الحُروفيّ

 

33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية

 

 المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007

 

368 صفحة من القطع الكبير

 

إعداد وتقديم

 الدكتور مقداد رحيم

 

 ق 3

 

  

الفصل الثالث

حاء

 

المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عمان – بيروت 2002

 

 

 

أ . د . عبد العزيز المقالح

د . عدنان الظاهر

د . محمود جابر عباس

 

 

حلم الخسارات الجميلة واليأس النبيل

أ. د . عبدالعزيز المقالح

  ص 135

- 1 –

القصيدة الجيدة هي تلك التي تجعلنا نقرأ روح صاحبها من السطور الأولى ونرى العالم الذي استحضره في ذهنه أثناء الكتابة، حتّى ولو كانت – أي القصيدة– خارج السياق المألوف من حيث الشكل والعنوان، وهذا ما تفعله قصيدة الشاعر أديب كمال الدين، في مجموعته

الشعرية «حاء» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر "بيروت 2002" والتي يذكّرنا عنوانها الفريد ببعض عناوين مجاميعه الشعرية السابقة:«جيم 1989» و«نون 1993» و«النقطة 1999».

 إنّ الأعمال الشعرية الجيدة تذكرنا بأن لدى بعض الشعراء مشاريع حالمة لا تخصّ الشعر وحده بل العالم، ومن هؤلاء الشاعر أديب كمال الدين هذا الذي يبدو – عبر قصائده – أبعد ما يكون عن صورة هذا الزمن العربي المتقلب، فهو بقدر ما يثق بقدرة الشعر على تجاوز المأساة الراهنة التي يعانيها الإنسان في كلّ مكان على وجه الأرض، يثق بالإنسان هذا الذي لا يزال يمسك بزمام الحياة على رغم المعوقات المتكررة والمتاهات التي لا يصنعها الآخرون وحدهم في طريقه بل يشارك هو نفسه في صناعتها ويعمل من حيث يدري أو لا يدري على التمكين لها أو على الأقل الاستجابة لردود أفعالها.

في النص الأول من المجموعة وعنوانه «خسارات» يرصد الشاعر خساراته المتلاحقة بروح رياضية إذا جاز التعبير وباستعداد لمواجهة كلّ ما يطرأ على حياته من خسارات بما في ذلك الموت الذي يرى فيه حياة أخرى لا بالمعنى المادي وحسب، وإنما بالمعنى الروحي أيضاً لأنّ الإنسان في المقطع الأول يمتلك القدرة على أن يقوم من موته وأن يجدد حياته حتّى لو كان التجدد سيسلمه إلى مفاجآت غير سارة:

 خساراتي لم تعد تُحتَمَل

فأنا أخرجُ من خسارةٍ لأقع في أخرى

فأنا – على سبيل المثال – متُّ

متُّ منذ زمن طويل

وشبعتُ موتاً

وحين قررتُ أن أقوم من موتي

لابساً الأخضر بدل الأسود

وراكباً الغيمة بدل الدراجة الهوائية

صدمتُ بفسادِ الغيمة

وتمزّقِ ثيابها الداخلية (ص5).

 إنه الحلم بالتجدد والقيام ثانيةً وثالثةً لا يزال ممكناً على رغم الخسائر المتلاحقة، وهنا موطن ذلك الأمل الغامض الشفاف الذي تتخلل نسيجه لحظات اعتراضية قاسية سرعان ما تتبدد وتكتسب بالايحاء قدرة على إمكان الخروج من الموت ومن النار أيضاً:

 خساراتي لم تعد تُحتَمَل

دخلتُ في النار واحترقتُ كما ينبغي

وحين قمتُ من رمادي

وجمعتُ رمادي

وذرّيته في دمي كي لا أموت من جديد

صدمتُ حين عرفت

أنّ مَن ألقاني في النار

أصدقائي الذين أعطيهم نورَ الأخضر

وأحبَّتي الذين منحتهم شمسَ الغيمة

فارتبكتُ لأنني لم أهيئ نفسي لدور الفادي

ولم أكن أتصور أنّ دور يهوذا

سَيُعاد عرضه في كلّ مكانٍ بنجاحٍ ساحق.

 إنه الإنسان الفينيق الذي ينهض من رماد معاناته كما يفعل ذلك الطائر الأسطوري الذي لا يعرف الموت ولا يستسلم للاندثار بل يحوِّل انكساراته إلى خسارات جميلة.

 

- 2 –

عرفنا من النص السابق كيف يثق الشاعر بالإنسان وبقدرته على التجدد وتحدي المعاناة، وفي نص لاحق سيتبين لنا كيف يثق الشاعر بالشعر أو بالأصح يثق بالكلمة ودورها في الحفاظ على توازنه الروحي والنفسي. وفي هذا الصدد يمكن القول إن في جوهر قصيدة أديب كمال الدين هامشاً واسعاً من التفاؤل يكاد القارئ العادي لا يشعر به. فهو، أي الشاعر، لا يسرف مثل الآخرين في سرد مواجع الواقع ومخاوفه وإن اقترب من ذلك الواقع الذي يصعب الفرار من انعكاساته، فإنّ روح الأمل تظل نابضة حيّة ويظل الحلم حاضراً بما يكفي، ليس بالتمسك بالحياة وحسب، وانما للوعي بأهمية تجاور ردود فعل المرحلة الصعبة ودائماً تكون الكلمة الضوء والدليل:

النقطةُ فضّة

والحرفُ ليرةُ ذهبية

فما أسعدني أنا ملك الحروف.

*

النقطةُ بسمة

والحرفُ ضحكة

فما أسعدني أنا ملك القهقهة.

*

النقطةُ بخور

والحرفُ رقصةُ السَحَرة

فما أسعدني أنا ملك الجن

صاحب الجناح الأخضر الكبير. (ملك الحروف ص 16).

 هكذا تصير الكلمة بجزئياتها الصغيرة عالماً من القوة والمقاومة، ربما شاب التعبير شيء لا يكاد يدرك من السخرية، الاّ أن ذلك لا يقلل من أهمية الكلمة ولا من دورها الإسنادي للشاعر الذي يعتقد أنه بها يمتلك العالم ويتحكّم في مقدراته، ولولا هذا المستوى من زهو المبدع بما ينتجه من عوالم لغوية لامعة لما كان في الشعر ما يريح الشاعر ويغمره بآلاف من نقط الضوء وحروف التأملات وما يبعث في نفسه القدرة على الاستمرار في الركض وراء اللغة الطائشة الفاتنة وسياقاتها التعبيرية المدهشة:

 النقطةُ ندى

والحرفُ دمعة

فما أسعدني أنا العاشق الأعظم.

*

النقطةُ شعر

والحرفُ أغنية

فما أسعدني أنا صاحب الأنامل الذهبية. (ص17)

 في العمل الإبداعي الكبير أكثر من مجرى سري يحفره المبدع في وجدان قارئه، وكلّما كان هذا العمل موجزاً أو مكثفاً زاد القارئ به إغراء ودهشة. وهذا شأننا مع تجربة الشاعر أديب كمال الدين، الذي يشارك بفاعلية في تأسيس المنجز الشعري الأحدث والأجد بلغة لا تستعجم، وفي إطار أبعد ما يكون عن الشكلانية المحكومة بالإبهار الخاوي. ودخوله المتفرد إلى عوالم الأبجدية ابتداءً من عنوان المجموعة (حاء) مروراً بالجيم والسين والدال والشين والنونيات، ووقوفاً عند «ارتباك الزاي» ذلك الحرف الذي رفعته النقطة إلى الأعلى وبفضلها استحق التميز عن زميله الراء.

