعياً ألوكراطياً فإنّ فرصة التغيير في الأحكام ستبدو متوفرة تماماً. أي إن التوجه الألوقراطي يعتمد على الخبرة المتحصلة بعد التجربة وانه قابل للتغيير والتعديل مادام القرار الجماعي لم يتحقق بعد وانه في صيرورة معينة لتحقيق (معنى المعنى) في نظم البيت والقصيدة معاً!

الغموض الدلالي في الديوان

عندما نقرأ بيتا من مثل ما في قصيدة (أخطاء المعنى):

((كنتُ أوزّعُ خطأً مضغوطَ الشفتين ومرتجفَ المعنى)) ص 10 الديوان.. فإننا نصطدم بالغموض لا محالة، بل إننا قد نقع تحت تأثير الجملة القواعدية الخالية من المعنى! إلاّ أن الحقيقة هنا هي أن الجملة قواعدية وموزونة شعراً إلاّ أن مدلولها العام ومضمونها الخاص ليس في متناول اليدين (فوراً) وهما في الوقت نفسه ليسا متماثلين عند كل من يقرأ هذا البيت وما على نسجه، بل هما ليسا متماثلين عند القارئ الواحد في وقتين مختلفين حتّى لو كان ناقداً أكاديمياً أو ناقداً جماهيرياً! وإن نحن (حاولنا) وضع تفسير لهذا البيت اتجهنا إلى الأوتوقراطية طوعاً لا كرهاً، سواء استعنا بالقبلية أم بالبعدية، إذ أن اختيار الكلمات هنا، وفي غير هذا البيت أيضاً، يجاوز حالة الاقتران أوالتلازم collocation في اللغة العربية بين الألفاظ (أنف مستدق وعيون حوراء وليس: أنف أحور وعيون مستدقة) وبتجاوز شرطية التلازم التقليدية، يدخل النظم فضاء (البلاغة) الفسيح، ثنائي التركيب في بعض الأحيان، أي إنه يجمع سمتين بلاغتين في وقت واحد كجمع التشخيص personification - إلى الاستعارة أو الكناية metaphor and metonymy في تعبير: (أوزّع خطأ) في صدر البيت إلا أن المعنى يبقى عصياً على المستمع أو القارئ إذا أرادا (الأصل) الذي يريده الشاعر نفسه. أما المعنى الذي يريده القارئ فلقد يقدره كما يشاء فيلتقي مع الشاعر (احتمال ضئيل) أو يفترق عنه (احتمال كبير) و((بجمع)) تأويلات (القراء) نحصل على مجموعة سلّمية من الموضوعات التفسيرية: اجتماعية وسياسية، قبل غيرها، في مثالنا هذا. وإذا انتقلنا إلى جملة الوصف اللاحقة بالموصوف (خطأ) وهي: (مضغوط الشفتنين) أضفنا حالة جديدة من مظاهر البلاغة ونمطاً جديداً من التأويل وهكذا مع جملة الوصف الثانية: (ومرتجف المعنى) التي تضيف الغموض الأكثر صعوبة باحتضانها كلمة (المعنى) محور (البيت) هنا ومحور بحثنا هذا كله! إذ بعودة (المعنى) إلى (الخطأ) تتضاعف درجة الغموض تماماً ومن ثم تتضاعف نسبه التأويلات حتما. ولكن ماهو الغموض على حقيقته المعرفية والمنهجية معا؟!

  للاجابة على هذا السؤال نرجع إلى محتوى   Ambiguity نفسه في معجم  Oxford فنراه :Double meaning expression capable of more than meaning )) ))

 وترجمته: (معنى مزدوج، تعبير له القدرة على إعطاء معنى واحد أو أكثر).

    إذن الغموض، أو اللبس كما هو متداول بعض الأحيان، ليس نقيض الوضوح فحسب، بل هو حالة بلاغية شاملة تضم بين طياتها مظاهر بلاغية معروفة من بينها التورية pun  إذ هي معنيان قريب ظاهر وبعيد مستتر. وفي المعاجم المتخصصة نقرأ: احتمال امتلاك اللفظ أو العبارة لأكثر من معنى. وقد يكون اللبس نتيجة للتعقيد اللفظي كقول المتنبي:

أنّى يكون أبا البرية آدم                    وأبوك والثقلان أنتَ محمد

وفي النقد الأدبي الانكليزي الحديث اعتبر اللبس سمة لا مفر منها بل جوهرية في الكلام. وأتى الناقد الانكليزي الحديث أي أي ريشاردز Richards في كتابه (فلسفة البلاغة) بنظرية في الدلالة اللفظية مبنية على هذا الاعتقاد. ولعل أهم كتاب في تطبيق اللبس أو ازدواج الدلالة على نظريات النقد الأدبي هو كتاب الناقد الانكليزي ويليام إمبسون المسمى: (سبعة أنواع من ازدواج الدلالة) Seven Types of Ambiguity  ويقصد المؤلف باللبس أو ازدواج الدلالة على حد قوله ((أي أثر يتركه الكلام قد يضيف معنى أو ظلاً لمعنى يستخلص مباشرة من صريح العبارة)) فيقترح إذن أبواباً سبعة لأنواع اللبس الممكنة في الكلام، ولو انه يعترف في الوقت نفسه باحتمال تداخل كل نوع مع الأنواع الأخرى:

1- قد تكون الكلمة أو التركيب اللفظي ذا أثر فعال في اتجاهات مختلفة في آن واحد.

2 – قد تتألف دلالة النص من دلالتين أو أكثر.

3 – وفي التورية توجد دلالتان في آن واحد.

4 – إن المعاني المختلفة للكلام قد تتحد لا لتزيد معنى جديداً بل لتكشف عن الحالة المعقدة لعقل الكاتب.

5 - قد يستقيم المجاز أو الصورة البلاغية في مكان ذهني يقع في منتصف الطريق بين فكرتين.

6 – قد يضطر القارئ إلى ابتداع تأويلات شخصية كما في الكلام جراء تناقض أو تضاد ظاهري.

7 _ قد يكون للكلام معنيان متناقضان فعلا، فيكشفان عن انفصام جوهري في ذهن المؤلف.

- وقد طبقت هذه النظرية على الأعمال الأدبية في كثير من الكتابات النقدية الحديثة.

- إذا استبدلنا كلمه كاتب في النوع (4) وكلمة المؤلف في النوع (7) بكلمة (شاعر) صح تطبيق هذه الأنواع على النظم الشعري تماماً ويخاصة النظم الحديث على أي نوع كان من أنوع الشعر ( الشعر المرسل blank verse) أو (الشعرالحرfree verse ) أو ( النثر الشعري poetry prose) أو قصيدة النثر أو غير ذلك ما نجده فعلاً في ديوان شاعرنا (أخبار المعنى) أو في غيره من دواوين الشعر الحديث.

الغموض النحوي (في الديوان):

 في شعر أديب كمال الدين غموض نحوي محدود ومثلهُ قوله في منظومة (أخطاء المعنى):

(أ) ((كانت أرضُ الله تغرّد فيك

وأنا أعتذر اليوم إليك: إلى

خطأ في اللهجةِ من خطأ في المعنى..

خطأ في البهجةِ أو خطأ في الدمعة

خطأ في خطأ في خطأ الرأس...)) (ص 12)

إذ بين تذكير أو تأنيث (فيك) و(إليك) جواز مباح إلاّ أن تمثل (إليك) (معنى) (إلى خطأ في اللهجة) أو انفصاله عنه مسألة متعلقة بنية الشاعر نفسه، بعدها تأتي (خطأ في خطأ في خطأ الرأس) لتجعل الغموض النحوي عاملاً قوياً في غموض المعنى لأنّ الجملة لم تسبقها (من) كما في جملة (من خطأ في المعنى) ولم تسبقها (أو) كما في جملة (أو خطأ في الدمعة) وبذلك صارت على محملي (الاستقلال في المعنى) (أو) عطفاً على كل ماقبلها وكلاهما صحيح وجميل. نقرأ المثال الثاني، من غير استزادة ، في منظومة (نسيان المعنى):

(ب) ((وبقيتِ أمامي جسداً حيّاً يتبعني في موتي

يكتب سفسطتي وعنائي...

ويناقشُ دولاب الفجر، سرير اللذة، باب المعنى

قرب فراشي، ويربّت فوق الكتفين)) (ص55)

فهل دولاب مرفوع أو منصوب؟ فإذا نصب فانه (مفعول به) للفاعل (جسداً حيّاً) وإذا رفع فإنه فاعل مرفوع مفعوله (سرير اللذة) منصوباً وكلاهما، أيضاً، صحيح وجميل، والحكم الفصل في ذلك تحريك الشاعر لكلمات شعره كاملة للإفصاح عما غمض واستتر من الإعراب الذي يريد! الاّ إنه، ربما رأى هذه الصياغة أكثر إمتاعاً وجمالاً، وهو كذلك!

    بملاحظة جملتي (من خطأ في المعنى) في النظم الأول (أ) و (باب المعنى) في النظم الثاني (ب) نجد الأولى تخضع تماماً لمفهوم الغموض الدلالي (ازدواج المعنى) أي أن جملة (خطأ المعنى) تحمل معنيي (التورية): المستتر البعيد والظاهر القريب، إلا أن تعبير (باب المعنى) تعبير مجازي بلاغي في الكتابة عن شيء يقصده الشاعر وأخفاه، وعلى القارئ (الأوتوقراطي) أن يتوصل إلى (معنى المعنى) هنا، وفي كل مجال نظمي بلاغي في هذا السفر الشعري، بنفسه، لأنّ اشتقاق المعنى بتأويل الباحث هنا، ليس من مهمة البحث أو منهجه، إنما تدارك هذه السياقات وأمثلتها يقدم بعض الملامح التأويلية (الحرة)، هذا من جهة ومن جهة ثانية، فإن تحديد (معنى المعنى) في كل النظم الذي يقدمه الديوان إنما هو متعذر تماماً إذا أردنا التطابق مع الشاعر نفسه! أما إذا أردنا الاقتناع بتفسير تأويلي يخص مداركنا وتجاربنا (القَبْلية) أو البَعْدية فهو الصحيح والمفترض. ولما كان الغموض النحوي يلفّ هذه (المقاطع) الشعرية فإن الصعوبة ترتفع جمالاً وغبطة في تأويل معنى النص صوب السياسة أو الاجتماع أو الفكر أو الوجدان والعاطفة لتقصي جذور (المعنى) في وجدان الشاعر.

الحروف الرامزة والغموض

في الديوان عشرات الأبيات التي تطلق أو تتضمن (أحرفاً) عربية سليمة تبوأت مواقعها لترمز، من غير وضوح، إلى (شيء) ما، فهي واقعة أمام الغموضين السابقين إن شئت أو قبلهما أو بعدهما أيضاً. المهم هنا أن ما ترمز إليه الحروف قد يبقي على (مستويات) من الغموض، وليس غموضاً واحداً أو عاماً مما جعله يتميز عن الغموض الدلالي والغموض النحوي. نقرأ هذا المقطع من منظومة (نون المعنى):

(أ) ((والألف: أنا: مجهول في هيئة شاعر

وإله في هيئة مجهول

والباء حبيبة قلبي ضاعت في دائرة الحوت

والحاء أبي

والعين عيون من جدي

والهاء هم موتاي الأحياء اخرسوا وقت النطق وضاقوا

بالساعةِ، والساعة قائمة)) (ص 32)

هنا نستطيع عدّ هذه الحروف مختصرات للكلمات التي ارتبطت بها بوضوح. (ألف) في أنا وفي (إله)، والعين في (عيون) والهاء من (هم) وعندما يعرّف الشاعر (أنا) و(العيون) و(الهمّ) فإن نسبة الغموض تقل إلى مالم نستطيع معه القول بوضوح كل شيء لئلا يفقد النظم قوته الجمالية الرامزة ومتانته البنائية معاً. نقرأ مثل هذا الترميز Symbolization  في منظومة (ماضي المعنى) كما في المقطع (7) منها بتسلسل (ب) هنا:

(ب) (( مَن يفتح ميمَ الماضي؟

مَن يفتح راءَ الرغباتِ وشين الشمسِ المبقورة

والقمر المقطوع الرأس؟

مَن يفتح سينَ سريراللذة

وعيون الخوفِ، صرير الدم

مَن يفتح ميمَ الدم؟)) (ص 73 – 74)

 

 رغم أنّ (ميم الماضي) و(راء الرغبات) و(شين الشمس) و(سين سريراللذة) قدمت الحرف الأول رمزاً دالاً لما يليه إلاّ أن كلّ حرف يشير إلى (شيء) ما يتعلق بهذا الذي يدلّ إليه ويرتبط به وانسلخ منه. إنّ (تأويل) هذه الحروف وغيرها يأخذ أكثر من صورة معرفية وسلوكية ولغوية، وعلى نحو خاص التورية البلاغية. وتقترن الصورة المعرفية بالفلسفة والصورة السلوكية  بالتصوف والبلاغية بالتورية، حسب محتوى النظم في الديوان كله وسياقاته العامة. ففي قول الشاعر: (مَن يفتح ميمَ الماضي؟) يمكن تأويل حرف (الميم) فيه فلسفياً بـ(المثال والمثالية)، (الميتافيزيقيا)، (المدلول)، (الماهيّة)، (المطلق)، ولكن بلغة التصوف تصير: (مجاهدة)، أما بلاغة التورية فتجعل منها: (الموت، المجهول، المعجزة) وأما حرف الراء في قول الشاعر فيمكن تأويله إلى الفلسفة مذاهب (الرمزية) و (الرومانسية) ولكن بلغة التصوف يصير (الروح) وبلغة التورية (رهاب)، (رحيل)، (رأي). ثم تأتي عبارة: (سين سريراللذة) وتأويل الحرف فيها فلسفيا يمكن إرجاعه إلى (سيرورة)، (سبب)، (سببية) وفي لغة التصوف يتحول إلى كلمة (سرّ) و (قدس الله سرّه) وتورية ينقلب إلى (سلام) و(سقوط). وأما في جملة (شين الشمس) فإن حرفها الأول يتبع في الفلسفة مذهب (الشك) وفي التصوف (شهادة وشهيد) وفي التورية (شرق ومشرق). لم يخرج عن قاعدة المختصر بالحرف الأول الاّ (الميم) في جملة (مَن يفتح ميمَ الدم؟) الاّ أن تغير موقعه لا يؤثر في رمزية الحرف نفسه بقدر ما يخرجه عن قاعدة الاختصار(الانكليزية) جزئياً. ولا ضير في هذا التغيير، بل إنه عكس مسحة جمال صياغية تضاف إلى المسحة العامة التي تتسم بها الأبيات كلها في هذا المقطع إلاّ أن ثمة ترجيحاً للتورية على الفلسفة والتصوف في (ميم الدم) بتأويله إلى (الموت) أو (المجهول) أو (المعجزة). إذ أن (فتح ميم الدم) بوصفه (موتاً) يصير وقاية منه ودفعاً له، وبوصفه (مجهولاً) يصبح: سبر أغواره والكشف عن خباياه، وبوصفه معجزة يتحول إلى محاولة الإيقاف بها وتحقيقها رغم كل شيء وأي ثمن بما في ذلك الدم!

يتحوّل الشاعر (على نطاق محدود، تلقائي أو مقصود) إلى استعمال الحروف الرامزة استعمالاً رمزياً دالاً كما في (ب) أعلاه إلاّ أنه يمنح هذا الاستعمال بعداً (شكلياً) رائعاً بوضع الحروف الرامزة أمام القارئ طالباً منه (التصرف بها) خارج تأويلها أو معه، فإذا جمعت هذه الحروف بعضها إلى بعض منحتك كلمة (دالة ورامزة) بقوة لتضيف إلى النظم غموضاً جديداً غاية في الجمال. نقرأ في منظومة حوارية المعنى) المقطع الآتي لهذه الغاية:

(ح) (( سأكون قريبا ًمن إيقاعكَ يا فجراً

يُحْملُ فوق الرمح

سأكونُ الراء، أنا الراء

منذ طفولة أمطار المعنى في قلبي

وأكونُ الألف، أنا الألف

منذ شروق الشمس إلى غيبوبتها المرّة..

وسط الأمطار..

سأكونُ السين، أنا السين

منذ مجيء الهدهد من سبأ الناس)) (ص 39)

- لاحظ الحروف: (الراء) و(الألف) و(السين) وجمعها: رأس، ودلالته الشهادة والحقيقة والقمة، وكأن هذا (التأويل) يشرح محتوى المقطع كاملاً! إلاّ أن هذا التأويل لا يمنع التعامل مع (النص) بصيغ -وليس بصيغة واحدة– أخرى فنتعامل مع الحروف واحداً فواحداً: (فلسفياً) و(صوفياً) و(تورية) ونتعامل مع نظم كل بيت بما يناسب: جمالياً قد يرى القارئ نفسه (أسير) قول الشاعر (منذ مجيء الهدهد من سبأ الناس) فيحار في معناه المدهش الغامض! وإذا عاد إلى مادة بحثنا الأساسية: كلمة (المعنى) فقد يعاني من تأويل (أوتوقراطي) وحتّى (ألوقراطي) إزاء عبارة (أمطار المعنى) وما يزخر به هذا النظم من مجازات واستعارات.

 في تطبيق أخير، نقرأ حرف (النون) في بيت من منظومة (نون المعنى). إذ يقول الشاعر:

(د) ((انتبهوا

إذ تسرقني (النونُ) إلى عريي اليومي، أضيعُ وأفنى

انتبهوا رأسي فوق الرمح إله يبحثُ عن معنى!)) (ص 33)

 في التأويل الفلسفي يبدو(النون) ناموساً وفي التصوف يمكن إرجاعه إلى النهاية السرمدية: الخلود وفي التورية يمكن إعادته إلى المرأة أو النوم والأولى أكثر رجحانا، ثم نلاحظ  (الرأس) وقد وضِعَ على الرمح مما يؤول كما ذهبنا إليه في مثال (ح) أعلاه: الشهادة والحقيقة والقمة وجميعها يكمن في (إله) التي تبحث عن معنى ونسمح لأنفسنا القول هنا: يبحث عن سبب لما يجري ويسأل عن غاية له بتأويل سياسي – مجتمعي – إنساني عام.

التأثير الأسلوبي في النظم المبحوث

مهما تكن درجة "استقلالية" النظم المبحوث وإبداعه ثمة تأثر واضح بما هو أكثر فصاحة وأعمق بلاغة في بناء الجملة وإعلان مضمونها أو إخفائه، ولا يشكل هذا التأثر مثلبة، هنا، بقدر ما يؤكد النجاح في التفاعل مع أنماط أسلوبية (خالدة) بتكوينها الجُملي. إلاّ أننا نعترف أن هذا التأثير أخذ شكل المحاكاة في عدد من المواقف إزاء عدد من الآيات القرآنية، أي إنه تأثر بالنظم القرآني العظيم فهو تأثر خاص جداً رغم أنه محدود الأبعاد.

 ربما يأتي التأثر بالأسلوب القرآني من طريقي الوعي والاختيار المسبق فيبدو واضحاً عبر (ما يجري مجرى المثل) على لسان المتأدبين من الشعراء والمرهفين من الأدباء، وربما يأتي عفوياً تلقائياً ومتناثراً في القصيدة الواحدة أو بين القصائد المتعددة بسبب (تعمّق) الشاعر في متابعة المحتوى القرآني وأسلوبه الإعجازي الخارق. يمتع نظم أديب كمال الدين في سياق هذا المبحث بالخصيصة الثانية تماماً مع أنه قادر على أن يطلق الخصيصة الأولى على هيئة نظم مدروس وممنهج من غير عفوية أو تلقائية فضلاً عن النظم الشعري بالنهج الحديث.