نصوص المجموعة – في أغلبها– شديدة الكثافة، لكنها على رغم هذا التكثيف وربما بفضله تصل سريعاً إلى أغوار النفس وتحقق أثرها المطلوب مجاوزة بذلك كلّ محاولات التشويش بشكله المتوهّم الساخر، ويعبر النص الخاص بالزاي في تجلّياته الفاتنة عن تشابك الراهن بالتاريخي، والحلم بالواقع المعاش:

 كانت الزاي واضحةً

وبسيطةً حدّ الارتباك،

ساذجة كخربشاتِ طفل

لكنّ نقطتها تشيرُ إلى فوق

فوق ماذا؟

وجوه دون ملامح

ورؤوس أينعتْ

وحان قطافها اللذيذ (ارتباك الزاي ص 184).

يتحدثون كثيراً عن العفوية في الكتابة الابداعية ويتساءلون عن لحظة انبجاسها ثم لا يتحدثون أو يتساءلون عن وجودها المحقق في هذا النوع من النصوص النابعة من لحظات عفوية غنية بالشعر وبالمعنى.

 

 

  

أديب وكليوباترا

د. عدنان الظاهر

 ص 143- 151

 

كلما أزداد قراءةً وتعمقاً في كتب أشعار الشاعر "أديب مصطفى كمال الدين" أزداد حذراً من الدنو من عوالمه الشخصية والشعرية على حد سواء. وكلما اقتربت أكثر شعرت أني بعُدت أكثر. إني باختصار أتهيب ولوج عالم هذا الشاعر المتفرد. وضوح شعره لا يفضي إلاّ إلى المزيد من الغموض والإحساس بالهيبة وحتّى بعض الوجل. لذا فلقد انتهيتُ إلى قناعة شبه مطلقة أنه من باب المحال التصدّي لقراءة أو دراسة أحد كتبه كاملاً. بلى، في الوسع دراسة قصيدة واحدة (وربما اثنتين لا أكثر) من هذا الكتاب أو ذاك. دراسة قصيدة واحدة تُغرق الدارس وتشعره بالكفاء أو الاكتفاء إلى حد التخمة التي ما وراءها إلاّ المسغبة وخلاء اليد ونضوب المفردات وهيبتها من المضي في الدخول في عوالم أديب كمال الدين.

 خلال قراءتي المتأنية لأشعاره استنتجت (لكي أفهمه كما هو وعلى أقصى درجات علمي واجتهادي) أنَّ الشاعر في أفضل أحواله طفل بين الثانية والرابعة من العمر، وأنه توّاق للحديث عن المرأة، وأنه يحبها ويبجلها ويعبدها. يناجيها ويناغيها بأفضل ما في قاموسه اللغوي من مفردات اللغة العربية. وأنه بعيد كل البعد عن سادية بعض الشعراء ونرجسيتهم وتعاليهم الفارغ على حواء. طبع نادر وشديد الغرابة كما سنرى.

ركّزت جهدي على قصيدة (بانتظار أنْ تهبطَ حبيبتي) من ديوان (حاء). لقد وجدتُ  قصيدة جديدة للشاعر فيها مشابهة لهذه القصيدة من حيث الموضوع، المحتوى، وليس التفاصيل ولا وسائل معالجة الموضوع ولا مفرداته ولا الصور إلاّ الأقل من القليل. إنها (قصيدتي المغربية) من ديوان (ما قبلَ الحرف...ما بعدَ النقطة).

   ماذا في قصيدة "بانتظار أنْ تهبطَ حبيبتي"؟

 إنها معمار هندسي بالغ الروعة، فالشاعر هنا مهندس ومخطط بارع ومسيطر على الفضاءين النفسي - الشعري ثم المكاني الجغرافي. المقطع الأول من القصيدة خالٍ من عنصر الزمن. تلك ظاهرة فيزيائية كنا نقوم بتدريسها لطلبة الكيمياء في كليات العلوم. أعني بعض دوال الذبذبات الموجية لحركة ألكترون ذرة الهايدروجين حول نواتها. واسمها بالإنجليزية هو:

 Time- Independent Wave Function، لكنه بناء فضائي محكم يتدرج شاقولياً من أعلى إلى أسفل. من قمة سلّم كائنٍ ما بين غيوم السماء (في الجنة) تقف عليه امرأة شامخةً مستعلية على الشاعر الذي يقف في أسفل هذا السلّم، في جهنم، في أسفل سافلين. الزمن جامد إذ لا من حركة على درجات هذا السلّم. السيدة المتعالية لا تشاء أن تهبط من السماء إلى الأرض حيث ينتظر المسكين طفلاً ليس في يديه من وسائل القتال إلاّ حجر، لكنه حجر بهيج، حجر لا يصلح للقتال والعراك، حجر ربما كريم من الزمرد أو العقيق والمرجان يحمله هدية لمن ارتقت سلالم السماء متكبّرة عليه رافضةً دعوته أن تنزل من عليائها... أن تجرّب المشي على أرض الواقع كسائر الخلق. هي، حواء، في الجنة وهو، آدم، في الجحيم. كيف تجتمع النقائض وعلامَ تجتمع؟ نقائض أديب ليست جدلية. إنها نقائض سكونية، بمعنى إنها لا تلتزم ضرورة أن تتحد وأن تتصارع في مجرى زمن الاتحاد كما تقول قوانين الجدل (الدايالكتيك). جنة في الأعلى معزولة بالمرأة، متصلة بسُلّم لا  يؤدي بها إلى رجل منتظر في أسفله. سبل الاتصال متوفرة لكنها ميتة لا حياة فيها. نقرأ ما جاء في هذا المقطع:

 رأيتكِ في أعلى السُلَّم واقفةً

على جبينكِ تاج الذهب

وعلى كتفيكِ الثلجيين

طيلسان الفضة الغامضة

كان السُلَّمُ عالياً كالجنة

وعميقاً كجهنم

وأنا في أسفل سافلين

أقفُ كمتمردٍ أعزل إلاّ من حجارة البهجة

كشاعرٍ مجهول الهوية

كفيلسوفٍ أرعن

وكحوذيٍّ كفيف

مُنتظراً

أنْ تفتحي لي بابَ شتائمكِ المليئة بالعِظام

والسياط العرجاء

أو تفتحي بابَ طيلسانكِ

ليخرجَ جسدُكِ الملكيُّ البضّ

فيُلقي القبضَ على أحزاني الكبرى

ووساوسي وجنوني منذُ كلكامش وأنكيدو

منذُ أنكيدو وسرجون

منذُ سرجونَ وديك الجِن

منذُ ديك الجن وتلبّسي بثيابِ الجِن.