تبدو نسبة التأثر الأسلوبي محدودة طبقاً لما أوضحنا أعلاه في نظم أديب كمال الدين في (أخبار المعنى) الاّ أن هذه (المحدودية) تعكس جمالاً تميزه القلة. إذ أن المحاكاة الشكلية تصحب معها تغايراً دلالياً أراده الشاعر لنفسه من خلال الأسلوب القرآني العظيم، فهو مثلا، في قوله :

((وابيضّت عيناي من الذل)) (أخطاء المعنى ص 12)

انما يحاكي قوله تعإلى في وصفه النبي يعقوب عليه السلام:

((وابيضّت عيناه من الحزنِ فهو كظيم)) (يوسف 84)

الاّ أنّ مدلول الشاعر في نظمه ليس علاقة مضامينية بالآية الكريمة، إنما يفترق عن الآية في الموضوع والغاية معاً. بيد أن الشكل المقتبس منح النص الشعري روحاً جديدة في المحتوى فضلاً عن الشكل (فالعمى الأبيض) يأتي من هول الاستجابة الانفعالية أحياناً، وهذه الاستجابة تقرّب المنظوم الشعري في نسج الآية الكريمة من دون أن نشعر بالاختلاس أو السرقة! هنا في الواقع يكمن جمال التعبير أنْ تحاكي ولا يبدو عليك أنك تحاكي فتبدو متأصلاً في رصف الكلمات وتحديد غائيتها. مع المحاكاة تظهر سمة الاستعانة بالمفردات العربية (القديمة) أو (المهجورة) كزهرات تتوزع على نوافذ النظم في الديوان كله، قليلة متباعدة، جميلة ولافتة للنظر، دافعة إلى التقصي والعودة إلى الأصول ومعجماتها، للتذكير: افرنقع، احرنجم، تعتع، العرجون... الخ. فليس كلّ قديم مندرس في (نظر) الديوان! وإن إحياءه ليس متعذراً ولو بين الشعراء.

 فيما يأتي خلاصة (مفيدة) مما تيسر استخلاصه من الديوان مكملاً ما مضى من المكونات قبل الدخول في مادة التحليل وأشكاله ونتائجه:

(أولا) المحاكاة القرآنية في النظم المبحوث

1- أخطاء المعنى ص 12

(أ) كانت أرضُ اللهِ تغرّد فيك

((قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)) (النساء 4- 97)

(ب) وابيضّت عيناي من الذل

((وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم)) (يوسف  12- 84)

2- أنثى المعنى ص 21

(أ) لا تأتمري أيتها النخلة

((قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بكَ ليقتلوك)) (القصص 28- 20)

3- راء المعنى ص 35 و 36

(أ) فاستقمْ أيّها الموت

(ب) فاستقمْ يا حنيني الطفولي

(ج) فاستقمْ أيّها السيف

((فاستقمْ كما أمرت ومن تاب معك)) (هود 11- 112)

4- دال المعنى ص 46

(أ) اشتدّ رمادي واشتعل الرأسُ جنونا

((قال ربّ إني وهنَ العظمُ مني واشتعلَ الرأسُ شيبا)) (مريم 19 – 4)

(ب) قمتُ أهشّ على كلماتي

((قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي)) (طه 20- 8)

(ج) فار الحرفُ كما التنور

((فاذا جاء أمرنا وفار التنور)) (المؤمنون 23- 27)

5- شمس المعنى ص 62

(أ) زلزلت الريحُ على بابي مطراً وحشياً

((إذا زلزلت الأرض زلزالها)) (الزلزلة 99 – 1)

6 – أغنية المعنى ص 68

(أ) يزرع أشجارَ الظلمةِ وسط الأمطار وزلزلة الماء

((إذا زلزلت الأرض زلزالها)) (الزلزلة 99 – 1)

(ثانيا) كلمات قديمة ومهجورة

1- أنا وأبي والمعنى. ص 14

(أ) افرنقع غيمُ شتاءِ الروح

2- أنثى المعنى. ص 23

(أ) واحرنجم فيها فعلُ الجزمِ، صفاتُ العاشق

3 – نون المعنى . ص 31

(أ) وانتبهتْ لعذابِ العرجون

4- دال المعنى . ص 46

(أ) افرنقعت الساعات

5 – نسيان المعنى. ص 54

(ا) وشربت ُالخمرة حتّى تعتني الكأس

6 – ضحك المعنى. ص 74

(أ) لا جدوى هربت سيّدةُ الجسدِ الطافحِ بالحبّ

نحو المدن الموءودة  باللامعنى.

 

 

 

 

المعنى عرضاً وتحليلاً

 حمل ديوان أديب كمال الدين "أخبار المعنى" ضمن قصائده الأبيات والمقاطع الآتية التي احتضنت كلمة (المعنى) اثباتاً ونفياً وتركيباً. نعرضها مع ذكر اسم النظم المستلة منه ورقم الصفحة كما يأتي للأهمية:

1- موت المعنى

وأختار لموتي معنى، وأضمّخه بالطيبِ وأنشرهُ في السرّ على أكتافي. ص5

2- أخبار المعنى 

ومرّتْ سبع لاهية لا تعرف بيتاً أو عنواناً أو معنى،..

أشكو معناي المقتول إلى الكلماتِ الفضّةِ: لا جدوى.

يبقى الجسدُ المدهوشُ عنيفاً لا يعرف للموت طريقاً أو معنى.

عذّبني المعنى. قاد المعنى بيتي نحو المنفى،

 ألقى القبض على أسئلتي، أودعني حجرات المنسيين. ص8

فأشيخ سريعاً وأنا بين طفولة اسماء صباي، ويدعوني

تفاحا ًمرّاً، يدعوني فأجوس المنفى: منفى الرمل ومنفى القبر

ومنفى المدن الموءودة باللامعنى حتّى أصل الغيمات. ص9

3 - أخطاء المعنى

 وارتحتُ إلى ميسمكِ المفتوحِ كشقّ التفاح

كنتُ أوزع خطأ مضغوط الشفتين ومرتجف المعنى. ص10

ونبوخذ نصر يرسم روح المعنى في قلبي

صرخات الجدّ المحمول على رمح المعنى ص11

كانت أرضُ اللهِ تغرّد فيك

وأنا أعتذراليوم إليكِ: إلى

خطأ في اللهجةِ من خطأ في المعنى..

خطأ في البهجةِ أو خطأ في الدمعة

خطأ في خطأ في خطأ الرأس

خطأ في خطأ الرمح الداخل في الرأس. ص12

4 – أنا وأبي والمعنى

الغيمُ يجيء و يذهبُ

والفجرُ يطرز حرفَ الدهر فلا معنى أبداً.

لا معنى لاعادة مشهد حبّ مكرور ملتهب، لا معنى. ص13

قام الساحرُ بالرقص، اختطّ لنا أرضاً تكفي لكلينا قال:

هنا نرقص ـ واختطّ بجانبها أرضاً أصغرَ ـ وهنا سنموت.

علينا بالرقصِ لأنّ المرأة شيء باطل 

والطفل كذلك، والسيف قويّ، والمعنى مكتنز في الرقص

فارقصْ! ص14

 5 – أنثى المعنى

 الباءُ جمال وحشيّ

الباءُ: الليلُ بلا أحداق ونجوم

الباءُ: فراش مكتظ ّبالمعنى. ص21

6 – نون المعنى

لا معنى لي إلاّ في حرفي

انتبهوا رأسي فوق الرمح إله يبحثُ عن معنى!  ص33

7 – حوارية المعنى

لا معنى يولد إلاّ من موتي

لا معنى يزهو إلاّ في قتلاي. ص 38.

سأكون قريبا ًمن إيقاعكَ يا فجراً

يُحْملُ فوق الرمح

سأكونُ الراء، أنا الراء

منذ طفولة أمطار المعنى في قلبي. ص39

8- صراخ المعنى

 أبكي، أتدثر بالصمتِ وأغفو

وأقومُ وأدعو وأصومُ، أناشد باب المعنى

بكلام اللامعنى. ص44

9- دال المعنى

أقفرتُ من المعنى، وزّعتُ ثيابي للفقراء. ص46

10 – باء المعنى

وأقول الألف ولا معنى.. ص50

فأرى في منتصف الليل

كلكامش يسأل كالأعمى عن معنى الباء

أنكيدو يبكي بدموع من طين. ص52

11 – نسيان المعنى

يا نون

يا سين القسوة، ياء اليم

* قال الأولُ: يسألُ أحد عن معنى النسيان؟! لماذا؟!

* قال الثاني: عبث عبث.

* قال الثالث: هي ذي... الكأس.

* قال الرابع: كنْ فيكون.

* قال الخامس: معناه الدهر. ص54

وبقيت ِأمامي جسداً حيّاً يتبعني في موتي..

يكتبُ سفسطتي وعنائي..

ويناقش دولاب َالفجرِ، سرير اللذة، باب المعنى.. ص55

12 – ارتباك المعنى

 مرتبكاً مذعوراً

كان المعنى قدّامي وورائي

يبحثُ عن معنى لطلاسمي العظمى! ص57

 13- خيانة المعنى

حاصرني المعنى باللامعنى...

أجلسني في تاءِ الموت قليلاً..

أطفأ نوري مرتبكاً، قال بأنّ العين

سقطتْ في نكدِ الدنيا..

فهلمّ الساعة نخرجُ، نخفي موتاً من نور

فخرجنا في الظلمةِ. أعطاني المعنى سيفاً..

قال: اقطعْ رأسك!

ففعلت!

وضع المعنى الرأسَ على الرمح

ومضى يحمله في الطرقات

وسط صهيل الناس. ص58

 14 – إيقاع المعنى

وامتدّ الجسدان بنا أخذانا للاّمعنى

غمرانا في إيقاع الحاء

تركانا نُذبح نُؤسر، نُقتَلُ من فرطِ اللذة

فتساءلتُ كدرويشٍ أعمى عن معنى المعنى

وتساءلتُ كطفلٍ عن معنى الماء! ص59

15 – رومانسية المعنى

ويخلط أقواس َالحبّ بثوب مسرّتها،

يشعلُ نهديها كي يخطفها للأعلى ويحلّق مذهولاً ثملاً وشـديد

المعنى. أنتِ معي، كفّك كفّي، عيناكِ بعيني والليل يموء ويفتح

عينيه بعيداً نحو الأقصى. يا لطفولة أعضائي ونعومة أغنيتي

حد دخول المعنى في اللامعنى.. ص60

16 –  شمس المعنى

وعلى باب الشمس ِ

أبيعُ ثيابي مبتهجاً وثيابَ الطفلِ النائم في أعضائي

أمضي مستترا ًيتبعني المعنى.  ص60

 17 – زمن المعنى

زمن كالقاربِ يسقطُ من أعلى الشلال

ويمضي من يومٍ حتّى يومٍ، من سنةٍ حتّى سنةٍ، من

قرنٍ حتّى قرنٍ، يتجلّى بوذياً في الأدنى، صوفيّاً

في الأعلى، ملكاً في المعنى، رأساً يُحْمَلُ فوق الرمح

إلى أقصى الأقصى. ص64

 18 -  نص المعنى

كان المعنى يرقصُ مدهوشاً من عري الحرفِ وعري 

 الجسدِ الطالعِ منكِ فقمتِ إلى أحرفه بنجومٍ من

 جمرٍ وسيوفٍ من نارٍ. حاصرتِ خطاه بقاعِ المسرح

 حتّى ضحك المعنى.

 .......................

كيف يصير الطارئ ملكاً والقاتلُ سيّدَ لعبة أطفالٍ فرحوا

بشموس طفولتهم يا سيدةً قتلتْ نوناً تبحثُ عن صاد المعنى.. ص66 

19 – إضاءة المعنى

 سأضيء المعنى: أتقمّصُ في السرّ دماً سيقود

ظلامي ومُحبّاً أفنى العمر بدولاب الموتى ينتظرُ الطيرَ

يجيء من الأقصى بأناشيد النون. أضيء المعنى كافاً

في هيئةِ ساحرةٍ تستحضرُ هيبةَ خيباتٍ وجلالة قتلى

ووساوس أرملةٍ  وظنون حروفٍ وجراراً من طين

كـُسِرتْ  في عيد طفولتي القصوى قرب دماء الأجداد.

أضيء المعنى فجراً من فتنةِ ميسمكِ الغامض في شفتي

وسط رمالٍ عاريةٍ.  سأضيء المعنى أحشاء غامضـة

التكوين ووهماً يتجلّى. سأضيء المعنى قصةََ سـيّدةٍ

تنمو وسط صحارٍ وسيوفٍ وفراتٍ قادتني للحــبّ

وقادت جسدي للحبّ فأمسى لدهور فوق البحر يجيء

ويمضي، يمسكُ كلّ شموس الدنيا تشرقُ ليلاً

وتذوب دماً ونجوم الكون تغور تراباً، يخفي سـفنَ

الناس بأزرقنا العالي وسواد التالي تمخر مأساة سلام

الموتى. سأضيء المعنى نوناً لا تفنى، تاءً تتجلّى،

ظاءً من رملٍ، ألفاً من نور، راءً من حبّ همجيّ

عذّبني فوق الجمر طويلاً فيكون المعنى أن أنتظرالمعنى. ص67

20 – بيت المعنى

للمعنى بيت خـَرِب. للمعنى باب أدخلهُ، بهـدوء

أسطوريّ، أخرج من بين ثيابي سكيناً غامضةً وأفتشُ

عن لحمِ عذابي وأقطّعه بحروفي المرّة وسط هدوءٍ أعمى،

لأدندن في كأسي: للمعنى بيت، سكين، لحم ألـِق.

للمعنى قمر، موت. للمعنى أعداء شرسون، وللمعنى 

ربّ وملائكة ونجوم. ص68

21 -  أسماء المعنى

الجمعُ يصفّق سخفاً، فأنا لم أعلن أبداً عن

 أسماء دمي، لم أعلنْ عن أسماء المعنى.  ص69

 22– عري المعنى

أولمتُ لأعضائي فاكهةَ لفجر فجاء الموتُ سريعاً وانقلب المعنى

في فنجان لغاتي. الشِعْرُ يغنّي في فرحٍ أسطوريّ خيبتَه

ويقوم يقبّل دمعي كي نقتل شيئاً يدعى المعنى. ص70

23 - ماضي المعنى

خلفي المعنى، قدّامي المعنى. ص73

24 –  ضحك المعنى

لا جدوى..

هربتْ سيدةُ الجسدِ الطافحِ بالحبّْ

نحو البحر العاري بفحيح الأجساد، أنين الرغبات.

نحو المدن الموءودة باللامعنى... ص74

25 –  كاف المعنى

قال الأخضرُ حين تقبّل موتي اليوميّ..

وحرماني الأزلي ومقتلَ شمس طفولتي الذهبيّة..

في بابِ المعنى:

خذْ من كافي حائي.

فإن شئتَ الكاف إليكَ تكون دليلاً

لتقودكَ نحو الأخضر: نحْوي يا أعمى

نحْوي فالكاف تجلّتْ وبدتْ ثاقبة المعنى. ص78

26 – وصول المعنى

ووصلتُ إليك أخيراً يا معناي.

صاح فراتُ الأجدادِ

المكتهلين بموت اللامعنى: انتبهِ اليوم لسرِّ الحرفِ

بموضعها وتموضعْ  فيها واثمرْ فالعمرُ حديث خرف

يهذي. يهبط ُ فجرّ من قلبي. أهبطُ حتّى الشارع،

في بيتِ القبلاتِ الثكلى أودع معناي وأصعدُ حتّى

دجلة ذات الجسد العذب الشفتين فلا تعطيني إلاّ ما

تعطي سيّدة  للبعلِ، فماذا أفعل؟ دوّخها مَن يملك

سارية الأسمنت وسارية الدينار فلا تخفي وجع الضائع

مثلي. أمسكتُ بأنهاركِ مستتراً فرأيتُ بعيداً أبعد

منكِ وأقرب منّي نهراً أسود يصفرّ عليه الناسُ من

الخوفِ طويلاً، نهراً أبيض يسودّ عليه الناسُ من

الصحراء، ونهراًً عذباً شاهدتكِ فيه بلا ثوبٍ نائمةً

منتصف الليل  تئنّين إلى المعنى.....

قام الرأسُ إليّ أخيراً، قبّلني، صاحَ بأعضائي 

 فتنبّهتُ من الموتِ إليك، وجدتُكِ عاريةً قربي.

 رجع الرأسُ إلى جسدي، قال: أنا المعنى. فبكيت. ص81

 

 من هنا نستخلص أن (فلسفة المعنى) عبارة عن (توجّه المعنى + سعة المعنى) في النص الواحد بيتاً أو مقطعاً، أما اشتقاق صيغة (قانون) لهذه العلاقة على وفق الاحتمالات المتاحة، ولم يقدم الديوان جميع الاحتمالات منظومة شعراً، ولو فعل ذلك لخرج من رائدة شعر الالهام والتلقائية إلى دائرة المنهج والتأليف! فلقد قدم الأسس والمبادئ وترك التفاصيل للباحثين والمتخصصين ليستخلصوا منها منهجاً جديداً ومبادئ جديدة تصلح للدراسة والمناقشة المنهجية من غير حرج  وهذا ما تحقق في هذا البحث كما تظن إن صحّ ما تظن.

*******************************************

هذا ملخّص لدراسة الكاتب والناقد الراحل واثق الدايني حيث تعذّر نشرها كاملة بسبب طولها. لقراءة النص كاملاً يرجى زيارة موقع الشاعر أديب كمال الدين:      www.adeebk.com

 

 وهذا هو الرابط لقراءة النص ج1 

  http://www.adeebk.com/makalat%20an%20alshaeer/wathek%20-%201.htm

ج 2

http://www.adeebk.com/makalat%20an%20alshaeer/wathek%20-%202.htm

ج 3

http://www.adeebk.com/makalat%20an%20alshaeer/wathek%20-%203.htm

 

 

 

 

 

أخبار المعنى: أخبار الحرف واللون والرأس المقطوع

 

 

ريسان الخزعلي

  ص 277 -280

   

(1)

الخطاب الشعري

 الخطاب الشعري في (أخبار المعنى) للشاعر أديب كمال الدين، خطاب مغاير، خطاب غير مكتشف بهذه السعة، خطاب لا يقوم على اليومي المألوف، خطاب ذهني ـ تشكيلي، يضع الحياتي خارج منطقة الشعر ويسعى في الوصول إليه من خلال الإشارات والشفرات الدالة،  خطاب يقوم على الوحدات والعينات المتشابهة المعنى، الإيقاع السريع الحركة (فعلن، فعلن) تطويعات الحرف واللون لضرورات العمل الشعري الفنية والجمالية.. خطاب يقوم على التأويل والفهم الديني والتصوفي لدلالات الحروف وتوظيفها في الأنساق الشعرية التي تحفر بعيداً في المعنى عن المعنى.. إنه خطاب لا ينشغل بالبهجة والمتعة التي توفرها بهجة الحياة في الشعر، لأنه منشغل بالمتعة الذهنية أكثر من سواها. لذلك فإنّ خطاباً من هذا النوع لن يتسع إلاّ بقدرات نوعية لاحقة تمنحه صفات أخرى من الحركة.. من هنا فإنّ الشاعر قد انشغل بموضوعة الحرف طويلاً  في مجاميعه: (جيم، نون، أخبار المعنى) لتأكيد هذه القدرات بدراية عالية:

 حوصرتْ دمعتي حين قتلاي قاموا إليّ

بسيفٍ طويل.

حوصرتْ لغتي: ألف دال وياء وباء..

قلتُ للحرفِ: أنتَ الذي يعرف النخلَ يسكنه. 

(2)

بين الحرف واللون

     إنّ استثمار الطاقة التعبيرية للحرف في الإبداع العراقي له جذوره التاريخية والدينية المعروفة. حيث كانت الحروف تشكل الرقعة الأوسع في صورة كتابة الرقى والتعاويذ (بطلسمية) تصويرية تبهر ولا تفتح مسالكها إلى الذهن إلا ّبالقدر الذي يتوفر على معرفية بأدوات السحر كتابياً. كما إنّ تجربة الفنان القدير (شاكر حسن آل سعيد) في استثمار الحرف بأنْ منحَه نطقاً تشكيلياً هي الأخرى كانت سابقة حتّى وإن ارتبطت بالتداولات الصوفية للحرف. غير أن جميع التجارب في هذا المجال منفصلة ومقطوعة الجذور عن القدرة الهائلة في سطوع الحروف في (القرآن الكريم).. والقوة التي تمنحها صوتياً وبيانياً في ترتيب النص القرآني بما يجعلها مؤثرات لاتـُستثنى من طبيعة الجمال الذي يقوم عليه القرآن بلاغياً.  إنّ القيمة التي تقوم عليها (دالة الحروف) في (أخبار المعنى) تتأسس على تلك الإشارات مضافاً اليها الاشتغال بالجهد الإبداعي- الإبتكاري للشاعر ذاته.. حيث إن محاولات الشاعر تستنطق الحرف (قرائياً وتشكيلياً ولونياً) بتنويعات جمالية تقوم على الرنة الإيقاعية التي يشكّلها توالي الحروف:

 (مَن يفتحُ سينَ سرير اللذة..)

(شكل الجيم المجنونة بالجنة والجن..)

 أو الانتقال (السحري) من النطق الهجائي للحرف إلى النطق القرآني:

 (ولها هاء همومي، واو وعودي، حاء حنيني، طاء طيوري، ياء دعائي)

 في حين تأخذ الألوان صفتها اللونية من دالة الحروف وليس العكس:

 (سأناديكَ بأسمائي: الأخضر ينبوعي 

أتجلّى فيه ولا يتجلّى في أعضائي

والأسود طيري، الأبيض فجري

والأحمر فلسفتي وعيون طغاتي..)

(3)

الرأس المقطوع

 تأخذ فكرة (الرأس المقطوع) ودلالتها الدينية من تأويلات الشاعر وتحديثاته الصورية. إنّ الفكرة هنا تنصاع للواقعة المعروفة وتتحد بها اتحاداً ذاتياً، بحيث تصبح الواقعة هي الفكرة، والفكرة هي الواقعة، إذ إن التشبيه ـ الرأس المحمول على الرمح ـ هو تشبيه تكاد لا تخلو منه معظم قصائد المجموعة في دلالة قصدية تربط التشكيلي الحاصل من (المشهد) إلى إيحاء قادم ومرتبط بهيئة الحروف. والدلالة هنا تقوم على نقل الصورة (صورة الرأس على الرمح) إلى (دالة حرف) بإشارة بارعة إلى الألف المسكن (أ) وهنا يكون استنطاق الحرف والاحالة اليه هو الإخبارعن المعنى و معنى الإخبار في ذات الوقت:

ـ  صرخات الجدّ المحمول على رمح المعنى.

ـ خطأ في خطأ الرمح الداخل في الرأس.

ـ .. انتبهوا رأسي فوق الرمح إله يبحث عن معنى.

ـ .. رأيتُ الكفّ تشيرُ إلى حاء الرأس.. المرفوع على الرمح.

ـ .. تاريخ زبرجد أجدادي المحمولين على رمح المعنى.

ـ .. وضع المعنى الرأسَ على الرمح.

ـ.. رأساً يُحْمَل فوق الرمح إلى أقصى الأقصى.

ـ القمر المقطوع الرأس.

( 4 )

إيقاع الصورة

   في (أخبارالمعنى) تقوم فاعلية الصورة الشعرية على مدركات عقلية تنمّ عن وعي شعري ـ معرفي متنوع مرتبط بالظواهر الفيزياوية حيناً أو الإشارات الأسطورية والدينية في أحيان أخرى مما يضفي على العمل الشعري صفة الالتصاق بتحديدات الإخبارعن المعنى:

 .. أضحكُ، أقفز، أحنو، أتباركُ، أنمو، أتماسكُ، أطلقُ كلماتي، كي أدفن نفسي كالبرقِ بشقّ من طين.

 *

..  منذ شروق الشمس إلى غيبوبتها المرّة 

وسط الامطار.

 *

سأكون السين، أنا السين

منذ مجيء الهدهد من سبأ الناس.

 *

.. قمتُ فقام إلى موتي الأخّاذ حمورابي يتظاهر بالخيبة.

أنكيدو يركبُ رمحاً من ريش النار

كلكامش في باب العصر يغنّي

ونبوخذنصر يرسم روحَ المعنى في قلبي

ويعاشر أفخاذَ النسوة مجنوناً مثلي.

 إنّ إيقاع الصورة مرتبط بالاخبارعن معنى المعنى (معنى الصورة) في فهم إضافي متكامل لأخبار المعنى، في عمل شعري متميز يقوم على وحدة عضوية (متشكّلة من الحرف واللون والرأس المقطوع والإيقاع الموسيقي الواحد) قادمة من المعنى وذاهبة إليه: 

.. رجع الرأسُ إلى جسدي.

قال: "أنا المعنى". فبكيت. 

 

 

 

 

انفتاح القصد وتأويل المعنى

 

د. محمد صابرعبيد

 ص 281 - 284

 

(1)

(أخبار..) في الموروث السردي العربي تنطوي على دلالة تاريخية، وتؤدي وظيفة إبلاغية ذات قابليات سردية متنوعة، تحتشد داخل انساق ملفوظها قصص وحكايات ورؤى وحكم بتنظيمها نسيج واحد، تنمو من خلاله خارطة المشهد المحكي، انسجاماً مع طبيعة المضاف إليه (المعلن) عن هوية الكتابة وكيفيتها (أخبارالـ...) ولا تتضح صورة المشهد وحدود أنشطته وفعالياته إلاّ بتدخل المضاف إليه. والمضاف إليه هنا (المعنى)، ملبس للغاية، ومثير لإشكاليات تخرق التصوّر الأوليّ المألوف، المشتق من آلية اشتغال الموروث ومنجزه المائل.

(المعنى) معطى نتجي يفضي اليه (المقول) بوصفه حقلاً دالاً وهذا المقول حتّى يحسن الأداء بحيث ينتج (معنى)، عليه أن ينضبط وفقاً للقواعد والقوانين التي يعترف بها السوق اللغوي، كما يقرّ لاحقاً بمنح المنتج مصطلح (معنى). ومن أبرز شروط هذا الإقرار هو الاتفاق على نسخة واحدة من المعنى، أو في أبعد الاحوال نسخ متشابهة جداً منه، وكلما ابتعدت نقاط هذا التشابه بين النسخ، زاد اللبس وتزعزع اليقين بالإتفاق على حد أدنى من الإقرار، مما يهدد بالتالي مصير مصطلح (المعنى)، ويجعله عرضة للانهيار وفقدان التماسك. ومتى ما وصل هذا التباين إلى الاختلاف، وانتقل الاختلاف في مرحلة تطور لاحقة إلى المغايرة، فإنّ عنصراً دخيلاً سوف يقتحم قداسة الألفة ويشذّ عن قوانين السوق اللغوي هو (المجاز)، تلك الآلية التي تسحق المعنى بمواصفاته الصورية ذات الأبعاد الرياضية، وتفتحه على أفق جديد حتّى يصبح المعنى (معنى) في العرف اللغوي السائد ويكون قابلاً للإخبار عنه (أخبار المعنى)، يتوجّب في المقياس النظري الإرسالي أن يكون عقلياً، كي تسهّل عملية إبلاغه القائمة في جزء كبير من نشاطها القولي على الإبانة والوضوح والإقناع، الاّ إنه حين يتنازل عن صفته العقلية ويصبح (تخييلياً) على رأي الجرجاني، فكيف الإخبار عنه؟ هذا مستوى إشكالي. فإذا كانت فعاليته في النسخة العقلية (فعالية دلالية منطقية) ذات محمول معجمي، فإنها في الثانية (فعالية جمالية مغايرة) ذات محمول مجازي رمزي حسب أدونيس، ويتحول المعنى بذلك من أثر ملتقط قابل للاستهلاك إلى أثر معد للتجريب. من الشروط البديهية لشعرية القول، الخروج الخلاّق عن المعنى، إذ تنتقل فية سلطة وعي الكتابة إلى سلطة وعي التلقي بحيث يصبح المعنى جدلاً وإشكالية، تنتج الكتابة شيئاً منه، وتنتج القراءة شيئاً آخر ويبقى ما هو قابل للإنتاج بشكل ما، ولاتتوقف مسؤلية الإنتاج في أيّ نشاط من هذه الأنشطة على عنصر معين، فكلّ بنية أو وحدة في نظام النص لها وظيفة ـ سواء أكانت فاعلة رئيسة أم خاملة ساندة ومعززة ـ  تسهم في هذا الإنتاج المعقّد. الشعر كتابة بالإحساس، إذن استجابة اللغة له غير قياسية، ووهمية أيضاً.

(2)

(أخبار المعنى) للشاعر أديب كمال الدين هل هي قصيدة - مجموعة قصائد، العنوان فيها مسؤول عن المتن؟ أم إنها بيان شعري تعمل فيه بنية قصد مضاعفة أبعد من ذلك؟. سأفترض بدءاً أنّ المداخلة التي تصدّرت قراءتنا (لأخبارالمعنى) بما أثارته من إشكاليات، من فضائل المناسبة، حتّى وإن كانت الكتابة هنا غير معنية تماماً بهذه الإثارة. فالتقسيم الشكلي الذي هندس خارطة الديوان ينتمي إلى بنية قصد، تتصل بمشروع ضاغط هو خارج هذه الهندسة، والعنوانات المتوزعة على الخارطة لا تعلن مسؤولية كاملة عن متنونها. المشروع الحروفي الذي كرّس له أديب كمال الدين أكثر من ديوان واعتمده مشروعاً شعرياً خاصاً يراهن على فرادته وإمكانيته تحقيق إضافة، هو مشروع ضاغط و(مهيمنة) حاجبة، إذ إنّ السرد الشعري الذي حفل به ديوان (أخبار المعنى) يمكن وصفه بـ (سرد تحت الضغط)، غالباً ما يتمركز فيه الصوت السارد ويجتر خزينه، ولا يتورّع في أحيان كثيرة عن التكرار غير المؤدي إلى وظيفة جديدة. (أخبار المعنى) قصيدة واحدة يشتغل عليها الشاعر اشتغالات متنوعة، مستغلاً بهاء الميراث الحرفي وتمظهراته، حشد كبير لإمكانات شعرية كثيفة وسردها مرّة واحدة، في محاولة جادّة لأسطرة الحرف وبعثه بصورة أخرى، والمراهنة فيه على شعرية (الكلي). ثمة نوع من التغمّض أو تبادل الوجوه، بين أنا السارد وأنا الحرف، من أجل إيهام المحاولة وتسهيل مهمة مواجهة إشكالية المعنى. إنّ الصلة مقطوعة بين آليات الاداء (الكلمة الفضة – الكلمات الرمل – الكلمات النار)، وملصقاتها المجاورة (لاجدوى – فلا جدوى – فلا جدوى) وبين المعنى الهارب. إنه ماثل في كلّ شيء شعريّ، وغائب عنه في اللحظة نفسها. هل الحرف المقدس – أسطورة أديب كمال الدين – ضالع شعرياً في هذه المؤامرة؟

 (الباء فراش مكتظ بالمعنى)

 الاكتظاظ حال وجودي ملبس أيضاً، لاسيما إذا اتصل بمعطى مكاني (فراش)، ينطوي على أكثر من دلالة تتقدمها الدلالة الجنسية المؤدية إلى فعل الحياة والخلق والتواصل. الحرف (الباء) إذن فاعل أسطوري لا يستهدف إنتاج معنى، بل يستثمر إمكاناته ومساحة نشاطه في صياغة شبكة النسيج الشعري. وينضغط الزمن – بصرف النظر عن تنوع وحداته وتباين حدودها وامتدادها – داخل كثافة التلاحق الفعلي السريع (أصرخ – أبكي – أتّدثر – أغفو – أقوم – أدعو- أصوم – أناشد). وهو ينمّي فكرة الصراع الشعري، مصعّداً إياها إلى أقصى حد إشكالي ممكن (باب المعنى – بكلام اللامعنى)، إنّ كلام اللامعنى هو المعنى الآخر، الذي يتحرّك بحرية خارج مسطرة القياس المعتمدة أساساً للتفاهم داخل أخلاقيات السوق اللغوي.

 القصيدة هنا تراهن على البساطة لا التعقيد، فالذي يتسامى به الحرف شعرياً هو الطفولة واليسر والسهولة والعفوية، لا التقعّر واجتلاب الغريب والناشز: (يا لطفولة أعضائي ونعومة أغنيتي حد دخول المعنى في اللامعنى). إنّ (دخول المعنى في اللامعنى) هو درجة صفر الكتابة الشعرية، مغادرة جدران الأسر (القصيدي) إلى انفتاح فضائي لا تضبطه قواعد، ويصبح قابلاً لمتعدد التاويل. التلبّث في أرض المعنى المباح المشترك، هو إقامة في مكان عام يتوزّع حقوقه الجميع، الذين يظللهم الاطمئنان واليقين السعيد، باستثناء الشاعر القلق المتوتّر، وهو ينتظر (المعنى) الآخر الذي ينقله من أرض الواقع المعلوم إلى فضاء الإيهام المجهول: (فيكون المعنى أن أنتظر اللامعنى).

 ولايكتفي بالانتقال بل:

(الشعر يغنّي في فرحٍ أسطوريّ خيبته ويقومُ يقبّلُ دمعي كي نقتل شيئاً يدعى المعنى)

 لينفصل كلياً عن المشاع، ويستقل استقلالاً شعرياً كاملاً، ويغادر زمنياً (الماضي) ولا يخضع بالتالي لسياسة (الاخبار) التي تعرض لها المعنى في هذا الديوان.

يختتم الشاعر سرد (أخبار المعنى) بقولبة حكائية مصنوعة بحرفية وإحكام، توهم بأنّ (كلّ) المقول كان في الأصل حكاية سردها راو متكلّم ممعن في قصديته وإثارته:

 (قامَ الرأسُ إليّ أخيراً، قبّلني صاحَ بأعضائي فتنبهتُ من الموتِ إليكِ، وجدتكِ عاريةً قربي. رجعَ الرأسُ إلى جسدي، قالَ: "انا المعنى". فبكيت).

 هل يرثي الشاعر هزيمته بعودة الرأس – الحرف بعد رحلة الشاقة إلى الجسد – اللغة، لتعلن أناه (معناها) فيحلو البكاء؟ أم إنه عاد مؤسطراً مخصباً بخيبات الرحلة وأوهامها، فاقداً صفاته، حدوده وانتماءه إلى المعلوم؟

  

 

 

 

قراءة في: (أخبار المعنى)

يرتكس المعنى.. يرتكزالشكل

 

معين جعفر محمد

 ص 285 - 289

 

 

 

  تكاد طروحات الشعرية الحديثة تتفق بالإجماع، على ضرورة أن ينفرد الكلام في النص  بسمات استثنائية تتنتقل به من حقل التعبير العام إلى صياغة المجردة الخاصة، التي يكون الاهتمام فيها مركزاً لا على المعنى المنتج، ولكن على طريقة إنتاجه، بل إنّ بعضاً من الدارسين الحداثويين، بلغ بهم الأمر إلى حد الدعوة إلى الانفلات من شرك (المعنى) بوصفه إحدى الآفات التي يمكن أن تأتي على شعرية الخطاب وتحوّله إلى جسر فاقد لمقومات نموه. إنّ من شأن هذا الانفلات أن يتيح لعناصر نسيج الخطاب التحرر من أية موجهات محكومة بقصد ثابت، تأدية معنى لتصبح موجهة نحو الإشارة نفسها، على حد قول جبليولبسكي فيترتّب على هذا، أن يحقق الخطاب الشعري ذاته شكلاً محضاً، وهذا بالتحديد ما يحصل في (أخبار المعنى) المجموعة الشعرية الخامسة للشاعر أديب كمال الدين، الذي كان قد نشرت له من قبل أربع مجموعات شعرية هي على التوالي (تفاصيل ـ 1976)، (ديوان عربي ـ1981)، (جيم ـ1989) ثم (نون ـ 1993).

 لعلّ من المناسب أن نشير هنا إلى المغزى (الثيماتي) الذي يحمله عنوان المجموعة الخامسة هذه: (أخبار المعنى)  فهو يشير ضمناً إلى (غياب) المعنى في أقل تقدير، وهذا عائد إلى طبيعة (الستراتيج) الذي يتبعه الشاعر في صياغته فهو يعمد، أولاً، إلى الإطاحة بالمعنى ليتفادى بذلك مخاطر إتيانه على قصدية الكتابة ثم يبدأ بعدئذ ببث ما كان مما يمكن أن يكون من أخباره علينا، فكيف ينفذ الشاعر هذا ( الستراتيج)؟

 لابد من التسليم، بادئ ذي بدء، بخضوع القصيدة الشعرية عند أديب كمال الدين، لإجراءات نظمية. إنها (صناعة) من نوع (فني)، فيها يمارس الشاعر أقصى مهاراته فهو ينطلق من إدراك عميق لطبيعة المعنى ومصادر تشكّله، ثم يأخذ بعدئذ، بنسف هذه المصادر ليتمكن بالتالي، من نسفه هو، فإذا كان (معنى كلمة مجموعة علاقاتها الممكنة مع كلمات أخرى..) فإن نفي الأول يتم تفادي نشوء الأخيرة، أو بتعبير أدق، بقلب السيرورة المتضمنة في طرفي المعادلة. وذلك  بأن يلجأ الشاعر إلى أفراغ الكلمات من معانيها، يزجّها في أنساق خارجة على أعراف البناء الجملوي وأساسياته، بحيث تكتسب علاقات إسنادية جديدة مع عناصر أخرى لا تتحمل أصلاً مثل هذه العلاقات:

 (أختارُ لموتي أسئلةً من طين، ومرايا تفضح أجساداً من قطن، ومعارك لم تحدث، وأناورُ في تدبيجِ مقالاتٍ تتسترُ في أخفاءِ هزائم كلماتي كي أخرج محتفلاً والناس سكارى يرتجفون).  (موت المعنى/ص 5).