 في رأس الشاعر/ الطفل مقترحان لحواء الواقفة على الشجرة العالية علو السماء: أن تريحه من الإنتظار دون جدوى وتجعله ييأس تماماً فتطرده من باب جنتها وتكيل له شتائمَ من نوع وعيار خاص غير مألوف. شتائم ملأى بالعظام! علامة القسوة ودلالتها؟ شتائم رخيصة كالعظام التي تُلقى في الشوارع طعاماً  للكلاب السائبة في عالمنا المشرقي؟ وإلاّ ما معنى أن تكونَ الشتائمُ مليئة بالعظام؟! تعبير آخر متفرّد لا نلتقيه إلاّ في قصائد أشعار النثر الحديثة أو الأكثر حداثةً. ماذا عن المقترح الثاني في رأس الشاعر/ الطفل الذي يحمل حجراً بهيجاً يلهو به مثل أحجار لعبة النرد (الطاولي) أو هديةً ثمينةً، حجراً كريماً غالي الثمن جاء به ليقدمه للمرأة العاصية المتكبّرة؟ يضعنا الشاعر في جو مخالف لأجواء المقترح الأول سالف الذِكْر. ينتقل من وضع سلبي يائس متشائم: شاعر مجهول الهوية... فيلسوف أرعن... حوذي أعمى.... ينتقل إلى إنسانٍ إيجابي واضح المطالب صريح الرغبات. يطلب ممن أنهكته قبل قليل من الوقت وأضنته.... يطلب منها أن تنفتح عليه، أن تفتح كنوز جسدها... أن تستلقي على سرير أمامه... أن تنبطحَ على قفاها. عند ذاك فقط ينسى الشاعر أحزانه القديمة المتراكمة منذ أقدم العصور. منذ سومر وأكد العراق وديك الجن الحمصي الذي قتل حبيبته غيرةً ثم جبل من رمادها كأساً يتناول فيه خمرته كي ينساها ثم قال فيها:

 عهدي به ميْتاً كأحسن نائمِ ....

 انتقل الشاعر نقلة مغايرة فانقلب من طفل ينتظر مثل شحاذ في أبواب الموسرين إلى رجل ناضج مكتمل الرجولة والفحولة فكتب من شعر الآيروس ما يكفي للتعبير عن هذه الفحولة وفورة دم الشباب. نقرأ هذا الجزء معاً:

 أو تفتحي باب طيلسانك

 ليخرجَ جسدُكِ الملكيُّ البضّ

فيُلقي القبضَ على أحزاني الكبرى

ووساوسي وجنوني

منذُ كلكامش وأنكيدو.

 لِمَ ينتقل الشاعر من مجرد طفل يهدد بقذف من يحب بحجر غريب، حجر من بهجة لا يؤذي أحداً... ومن مجرد فيلسوف وشاعر وحوذي  يائس بائس... لِمَ  ينتقلُ من مواقع الدفاع السلبي إلى مواقع الهجوم المناقض: هجوم جنسي صريح لا لَبسَ فيه ولا غموض. يذكّرني هذا الأمر بقصة الثعلب والديك الذي حطّ على شجرة خوفاً من بطش الثعلب. ثم مواظبة هذا الثعلب على البقاء أسفل الشجرة ليلاً ونهاراً يقرأ القصص المسلية محاولاً إغراء وخداع الديك المسكين لكي يترك مكانه الآمن في أعلى الشجرة ملتحقاً بالثعلب كي يستمتع بأقاصيصه الحلوة ومغامراته البريئة في الغاب والبريّة. ما إن صدق الديك وعود وقصص الثعلب وهبط إلى الأرض حتّى افترسه هذا ولم يبقَ منه إلا الريش الذي سرعان ما تطاير في الهواء. يبدو أنَّ المرأة إياها على علم تام بقصة الثعلب والديك... فلم تهبط من قمة سلّمها العالي لتلتقي الشاعر/ الطفل حامل الحجر الكريم يغريها به للنزول. لم تشتمه... لم تخرج الشتائم البذيئة والقاسية قسوة العظام الرميم من شفتيها. لم تبذل جسدها له فعرض لها  مقترحاً ثالثاً نتعرّف على فحواه في المقطع الثاني من القصيدة:

الآنَ اتضحتْ الصورةُ تماماً

لقد تلقّفتُ سرّكِ الأعظم

ووقفتُ أرعى ظلّكِ

كمهرّجٍ مبتهجٍ بسخفِ جمهوره

كأعمى مبتهجٍ بشكوى الناس من نارِ الشمس

كليلٍ فقدَ فجرَهُ في حانةٍ داعرة

وكلّ ما أرجوه الآن:

أنْ تهبطي من عليائكِ الزائفة

إلى حضيضي اليومي

لتكشفي الحبَّ على هيئة جمرة

توضعُ على الشفتين

أو بين العينين

ولتكشفي عزلتكِ الباردة

حين ترين أعواني من الجن بالآلاف

ولتتعرفي على أُميّتكِ المطلقة

حين تقفز أمامَ عينيك المذهولتين

حروفي المسحورة ونقاطي الملوّنة بالعنفوان.

   إذاً أذهلنا الشاعر/ الطفل المتمرد بقوله في المقطع الأول [[أقف كمتمرد أعزل إلاّ من حجارة البهجة]] فلقد أذهلنا مرةً ثانية في هذا المقطع الثاني حين قال في ختامه [[حروفي المسحورة ونقاطي الملوّنة بالعنفوان]]. كيف تكون النقاط ملونة بالعنفوان؟ تعابير وصور يفاجئنا بها بين الحين والحين شعراء قصائد النثر المترعين بالإلهام والإبداع.

ما الجديد في هذا المقطع وبمَ ينمازُ عن سابقه؟ التحول، أجل التحولات في أعماق النفس وفي رسم المشاهد وتلوّن المواقف والردود والاستجابات تبعاً للتغيرات التي يفرضها الآخر، العالم الخارجي. فعل واحد ثابت (إصرار فتاته على الوقوف في أعلى السلم ورفضها لدعوته بالنزول) تقابله أو تستتبعه جملة مواقف متغيرة متحركة يرسمها ويحركها إصرار وعزم لا ينثنيان. على الشاعر أن يحاول ويحاول ثمَّ يحاول. الأمل بين جنبيه كبير رغم صلافة فتاته وعنجهيتها ورفضها ما قدّم من عروض سخية، عروض لا سابقة لها في دنيا المحبين. لا شتائم في هذا المقطع ولا توحم وشبق إلى جسد الأنثى ذات الطيلسان الفضي. لقد اكتشف سرّها أخيراً فتنازل عن كل ما كان قد قدم من عروض ومشاهد مسرحية إغرائية ومن رغبته حتّى في أنْ  يكون الشاعر الحمصي ديك الجن...لا حاجة له برماد الحبيبة التي أحرق ليتخذ منه كأساً يتعاطى به شرابه.... أديب كمال الدين لا يتعاطى تناول الكحوليات. قلتُ تنازل عمّا سبق وأنْ عرض ليكتفي أن يكونَ ظلاً، مجرد ظل يتبع المحبوبة ويكون حيثما وكيفما وأينما تكون، كالعبد، يتبع خطواتها، كمهرّج، كأعمى، كليل، لا يبغي أمراً إلاّ أن تهبط من عليائها المزيّفة لكي تعاني ما يعاني من حرائق الحب، ولكيما تكتشف أنها مجرد امرأة باردة وأميّة تجهل قيمة أشعاره وسحر ما فيها من حروف وما في نقاطها من عنفوان. يدعوها أن تطأ أديم الأرض بنعليها وأن تشارك باقي الناس حيواتهم اليومية الحقيقة لا تلك الزائفة والمعلّقة ما بين السماء والأرض منتفخة بالغباء والعجرفة الفارغة وبريق المعادن. الحياة الحقيقية واحدة... حياتنا على سطح الأرض... أمّنا الهاوية. ها نحن هنا... ومن لا نعجبه فليحلق عالياً بين السماوات.