 على الرغم من أن الراوية هنا هو المعنى، فإنّ الحقيقة تتأكد عبر سيرورة فعل السرد نفسه. إن (موت المعنى) الذي يعد هنا واقعة متحققة، ليس مجرد عنوان مساق بصفته مفتاحاً لفكّ رموز السنن التي تتحكم بشكل نسيج الخطاب، وكشف خباياه التي ينطوي عليها فقط، بل إن فيه مغزى ثيماتياً، أيضاً، ينحو المنتوج الدلالي لجمل الخطاب الشعري كافة، باتجاه ترسيخه، حتّى إن الراوية نفسه، ينطلق في بث رسالته من كون (موت المعنى) حدثاً متحققاً، وهكذا تتبلور سمة فنطازية تنشأ من حيث يتم خرق المنطق العقلي وخلق منطق بديل يعزى إلى إطلاق العنان لملكة الخيال لتفعل فعلها في خلق تعالقات إسنادية بين عناصر لا تمتّ إلى اللغة إلاّ بصلات شكلية فحسب ذلك لأننا هنا (بإزاء كلمات مفرغة من معانيها من طريق تسخيرها بصفتها (إشارات مجرّدة) في خطاب مكثف بذاته، فهي لا تحيل إلى شيء خارجها، وهي تصلح لأن تكون مثالاً لما يسميه تودوروف بـ(اللغة المختزلة إلى ماديتها وحسب، إلى أصوات أو أحرف، إنها اللغة التي تفرض المعنى) والتي لا تهدف (..إلى تقريب دلالتها من فهمنا، ولكن إلى خلق إدراك خاص للموضوع).. وذلك بأن تخلق حالة يمكن تمثلها كرؤية في حدود مايتيحه منتوجها الدلالي الجديد وهو يحقق وضعاً استثنائياً في تفاصيله كافة، على هذا النحو تفقد الأشياء سماتها الأصلية مكتسبة أخرى متأتية عن العلاقات الإسنادية الجديدة الخارجة على أعراف القول المستند إلى قواعد انباء ثابتة.. وتتحول المجردات إلى أشياء ملموسة، أو هي تعامل على هذا الأساس.

 وهكذا فإنّ إسناد الفعل (أختار) إلى (أسئلة) ينجم عنه نسق منطقي، ولكن تقديم عبارة (لموتي) أدّى إلى قلب نظام السيرورة، إذ نفى السمة المنطقية وأكسب الجملة المتشكلة بمقتضاه سمةً غرائبية، وعلى النحو نفسه، فإنّ للفضلة المؤخرة (من طين) مغزى يتأتى من طبيعة الوظيفة التي تؤديها فكونها هنا واصفة لـ(أسئلة) قد حقق للجملة درجة عالية من الانزياح، كذلك يمكن القول بأنّ إسناد (مرايا) إلى الجملة الفعلية الواصفة (تكشف أجساداً) يبدو في ظاهره تعبيراً عادياً، ولكن وصف المفعول به بعبارة (من قطن) تحققت من جرائه فضيلتان: الأولى: تحقيق انحراف في سيرورة المنتوج الدلالي، إذ تم الانتقال به من حيز المعنى الحقيقي إلى حيث يتخذ صفة منتوج  دلالي غير خاضع إلاّ لمنطقه الخاص؛ والثانية أنه أدى إلى سلب الموصوف سماته الحقيقية وإعطائة سمات يصبح بمقتضاها دالاً (وضعياً) بذريعة أنّ المرايا التي يتوخاه الراوية في النص ليست كأية مرايا أخرى، بل هي من نوع خاص، لا تكشف إلاّ (أجساداً من قطن) ولك أن تتمثل ما يمكن أن ينبثق عن عبارة (من قطن) من ظلال معان تنحو باتجاه الإيحاء بزيف هذه الأجساد وخوائها. لكأنّ الشاعر أديب كمال الدين يمارس هذا الستراتيج عن سابق قصد، وهذا مايشي به قبول البنى الدلالية المامه إلى بعضها بتعالقات يترتب عليها إيحاء بفحوى تحرر من جبروت سلطة (المعنى)، فـ(هزائم كلماتي) تعبير منطو ضمناً على إدلال غير مباشر على خضوع الكلمات لسلطة المبدع وليس العكس، أي أن هذه الهزائم هي في الوقت نفسه  سبب لتغلب فاعل سردها، ولذلك يقابلها في الطرف الآخر، خروجه (محتفلاً)؛ وحتّى الجملة الحالية (والناس سكارى..) لا تبتعد كثيراً عن الارتباط بفحوى هذا التأويل بدعوى أن السكر حالة من حالات فقدان الوعي، وأن إفراغ الكلمات من معانيها يجعل الآخرين فاقدي للقدرة على أدراك مضامينها ليبدوا، أخيراً، كما لو كانوا سكارى بالنسبة لها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يحقق الشاعر استفادة واضحة من الخصائص السيميائية للحرف العربي بصفته وحدة تبين (علاماتية) دون أن يتخلّى عن ستراتيجه الثابت، حيث يبقى المعنى مغيباً عنده وراء نسيج من لعبة شكلية لكنها تدع للكلمات حرية أن تتخذ أنساقاً خاصة تنسجم مع المدلول الخاص المراد الإيحاء به:

 (أشاورُ كلكامش ليلاً لنؤسس مكتبةً لحروف الحقّ، الحبِ، وحاء الشعراء المنسيين. وأختار لموتي مأساةً وأؤسس سيناً أخرى لا تدخلُ في كلماتِ اليأسِ، السورِ، السجنِ، سلامِ الرعبِ، سقوطِ الأسنان).

 يلاحظ هنا بروز نسقين رئيسيين ـ الأول، متضمن كلمات تبدأ بحرف الحاء، حيث تتشكل متوالية حاملة لسمة فنية متمثلة بالجناس الاستهلالي الذي يعوّض النص عن غياب التقفية ويسدّ نقصاً مترتباً على هذا الغياب، إذ يؤدي وظيفة إحداث وقع موسيقى، ويجعل في سيرورة الإيقاع الخارجي، أما النسق الثاني، فيتشكّل من كلمات حاملة لصوتية حرف السين، وترتبط مسوغاته بالغاية نفسها التي تحكم النسق الأول. ويلاحظ أيضاً، أن اختيار الكلمات غير اعتباطي، وإنما هو محكوم بقصدية تنمو باتجاه خلق وضع موحٍ بفكرة معينة، حجتنا على هذا أن الكلمات المتنقاة تشكل مفردات محورية تنتمي في النهاية إلى حقل واحد، وذلك لأنّ كلمات من نحو (الحقّ، الحبّ) تمثل إحداها كينونة للأخرى، فالأولى لا تكون بغير تحقق محمول الثانية، والأخيرة تفقد محتواها الحقيقي ما لم تكن الأولى عمقاً وسمة لها. أما (حاء الشعراء المنسيين) فهي نسق ممتنع عن الإفضاء بحقيقة المدلولات المبنية في تضاعيفه، ولكنه يمكن أن يخبىء وراءه مجرّدات أخرى يستدل عليها من طريق وجود الحاء في مستهل النسق، حيث يصبح قابلاً للتفسير بصفته علامة للدلالة على معان غير صريحة أخرى من نحو: الحزن، الحنين، الحسرات، الحرمان.. الخ، وكلها محمولات ضمنية، يمكن بلوغها من طريق مراعاة (الحال) التي يكون عليها الشعراء المنسيون عادة، حرياً بالإشارة إليه، إنّ التركيز على صوتية السين ينضوي تحت طائلة التأويل نفسه، لأنّ كلمات من نحو( اليأس، السور، السجن، سلام الرعب، سقوط الأسنان..الخ) تمت بصلة إلى محور دلالي ينتمي إلى حقل الدلالات المنبثقة عن (سجن). أما نشدان الراوية (سيناً أخرى) غير سينات هذي الكلمات، فيمثل مناورة فنية تمارس بقصد الحفاظ على ديمومة عمل الستراتيج الثابت المنصب على التمويه على المتلقي بغية طمس سمة المعنى. وإذ يفعل أديب كمال الدين هذا، فإنه ينطلق من مبدأ لساني يقول باعتياطية نشوء الدلالة، فما دامت الأخيرة ذات وجود موضوعي (تقع خارج الدال) لأنها معطاة من عند الآخر دائماً.. فمن الذي يمنع الشاعر، إذن من اتباع طريقته الخاصة في فصل (الدال) عن (مدلوله) وذلك بخلقه تعالقات تستند إلى المنطق استثنائي من طريق توجيه اللغة على نحو يجعل الدلالات الجديدة المتوخاة، تتبلور عبر فعل تضامني لتكافل وحداتها في نسق غير معتاد، من نحو:  (أدخلُ اليوم في هيئةِ الحرفِ والحروف روح/ فرحاً مثل رأس يحدّقُ في المقصلة/ قلتُ للألفِ: أني بريء، (وللامِ اني أضيعُ و للألفِ واللامِ: انها المسألة)  (ألف المعنى ـ ص 19)

 إنّ الدخول ( في هيئة الحرف) لا يدلّ على حالة تماهٍ، كما قد يبدو من ظاهر القول، بين الـ(أنا) من جهة، والـ(حرف) من جهة أخرى، بمقدار ما يحقق تشاكلاً يتحد في نسيجه الاثنان معا على أساس أن المشترك الدلالي بين الاثنين متمثل في (الهيئة) بما تعنيه من تمظهر خارجي، دون تعد إلى ما وراء هذا التمظهر، إلى الجوهر الخفي، لكن هذا التخارج الذاتي (أنا ـ الحرف) يقابله تخارج موضعي آخر (الحرف ـ روح) يتم عبره نفي مسافة التعارض بين (أنا) و(الروح) إذ تنشأ بين الاثنتين علاقة حلولية ترسخ محايثة الأولى بالنسبة إلى الثانية..

 

    

قراءة في قصيدة (أخطاء المعنى) لأديب كمال الدين:

هل هو تلاعب بإيقاعات اللغة؟

 

د. مصطفى الكيلاني

  ص 291 - 298

 

   

اختار أديب كمال الدين في هذه القصيدة (أخطاء المعنى) - المنشورة في مجموعته: أخبار المعنى- أن يتعقب الخطأ، وإذا الخطأ أخطاء واللغة الشعرية تتعرّى لتكشف عن فضائح يحرص الشاعر على أن تبقى غارقة في الظل كأن تظهر ولا تظهر. وليس للقصيدة في دوامة الرعب الموروث إلاّ أن تلتف حول لغتها لتؤسس لعبتها وتتفرد جمالياً بما يجعلها قادرةً على الخروج من طوق التاريخ المكشوف لتعلن زمنيتها الخاصة، وهي زمنية كالرحم تنغلق ـ في الظاهر ـ عن زحمة العالم المجتمعي ولكنها تستقطب أشياءه في عمل توليدي يعدم المدلول المباشر بالقصد لينقلنا من لغة اعتدنا على مرجعيتها في الواقع إلى لغة تقارب التميمة من غير أن تكون تصعيداً يتخذ من السحر الأداتي منهاجاً ومن الفرار إلى الماورائي مذهباً للتخفي والاحتجاب .وقد يكتفي القارئ بملامسة قشرة النص الظاهرة ويتجنب الحفر فيه خوفاً من تأويل لا يفكّ شفرة رموزه بل يعمق غرابة ألغازه. ولا ندعي بهذة القراءة القدرة على بلوغ قيعانها القصية. ولكن الاكتفاء  بالنبش فيه ورفض التأويل يقطعان الصلة بين المكتوب والمقروء ويقضيان على هذا النص بالعزلة.

 إنّ (أخطاء المعنى) مكتوب شعري يتمرد على مناخات القصيدة التقليدية وآليات تركيبها الفني، ولأنه ينسف مركزية الغرض ويدعو إلى تأثير يلامس أقاصي الذات المتقلبة ويغرق الظاهر في عميق الظلال المتدفقة من نبع الموت الفردي يستلزم مفهوماً قرائياً لا ينظر إلى البناء المجمل والإيقاع والصورة في سكون اللحظة وينحو اتجاهاً خاصاً في الإنشاد، فكيف يستقل هذا النص عن غيره بتناغم خاص؟ وكيف يؤسس زمنيتة؟ وهل للتراكيب والإنشاد فيه أسس جمالية محددة؟ إنّ التناغم حركة منظمة لها تمظهرها الإيقاعي الحسي، وتكتمن في الأثناء إيقاعاً مجملاً يحول النص الشعري إلى  يمّ يشبه الجسد لا يكرر فيه الجزء جزءاً آخر، ولكنها التمفصلات تمثل وظائف فرعية تتكامل في بناء شامل، ولايختلف بناء النص وتركيبه من حيث هو إيقاع ظاهر عن القصيدة التقليدية إلاّ في هدم التماثل المقطعي ودورية القافية الواحدة.. وليس للشاعر إلاّ أن يتبع (فعلن) ليجيز دمج المقطعين القصيرين في مقطع طويل أو تقصير المقطع الطويل ليسمح في بعض الأحيان بتعالق ثلاثة مقاطع قصيرة في حيّز واحد، فيحدث بذلك فضاءً من التحرر النغمي ويربك بالقصد بناء التفعيلة الموروثة. إلاّ أن التزام الشاعر بمسبق هذه التفعيلة قضى عليه في بعض الأحيان بالانتقاء اللغوي الذي يهدد الكتابة الشعرية بالتجريب ويقلّص من حضور التجربة فكان القصيد متوتراً في إيقاعه تخترقه قوتان من الالتزام بمسبق التفعيلة والنزوع إلى التحرر، بداعبه الهمس أحيانا ويهزّه الصراخ أخرى، يقتطعه صراع حاد بين ضوء متعارف وظلام مجهول. ومع ذلك استطاع الشاعر في حدود المسبق أن يشدّ قصيدته إلى ألوان متميزة من التناغم الخفي مروراً بإضافات ايقاعية حسية تظهر بالخصوص في تركيب الجملة الفعلية المتكرر: (أسبح..قام الليل.. قام النخل.. انفجر القمح.. قمتُ فقام.. قومي.. فاكتحلتْ عيني..نهض الموتى.. قومي..أشفقت.. جلست.. وبكيت.. صحت.. وانشقي.. وانفجري.. أرعبني.. اهتزت.. سقط.. فبكيت.. وصهلت.. عذبني .. قمت.. انهارت.. ركب .. فابيضّت.. قمت..) وتظهر بين الحين والآخر جملة إسمية: (كانوا أشباحاً..  كلكامش في مرآة العصر.. ونبوخذ نصر يرسم.. كان الدهليز صغيراً.. كانت أرضُ الله تغرّد فيك.. كانت كلماتك أطياراً موتى.. كان الله يراقب خيبة أخطائي). وهذا التداخل بين الجمل الفعلية والجمل الاسمية جعل القصيد مشدوداً إلى الحركة والسكون يتجاذبه النسيان الفاعل والذاكرة معا، يتقدم خطوات ليهم بالانفلات من دائرة الحظر ثم تشدّه أوجاع المكان إلى نقطة في الموقع الثابت (فيثوب اليه رشده) ويستعيد هلاكه في لغة مغلقة كأنها الشعاب الملتوية يسير فيها مهزوز الوجدان مرعوب الضمير، ويتوهم أنه ينتقل مسافات في اتجاه محدد ولكنها المتاهة تعود به في كل مرّة إلى حيّز الطوق حيث هو شريد يطحنه غضب مخصيّ، فيهذي كمجنون اختار منطق أشيائه ليستعيد البعض من أفراح جسده المطعون. لقد سعى الشاعر إلى أن يفتح القصيدة إلى الداخل فتجاوز بذلك حدود الإيقاع بالتفعيلة والقافية والتجأ إلى إيقاع اللغة عامة بدءاً بتركيب الجملة المزدوج مع تغلب الجمل الفعلية واستقطابها للحركة مضيفاً إلى ذلك التكرار اللفظي المقصود: (أعتذر.. أعتذر.. قام.. قام.. قمت.. فقام.. قومي.. قومي خطأ.. خطأ.. خطأ كانت.. كانت.. كان) ويعد هذا التكرار من أهم وسائل الكتابة الشعرية. ولعل الشاعر مدرك لتحديات المستقبل وحاجة القصيدة الحرة إلى أن تجدد باستمرار وسائل تعبيرها الفني قبل أن تستنفد طاقاتها ويجرفها التاريخ المعاصر، نتيجة لذلك يرفض اتباع النموذج الواحد وتراه ينتقل من مناخ شعري إلى آخر ويولد القصيدة التي لا تكرر سابقتها، فيتجاوز إيقاع الوزن إلى إيقاع اللغة ويحيلنا على الشعري الذي هو منبع الايقاع الخفي. ويكتمن الإيقاع الظاهر بتشكيلاته المختلفة بناءً مستقلاً لا يحاكي العالم الخارجي بل يستوحي أشياءه وكوابيس رعبه وجماله الطبيعي ليؤسس عالماً بديلاً.

 وقد اختار أديب كمال الدين عفوية الكتابة الملغزة بالقصد ليفرّ بها من الدلالة المعلنة فأوجد شبكة علامية لاتخضع لسلطة قانون مرجعي بل هي سلطة الجنون تحقق لصاحبها التفرّد إلى حين. وكما المجنون والطفل والمرأة في مجتمع الحظر يحشرون في زمرة من ينقصهم العقل أو ينتفي عندهم إطلاقا فإنّ الشاعر وهو شديد الاعتزاز بهذا الانتماء، حسب التزامه بالسير إلى الداخل، لا يستخدم اللغة الأداتية التي هي أهم آلة قمعية في نظام (العقل الكامل) أو (المطلق) بل يتخذ لنفسه لغة تستمد مراجعها من الموقع البدائي المتوحش وحلم الجنون وهما في زواج عنيف يكشف بجرأة الشعر والفتوة عن (أخطاء) هي فضائح السجّان والمسجون، الذابح والذبيح، المهلك والهالك. ولا تبدو القصيدة لعبة لغوية فحسب يندمج فيها الشاعر كلياً ليحقق بها بعض التحرر من حبس اللحظة ولكنها  الجد أيضاً القابع في المواطن القصية. ولئن انطلقت اللعبة باعتذار لخطأ لم يرتكبه الشاعر فإنها سرعان ما أزالت الحدود المفهومة الفاصلة بين الظالم والمظلوم، بين الموت والحبّ، بين الصلابة والسيولة، بين القحط والجسد. وظلّ التلاعب والجد مشدودين إلى قيمة كبرى تنير ليل القصيدة، هي الطفولة ذلك النبع المتدفق يعود إليه الشاعر، اللازمة الكبرى المتكررة في الشعر العربي المعاصر. ولم يبق لكمال الدين إلاّ أن يتمسك بظلالها (ويعتذر) ويتصيّد الحركات والوضعيات في وجود جماعي مهزوز: (كانوا أشباحاً سلبوا أصباغَ طفولتهم) ويتبدى (المكان) فاقداً لأيّ ملمح مكاني كأنه الليل يغرق في السواد ولا يبقى له إلاّ الحلم المشوّه : (كانوا أشباحاً.. قام الليل الأسود ..) فيعود الشاعر إلى رحم الموت الفردي ليطحن هلاك الجماعة ويبرهن باللغة والسيولة المتكررة على وجوده الفاعل: (أسبح في موج أخضر .. سكّيراً  تعتعه الخمر.. انفتح الصبحُ رسولاً من ماء..). لقد اكتشف أديب كمال الدين وهو ينتقل من موضع إلى آخر في (مكان) الجماعة أنّ الموت الفردي حقيقة لا يدركها بيسر إلاّ من توفرت لديه صفات الشاعر المجنون صاحب النبوّة المتمردة الذي يعتقد أن الاندماج في هلاك الجماعة خيانة عظمى لأنّ (الأبوّة) المتسلّطة في حضارة المنع وهي تغتصب أنوثة الماء تنتزع الإنسان من جذوره الطبيعة وتقطع صلته بالطفولة والأحضان الأولى ورفيف اللحم الأنثوي. فكيف يقدر الشاعر على أن يتحمل أخطاء (جماعته) (القوم) وقد (ناموا منتصف الليل عراةً كالأسماك)؟ إنّ موته الفردي مواصلة لـ(حمورابي) و(أنكيدو) و(كلكامش) و(نبوخذ نصر) ونهجه استرسال في تاريخ الحبّ والأنوثة.. وقد يكون مبعث الأخطاء جميعها ـ في نظام السيرورة ـ الخطيئة الأولى عند إنزال المرأة من علياء ألوهيتها إلى أسافل القهر والاستعباد وإحلال قيم الذكورة والنار والحديد الصلب محل الماء والشجر:

(قومي، أثلجني موتُ أبي، عذّبني دهري الأعمى..

 صرخاتُ الجدّ المحمول على رمح المعنى).

وكأنّ الشاعر وهو يتغنى بالفاجعة ويفتقد كغيره من الشعراء المجانين حلم الإنسانية البدائي يلتجىء إلى اللغة ـ آخر ماتبقى من الجنة المفقودة ـ ليرسم بها مراجع حريته في زحمة الخوف، فتبدو المشاهد معارض ماسأة لا تخلو من فرح مجنون يمتزج فيه الضحك بالبكاء وتفقد الحال مرجعها النفسي المتعارف:

(جلستْ فتدثرتُ بغيمتكِ الخضراء

 وبكيتُ كما يبكي صوفي عمّده الشيطان).

إنّ الشاعر وهو يشقى من التردد بين قيمة اللذة وقيمة الواقع يحيلنا دون قصد على فجر الإنسانية عند حدوث النقلة من البدائية إلى الحضارة. لقد اصطدم شأن كل الأفراد بالواقع حينما أدرك شعرياً أن الاستجابة الكاملة للحاجات ومن غير وجع مستحيلة الوقوع فيغيب الأمل في تحرر حقيقي. وليس له بعد ذلك إلاّ أن يدع (اللذة المؤقتة) العاجلة وليدة الطبيعة الأصل من أجل لذة مؤجلة مبتورة. غير أن قيمة اللذة الطريدة من الواقع لا تختفي كلياً في قيعان اللاوعي بل تطفو في بعض التجلّي على السطح: (ويعاشرُ أفخاذَ النسوة مجنوناً مثلي.. كان الدهليزُ صغيراً وأنا أدفع لولبَ غصني..اهتزتْ شفتاكِ.. الرطبُ الأحمر شهداً، سقط الرطبُ الأحمر شهداً..قمتُ إلى ثدييكِ أناشدكِ الرحمة). إلاّ أن المكبوت سرعان ما يستعيد انحباسه بعد أن تحرّر جزئياً في مجال لعبة النص الشعري، تستقطبه دهاليز اللاوعي، وتشتد اللعبة تلاعباً عندما تهتز الجدوال الدلالية وتنفتح على بعضها البعض ويؤثر الشاعر بالقصد الالغاز على خيانة القصيدة بتحويلها إلى وضوح كاذب. وتظل (الأخطاء) لازمة كبرى في النص تتكرر من غير أن تستقر في حقل دلالي واحد.

 إنّ زوبعة الأخطاء (أخطاء المعنى) تشكّل لغويّ له سماته الجمالية الخاصة  فلم يتبع نظام الخط الواحد ولكنه صورة للوجود المكتظ بعديد التناقضات عاد إلى عراء (القبح) يكشف من خلاله جمالاً طبيعياً هو الجسد يتفتح في بريق اللحظة والنفس تفضح جوع سنوات من الجفاف والعقل المتوحش يبكي ـ بدائيته المفقودة ـ ويكتمل جمال (القبح) حينما تجمد الحركة فجأة في آخر النص وينتشر الهلاك في كلّ البقاع :(كانتْ كلماتكِ أطياراً موتي فضحتْ جسدي من أقصى جسدي حتّى أقصاه..). ويستعيد الشاعر صواب سجانه فيلوذ بمطلق الرمز خوفاً من الانهيار، وعند ذلك تقطع اللذة وليس للقارئ إلاّ أن ينسحب من اللعبة ـ كالشاعر ـ لينفصل عن (قبح) الجسد كالعادة ويحلم بالسراب.

 

 نص القصيدة: أخطاء المعنى

 

  أعتذرُ اليومَ إليكِ: إلى خطأ في أطفالِ الطين،

خطأ في دمعِ الظالمِ، في طعناتِ المظلومين

خطأ في حبٍّ حطّم فيَّ الأبواب وأوصدني بالمزلاج

أعتذرُ اليوم

قوّمتُ بأرضكِ قومي..

كانوا أشباحاً سلبوا أصباغ طفولتهم 

من ساقيةِ الأسباخ

ناموا منتصف الليل عراةً كالأسماك

وارتحتُ إلى ميسمكِ المفتوحِ كشقِّ التفاح

كنتُ أوزّع خطأ مضغوطَ الشفتين ومرتجف المعنى..

أسبح في موجٍ أخضر أطفو كالطحلبِ أغفو..

سكّيراً تعتعه الخمرُ المرّ

من بابكِ حتّى محرابكِ حتّى موتك

قام الليلُ الأسودُ فجرا ًوانفتح الصبحُ رسولاً من ماء

للعطشانين بجمرِ الصحراء

قام النخلُ كأبريقِ الساحرِ، زقزقت السعفات

وانفجرَ القمحُ على بابِ الزقّورات

قمتُ فقام إلى موتي الأخّاذ حمورابي يتظاهرُ بالهيبة..

أنكيدو يركبُ رمحا ًمن ريش النار

كلكامش في بابِ العصرِ يغنّي

ونبوخذنصر يرسمُ روحَ المعنى في قلبي

ويعاشرُ أفخاذَ النسوة مجنوناً مثلي..

قومي، قام الليلُ إلى فجري

فاكتحلتْ عيني وأضاءتْ محجرها البارد

نهض الموتى قرب الباب انشقّوا

كالومضِ، انشقّوا كشياطين صغار

قومي ، أثلجني موتُ أبي، عذّبني دهري الأعمى..

صرخاتُ الجدّ المحمول على رمح المعنى

من بابكِ حتّى محرابكِ حتّى موتي

أشفقتُ على نفسي

كان الدهليزُ صغيراً وأنا أدفعُ لولبَ غصني..

مملوءاً بالزيتون، أنادي علّ الغيمة تجلسُ في حضني

جلستْ، فتدثّرتُ بغيمتكِ الخضراء

وبكيتُ كما يبكي صوفيّ عمّده الشيطان

صحتُ انقلبي فيّ ولا تقتربي

وانشقّي فيّ ولا تنفتحي..

وانفجري فيَّ ولا تنهمري

أرعبني صوتي..

اهتزّت شفتاكِ.. الرطبُ الأحمرُ شهداً

سقط َالرطبُ الأحمرُ شهداً

فبكيتُ، صهلتُ بقهقهتي

عذّبني العصفوُر الداخلُ فيّ وأيقظني هدهدُ رأسي..

ديكُ دموعي وهزارُ عذابي

قمتُ إليك

كانت أرضُ اللهِ تغرّد فيك

وأنا أعتذر اليوم إليكِ: إلى

خطأ في اللهجةِ من خطأ في المعنى..

خطأ في البهجةِ أو خطأ في الدمعة

خطأ في خطأ في خطأ الرأس

خطأ في خطأ الرمحِ الداخلِ في الرأسِ، انهارتْ أركاني

هبط البحرُ إلى موجي..

ركبَ الأزرقُ أخضرَ روحي..

فأبيضّتْ عيناي من الذلّ

قمتُ إلى ثدييكِ أناشدكِ الرحمة..

كانت كلماتكِ جثثاً تتساقطُ من سعفاتِ الرطبِ الأحمر

كانت كلماتكِ أطياراً موتى فضحتْ جسدي..

من أقصى جسدي حتّى أقصاه

كان اللهُ يراقبُ خيبةَ أخطائي..

ويناشدني أن أصمدَ وسط الريح وأن..

لا أنهار كسدّ من طين.

 

 

  

الفصل السادس: نون

مطبعة الجاحظ – بغداد 1993

 ص 299

 

 

 د. بشرى موسى صالح                   

وديع العبيدي

عيسى الصباغ

عدنان الصائغ

علي الفوّاز

 

 

 

  

خطوط الحرف السرّية

 

قراءة نقدية في شعر أديب كمال الدين

 

د. بشرى موسى صالح

 

              ص  301- 312        

 

 

* مدخل: هزّة الحرف في صراخ المجاهيل:

 في قوانين القراءة النقدية الحديثة تترشح مقترحات قرائية كثيرة لتكون مقتربات للوصول إلى النص الشعري الحديث إيماناً بمغادرة الطقس السطحي إلى المناخ الغائر تحت السطح وفي محاولة للربط بين الظاهر والعميق. لذا نجد أن القائلين بإعلاء شأن القراءة أو منهج القراءة في نقد يهتمون برصد أي شيء للوصول إلى كلّ شيء، نجدهم يهتمون بكل ماتقدمه إليهم (نماذج) الشعر الحديثة والمعاصرة من أشكال تجريبية خطوة أولى في سبيل إدراك (دينامية النص)، ومن هنا جاء اهتمام (القارئين) بمظاهر النص كلها: شكل الحروف، علامات الترقيم، علاقة البياض بالسواد، النقاط، القطع،التدوير.. الخ، للوصول نحو الغرض الاستكشافي فإن القراءة: (تقترح مفاتيح خاصة ليست هي مفاتيح الآخرين، وتبتكر إلى النص طرقاً جديدة ليست هي طرق الأخرين)(1) .ومن هنا كان أمام هذا (القارئ) الفاحص المنقب أن يفتت القناعة التقليدية التي ترهن نفسها بدلالة صاحب النص أي التي ترى أن مهمتها تنتهي عند حدود الكشف عما يريد الباحث بثه في نصه لتدور في فلك التوصيل التقريري ولتكشف لنا الستار عن (المعنى) أو (المغزى). وإذا كنا قد رصدنا حتّى هذه اللحظة جانباً من جوانب الاشكالية النقدية المعاصرة فإن الجانب الآخر يتمظهر بما ترسب في ذهن الشاعر المعاصر (التقليدي) ذاته من رواسب تلك القناعة فحاول أن يحاصر إبداعه في (تقويل النص) للمعنى بلعبة سطحية يلعبها مع الناقد فيوضح تارة ويغمض أخرى. أما الشاعر المعاصر المتطلع إلى أفاق ترفض الثوابت والقوانين الناجزة الجاهزة في الشعر فقد أدرك أن نصه لايقول شيئاً (محدداً) في الحين الذي هو مرشح لأن يقول كل شيء وتـُبتعث منه مشاريع قراءة مفتوحة لاتمتثل للانغلاق بل للانفلاق. وتطلع شاعرنا العراقي المعاصر إلى تحقيق هذه الغاية في مغايرة المألوف ممهدا السبيل إلى الفعل القصدي في إنشاء أو ابتداع (أسطورته) الخاصة التي لاتعني البعد المعروف للاسطورة بل استشفاف البعد الرمزي للفكر الإنساني واستحداث الفعل الصوغي الخارق. ولا نريد الخوض في المستويات الابداعية المتحققة في فعل الانشاء هذا والتفاوت بين شعرائنا في تجسيده فليس هذا موضوعاً لنا الآن بل إن ما نسعى إلى استكشافه هنا هو محاولة الوصول إلى هذا البعد في شعر واحد من شعرائنا العراقيين وهو أديب كمال الدين.

* المقترب الحرفي ومحفزاته في شعر أديب كمال الدين(2):

في واحدة من محاولات شاعرنا المعاصر لخلق أسطورته الخاصة واستحداث الفعل الصوغي الخاص تقف محاولة أديب كمال الدين في خلق التقاطع مع المألوف والاستعلاء عليه بمكابدة الحرف.. في توق لخلق الأنموذج المهيمن على رؤيته الشعرية.. أنموذج (القصيدة الحروفية). ويحاول الشاعر أن يبوح بالمحفزات التي دعته إلى اقتحام نصه تحت (شروط الحرف أو طائلته) والدوران معه في دورة لامتناهية، وأول المحفزات لديه يبدأ بالقرآن الكريم، والحرف  جزء من أسراره، ثم بما أحسه في الحرف من قدرة على استكناه أزمنته الماضية والحاضرة وكشف المستقبلية منها وقدرته على خلق أسطورته الشخصية، ويعلن عما منحته التجربة الصوفية ومواجد المتصوفة له من مقترح حرفي وأسئلة قصوى عن الحرف وقدراته التي لاتحد. ويصرح الشاعر بالحرف (أسطورة خاصة) ويعرف به أداة لحفر منجمه الشعري ويشهد أن للحرف لديه مستويات(3).

وإذا أردنا لهذه المستويات أن تتحدد لكانت:

1. المستوى الهيئي (الشكلي) .

2. المستوى الدلالي .

3. المستوى التحويري .

4. المستوى الطلسمي.

5. المستوى القناعي ويتخذ أشكالاً مختلفة منها:

أ . الصوفي  ب . الأسطوري  ج . التراثي.

وإذا ما صح لهذه المستويات أن تتفرع في الإطار التنظيري تعسّر أن تفعل هذا على جسد النص حيث يبدل أدواره الحرف في قصيدة أديب وتصبح هذه المستويات غالباً قسمات لوجه واحد ولو أردنا أن نضع مقترحاً أو مقترباً قرائياً لأسطورة الحرف عند أديب لتمثل في امتزاج هذه المستويات وانصهارها في حروفياته.

* شذرات من حروفياته:

إنّ الدخول إلى تجربة أديب كمال الدين من مقترب الحرف بمثابة (وضع يد قرائي) على جهد الشاعر في إدارة اتجاه القصيدة نحو منطقة خاصة يحاول الشاعر أن يرشدنا إليها دالة على نصه وعلامة شاخصة فيه. ولعل القراءة النقدية المبنية على هذا المقترح المترشح: (مقترح الحرف) تتطلب أن يؤشر (القارئ) التقاطاته التي يسمح بها نص أديب من دون تفتيت للجهد الحرفي لديه، أو إضاءة تجلياته بتسوير متعجل يقف مانعاً أمام تطور الخلق الحرفي غير أن هذا لايمنع من أن نصرّح بأنّ الدخول إلى نص أديب من مقترب الحرف يستلزم خبرة سابقة بالرمز الصوفي و(الشظية) الحرفية فيه، والتجليات الإشارية لدى المتصوفة ودرجات الحرف ومعانيه عندهم التي لايستدل عليها بهيئاتها وأشكالها المجردة أو الدلالية في النص بل بأولية العلم بالمعجم الصوفي ومصطلحاته ومكابداته.. وإذا ما أردنا أن نفرّق بين تجربة أديب مع الحرف وتجربة الشعراء المجددين ممن كان للتراث الصوفي مكان في مرجعيتهم الشعرية (أودنيس تحديداً)(4) لألفينا أن شغف أديب بالحرف ليس إلاّ شغفاً بشظية صوفية (متمثلة بالحرف) لا بالبعد الصوفي المتكامل أو المرجعية الصوفية الفكرية أو الدينية.

إن الحرف لديه وسيلة لاستكناه أبعاد لاتحد في طاقتها على التجدد: أبعاد شكلية ودلالية تتخذ أقنعة مختلفة وأشكالاً متغايرة. ويصعب علينا ونحن نرصد شذرات من تجربته الحرفية أن نقول بانتهاء سلطة التجريب في دلالة الحرف لديه لأنّ التجريب الحرفي قد أخذ عنده حيزاً مفتوحاً ولانهائياً وقد أشار الشاعر ذاته إلى طموحه بأن يفيد من (الكلمة ـ الحرف) إلى الأقصى فقد فجّر الحرف فيه أسئلة قصوى وإمكانات لا تحد(5).وسنحاول أن نقرأ قصيدة (حروفيات) لأديب وتتألف من ثلاثة عشر مقطعاً(6). تطالعنا قصيدة حروفيات بثنائية ضدية (حرفية) هي ثنائية (الشكل والدلالة) تحاول أن تنتظم في القصيدة من مستهلها متجلية في تنويعات نسقية تؤكد ما ذهبنا اليه في أول حديثنا من كون المستويات الحروفية في شعر أديب تتناسق حتّى لتبدو وكأنها قسمات لوجه واحد. يفتتح أديب (حروفيات) قائلاً:

واأسفاه

صرتُ أنتقلُ من حرفٍ إلى حرف

ومن نارٍ إلى نار.

 يشير هذا المفتتح إلى مايعنيه الشاعر من تشكّل حدود هذه الثنائية وما تنوء به من ثقلها عليه فيأسف  لهذا الانشطار بين هيئة الحرف (موضع عشق الشاعر) ودلالته المقنـّعة (المرأة). إنه ينتقل، إذن، من هيئة إلى هيئة أو من دلالة إلى أخرى، في علاقة (دلالية) آسفة متمثلة بالمسند اللساني (واأسفاه) التي يكررها مطلعا لمقطعين هما الأول والخامس وثالثة قبل نهاية المقطع الخامس. وفي المقطع الثاني يكشف الشاعر عن استحضار البعد الطلسمي والميل إلى لغة الإلغاز وهو مستوى من مستويات الحرف لديه:

يا سيّدة النون

رفقاً بنفسكِ، رفقاً بي

فلقد عبرتُ حاجزَ الخوف

وعبرتُ حاجزَ الحرمان

إذن، لم يبقَ سوى حاجز الموت.

 يأتلق المستوى الطلسمي، إذن، (مع سيدة النون) وتنقدح الثنائية من جديد بين (السيدة) و(النون) بين الهيئة والدلالة، وحين نقترح مفتاحاً لحل الطلسم نقول: إن سيدة النون هي (سيدة الحرمان) فيتحول (النون) من المحور الهيئي التجريدي إلى محور الدلالة بوجهيها النفسي والحسي. وتفسح الثنائية الضدية الأولى (الهيئة ـ الدلالة) المجال لنمو ثنائية أخرى هي ثنائية (أنت ـ أنا) وهي لا تخلي السبيل إليها بل تسير معها جنباً إلى جنب. وتبدأ حدود الثنائية الجديدة مع عبرت (أنتِ) حاجز الخوف وعبرتُ (أنا) حاجز الحرمان وتمتاز هذه الثنائية بكونها أئتلافية ودية تميل إلى الانصهار والامتزاج حتّى ولو على سبيل عبور حاجز الموت معاً والتحول من أنت وأنا إلى (نا): لم يبق (لنا) سوى حاجز الموت. ولا يستطيع أديب أن يتخلص من (المستوى الهيئي) في حروفياته ويبقى هذا المستوى آسراً له ويبقى مغرماً بمستواه التشكيلي: 

نقطتكِِ وسعتْ ثواني أيامي

وهلالكِ وسع يقظتي ومنامي

كيف، إذن، أفكّر فيكِ وأنتِ فيّ ؟

 إنه لا يكتفي بما ترصده (النون) كلمة لا حرفاً فيعود إلى محاورة الدلالة من خلال رسمها التشكيلي وصولاً نحو تحقق الثنائية الاولى (الهيئة ـ الدلالة) فهو يتغزل بالهلال والنقطة رموزاً لدلالات نفسية وحسية ولعل المقطع الآتي يجلّيها بوضوح:

لأول مرّة أنتبهُ إلى كنوزكِ التي تسير

رأيتها بحاجبي الذي يبصر الماوراء

ورأيتكِ وقد رأيتني وأنا أرى

فاسرعتْ كنوزكِ تتحرك

في بهجةٍ وقلقٍ وغموضٍ عظيم.

 فدهشته أمام (رمز الحرف) هي ذات دهشته أمام كنوزها التي تسير. أنها كنوز النون بل كنوز (سيدة النون)، وتستقفنا أداة الرؤية في هذا المقطع ففيها انزياح عن فعل الرؤية المألوف على الرغم من تداولية الصورة:

 رأيتها بحاجبي الذي يبصر الماوراء

     فليست (العين) التي ترى في هذا النص بل هو الحاجب ولعل هذه الرؤية (الحاجبية)

تجسم لنا الدهشة في حضرة الكنوز (ولعلنا جميعاً نقوم بذات الفعل إزاء ما يدهشنا فترتفع حواجبنا في حركة لاشعورية). ومن تجليات الثنائية الثانية (أنتِ ـ أنا) الانشطار ثم الالتحام فيقول:

كيف، إذن، أفكر فيكِ وأنتِ فيّ ؟

وفي مقطع آخر:

ورأيتكِ وقد رأيتني وأنا أرى.