ختام القصيدة/ المقطع الثالث

ما زال الزمن ثابتاً جامداً. لم يمسسه الشاعر ولم تحركه الأحداث المسلسلة والمرتّبة بعناية. ما زالت المرأة واقفةً في أعلى السلّم. وما زال فتاها الملوّع منتظراً سُدى في أسفله. لا يفصلهما إلاّ سلّم وهمي نخاله سُلّماً حقيقياً معدنياً أو خشبياً. "الديك" لا يثق ولا يصدق حكايا "الثعلب" الرابض أسفل السلّم. لا تستهويه قصصه ولا إغراءاته. تجاه هذا الثبات وموت الزمن يناور الشاعر العاشق مناورة أخرى جديدة. يطلب من المرأة أن [[تختصر المسافة]]. وما المسافة إلاّ هذا السلّم الوهمي المكوّن من ألف درجة.. عفواً.. لا يطلب من "كليوباترا" ... بل يرجوها أن تختصر المسافة فإنها مجرد وهم. كيف تختصر هذه الحواء المسافة؟ قدم لها عاشقها المتيم طريقة أو وصفة سحرية تساعدها في عملية الاختصار. اختصارالمسافة حركة والحركة تجري في الزمن والزمن هو مقياس الحركة. لذا، اخترعَ  ميكانيكية {آلية} خاصة لاختصار المسافة خارج جبروت الزمن وأحكامه. كيف؟  إما ببهجة علاها أو بومضة أسفلها! يكرر الشاعر لفظة (أرجوك) مرتين فما أحلاها في كلا الموقعين. "أرجوك".... جمع أديب هنا عالي السلم الافتراضي ونهايته السفلية. جمع أجمل ما في رأس الإنسان: الوجه، وجه المرأة، مع جسدها. الرأس متعجرف صلد يابس مثل خشب السلّم أو حديده. أما الجسد فذلكم شأن آخر. الجسد قابل للاشتعال أو الاتقاد. نقرأ المقطع الثالث ففيه قفزات ومواقف تثير العجب والذهول.

المقطع الثالث:

 

  يا أسطورتي الكبرى

 إنَّ مشهدكِ لَمُحزن

 فهناك ألف درجة في السُلَّم الذي تقفين في غيمته

 وأقفُ في بئرهِ السوداء

 فحاولي أن تختصري المسافةَ (أرجوكِ)

 ببهجةِ أعلاكِ

 وحاولي أن تغتالي المسافةَ (أرجوكِ)

 بومضةِ أسفلكِ

 وتذكّري وأنتِ تشعلينَ قارّاتِ جسدكِ السبع

 ألاّ مرآة تستطيع معرفة لغاتكِ السبع

 إلاّ مرآة عريي

 ولا معنى يقومُ لحرماني المجنون

 إلاّ إذا وضعتِ رأسيَ فوق الرمح

 وحملته إلى جهاتِ الشمس الأربع

بعربتكِ السوداء التي تجرّها خيولُ الطُغاة.

(ومضة أسفلكِ)... جسدها يومض بالاشتعال، وجسدها ليس كباقي أجساد النساء. إنه قارات سبع. فإذا ما اتقد هذا الجسد ستتقد معه كافة القارت اليابسة على سطح الكرة الأرضية. حريق كوني هائل. إنها صور لا يخترعها إلاّ إبداع المبدعين من الشعراء الجُدد. كيف ولماذا جمع الشاعر بين المرايا والعري؟ شكل آخر راقٍ من أشكال الآيروس الرفيع المستوى. حينما تتقد فتاته التي عذبته طويلاً وتشتعل فيحترق الكون بالرغبة الجنسية... سوف لا تجد من يطفيء هذه الحريق في جسدها الملتهب بالنار والسعير إلاّ عاشقها الشاعر. ستجده جاهزاً مستعداً (عارياً) يفهم لغات الجنس وحقوق المرآة على الرجل. إنه عارٍ كمرآة. واضح كوضوحها. ناصعٌ صريح يجيد تفسير رموز وإشارت الجسد. يفهم حروف جسد ناضحٍ بالرغبة مشتعل الحواس. جسده مرآة تفهم وتعكس ما تريد المرأة منه. عريُه مزدوج. عُري حقيقي وعُري مجازي. أحسنتَ أديب كمال الدين! ما أعمق أفكارك وما أجمل صياغاتك الكلامية وما أروع صورك الشعرية المبتكرة!

 كيف ولماذا جمع الشاعر بين الحرمان ورأس محمولٍ على رمح والعراقيون خاصةً يعرفون مأساة الرأس المحمول على رمح من طفوف كربلاء العراق إلى دمشق (يزيد) عام 60 أو 61 للهجرة؟ هل إنها قفزة وخروج عن السياق العام لأحداث وأجواء القصيدة؟ ظاهرياً نعم، ولكن إذا ما نظرنا في العمق ستزول الدهشة والغرابة. الشاعر يستلهم تراثه العائلي والعراقي والعربي الإسلامي ثم العالمي. إنه يعرف جيداً قصة الرأس والرمح. يمكن على هذا الأساس تفسير هذه الصور، التي تبدو غريبة على النسق العام لمجمل تفصيلات القصيدة... يمكن فهمها وقد ذكر الطغاة كما يلي: تمثل المرأة المتعجرفة المتعالية في نظر الشاعر... تمثل الطغاة والمسرفين والمتجبرين في الأرض ومثالهم يزيد بن معاوية. الحكام المعزولون عن شعوبهم يسكنون عالي الأبراج  بينما ترزح شعوبهم في الحضيض (أسفل السُلّم/ أسفل سافلين). كيف السبيل إلى الخلاص من هذا الوضع المأساوي؟ بالثورة على الظالم المستبد والجائر المتحكم في رقاب الناس. بحرقهم بنار ثورة تدمر الكرة الأرضية بقاراتها السبع، شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً (جهات الشمس الأربع). إنه تفسير ضعيف... أعترف!

ختام

 ما علاقة الشاعر أديب بملكة مصر الفرعونية "كليوباترا"؟

كلما أعيد قراءة القصيدة "بانتظار أنْ تهبطَ حبيبتي" ثم أُعيد قراءة مقدمة المقطع الأول منها... أرى "كليوباترا" شاخصة أمامي كما وصفها "شكسبير" في مسرحية (أنطونيو وكليوباترا). قال أديب [[رأيتكِ في أعلى السُلَّم واقفةً/ على جبينكِ تاج الذهب/ وعلى كتفيكِ الثلجيين طيلسان الفضة الغامضة...]]. سأنقل بعض ما اقتبسه إشارةً الشاعر الإنجليزي توماس إليوت (المقطع الثاني بعنوان لعبة شطرنج من قصيدته الشهيرة الأرض البوار أو المهجورة) من مسرحية شكسبير آنفة الذكر:

 

 

The Chair she sat in, like a burnished throne,

Glowed on the marble, where the glass

Held up by standards wrought with fruited vines

….

Doubled the flames of seven branched candelabra

Reflecting light upon the table as

The glitter of her jewels rose to meet it.

  

أسوق هذا الكلام لسببين: أولهما أن الشاعر درس اللغة والأدب الانجليزي في جامعة بغداد. وثانيهما أن أديب كمال الدين يقرأ الشاعر توماس إليوت ومعجب ببعض أشعاره.