ولعل نظرة سريعة إلى اشتباك الضمائر تفصح لنا عن حركة هذه الثنائية. ويعود إلى الأسف في المقطع الخامس ليبث مواجده من الاكتواء بنار النون ونورها فالنون قد صارت قارباً يحتضن الشمس ويعلن أن الدنيا بين يديه ولكن، وياللأسف، لا يحتضن إلاّ المحال وأنىّ له أن يحتضن الشمس:

واأسفاه

كيف أستطيع أن أحبّكِ وأنتِ على هذا النحو:

قارب احتضن الشمس

وأعلن أن الدنيا بين يديه

واأسفاه

كان كلام القارب صحيحاً.

      ويبقى الشاعر على وداده بثنائيته الأثيرة فلابد من الهيئة (شكل القارب وشكل النون) نتقابل دلالة الحرمان. ويعود في مقاطع تعقب هذا المقطع إلى تنويعات حروفية على نغم الثنائية الأساس (الهيئة ـ الدلالة) أو على الثنائية الثانية (أنت ِ ـ أنا) يناسخ فيها بين هاتين الدلالتين ليبدأ في المقطع التاسع بالتبشير بثنائية ترميزية حروفية جديدة والخروج على (كنف) النون:

يا للهول

كيف يجسرُ الألفُ المتصعلك

أن ينظر إلى إمبراطورة النون؟

    وفي محاولة لحل البعد الطلسمي نقول: إنّ الألف المتصعلك هي أنا الشاعر ولا يفوتنا أن نلتفت إلى أن الألف هي أول حرف من أحرف اسم الشاعر (أديب) مما يؤكد محور الثنائية الأولى (الهيئة ـ الدلالة). وببراعة استطاع أديب أن يفتح مستوى (شكلياً ـ دلالياً) جديداً متمثلاً بصورة الألف أو رسمه النحيف المتصعلك وما يرمز إليه دلالياً في القصيدة من الفقر و(الحرمان) على المستوى الحسي وصورة النون أو رسمها الممتلىء وما ترمز إليه في القصيدة من امتلاء على المستوى الحسي أيضاً. ويبدأ الشاعر ليغترب عن النون ولتغترب عنه:

 حقاً لا أعرف ماذا يحدث لنا

أنا أسبح في بحرٍ لا أعرفه ولم أره من قبل

وأنتِ تسبحين في شيء لا تعرفينه

أهو ماء أم رمل أم هواء؟

أفي هذا المقطع تصريح بزعزعة الثنائية الثانية (أنت ِ ـ أنا) والخروج على ائتلافها أو انصهارها في (نا) وافتقار التجربة إلى بعد التوحد بل الانعتاق منها ولكن إلى أين، إلى حيز اللامعروف والسباحة في بحر مجهول؟ وبثورة الشاعر على إمبراطورية النون يدخل في فضاء حروفي جديد وهو فضاء الكاف يدخله في محاولة تعويضية:

أيتها الكاف.. لا ملجأ إلاّ إليكِ

أنتِ ألقيتِ في قلبي محبّةَ النون

فاحرقي النون بمحبتي

أو قودينا ـ وأنتِ الرحيمة ـ إلى أعالي الأنهار.

  ويبقى البعد الطلسمي مفتوحاً لأكثر من مقترح مع  (الكاف) أولها المباشر بأن يكون أول حرف من أحرف اسم سيدة جديدة ولكن تجربة أديب الحروفية لاتسمح بهذا القدر من التبسيط والمباشرة أو اطلاق الحروف في لعبة شكلية تجنح نحو خلق أجواء تجريدية تشي بالتراكم أو التكديس الحرفي غير المبرر بغاية فنية أو دلالية. ومن هنا يفتح المجال بوجه أن تحمل الكاف الهيئة، وهي الحرف الأخير من (إليكِ)، بعداً دلاليا طبقاً للثنائية الأولى في القصيدة (الهيئة ـ الدلالة) فالكاف هي إليك بكل ماتوحي به من بعد حسي. ولعل الذي يرشح هذا البعد ما توسّل به الشاعر إلى الكاف في أن تكون ملاذاً له فيضع أمام (سيدة الكاف) خيارين: أن تحرق النون أو (الحرمان) بالحب أو أن ترحمه وتعود به مع سيدة النون من بحر المجهول: (أنا أسبح في بحر لا أعرفه ولم أره من قبل. وأنتِ تسبحين في شيء لا تعرفينه) إلى أعالي الأنهار وشواطئ الأمان. ويفتح المقطع الثاني عشر المستوى الصوفي من تشكيلات الحرف في قصيدة أديب فيمارس الطقس الصوفي في حضرة الكاف فيعيد على مسمعها مواجد، ويخلع في طقس الاعتراف هذا آثار مأساته (قلادة الوسواس وقلادة الحرمان) ويستعيد للخلاص ويعرف الصوفي أن الخلاص في الموت عشقاً ليدرك الشاعر آنذاك أن الخلاص في اللاخلاص، فالفرح كلّ الفرح في الموت عشقاً والخلاص في اللاخلاص:

 كلّ ليلة أقف أمامكِ أيتها الكاف

لأعلن لكِ نشيد دعائي هذا

وبمجرد أن أضع القلم على المنضدة

سأقوم أمامكِ لأنزع عنّي قلادةَ الوسواس وقلادة الحرمان

وأبكي كصوفيّ عرف الخلاص

ففرح وفرح وفرح حتّى أرداه الموتُ عاشقاً

عرف الخلاص: أن لا خلاص!

ويختتم أديب قصيدته بفتح ثنائية ضدية جديدة هي (الموت والحبّ) وهي ثنائية تشتغل على المستوى الصوفي إذ إن الموت هو الحياة:

 من جديد أقف أمام بوابة الموت

لأعلن أن اسمها بوابة الحبّ

أصرخ باتباعي فأراهم يؤيدونني مشفقين

ويبتسمون لي مشجّعين وهم يرون صرخاتي

 تسقطُ على الأرضِ طيوراً ميتة.

 ونعود إلى القول: إن ما يجربه الشاعر من تنويعات حروفية وماشكلته من مستويات في قصائده لا يتيح الفرصة للحكم باستقلال مستوى هذه المستويات في نصه الشعري فقد أراد الشاعر أن يدور مع الحرف دورة لانهائية تضم السطحي والعميق، العبثي والفني، التجريدي والدلالي.

وإذا ما أردنا أن نمد قراءتنا لقصيدة أديب (حروفيات) وجدنا أنها تغطي عدداً من قصائده الأخيرة بالمستويات الدلالية ذاتها مما يعزز قولنا في إن أنتقاء الشاعر للحرف والدورة اللانهائية معه قد أصبح (هماً) فنياً لديه بعيداً عما قد يتبادر إلى الذهن من أن موقف أديب من الحرف يقتصر على المستوى الطلسمي رغبة منه في إضفاء ضرب من السرية المفتعلة على قصائده، أو أنه يقتصر على الشذرة الحروفية للموروث الصوفي ـ القرآني التي يعرفها القاصي والداني متأثراً بعدد من الشعراء الذين سبقوه من أمثال أدونيس وصلاح عبد الصبور وتوفيق الصايغ وغيرهم. ولعل قصائد أديب الأخيرة تفصح عن تحوّل جديد في الصياغة الحروفية لديه يختلف، عما كان قد مر عرضاً في دواوينه السابقة. هذا الاختلاف يكمن وراء تركيزه على خطاب الألف والنون، فالشظيات الحروفية المتناثرة في قصائد الشاعر السابقة  قد التأمت في (النون): الهيئة الأقرب إلى نفس الشاعر، والألف المقابل لها، وقد يتيح هذا لنا القول بأنّ النون قد تحوّلت من المستوى الترميزي إلى مستوى قناعي يتخذ أشكالاً متغيرة منها الصوفي والأسطوري والتراثي فضلاعن المستوى الشخصي أو الذاتي.

ومن قصائده الأخيرة قصيدة عنوانها: (خطاب الألف خطاب النون) يقول في أولها:

 إذا ضاعت النون مني ذات يوم

فمن الذي سألتجيء إليه؟

سألتُ الأبجديةَ جميعها حرفاً حرفاً

فلم تعطني جواباً شافياً

إلاّ النقطة باركتني

وقالت: إذا خانت النون فعليكَ بي

أنا نقطها

أنا سرّتها

أنا فحواها

أنا ذكراها الضائعة.

وتبدو هذه القصيدة وكأنها امتداد لقصيدة أديب (حروفيات) التي حاولنا قراءتها من خلال ثنائيتي (الهيئة ـ الدلالة) و(أنتِ ـ أنا). ولعل ماتمنحه القراءة من نشاط تأويلي يتيح لنا أن نمد قراءتنا السابقة لتضم هذه القصيدة والقصيدة الأخرى التي ستليها استناداً إلى المعطيات النصية التي يبوح بها متنا القصيدتين الأخريتين. ومن المثير للغبطة والدهشة معاً أن تبوح قصيدة أديب (خطاب الألف  خطاب النون)( 7 ) بهذا التحول أو التخصص (بخطاب النون) لتصبح رمزاً بل قناعا ولتنصهر في النون حروف الأبجدية الأخرى و(تسكر) في حضرتها فيقول في المقطع الثامن:

 ربّما لم يعد لحضوركِ أو غيابكِ عندي

أشارة محرقة

فلقد تحوّلتِ يا نوني إلى رمز

تحتفل قصائدي به كلّ ليلة حتّى الفجر

حتّى أجد حروفي سكارى وما هي بسكارى.

 ويفتح أديب بمفتاح النون قصيدة أخرى بعنوان (جغرافيا)(8) تتفرع منها النون إلى تنويعات جغرافية (طبيعية) و(بشرية) حتّى ليمكننا أن نقرأها (قراءة جغرافية) ولكن هذه القراءة لاتنأى على أن تكون ترسيخاً لثنائية (الهيئة ـ الدلالة) و (أنت ـ أنا) وما يندرج تحتها من المستويات التي وقفنا عندها ويبتدئها باستهلاله الأثير الهلال والنقطة:

(1)

ليس غريباً أن أبتهل إلى نقطة الحرف

وأجلس قبالتها مذهولاً في مسرّاتها

ومجيئها من الشرق إلى الغرب

محملةً بالدفوف والدموع والطبول

ليس غريباً، بعد هذا، أن أبتهل إلى الهلال

وأدعوه لينقذني من نفسي.

(2)

ما ان تراكِ الأبجدية

حتّى تنفض عنها ثيابها

النومَ والنسيانَ واللامبالاة

لتأخذ من كفّكِ شمسَ الحنان

وينبوعَ الصحو

وإناءَ الانتباه

وملعقةَ الحبّ

وملحَ الطمأنينة.

    وتبقى الكاف ملاذاً له حين تخذله النون فيعود إلى الشكوى إليها في هذه القصيدة أيضاً وفي المقطعين الأخيرين تحديداً:

 في نونكِ سحر

وفي ألفي زلزال

*

متى ستمسح الكاف

نقطةَ نونكِ من رأسي

كي يتوقف نزيف حرفي

فأنام.

وأخيراً نقول: إنّ النون قد تمكنت من نص الشاعر بدلالتها الحسية والنفسية  ولعل ما يفصح عن هذا التمكن ماحشدته النصوص من وسيلة لغوية أو قرينة متمثلة بمحاورته لها محاورة (آسفة) متمثلة بـ(واأسفاه) التي يكررها في قصائده الثلاث حيث ترد  واأسفاه  في قصيدة (حروفيات) و(خطاب الألف.. خطاب النون) وثلاث مرات في قصيدة (جغرافيا) حتّى لأصبحت النون سحراً لايستطيع الفكاك منه: (في نونك سحر وفي ألفي زلزال). ويفضي بنا هذا إلى التنبيه على البعد الحروفي المهيمن الذي امتلكته (النون) إذ أحالها من المستوى الرمزي المباشر إلى المستوى القناعي الذي اتخذ أشكالاً متغيرة ومتكاثرة في شعر أديب كشفت عن بعضها هذه القراءة.

 ومن هنا لم نجد غريباً أن يصدر الشاعر ديواناً عنوانه (نون) ليكمل خط سير أسطورته الشعرية المتمثلة بكينونة الحرف السرية وما امتلكته النون من بعد مهيمن على دوائر الحرف الشعرية لديه فبدت النون اختزالاً قناعياً لأبجدية الحروف وللمستويات التي يخرج إليها وتوظيفها شعرياً ضمن سلطة التجريب اللانهائية التي يمنحها فضاء قصيدة النثر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 المصادر

(1) حاتم الصكر: تحديث النقد الشعري بمجلة الآداب، العدد 11، بيروت، 1988، ص 32.

(2) له : تفاصيل 1976، ديوان عربي 1981، جيم 1989

(3) ينظر: أديب كمال الدين، هزني الحرف وأطلق فيّ صراخ المجاهيل، مقابلة مع الشاعر، جريدة الجمهورية، بغداد، 16 أيلول 1991، ع 7985، ص 7 .

(4) ينظر: حاتم الصكر، من الحرف إلى المعنى، جريدة القادسية بغداد، 7 تشرين الثاني 1991، ص 5.

(5) ينظر: أديب كمال الدين:( المقابلة )، الجمهورية، ص 7 .

(6 ) أديب كمال الدين: مجموعة(نون)، مطبعة الجاحظ، بغداد

(7) أديب كمال الدين: مجموعة(نون) .

(8) أديب كمال الدين: مجموعة (نون) .

 

 

 

 

 

النون: أيّ سرّ ينطوي تحت هلالكِ ونقطتك؟

 

وديع العبيدي

 ص 313 - 321

 

 

واأسفاه

صرتُ أنتقلُ  من حرفٍ إلى حرف

ومن نارٍ إلى نار!

 ثمة علاقة وطيدة تجمع بين الشعر والتاريخ، كلاهما يمتح من الواقع ويسعى إلى الحقيقة. كلاهما ينقسم إلى ذاتي وشخصي وموضوعي. وكلاهما قابل للاستدلال والتأويل والخلاف. والنص الشعري بغض النظر عن جودته وخصائصه الفنية هو نص تأريخي ووثيقة تعبر عن بصمات بيئة وحدث ما. وكما المؤرخ يقسم التاريخ إلى مراحل وفق معيار معين، يلجأ الشاعر لتقسيم مسيرته الذاتية وتجربته الأدبية إلى مراحل، ونعبر عن كلّ مرحلة بكتاب أو قصيدة. لا جرم أن الشعراء ليسوا كلهم على نفس الدرجة في الحسّ التاريخي أو الانشغال به. وربما كان منهم من يلغي التاريخ ويعتمد أساليب فنية وذهنية معينة للإجهاز عليه. في هذا الصدد أتوقف عند ظاهرة تداخل الشعري والتاريخي في تجربة الشاعر أديب كمال الدين متخذاً مجموعته (نون) سبيلاً إليه. اتخذ الشاعر دالة الحرف دالة لتجربته، وجعل كل حرف صوتاً أو تعبيراً أو توصيفاً لمرحلة زمكانية محددة. فيتغير لديه الحرف (دالة ودلالة) بين فترة وأخرى. ويمكن استقراء مسيرة الشاعر بحسب ذلك مقسمة على خمسة مراحل تكشف كل منها مدى الترابط بين طبيعة الظرف ورمزه الحروفي: أولاً:  تضمّ المرحلة الأولى مجموعتي الشاعر[تفاصيل 1976/ ديوان عربي 1981]. وهي إضافة لارتباطها ببدء ظهوره الأدبي، فأنها ترتبط كذلك بحالة الاستقرار النسبي لمناسيب الحياة العراقية. وعلى الصعيد الشخصي يحصل على شهادة الجامعة عام 1976 من كلية الادارة والاقتصاد ويدخل عالم الصحافة. أي إنها مرحلة التأسيس والتأهيل على كافة المستويات، الشعرية والشخصية والعامة. وتمثل نهايتها نهاية المنطق والمعقول والعادي في تاريخ العراق. ثانياً:  تضمّ المرحلة الثانية مجموعتي الشاعر [جيم 1989/ نون 1993] وهي انعكاس لمرحلة الاضطراب واللامعقول بدل الاستقرار والحياة العادية. تمثل هذه المرحلة حالة قطع وتأجيل ثم نفي وتدمير المرحلة السابقة. في هذه المرحلة تتبلور رؤية الشاعر الحروفية كمفتاح أو طلّسم يتيح له تحقيق انتقالات واستحالات داخل النص دون الوقوع تحت سلطة الرقيب، وسوف نتوقف عند آثار هذه المرحلة في غضون المراجعة. فمجموعة (جيم) دالة على(جثة) وعلى (جندي) الذي هو الآخر دالة الحرب وآلتها وضحيتها. تلك الحرب التي التهمت أكثر من مليون من القتلى والجرحى والمعوقين، ومخلفة ملايين الأرامل والأيتام والمشردين، وأكثر منه حالة الدمار النفسي والمادي التي فتحت الحياة العراقية على السريالية واللامعقول. أما المجموعة الثانية فهي(نون). ثالثاً: تضمّ المرحلة الثالثة مجموعتي الشاعر [أخبار المعنى 1996/ النقطة 1999] وهي إن انسجمت مع مرحلة اللامعقول السابقة لها، فأنها تمثل تصعيداً خطراً، بدل الانفراج والهدنة التي تعقب الحروب الطويلة عادة. إنها رصاصة الرحمة التي تخلّص الجريح أو العليل من ألمه. الاضطراب يتحوّل إلى فوضى، والحرب الاقليمية إلى كارثة إنسانية وعقوبات دولية. فقد كان الحصار تجربة صعبة وغير مسبوقة لا قبل للإنسان العراقي بها، مسخت أنماط الحياة وقلبت سياقاتها كما إنها جرّدت وجود الدولة من أي معنى حقيقي غير ماكنة لتفريخ الارهاب وزيادة المآسي والكوارث فكان انعكاس كل ذلك واضحاً على أنماط  الفكر والحسّ والسلوك. على مدى ثلاثة عشر عاماً أنبت الحصار عدداً كبيراً من الأمراض والوفيات والحياة دون الإنسانية، ولكن إلى جانب ذلك، ظهرت حقول متنوعة من الأسئلة الملغزة لم تستطع ماكنة الدكتاتورية منعها تماماً، ظهرت بصيغ وتساؤلات باطنية أو غير مباشرة، ويتجلّى هذا في دلالة العنوان (أخبار المعنى) المبني على استعارات مبهمة، وصولاً إلى (النقطة) التي تفترض اكتمال المعنى أو الحصول على أجوبة (وهمية/ غيبية) من حيث لم يكن شيء. وإذا اعتبرنا النون نقطة نهاية لمرحلة الجيم (الجثة، الجندي) فهذه النقطة المعلنة هي بيان وداع الشاعر لأرض الكوارث والبابليات والعاشوراء إلى (حاء) حياة وحرية. رابعاً:  تضم هذه المرحلة الانتقالية (البينية) مجموعة [حاء/2002]. وهي القصائد المكتوبة في الأردن أو تحت التأثيرات المتعلقة بها. وما تمثله من حساسية بالغة على الصعد النفسية والسياسية والتراثية. والحاء دالة تنفتح على دلالات لا نهاية لها مستمدة من التاريخ والتراث والواقع والذات مرجعيات ساندة لها. وتبقى هذه الحاء محط استلهام واستدلال واجتهاد القارئ والناقد يجد فيها كل منهم ما يبحث عنه. لكن الدلالة الرئيسة في هذه المرحلة هي تحرر الشاعر من وصاية القطيع وحريته في اتخاذ قرار حياته ومصيره بمحض إرادته وقناعته الخاصة، فهو منذئذ، غير مشمول بتلبية القرارات التي تصدر هناك. خامساً: مرحلة المنفى الأسترالي وما تمخّض عنها منذ وصول الشاعر إليها. وترتبط بها جملة قصائد متفاوتة في التقنية والتوجّه والانفعال، تكاملت بصدور مجموعته (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) 2006.