 

  

 

أديب كمال الدين في مجموعته الشعرية (حاء)

شعرية التعالقات النصية من الحرف إلى الكلمة

 

د. محمود جابرعباس

  ص 153- 161

  

 

وضع الشاعر أديب كمال الدين مع زملائه شعراء السبعينيات في العراق، في نصوصهم وقصائدهم وبياناتهم الشعرية وتجاربهم المتنوعة والمتعددة والمغايرة، القصيدة الجديدة ليست على المستوى الشعري العراقي فحسب بل على مستوى المشهد الشعري العربي على عتبة حداثة شعرية جديدة ومختلفة في البنية والرؤيا والأدوات والتجارب، والتي تعينهم على تلمّس الكيفية البنائية والكتابية والخطية التي يكتب بها النص الشعري الحداثي الذي يتقاطع مع من سبقهم من شعراء الستينات، أو الرواد في البناء والأساليب وخصائص التركيب والصياغات والثيمات، والبحث عن أسرار النصوص وعوالمها المستعصية الخفية التي  تسعى إلى تأسيس رؤية شعرية نابعة من التجربة المعيشية لكل شاعر من شعراء هذا العقد الشعري المهيمن، والذين يطمحون إلى تطوير تجاربهم واستمرارها والتي تتحول عندهم إلى مكونات دلالية وتركيبية مدهشة ونشطة في الحداثة الشعرية التي تتجلى على السطوح والأعماق معاً دون التقيد بالنظم الشعرية التقليدية السائدة، أو ما كانت عليه القصيدة الجديدة (قصيدة التفعيلة) من هيمنة وسطوة في الكتابة الشعرية وفي الوسط الأدبي في تلك الحقبة، والبحث الدائمي عن أبنية وأنماط وأصناف شعرية جديدة وقادرة على تأسيس سياقات شعرية وأنساق بنائية جديدة تقيم حداثتها على أساس من التعالقات النصية والملفوظية بين مستويات التعبير والأداء ومستويات الخطاب الشعري واللغوي ومظاهر تعالقاتها التي تبني نموذجها المختلف على أساس الأبنية الدلالية الكلية في بنية النص وتمرر القصيدة في كتابة ذاتها من (تابوهات) القواعد الجمالية والشكلية المتعارف عليها لتشكّل التجربة المعيشة عند كلّ واحد من شعراء السبعينيات في العراق ككل، تمرداً لافتاً على المألوف والعادي والثابت والساكن ولكلّ واحد منهم في تلك المرحلة  محاولة طموحة لترتسم خطوات الذات الشعرية المتفردة والخاصة بدقة وأناة والانعطاف ببنية القصيدة باتجاه وحدات نصية وتركيبية جديدة تماماً على مسافة تحقيق الفجوة، بين الدال والمدلول وتوظيف العلاقات النحوية والصرفية والصوتية والإيصالية والتأويلية الجديدة التي تتيح للشاعر تكوين نسيح تعبيري متكامل وفي مجموعات مركبة ومعقدة بحيث نرى في النهاية (بانوراما) شعرية جديدة تماماً تكشف أوضاع النص وتميزه عند كل واحد منهم التي تكون متوازية حيناً ومتقاطعة حيناً آخر ولكنها جميعاً قد تضافرت في إحداث الخلخلة الشعرية والتوتر والقلق والاضطراب في اللغة الشعرية، مما جعلهم مجتمعين يهدفون إلى خلق وإيجاد لغة شعرية جديدة تتيح لهم تسجيل الرؤى وخلق المجهول من خلال تعدد وتنوع واتساع الشفرات التعبيرية التي تغني تجاربهم وقصائدهم ونصوصهم.     

إنّ إحدى أهم محفزات خلق الشاعر لعالمه وفنه الخاص به، والذي سيكون بالتأكيد مستقلاً عن تجارب الآخرين، وهو ما أفضى إلى ظهور أصوات شعرية متميزة في شعرية القصيدة الجديدة في العراق، على الرغم من تعدد وتباين واختلاف هذه التجارب فكانت تجارب الشعراء (كمال سبتي وخزعل الماجدي وزاهر الجيزاني وسلام كاظم وأديب كمال الدين وكاظم جهاد وأحمد عبد الحسين وعدنان الصائغ وشاكر لعيبي وخالد جابر يوسف وغيرهم)، والتي تنامت في قصائدهم البساطة في انتقاء الموضوع، والغور في أعماق الواقع والحياة والكائنات المحيطة والإنسان، والبحث عن لغة شعرية ومنتقاة، مكثفة ومقتصرة، والحفر في منطقة شفافة من خراب العالم من حوله التي نراها في تجاربهم بعد أن خسر الشاعر الحياة الأولى وهو ينتقل إلى حياة جديدة، أو من منفى إلى منفى آخر، والبحث عن فردوس مفقود، يقف حزيناً وحده، وصامتاً تجاه الحياة وغربتها وآلامها، ولذلك نقلتنا تجاربهم إلى صورة شعرية ولغة تركيبية هادئة وصادمة في الوقت نفسه، ولا تكاد تتلبس هذه الحياة المتخيلة قناعاً أو اسماً حتي نجدها في قناع أو اسم آخر، لينجو الشاعر وقصيدته من طوفان الأحداث، ومصير الحياة وهشاشة الواقع التي أكدت أن الشعراء السبعينيين كانوا في مواجهة شعرية لم تكن عنايتها منصبة ومنوطة بتوصيل المعنى ذاته، وإنما كانت منصبة على أحداث وصهر هذه المتناقضات في بنية متنافرة وفجوة توتر دلالي واسع يكون جماليات شعر الحداثة وسياق انتظامها النصي والملفوظي.

 وكان الشاعر أديب كمال الدين أشدهم جموحاً وتأرقاً في السعي إلى كتابة قصيدة حداثية وجديدة متقنة تكافئ القصيدة الشعرية العربية التي بدأت تظهر بوضوح في لبنان ومصر وسوريا، وأن يكتسب نصه ملامحه المتميزة من تجليات أسلوبه وتنوع تركيباته وخواصه التعبيرية والأدائية التي تضبط درجة الغليان والاختلاف والمغايرة في إحداث التحولات الأسلوبية التي تكون معيار المصداقية الشعرية التي تحفر تجاربه وانشغالاته التي ستتحقق على قاعدة صلبة من الأوضاع التعبيرية والترميزية والقناعية والموروثة والمعاصرة التي اختارها الشاعر لنصوصه، لتكون دليلاً يتمثل في تعزيز ذلك النوع من الرؤية الشعرية الجديدة التي تهدف إلى المغامرات التجريبية والفانتازية التي تخلق الإشكاليات الشعرية والتي تحمل قدراً طاغياً من الإشعاع الشعري الذي يولد في اللغة طاقاتها الكامنة العميقة التي تكون كسراً لمرجعيات شعرية جاهزة ومألوفة وتأسيساً لمرجعيات مبتكرة وجديدة.

  هكذا كانت مجموعته الشعرية الأولى (تفاصيل- النجف الأشرف 1976) محاولة جريئة وواعدة يحدث في حينها، باتجاه وعي الشعر وممكناته وكيفياته وسحره بوصف أن الشعر فضلاً عن كونه نداءً داخلياً فإنه تنظيم فني وتعبيري وجمالي حتّى وإن كان ذلك يحصل بعد التدفق الأولي لمكابداته ومجاهداته ومحرقاته التي تواجه الحياة الضاجة الصاخبة بتلويناتها وانكشافاتها وملابساتها وتعقدها وانغلاقاتها، ولكنها ترتكز من جهة أخرى على التفاصيل الصغيرة والهامشية في الحياة اليومية ومعاناتها والتي كانت أقرب إلى معاناة هذه الحياة ونبضها، وتلّونها بقزح التنوع والانفراد والتدفقات العفوية ولكنها الواعية والواثقة باعتبار أن وعي التجربة في بداياتها كانت معبر الشاعر إلى اليقين الشعري في مجموعته الثانية (ديوان عربي - بغداد 1981) الذي يمثل المنحني الشعري الذي يسعي إلى تعميق الرؤية الفنية والجمالية والشعرية التي تؤرخ للتجربة وهيبتها وجمالياتها التي تتدفق بنسمة من الهدوء الواثق، ولكنه المليء بالتشنجات ومشاعر القلق، وهي التوترات التي تظهر في بنية النص، وتمنحه شكلاً عفوياً وبنية واضحة تستمد شعريتها من محرقة النص ولواعجه وإشاراته الخفية والمضمرة التي تندرج في سياق شعري مخصوص ومتفرد عند الشاعر أديب كمال الدين في مجموعته الشعرية الثالثة (جيم -بغداد - 1989) الذي حاول فيه خلق أوضاع تعبيرية وبنيات شكلية وخطية نرى فيها عدداً من الاشتباكات النصية والدلالات المتفاوتة والتحولات الأسلوبية الذي يخلق فيها الشاعر تجربته وقصيدته وبنيته، وهو يستخدم تقنيات شعرية وآليات تناصية تكرس شعرية التطالعات النصية التي نلمس فيها جدلية التجربة من خلال تفكيك اللغة إلى مرجعياتها الأولي ومنظومة العناصر الأولية لها، فإذا كانت الكلمة هي البدء فإنّ الحرف والنقطة هي البدء أيضاً التي تنكشف من خلالهما وعبرهما الدلالات الحافة الموحية التي يتم تفعيل (النقطة والحرف والكلمة) جزءاً جزءاً لتبلغ التجربة عنده ذروة التألق الشعري في مجموعته الشعرية الرابعة (نون -بغداد- 1993) التي يشير فيها إلى استراتيجية التجربة الشعرية التي تمنح هذه النصوص بؤرة ارتكاز تنصب في تحقيق الشعرية واقامة التوازنات الدلالية بين البنية والرؤيا والصياغات التي تجعل التعبير ذروة كل شيء واكثر إيغالاً في تشكيل الرؤية الشعرية التي تتجلي في دواخلها انساق المنظومات الدلالية وجمالياتها في مجموعته الشعرية الخامسة (أخبار المعنى-بغداد- 1996) التي شغلته فيها فكرة التشكيل الحرفي الذي ينقل الثقل الدلالي والترميزي والشعوري إلى المكنونات التعبيرية والجمالية والخطية التي تتعلق بتحقيق أعلى درجات الكيفيات التعبيرية الجديدة التي تتجسد فيها الرؤى، وهذه التجارب التي يبلغ الشاعر فيها ذروة إيصال التعبير الشعري إلى شعريته التي تشجّرت وتعددت في بنياتها المحتشدة في السطوح والأعماق النصية التي تشفّ عن عملية اشتغال وتركيز ومهارة شعرية متميزة ومتفردة، كما في مجموعته الشعرية السادسة (النقطة -بغداد- 1999) و(بيروت –عمّان- 2001) التي استطاع الشاعر من خلالها أن يستكمل بها تخليق الشعرية الحداثية وشحنها بطاقات وآليات وتقنيات تشكيلية وخطية اشتغل الشاعر عليها بمهارة وحذق وحدد منظوراته الشعرية من خلالها لتسهم في تخليق الكتابة الشعرية الجديدة وتنويعاتها الدلالية وشفراتها المستقرة في البنية السطحية والعميقة.توغل قصيدة الشاعر أديب كمال الدين، ونصوصه المختلفة في عالمها التشكيلي والخطي عندما تقارب الحروف وتشكيلاتها حرفاً حرفاً والذي تتيح له استجماع العناصر المشتتة واستحضارها ونسجها في اتساق وتماسك، وتنظيمها في وحدة تعبيرية وأسلوبية شاملة كمظهر بنائي وجمالي مهيمن علي وحدات النصوص وتركيباتها والذي تجسد ذلك في مجموعته الشعرية السابعة الصادرة مؤخراً (حاء -المؤسسة العربية للدراسات والنشر– بيروت- عمّان 2002) الذي اتسم بالشغل على الحروف واستثمار صيغها ومعادلاتها ومرجعياتها التي تعزز شعرية القصيدة لديه والتي استطاع الشاعر محاورتها وإقامة ألوان من التقابلات التشكيلية الداخلية في عملية تناص حاذق وماهر يتجلّى في إقحام عالم الحروف الجواني التي تتخلق فيها سياقات خفية بين الحرف والمعنى، وتتمظهر عنده بالطريقة الملموسة جداً والأكثر قوة وشاعرية وتطبع قصيدته بطاقات تعبيرية فذة تشكل لوحة تشكيلية تمتشج البنية بالرؤيا، والأدوات والحروف والنقاط والأسطر والجمل مضيفاً إلى نصوصه أبعاداً جمالية لها دلالاتها، إذ فيها يتعانق المضمون مع التركيب اللغوي مع الانفعالات النفسية لتنسجم جميعها في وحدة تؤدي أثرها الجمالي والفني والتعبيري الذي أراده المبدع حيث يعتمد الشاعر أديب كمال الدين في نصوصه المختلفة، وفي بناء قصيدته على ما يؤثثه لها من تواتر الوحدات الحرفية التي تشترك في التنسيقات الأساسية والتنويعات الصوتية التي تجعل منها ظاهرة لافتة للنظر في الشعر العربي الحديث يجب الاحتفاء بها، خاصة مع استمرار انشغال الشاعر بتكويناتها وتجانساتها الصورية المكثفة لإيصال فكرة النص التي تشكل البيئة الأساسية التي تستقطب الكلام الذي ترد فيه الحروف وتجذب دلالات الحروف لتدور حولها لأنّ الامتداد الحرفي وغواية الحروف التي استطاع الشاعر استغلال إمكاناتها صوتياً ودلالياً في خلق إيقاع يؤازر الدلالة الكلية للنص، ويحتضن الانفعالات الذاتية التي تشكل مفارقات نصية وملفوظية للأساس المنطقي الذي يكمن تحتها، وإن دلالة الحرف والنقطة هنا تعوض عن دلالات الكلمة والجملة والمقطع عبر التركيز الحرفي الذي يخترق من خلاله صوتية الحرف وبعده الإيقاعي للوصول إلى طريقة كتابية جديدة وخاصة به الوصول إلى خلق عالم رمزي وكون تخييلي وتشكيل مغاير عبر اختراق سكونية اللغة ووظيفتها التقليدية والمعجمية إلى الحد الذي تنتاص فيه خاصيات الحروف لتصل  إلى الشعر الصافي، وصنع صوفيته الشعرية التي تستحيل إلى طاقة شعرية متجاوزة للزمان والمكان، وحينئذ يستكمل الشاعر مشهده الحرفي وتوحده الجمالي به من خلال أربعين نصاً شعرياً احتوته المجموعة الشعيرة الجديدة (حاء) التي استطاع فيها الشاعر أن يؤكد حضور وفاعلية التحول الشعري في قصيدته والتي تتضافر فيها التقنيات التعبيرية والتشكيلية في تكوين بنية النص وتوليد دلالاته المشعة وربطها بمنظومة الشاعر البنائية المصاحبة لهذه التجربة وتعد قصيدته (ملك الحروف) من بين قصائده التي أقامت حواراً بين بنية النص التي تدفع الحرفية للكلمة التي تقوم بتركيب النص وتأثيثه على أساس الفاعلية الحرفية التي تدفع بالبنية النصية إلى الانتظام في تشكيل يتصاعد فيه التوتر والاحتدام والانصباب في بؤرة النص المنظمة في مستوياتها التعبيرية والدلالية والرمزية بهيكلية نامية ومتصاعدة ومتماسكة والتي تعطي (للحروف) معني مغايراً ومميزاً يرتبط بالكون التخييلي الذي يتم تسعيره وفعاليته الشعرية وتجلياته الصوفية لترتفع بذلك درجة تعبيرية القصيدة وشعريتها المتميزة بالإشارات المحتشدة، والمتسقة، والفاعلة في سطح النص وعمقه والتي تتسق مع حركات النص وتموجاته وصبّها في البؤرة الكلية المركزية للنص كما في هذه المقاطع:


النقطةُ فضّة

والحرفُ ليرةُ ذهب

فما أسعدني أنا ملك الحروف.