النون: أيّ سرّ في هلالكِ وهلاكك؟

تمثل النون الدالة الأكثر خصوبة في حروفية أديب كمال الدين لقدرتها على التشتت والتشظي والانفجار وتكوين مجرات جديدة. ومثلما تعددت دوال عشتار وعشتروت وأفروديت وفينوس في الثقافات القديمة بين الحبّ والخصب والحرب والجمال. تنفتح دالة النون على متوالية من دوال. لذلك تكتسب هذه المجموعة مستويات غير منتهية من معانٍ ودلالات. تتوزع الذاتي في تجربته الحسية اليومية والعام أو الموضوعي في العلاقات العامة والعموم أو المجرد في التجربة الذهنية والوجودية.

 

إشكالية المرأة في القصيدة

 قررتُ أن أهجوك/ فمدحتُ نفسي.  

أديب كمال الدين

أعظم ما يمنحه الحبّ/ هو البغض. 

سعدي يوسف

المرأة هي منفى الرجل الأول، منها يولد، ويقضي كلّ حياته يحلم ويشتاق بالعودة إليها. يعتقد الرجل أن المرأة هي الفردوس الذي أخرج منه آدم، ولذلك لا يدّخر وسيلة للتعبير عن حاجته الأزلية ومرضه المزمن بها. لكن المرأة التي تآمرت مع الأفعى للإيقاع بآدم، تصدر عن نرجسية عالية ونزعة عارمة للسيطرة والتدمير. شعور المرأة بكونها خالقة للحياة يحفّز نزعتها الساديّة لتأكيد هيمنتها وسلطتها على الإنسان الذي يتمرد عليها أو يسعى لترويضها في طاعته، والحدّ من طاقتها التدميرية غير المحدودة. ولم يستطع الشرق الوصول إلى حلّ يؤسس لعلاقة متكافئة بين الجنسين، كما في الغرب. فبقي كابوس المرأة يطارد ذاكرة الرجل، وترسخت صورة الحبيبة القاتلة [عبد الواحد المحامدي في (أشعار الجرح الخامس)]، واقترن الحبّ بالبغض [سعدي يوسف]، والغزل بالشتيمة [صلاح نيازي في (وهم الأسماء)] والولادة بالموت [عبد الوهاب البياتي]. اقتران صورة المرأة والفردوس في المخيلاتية الشرقية انعكس على أرض الواقع بصور أخرى مثل، المرأة هي الحياة. ولا حياة بلا امرأة. وبالتالي، فالمرأة هي مصدر السعادة، وهي مصدر الشقاء. المرأة الجيدة هي التي تخلق حياة سعيدة ترفل فيها العائلة بالحبّ والنجاح، والمرأة المدمرة هي التي تجعل بيت العائلة يفور بأسباب الشقاء والخيبة والبغضاء، ومعادل ذلك هو الحظ. الرجل المحظوظ يؤتى امرأة صالحة. وقد أشار القرآن الكريم بما يدل على أن الطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين. والعودة للمرأة في صورة منفى/ ملجأ، حبيبة/ قاتلة من الصور الشائعة في الأدب العربي، سيما في مواجهة الكوارث أو القهر والكبت المثلث (سياسي/ديني/اجتماعي) وشواهد ذلك لا تحصى سيما في الأدب الستيني عامة. وبالتالي فهو يحاكي الدلالة الذاتية لصورة نون (النسوة)، أحد مستويات الخطاب في القصيدة. أما الدلالة الأخرى فهي ترجمة شهقات سجين ينوء تحت سلطة قاهرة، لا يملك إزاءها غير الصراخ والاستهجان تارة والتوسّل تارة أخرى. فالنون/الإمبراطورة ليست امرأة تقليدية أو ما بعد حداثية اكتشفها الشاعر في مراهقة متأخرة، انما هي القدرالذي يقاتل الشاعر للانفلات من قبضته أو الانتصار عليه. وهي ترجمة للصراعات الحادة التي تكتوي بها ذات الشاعر، وهي صراعات مركبة متعددة المستويات والاتجاهات، تدفعه للبحث باستمرار عن صيغ وأساليب جديدة لترجمتها والفكاك منها. تمثل القصيدة فيها وثيقة تحرير ذات الشاعر من هم اللحظة الوجودية. وقد اتخذ المرأة دالة ثانية، حقيقة أو قناعاً، أو كلاهما، مشتقة أو مرتبطة بالنون. فالمرأة لدى الشاعر هي الصوت الآخر الذي يقاسمه خطاب القصيدة غالباً، يضعها في متناول يده، يصوغها كما يشاء، يبادلها الدور، والتوترات النفسية ودراما الشعر. كما أنها تمثل جانباً من لعبة المراوغة التي اعتاد الشاعر مراودتها لتضليل القارئ والتنفيس أو الكناية أو القناع. وهي في النونيات، كما اتضح، امرأة زرقاء: [تحبّينني بالسنسكريتية/ وأحبّكِ بالعربية] وهي إمبراطورة، يؤمن الشاعر أن عرشها يقوم على فراغ(!):[الفراغ سيّد العرش ونحن عبيده]. والفراغ، المرتبط بصورة الكأس/ النون، وبالاستعارة، الوهم/ الخرافة/ الضلالة. ونتيجة المواجهة غير المتكافئة بين الطرفين يلجأ الشاعر للسخرية المرّة من  إمبراطورة النص، وما يعتقده فضحاً لتفاهة الأسس التي يقوم عليها عرشها:

ليس للعبتكِ نهاية

وليس لخيالكِ بدء

وأظن أنك ستنهين عبثكِ العظيم

بأن تطلقي عليَّ الرصاص

وأنا أضحك من الضحك.

*

أيتها الإمبراطورة

أنا الصعلوك الذي سيقود كلّ لغات الأرض

ليتآمر على عرشكِ ويسرق كنوزه

وينسفه

ثم بهدوء يجلس بوّاباً

يحرسُ ممرّات العرشِ من العابثين!

 

خطاب المواجهة

 

مصيبتي انني ألتقي بقاتلتي كلّ يوم

أتبسّم لها

مفتوناً بجمالها الغامض

وأعطيها السكين

لتذبحني من الوريدِ إلى الوريد

دون أن أتفوّه بكلمةٍ واحدة.

      تقوم فكرة القصيدة على مواجهة غير متكافئة بين قوتين متقابلتين [انسياقاً مع خطاب الغزل الاستعاري التقليدي بين عاشق فقير وأنثى غنية متسلطة] يسميها (إمبراطورة). ولكن الشاعر، الذي يمسك بصولجان القصيدة، مهما تردى في حالة الضعف والخذلان والموت.. يبقى هو قبطان الرحلة الموجه لدفة المواجهة/الصراع/ الحياة وذلك من موقع استعاري آخر، الشاعر الذي يخلق [القصيدة] " ألفي الذي كتب كلّ شيء‍‍‍‌‍!". فالصراع/ المواجهة يدوران أساساً داخل [قصيدة/ ملحمة] يكتبها الشاعر وليس الملك أو الإمبراطور، الواقع تحت رحمة الشاعر ومصيدة كلماته، وبالتالي، فما يبدو مهزوماً وخاسراً أبدياً ليس الإنسان وإنما القوة الغاشمة بمختلف تجلياتها، وهذا هو سرّ الشاعر/الحقيقة/ جلجامش، المتنبي وليس سيف الدولة، الأفشين أو الإمبراطورة. ولا يتردد الشاعر في الانقلاب من قمة الضعف إلى قمة القوة، كما في مطلع القصيدة الحافل بالنرجسية المبالغة وداء العظمة باعتباره العارف بكلّ شيء، العارف بحقيقة الكذبة/ الوهم/ الفراغ/ العبث:

لكلّ مَن لا يفهم في الحرف أقول:

النون شيء عظيم

والنون شيء صعب المنال

انه من بقايا حبيبتي الإمبراطورة

ومن بقايا ذاكرتي التي نسيتها ذات مرّة

في حادث نونيّ عارٍ تماماً عن الحقيقة

ومقلوب، حقاً، عن لبّ الحقيقة

وهكذا اتضح لكم كلّ شيء

فلا تسألوا، بعدها، في بلاهة عظيمة

عن معنى النون!

 فالضعف تحول إلى قوة، والعدو إلى حبيبة، والراهن إلى ذاكرة ماضوية. ثم سرعان ما ضاق الشاعر باللعبة من أساسها ليوهمنا أن كلّ شيء (عار عن الحقيقة ومقلوب!) مُلغياً المعنى كله بطريقة مفذلكة عبر اتهام القارئ بالبلاهة (فلا تسألوا بعدها في بلاهة عظيمة عن معنى النون!) مما يمثل قمة التوتر النفسي المنفتح على حالة واضحة متداخلة ومتشابكة من الحيرة والارتباك الذهني اللذين يكتنفان جوّ القصيدة. وتتكشف بعدئذ ثنائية المعادلة وتتضح جدلية الأشياء والمفاهيم، قوة مبنية على خوف، وهيمنة رهينة بالخضوع:

  أرجوكِ

أسرعي في قتلي..

فنزفُ الحروف يومياً

يصيبُ قلبي بفقر الدم.

 فالإمبراطورة في القصيدة محارِبة تتغذى على الدم لتستمر في الحياة: [تقتل/تذبح/ تطلق الرصاص]. أما الشاعر فيبقى أرفع من المستوى الوحشي في التعامل، ويرتضي الموت - فلسفياً- على المعاملة بالمثل، لذلك كانت أداته الأولى والأخيرة – حرفه- دالة العقل والفكر والحضارة. وكما كانت الدمعة في البدء حاضرة في استقطار الحرف/النون السماوية، تعود في نهاية المواجهة بهدوء صوفي عميق: [دمعتي حجر]، [دمعتي اله]. وتنتهي المواجهة بهذه الكلمات، المعبرة عن هدوء وتوازن نفسي عميق دون الشعور باليأس أو الهزيمة، حاكماً عليها باللعنة (سحقاً) والضياع، ليودع بعدها ملحمة (النون) بلا رجعة ولو إلى حين:

سحقاً لكِ أيتها الضائعة

سحقاً لنونك

سحقاً لنقطتك.

ويمكن تلخيص جدلية المواجهة كالتالي:

أولا: إنّ الشاعر هو خالق [القصيدة]، خالق [الإمبراطورة] بخضوعه أو وقوعه في أسرها، خالق [قوتها وجبروتها] بضعفه، خالق [الوهم] من خلال إيمانه أو تصديقه له. ثانيا: لا يني الشاعر يبين حالة عدم تكافؤ معادلة المواجهة بين الطرفين [إمبراطورة/ حارس] والمحسومة راهنياً وظاهرياً لـ(هـ)ـا، الطرف المقابل، وتاريخياً ومنطقياً للشاعر/ الإنسان. ثالثا:  يتأرجح موقف الشاعر/ الإنسان بين ترويض [الإمبراطورة] وممارسة دور العاشق تارة وعندما يحتدّ به اليأس إزاء غرورها وعجرفتها يقوم بتدمير و(نسف) كل شيء، من حبها وناطحات سحابها ورمز جبروتها، رافضاً قبول ضعفه المفروض عليه. رابعاً: لا يستمرّ الشاعر في ممارسة دور العاشق والمتمرد وإنما يتخذ مع حركة الصراع/ المواجهة/ القصيدة للتبلور في صيغة القوة الكامنة والحقيقية [نونكِ سحر، وألفي زلزال] فالزلزال قوة وجبروت ودمار قائم على الحركة والكبت والاحتراق والانفجار:

 حبّكِ ناطحةُ سحاب

حلمتُ بها

وخططتُ لها وبنيتها طابوقةً طابوقة

وحين أكتمل البناءُ العظيم

نسفتُها من الأعماق.

 

بين القصيدة والملحمة والدراما

 

 لقد تحوّلتْ نقطتكِ إلى نشيد

 وهلالكِ إلى ملحمة

 ونونكِ إلى مسرحيةٍ كبرى.

     ثمة عرى وثيقة تربط النص الشعري (نون) بأنساق كتابية أخرى كالملحمة - تاريخياً- وخصاص الدراما. فقد جاءت القصيدة على هيأة مقاطع، تسهّل عملية الانتقالات النفسية والفكرية وتغير أساليب الخطاب باستمرار داخل النص، مما لو جاءت في صيغة نص مستمر طويل دون استراحات أو فواصل، ويمكن منح المقاطع صفة - المشاهد- المتتالية في عرض مسرحي أو فيديوكليب، لتحقيق معنى معين. أي أن المقطع/المشهد لا يتضمن معنى كاملاً، وإنما جزءاً منه، على اعتبار أن  المقاطع المختلفة تؤدي بقسطها وصولاً لتحقيق المعنى الكلي في ذهن/القارئ/ المشاهد. كما نجد غلبة أسلوب الحوار على لغة القصيدة، بين متكلم ومخاطب. مما يجسد حالة صراع ونمو درامي داخل النص. وهو وإن ورد في إطار غزلي تقليدي فأن أيديولوجيا الخطاب وتمحوره يحافظ على نسقه ، وليس من العسير خلع قناع المرأة لاكتشاف شخصية الجنرال داخلها، في موازاة شخصية (الجندي)/العاشق. كما لا تخفى دلالات تأنيث الجنرال واستخدام مفردتي (ملكة/ إمبراطورة) في النص. يضاف إلى ذلك النفس الملحمي/ الشعري الطويل، مما يعكس طول العملية التي استغرقها اكتمال المعنى في النص . وليس الاقتراب من/أو الاقتران بالملحمة والدراما هنا حالة مستغربة، فالشعر العراقي الراهن خلال العقود الثلاثة الماضية هو شعر (الجندي)، والنص الملحمي هو الصيغة التقليدية لترجمة صراع الإنسان مع الآلهة (المزيّفة) وقوى الطبيعة. ولمّا كانت صورة الصراع  وأدواته وتقنياته قد تطورت عبر القرون، فأنّ نصّ (الجندي) هو الملحمة العصرية التي تصور صراع الإنسان مع النظام السياسي الذي يسلب الإنسان خصائصه الإنسانية ويحوّله إلى عبد لرغائبه وشطحاته، كما كانت الآلهة القديمة تمسخ الإنسان وتحيله إلى عبد وقربان يقدم على مذابحها لإشباع جوعها الأبدي وحصولها على الخلود عبر اقتناص حيوات الآخرين.

 

 

 

فنارات الحروف المتوقّدة

 

عيسى الصباغ

 

 ص 323- 328

 

ـ 1 ـ

 يعمل الشاعر أديب كمال الدين على تفكيك اللغة إلى مستوياتها الأولية: أصوات ورموز كتابية. لا يعير كبير أهمية إلى المستوى الأول ويستغرقه الثاني في جو طقوسي مشع يعبق بشذى الأسطورة والبدايات الأولى. في مغامرته الحروفية هذه يرغب وبإلحاح في أن يوغل في أرض بكر لم تطاها أقدام غير أقدامه. 

ـ 2 ـ

بدءاً من العنوان عنوان مجموعته (نون) ثم الاقتباس – الآية – فالإهداء، ينهل أديب كمال الدين من تراث المتصوفة المسلمين. فالنون على مايبدو في ذلك التراث هي النفس الكلية التي استعيض عنها بأول حروفها (نون) والتي تنتقش عليها جميع صور الموجودات وأحوالها وصفاتها النفس الكلية في حركتها الدائبة في سيرورتها الوجودية وفي تمخضاتها وولاداتها. هذه النفس – الأنثى التي تهبط العالم منها - تلده – ويتكون بتكوناتها يتكثر ويتنوع ولكنه يبقى حبيس تناقضاتها وتضاداتها، صورها وهيئاتها. يدأب الشاعر وهو أحد هذه التمخضات، الانبثاقات -  جاهداً في الانفكاك الخلاص  منها ولكنه يعجز عن ذلك، يعرج إليها فلا يصل فهو منفصل عنها بصورة، متصل بها في صورة أخرى. لقد دفعته عن رحمها وتركته حائراً في مدارها يصرخ ويستنجد ويبكي ويضحك من وضعه غير المعقول هذا،  يبني وينسف ويتآمر ويتصعلك ويغضب ويهدأ ويتلبّس شتى الحالات ويتوسل بكلّ الوسائل وحين يكون في قمة تعاساته في ذروة  توحّده يكتشف الحرف ـ الزلزال ـ  يرتعش أمامه ثم يغرق في لذاذاته. هذا الحرف يقوده إلى النور والطمأنينة وربما اليها. إنه المركب الذي يجتاز به برزخ الموت، والموت أحد تشكيلات المجموعة تتعدد قيمه وتكثر صوره. للموت قيمة عبورية برزخية وقيمة خلاصية وأخرى فنائية ذات عبير صوفي مشع. غالباً ما تتراكب هذه القيم وتتداخل حتّى يصعب فصلها في بعض مظاهره.

-3-

 يؤسس أديب كمال الدين رؤيته الحروفية استناداً إلى تراث المسلمين المتصوفة - كما قلت - كمرجع خارجي لنصوصه الشعرية موظفاً مصطلحاتهم وصيغهم في بناء شعري يتسم بالكثافة والانضغاط مُطلِقاً العنان لاستخداماته الاستعارية دافعاً بها إلى مدياتها القصية محمّلاً لغته طاقات إيحائية وإشاراته تقترب أو تبتعد  كثيراً أو قليلاً من لغة المتصوفة وأساليبهم وتصرفاتهم بها.

 على أن الخبر الأوسع في مجال انشغالاته – مكابداته– يبقى للحروف فهي المادة الخام – الهيولى– الطين الذي خلق الله منه آدم.. يستلّها حرفاً كما تستلّ الشوكة من الروح ثم يشرع بعجنها، يكوّنها، يمعن في الخلق. أنت ترى ضوء حرائقها وتسمعها تجأر وتئّن بين أصابعه. إنه أزاء تكويناته التي كانت قبل قليل محض تصورات. النون، إذن، هي النفس الكلية الحاشدة لصور العالم، الأنثى في جميع مظاهرها وتجلياتها، أحلامها، رقتّها، غرورها، صلفها.. الخ. والألف هي الذات الأحدية التي تضيق على ماتقتضيه رؤية الشاعر وتتحول إلى ألف الشاعر، ذاته، أناه مقابل تلك النون المتكبّرة، والكاف هي كاف الواسطة والنداء والدعاء هي الكاف العلية والتي بمستطاعها أن تجمع شمل المفترقين، هي من تقبل التضرع والبكاء: (صرتِ تشاركينني مخاطبة الكاف والبكاء بين يديها). والقاف قاف القلب المعذّب الضائع الباحث، قاف الاقتراب من أنوار الحقيقة، قاف الكشف والسطوع، وهكذا تستكن الحروف وتخضع لرؤية الشاعر.

-4-

ثوابت المجموعة:

1- النون – الأنثى المطلقة - في جبروتها وطغيانها، في انكسارها وخضوعها لتكوّنات مختلفة ومظاهر متعددة (إمبراطورة – حبيبة – قاتلة - أسطورة – الموت – قاسية - حائرة - غامضة – خرافة – أسرار الحروف – معراج ـ دم الشاعر ـ دمعته .. الخ). إنها وحدة المتناقض وجوهر الخطاب الشعري، منها الانبثاق وإليها التوجّه .

2ـ ألف الشاعر ـ ذاته ـ الموت مركبه والموت مبتغاه يتقهقر خائباً إزاءها مرّة أخرى، يتقدم  اليها مستعداً لتقبل الهيئات التي تناسبها وحسب ماتقتضي  مشيئتها (أمير – شاعر – عاشق – جلاّد ـ خادم ـ  شحّاذ ـ صعلوك ـ مهرّج ـ بواب ـ  متآمر..).

كلّ هيئة هنا تفترض هيئة غائبها الأنثوي الذي سرعان ماينبثق:

أمير مقابل أميرة

شاعر مقابل الطبيعة وعناصرها الجمالية

عاشق مقابل المعشوقة

جلاّد مقابل الضحية

خادم مقابل المخدومة

شحّاذ مقابل الغنية المقتدرة..الخ.  

إنه يتخلّق تبعاً لمشيئتها، تبعاً لخلقها هي. هكذا ـ  بهذه الطريقة ـ يكثر الشاعر من كائناته النصيّة.

3 ـ كاف التوسط والنداء والدعاء، يلتجيء إليها الشاعر راكعاً مستجيراً طالباً الخلاص من نفسه وفروض تقلب حبيبته واستبدادها مرّة أخرى.

4 ـ الموت قيمة شعرية متناثرة داخل النصوص. في بعض نثاره الأقل عفن بيالوجي، وفي بعضه الأكثر رؤى برزخية وأخرى نورانية خلاصية.

  هذه الثوابت، هذه الدوال الرئيسية التي تلتفت حول أعناقها مجموعة كبيرة من المداليل تتشابك فيما بينها وتتواشج مكونة شبكة النص الواسعة .

بالإمكان فرز بعض الاشكال العلائقية القائمة بين هذه الثوابت:

1ـ تعلّق ألف الشاعر بنون الأنثى ذو طبيعة ملتبسة، فهي صوفيته في جانب منها تطغى فيها مشاعر الحيرة واللبس والغموض والرغبة في الفناء وتبدو في جانب آخر عنيفة صادمة تستدعي مفردات مثل: القتل،  الذبح، الدم، الرصاص... الخ.  

 2ـ موت الشاعر (شعرياً) أعني مصدر اندحاره أو تغيبه داخل النص، تألق للأنثى في إطلاقيتها كحامل يستقطب مجموعة من  المحمولات زاخرة ومتنوعة بمضامينها العاطفية والوجودية ذات الطبيعة المتناقضة. هذه العلاقة تبدو على أوضحها لبعض الأحوال والمواقف المشتركة. غالبا ماتظهر الكاف هنا كطرف ثالث أو علاقة توسطية تحاول الربط أو التوفيق بينهما هذه العلاقة تتمظهر في صيغ منها:  

أ ـ صيغة الدعاء أو الطلب 

(أيتها الكاف

 شيئاً من رحمتكِ التي وسعتْ كلّ شيء

 تنزليها أمطاراً على صحارى النون

 علّها تخضرّ فتخرج قمح الألف).

ب ـ  صيغة المماثلة

(صرتِ تشاركينني مخاطبة الكاف

والبكاء بين يديها).

- 5 -

النفس الكلية، إذن، ترادف الأنثى في إطلاقها لانطباقهما فيما يشتملان عليه من صور الموجودات وأحوالها. بالامكان وضع مرادف  آخر للوجود في شموليته الأنثى هي الوجود في سيرورته وإحاطته قصيدة (خطاب الألف) تكشف ذلك بوضوح فالأنثى كنقطة وهلال هي (ضياع/ريح/أعجوبة/ طلقات وصرخات وسكاكين/مظاهرة/ قمع ـ كأس/ تحريم  ـ سخف/ فناء ـ ملك مشعوذ/  شعب مغلوب ـ عقل/ مستشفى مجانين).

تتعدد صور الأنثى وهيئاتها شاملة الوجود كله ـ الأنثى المطلقة، إذن، هي الوجود مقابل العدم. هذه ثنائية متصورة بالإمكان تطويرها على محورالاستبداد لتصبح الوجود ـ  الممتليء مقابل العدم ـ  الفارغ (العدم ـ الفراغ).  هذا الحقل الدلالي المفترض لا بكونه لاشيء بل كونه فضاء ً قابلاً للامتلاء، بكونه مشروعاً للتكوّن من خلال اتساعات الوجود انبثاقاته ـشاغلاً الفراغ بمكوناته الهادرة. قلتُ إن هذه الثنائية متصورة وفي حال سحبها إلى النص يتضح أن النص منطلقها، بمعنى آخر وجود النص بمكوناته الشعرية إزاء الفراغ ـ  اللانص الذي سوف يمتليء بهذه المكونات وبواسطة الحرف ـ  الهيولى:

(وها أنذا أنتظرُ من الحروف أن تهبط لي

بشلالاتِ شمسك

وأنهارِ ربيعك

وجداول شوقك

وقطراتِ وعودك

وذرّاتِ اشاراتك

ونواةِ طمأنينتك)

 أو

 (ما أن تراكِ الأبجدية 

 حتّى تنفض عن ثيابها 

 النومَ والنسيانَ واللامبالاة

 لتأخذ من كفّكِ شمسَ الحنان

 وينبوعَ الصحو

 وأناءَ الانتباه

 وملعقةَ الحب

وملحَ الطمأنينة).

 إذن (مرّة أخرى) الأنثى ـ الوجود تلتهم الفراغ ـ اللاّنص، بشموسها وأنهارها وينابيعها وقطراتها...الخ. هكذا تنحلّ هذه الثنائية والتي منها تنفرض ثنائيات أخرى: ثنائية الأنثى المتضمنة في وحدة الأنثى نفسها عواطف تتناقض ومواقف يعارض بعضها بعضاً:

 (النقطةُ كأس

 والهلالُ تحريم).

 أو

 (النقطةُ ربيع من القبلات

 والهلالُ زلزال).

 أو

 (النقطةُ ملاك

 والهلالُ شيطان).

   ثنائية المرأة في شموليتها في أحاطتها في كلّ شيء مقابل المرأة الملموسة المحددة

  ثنائية نون الأنثى وألف الشاعر والتي تتعدد أشكال انحلالها:

 أ ـ بفناء الألف أو احتراقه في نون الأنثى:

   (نونكِ نار

  وألفي سقطتْ في النار

  ولم تكن النار برداً يا حبيبتي 

  ولم تكن سلاماً)

 ب ـ تماهي نون الأنثى وألف الشاعر:

   (نقطتكِ طفولتي

    وهلالكِ شيخوختي) 

 ج ـ انفصالهما بإقامة حاجز من المشاعر الثائرة المتمردة:

   (وداعاً

  يا إمبراطورتي المزّيفة 

 أنحني أمامكِ كصعلوك

 وأرميكِ بالحجرِ كمتمرد

 وأطلقُ عليكِ النارَ كإرهابي!).

 

 

 

 

الشاعر أديب كمال الدين في (نون)

تجلّيات النقطة في غموض الهلال!

 

عدنان الصائغ

 329 - 331

   

 

لكلّ مَن لا يفهم في الحرفِ أقول:

النون شيء عظيم

والنون شيء صعب المنال

إنه من بقايا حبيبتي الإمبراطورة

ومن بقايا ذاكرتي التي نسيتها ذات مرّة

في حادثٍ نونيّ عار تماماً عن الحقيقة

ومقلوب، حقاً، عن لبّ الحقيقة

وهكذا اتضح لكم كلّ شيء

فلا تسألوا، بعدها، في بلاهةٍ عظيمة

عن معنى النون!     

مثلما يحاول الحداد أن يضع الحديد الساخن فوق السندانة، ويبدأ الطرق عليه ليصنع منه الأشكال التي يبغيها، يحاول الشاعر أديب كمال الدين أن يضع الحرف فوق سندانة المعنى ويبدأ عملية الطرق بتـناغم متصاعد حتّى يحصل على شكل القصيدة التي تشكل بالتالي عالمه الخاص. وهو منذ دواوينه السابقة (تفاصيل) و(جيم) وصولاً إلى ديوانه (نون)  يسعى إلى استلهام الحرف العربي، وتوظيفه في القصيدة  توظيفاً جديداً، يأخذ من التراث جذوره الصوفية ومحاولات المتصوفة في التأكيد على بواطن الحرف وما ورائياته، كما عند ابن عربي والنفريّ والحلاج والسهروردي، كما يأخذ من الحداثة  شكلها الجديد في رسم القصيدة صورياً،  بالاعتماد على طاقة الحرف في التوصيل والايحاء والصيرورة:

 واأسفاه

كلمة تكسّرتْ بهدوء

فرأيتُ الواو تنأى عني

والسين تسوّف أزمنتي،

الهاء تنظرُ إليَّ دون ملامح

والفاء تجلدني بالسياط

وتضع على جراح ظهري الفلفل

والنقطة تسخر مني في ألمٍ عظيم.

 في قصيدة أخرى تحت عنوان (خطاب الألف) يمازج الشاعر أديب كمال الدين بين أبجدية اللغة وحروف المرأة المعشوقة تمازجاً روحياً:

 يا نوني، ها أنتِ كبرتِ وتعبت

يا نقطتي وهلالي..

وفي موضع آخر يقول:

وعدتني الكافُ بلقائكِ يا نون النأي

ولأنّ وعد الكاف حقّ مابعده حقّ

فإنني فرح بالانتظار

رغم انّ دمي يدمدم

وحروفي تسّاقط من نافذة القصيدة.

 يرى الناقد د. حاتم الصكر أنّ الشاعر أديب كمال الدين يخرج بهذه المجموعة من النصوص إلى فضاء النثر مستفيداً من طاقته الشعرية الكامنة، ساحباً معه وعيه الحروفي الذي يستند فيه وعبر ما كتب قبل هذا العمل من الإيحاءات الشكلية والجوهرية للحرف العربي في عمقه الوجودي: حرف يلتفّ إلى نفسه ليعمل في حقل شاسع محاوراً نفسه، ومسرّباً إلى قارئه شحنةً من المعرفة واللذة وشيئاً من ألم المواجد التي تنطوي عليها هذه الحروف القائمة على رؤوس الهم الموضوعي والشكلي. في الديوان نون تكرر نفسها وتحيط واو الجماعة، باستدارتها وعمقها واحتضانها النقطة أسّاً لكينونة الخلق ومنطلق خطه الموغل في الصيرورة:

 إذا ضاعت النونُ منّي ذات يوم

فمن الذي سألتجيء إليه؟

سألتُ الأبجديةَ جميعها حرفاً حرفاً

فلم تعطني جواباً شافياً

إلاّ النقطة باركتني

وقالتْ: إذا خانت النون فعليك بي

أنا نقطتها 

أنا سرّتها

أنا فحواها

أنا ذكراها الضائعة.

 إنّ نون أديب كمال الدين هي ليست فقط نون النسوة، كما يرى الناقد محمد الجزائري، بل هي تتماهى في ذات الشاعر، وتخلق استحالاتها من خلال استخدامات الشاعر المتعددة  لها على مستوى الديوان والقصيدة والجملة والحرف. لكنه ـ  أي الجزائري ـ  يعود إلى القول: إنها حالات الاستكناه لذاتية الحروف، الدال فيها يمتد إلى عمق العلاقة التقابلية العشقية .. لذا تبدو النون، مثل تجلّيات في النص، مكمّلاً تكون، للمرأة المعشوقة و محاوراً تكون للحروف الأخرى. وهكذا تتأسس مخاطبات هذا الكتاب الشعري في فن الهوى على غنائية لا تحفل كثيراً بالترميز أو الغموض أو التشظيات الكلامية. من هنا فالكتاب الشعري (نون) مكان أليف لكائنات أحبها أديب كمال الدين في استعاراتها ومجازاتها ودوالها.  إنها جمع النساء والحروف كذلك، أشكالا وعلاقات أمزجة و فيوضات عاطفية. (نون) يُقرأ لوضوحه ويتكىء على غزل في المرأة، وعناق في الشوق، وعذابات الفراق والاختلاف، والإزاحة.

 

 

 

أديب كمال الدين:

نون وكتابة الإغواء

 

علي الفوّاز

  ص 333 - 336

    

في لغة تؤول إلى الكشف والتأويل يحاول الشاعر أديب كمال الدين تعليق براهينه الشعرية على نص يفصح عن سكوته لا مقوله، وتظهر من دلالاته معان لها فتنتها ومكبوتاتها وفتوحاتها التي تفيض بالامتلاء والتوصيف الذي يقارب أحيانا حد المزج بين نص التصوف ونص الأدعية. النص الذي يكتبه الشاعر أديب كمال الدين له مجسّاته التي تسعى في المتخيّل وتنتشي في إشراقة المعنى من خلال  الانفتاح على تأويل الحرف وإشاراته وتشابكه كبرهان  في الرمز والإشارة وتحويل العلامات إلى فضاء تجريدي يتيح للنص آفاقا وإضافات واستيهامات خاصة.

    في مجموعة (نون) ثمة مراس وجودي لتقريب اللذة والاستغراق بمكاشفة الوجد بكل ما تعنيه من انتشاء وبرهان ومبادلات كفائية بين حروف هي إشارات إلى معان وشهوات وإشراقات نجد آثارها في  النص الصوفي خاصة في شطحات البسطامي الذي يقول في الإشراقات (كلام يترجمه اللسان عن وجد يفيض عن معدنه مقرون بالدعوى)  وإن وطأة هذا الكشف تجعل الاستعارة الشعرية هنا في موقع الاستعادة التي تحوزها  ذات الشاعر  وتكشف عن لذتها وأنويتها وتوحدها.

 

 

الحرف والاستبدال

 ففي مدخل المجموعة ثمة مكاشفة أو مقارنة بين الحرف/ مجس التذويب وبين ضمائر العشق والمعشوق. وهذه المكاشفة الفاضحة أو المبادلة التي ترجرج الكلام حتّى الإيغال بالترميز إلى التصوير تفضي بنا إلى الكشف عن الطريقة الجمالية التي يكتب بها الشاعر نصه اعتماداً على مفهوم الصورة  في الرمز أو تشكيل الحرف كدالة متخيلة تكمن في تمثل المعشوق في معاينات المعنى أوالبوح أو الوصال الذي كثيراً ما تنكشف نفحاته في أحاديث الاحسان عند المتصوفة:

(سأمنحكِ أيتها النون المجنونة بالجمالِ والانكسار

مجدَ الكلمة

وسأعلنكِ إمبراطورةً حقيقية

وأتوّجكِ في احتفالٍ سريّ عظيم

بتاجِ الحروف

وقلادةِ الكلمات

وطيلسان القصائد

ووسامِ الهيام

وعصا السحر.)

 إنّ الإشارة التي يمظهرها الحرف تكشف عن استحواذ يشف في الرؤية بحيث أن الحرف يصبح إشارة للعارف التي تسعى للامتثال أو التباهي أو الانخطاف وهذا يذكرنا بنوع من الحلولية أو نوع  من الغواية التي تفصح  عن شهوات وعلاقات يتيه فيها الشاعر حتّى الشطح أو الاحتفاء بالاستعارة كمزية لكتابة مكاشفة تخفي الباطن وتثير التأويل: 

  (متى ستمسح الكاف

نقطة َنونكِ من رأسي

كي يتوقف نزيف حرفي 

فأنام) .

الحرف والتشـكيل

    المجموعة عبارة عن نص في الأشواق ومادته بإشاراتها ورموزها  تتجسّد في تهويم الصورة أو المتخيّل الذي لايكشف الظاهر عنه وإنما يضمر توقاً خفياً للوصال في شكليه الحسي والمرجعي،  فالنون هي نون الرغبة ونون التيه ونون السحر ونون المرجع. ومستويات تشكيلها تكشف عن رؤى عميقة تحمل الكثير من أسرار المقاربة الصوفية التي تهجس بأسرار الخلق وكينونته.

 ولقد أفاد الشاعر من التشكيل الحروفي لـ(النون) وتقاربه في المعنى والدلالة والمرجع فعمد إلى تذويب الكثير من التأويل في ثنائية العلاقة بين استدارة النون ونقطتها كاشفاً بذلك عن انتشاء روحي هو ذاتـه المجهول  بارتجاف الوصال  فكان متن التحوّل فيه الثنائيات. وهو متن التعبير عن  ممارسة الغواية والتوحّد والغيبوبة في لذة الخلق: 

 (النقطةُ حبّ

والهلالُ طوق لا مهرب منه.

*

النقطةُ موتي

والهلالُ حبيبتي.

*

النقطةُ بخور

والهلالُ رقصةُ السحرة.

*

النقطةُ غموض

والهلالُ طوطم.

*

نقطتكِ نبوّءة

وهلالكِ شِرْك.)

    إنّ محاولة الشاعر في صوغ رؤيته أو منظوره للطاقة الشعرية الكامنة في حروفه وصياغاتها في تشكيلات وعلائق و تقابلات تستنطق  دلالاتها باستعارات وكتابات مختلفة، هي محاولة أسلوبية لاستكناه ما في الخطاب الشعري من  بواطن تنطوي على تأويل في اللذة والكشف والوجود. فخطاب الألف هو استعارة  لخطاب الوضوح والتفرد.. وخطاب النون هو استعارة  لخطاب الغموض الذي ينحو تجريده إلى الإيغال والبحث في صيرورة الشاعر والشعر. حيث إن النون لا تكفي بدلالتها اللغوية الواضحة كنون  النسوة  أو دالة  للذة وإنما هي أيضا سرّ المعرفة الغائب الذي يضمر المدهش والغريب والسحري. وهذا التجريد العالي في التشكيل الحروفي  يتيح للشاعر فضاءات متسعة ليس في مادة النص وإنما في مرجعيته.. فالحرف في الكثير من المتون القدسية والصوفية والسحرية يحمل دالة في العلو أو دالة في الوصل أو السحر حاول الشاعر استغوارها تعميقاً لتجربته الطويلة في الإشارات التي كان يعمّدها دائماً في كتاباته الشعرية، فالمجموعة بتجلّياتها هي انشغال بمنزلة الوصال التي تفيض باستعارات تحتفي بهذا الوصال في ثنائيات ومقاربات ـ النقطة / الهلال ـ الألف / النون ـ الرؤية / الغموض، وغيرها:  

 (أيتها القريبة جداً 

أيتها البعيدة جداً

أقلقني القاف

دمّرني الحاء

أربكني صوتكِ القادم في النون

فانتبهي

أنتِ بالسفينةِ الضائعة أشبه

وأنا أتلمّسُ رحلتكِ بين الصخور

فأرى الدمَ يسيل بين أصابعي).

    إنّ تطور شعرية أديب كمال الدين تكمن في استحواذه في بناء تجربته الشعرية على اتساع البنية الاستعارية بإيحاءاتها الجوهرية التي تستغور ما في الحرف العربي من طاقات تعبيرية ودلالية وتشكيلية تتيح له مبادلة أو مقاربة هي أشبه بالإفاضة التي نراها عند الصوفيين في توريد النص الذي تذوب فيه الفواصل ويكشف ما في الحال من لمحات ونوازع يكون في  منطقة هي أقرب للسكر الروحي الذي يشبه الانخطاف:

 (ربما لم يعد لحضوركِ أوغيابكِ عندي

إشارة محرقة

فلقد تحوّلتِ يا نوني إلى رمز

تحتفل قصائدي به كلّ ليلة حتّى الفجر

حتّى أجد حروفي سكارى وما هي بسكارى).

 

 

يتبع ق5

 

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home