        *

النقطةُ بخور

والحرفُ رقصةُ السحرة

فما أسعدني أنا ملك الجن

صاحب الجناح الأخضر الكبير.

*
النقطةُ و
حي

والحرفُ تنزيل

فما أسعدني أنا مَن يحملُ إشارةَ العارف

بين عينيه

ويلبسُ عمامةَ الشهيد.

وتقدم قصائده الأخرى (كلمات وجيم شين وكيس الحروف وحاء وجيم سين دال ونونيات جديدة وأمجاد النقطة ورسالة الحروف) تجانساً حقيقياً بين المكونات التشكيلية للنقطة والحروف ومكوناتها التعبيرية والبنائية المنظمة للدلالات الكلية، إذ إن تقنية الحروف قد غطت مساحات النصوص ومخزونها البنائي والروحي والوجداني وتجسداتها الذاتية والموضوعية المنسجمة في تشكيل الحروف والنقطة والكلمة التي يتم توظيفها شعرياً في تحقيق التآزر النصي والانسجام البنائي العميق الناشئ من استثمار واستغلال مستويات المفارقات الحرفية الماثلة في النصوص وشبكاتها المتراكبة التي توافق الأوضاع اللغوية والتركيبية مذاقها الخاص، وامتداداتها الترميزية المباطنة للتجربة الشعرية،والقادرة علي تخليق لون من الشعرية البنائية التي تتحد خواصها التعبيرية مع الأبنية التركيبية للحروف والنقاط التي يوظفها الشاعر كما في هذا المقطع من قصيدته (حاء):

حاءُ الحياةِ حلم ورماد

وتاؤها ألم ونوم ونسيان.

*
هي ذي مدن لا معنى فيها

وأخرى لا شمس فيها

وأخرى لا ماء فيها

وحين نصلُ إلى الشيخوخة

نصلُ إلى مدنٍ لا هواء فيها.

*
عجبَ الحروفيّ من هذه الحاء

فلقد رآها مرّةً راقصةً أسطورية

ومرّةً رآها توابيت عارية

ومرّةً رآها ذهباً وجمراً ودموعاً وسكاكين

فاحتار
قيل له: اختر
ْ لهذه الحاء كلمةً واحدة

ولا تزدْ

فقال: حاءُ الحياة..

ومات. .
    وينطلق الشاعر في قصيدته (حوريات الفردوس) من رؤية مأساوية وذات أبعاد واقعية وتاريخية للكشف عن الأسارير النفسية وتنهدات الذات الذائبة في موانئ النفي والغربة والاستلاب المؤدي إلى الموت والأحلام التي تستحيل إلى كابوس ودمار وخراب عندما يضرب الإنسان والشاعر بآلة تدميرية لا يقو
ى على مواجهتها سوى بوهج الحروف المنطلقة من استعادة الزمن الماضي، والقبض على الحياة في الزمن الحاضر والتي يرغب فيها الإصرار على المضي قدماً في تحقيق رؤيا طامحة إلى الحرية والانعتاق من هذا الواقع المر الذي يمازجه بخياله وبتناص مع تحفيزات الحروف والنقاط وتشكيلاتها التي تسعى إلى تشييد بنيتها الأسلوبية من خلال القص والحكي والسرد الذي هيمن على غالبية قصائده وينهض بها الديوان برمته، والتي تعني في جوهرها مؤثثات ومكونات داخلية تدعمها آليات التداعي والتذكر والاستبطان والحوارات المونولوجية المفضية إلى شعرية البنية النصيّة، وفي خضم هذه الدينامية الشعرية يجري تفصيل القصيدة وهندستها ومعماريتها والحفر بأناة وصبر في السنن العلامية والإشارية لتركيبية الحرف والنقطة لاستحثاث المخيلة الشعرية الثرّة التي تفصح عن توترها وتأججها التركيبي والدلالي والرؤياوي التي برع فيها الشاعر بشكل مدهش وآسر كما في هذا المقطع من قصيدته (حوريات الفردوس):


وتلمسّتُ قبري دافئاً كإصبع طفل

والتراب منه يسّاقطُ بالعبث

يسّاقطُ بالفرح

أنا الذي بصمتُ حاءَ الفرح

وحاءَ الحريةِ والحنين والحب

أجلسُ قرب قبري

ألعبُ بطيور بيض

أنامُ وأصحو

أدخلُ وأخرج

أبتسمُ وأرتجف

وطيوري تحلّق حول قبري

حروفاً من نور.

   وتصل هذه النزعة التركيبية والتشكيلية الحروفية والنقطوية قمتها في ديوان الشاعر أديب كمال الدين (حاء) التي تتجاوز رغبة الشاعر في تأثيث قصيدته بممكنات وكيفيات الحروف واستثماراتها البصرية والخطية، وكيف تستقيم للبنية النصية والملفوظية شعريتها وتوضيبها تخييلياً لا بد له من مهاد نصي وشعري عندما يجتاز عتبة البنية الشكلية لها في إقامة واجتراح نمط متخيلها الشعري استكمال صوغه في صلب التجربة الحداثية الجديدة.

 

 

 

 

الفصل الرابع: النقطة

 

صدرت بطبعتين: (الأولى 1999) – بغداد

(الطبعة الثانية 2001) - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- عمّان – بيروت

 ص 163

 

- د . حسن ناظم

- د . عدنان الظاهر

- أ . د عبد الواحد محمد

- صالح زامل حسين

- د . مقداد رحيم

- هادي الربيعي

- فيصل عبد الحسن

- د . إسماعيل نوري الربيعي

- نجاة العدواني

- د . حسين سرمك حسن

- عيسى حسن الياسري

- رياض عبد الواحد

 

    

 

"النقطة"

دراسة في "معاني الحروف"*

 

د. حسن ناظم

 ص 165 -176

 

   

قالت سكينة النور: ما للشعر والحروف؟

قلتُ: حتّى أرسم ملامح وجهي وصيحات قلبي

      في كتابٍ جديد.

 (أديب كمال الدين، النقطة، ص34)

 لماذا النقطة؟ ولماذا الحروف؟ ولماذا هذا الترميز الغاطس في بحر الرموز؟ ولماذا هذه المراوحة بين الرمز والمرموز إليه، بين الرمز مشبعاً بالرمزية تارة والمرموز إليه عارياً منها تارة أخرى؟

 تضعنا محاولة تسويغ انتهاج الحروفية منهجاً شعرياً في مجموعة أديب كمال الدين "النقطة"، كما هو الحال في سائر أشعاره الأخرى*، تضعنا في مواجهة خيارات عديدة. لكن إقصاء بعض الخيارات ممكن بحسب المعرفة المتوفرة بالنصوص والشاعر معاً. إذ لا يمكن طبقاً لما سبق النظر إلى طبيعة شعرية "النقطة" كونها ترفاً أو لعباً على الحروف انسياقاً وراء الفوضى الشعرية التي عمّت النصوص الشعرية إبّان الثمانينات. كما لا يكفي القول إن الشاعر بانتهاجه هذا النهج إنما كان يحاول البحث عن الأسلوب الشعري الخاص فقط. فالأسلوب مهما استند إلى مقومات اللغة والتأثر بحياة الأدب عبر التاريخ يبقى وليداً لتلك المعايشة التي يمارسها المؤلف بوعي أو من دونه في تاريخ مجتمعه. والحروفية في نصوص أديب كمال الدين خيار يخضع لمتطلبات كثيرة يقف على رأسها التاريخ والحقبة التي وعاها وحاول التعبير عنها في "المحاولات". فالطبعة الأولى من مجموعة "النقطة" كانت في العام 1999، ولعلها كانت، خلال التسعينيات كلها، تعتمل وتتخلق في إطار عريض من المعاناة التي صبغت الناس والشاعر والنصوص على حدّ سواء. إنّ طاقة الحروف طاقة هائلة، واستيلاد هذه الطاقة وتشكيلها بحاجة إلى احتراف حروفيّ يفقه أسرار هذه المهنة، ويولد منها إشعاعات تنبثق من النصوص لتصبّ في الواقع، وهذا هو محكّها النهائي، وغايتها الفضلى. فبدلاً من بقاء النصوص ملتفة بعضها ببعض، يقوم نجاحها في التفافها بالواقع ومعانقته وكشف دوائره المظلمة.

 لعلي أميل إلى القول إن أشعار "النقطة" تخرج عن الأطر الترميزية البحتة التي تبقى حبيسة عمليات التلغيز إلى أطر أرحبَ مجالاً وأجدى: أطر الحياة بما فيها من أسرار ووقائع، وابتهالات وتجديف، وضحك وبكاء، إلخ. أقول هذا وينتابني قلق بصدد صحة ما أقول، فمجموعة "النقطة" حمّالة أوجه، وربما تكون خادعة، وفيها من الانطواء والانفتاح ما يجعل الأحكام تتململ بين إغلاق النصّ على ذاته وانفتاحه على أفق أرحب. ولذلك سينصبّ جزء من تناولي مجموعة "النقطة" على اختبار فاعلية رمزية الحرف في تناول الواقع ومعالجته والتعبير عنه. ونصوص أديب تدّعي الحروفية أسّاً متيناً لبناء رؤية تلمّ شتات تفصيلات الواقع وتضمّه، فقد يصمت الشاعر في لحظات الخطر، لكن الحروف متكلمة أبداً. ومن دون خوف، تفصح الحروف عمّا تريد؛ لأنها دائماً في منأى عن الاتهام. إنها تعين الشاعر على التعبير عن المحظور وتمنعه من العقاب في آن. إنها تستنطق الشاعر من عمق مخاوفه وتنطق هي عبره من عمق غموضها. إنها تجعل الشاعر يعمل قريباً من الخطوط الحمر وعليها، لكنها تعده دائماً بالأمن والأمان فتفي بوعدها: "الكلّ انطوى على نفسه/ كوتر مقطوع" (النقطة، ص93)، "أبي/ ضاقت النافذة/ بنفسها وتحطّمتْ/ ونزل زجاجُ الموتِ إلى الشارع/ فأزلته بلساني الجريح/ يا أبي" (النقطة، ص103).

 لا يعني هذا أن أديب كمال الدين جرّد نفسه لمقاومة مألوفية الشعر جنباً إلى جنب مقاومة الظلم. فبعض نصوصه تنجرف إلى ذاتها لتعبدها؛ وبذلك تنأى عن أنبل شيء خُلقت من أجله الرموز. ينجرف نصّ أديب، أحياناً وفي حماسة لا يكاد يوقفها معمار قصيدته الرصين، صوبَ هذيانات لا تضاهيها "شطحات" شاطح. إن نصّه الذي اعتدنا على رزانته يشطح في تعميات لغوية هي، في الحقيقة، استجابة لاشعورية للضغط الهائل الذي تمارسه نصوص جيله على شعريته المنفلتة من إسار التجييل في الآن نفسه:

 الزمنُ غبار

واليومُ قش

والساعة رماد

وإذ أمسك الشاعر

بغينِ الغبارِ وقافِ القشِ وراءِ الرماد

تحوّل إلى حرفٍ لا نقطة فيه

لا بهجة ولا نار.  (النقطة، ص57-58)

ومع ذلك، كم هو موهم اعتبار تلك "الشطحات" سمة تَجرُد نصّ أديب ضمن سلسلة طويلة من  النصوص الشعرية في حقبة السبعينيات بالعراق. والسبب من وراء ذلك هو قلة هذه الشطحات، والعودة الكاسحة لنصوصه نحو أحضان مرتبطة بطريقة أو أخرى بالمحيط بكلّ تجلياته. في نصوص أديب ترزح الحروف تحت سلاسل من المعاني السلبية والإيجابية؛ فهي النصوص كما أنها الذوات، وبين كونها نصوصاً وذواتاً ثمة حلقات في السلاسل المديدة أيضاً. ولكي نصل إلى "معاني الحروف" هذه، لا مناص من تسوية مصاعب جمة تضعها الحروف والنقطة في طريق التأويل.

مع "النقطة" نستشعر محاولات أخرى غير تلك التي بوّب الشاعر نصوصه على وفقها. إنها "محاولات" أخرى ذات مسحة غيبية، وربما تنجيمية، وأديب كمال الدين شخص ذو نفس مشبعة بالطقوس: ذات الشاعر تشهد جملة من التحولات؛ فهي تكتسي سيماء المنجِّم، والصوفي، والعرّاف، والضارع إلى الغيب في شهوده القاسي. وفي لحظات من نصّه وحياته، ينتابنا شعور بالرتابة والوتيرية، فيبدو النصّ من خلالنا ذا تكرار طقسي في بنيته ودلالاته: (ينظر مثلاً "محاولة في دم النقطة" بمقاطعها التسعة)، وهنا نموذج منها:

خرجت النقطةُ من الباب

كانت عسلاً أسود  

فتبعها كلّ ذبابِ الزمن.  (النقطة، ص17)

وسوف تسير بنية هذه المحاولة على الوتيرة عينها، على هذا النسق التركيبي نفسه، لننظر مثلاً إلى المقطع الآتي:

   كانت النقطة نوراً يلفّ كلّ شيء

   نوراً خرج لينير سواد طفولتي

   فحاول قتله كلُّ ظلام الأرض. (النقطة، ص18)

 ثمة "محاولة في الرثاء"، هي محاولة لممارسة التشخيص أيضاً. في هذه المحاولة تظهر الحروف كذوات. لكن الحروف فيها كانت بلا نقاط، وحين تكون الحروف مصطفةً بلا نقاط تكون ملتبسة، وليست هناك ذوات مصطفة وملتبسة إلا إذا مُسخت؛ أي إذا نُزعت عنها ذاتيتها وخصوصيتها لتكون ذواتاً متشابهة وبلا ملامح. وإذا عرفنا أن هذه الذوات الملتبسة، فاقدة الملامح تساق بوحشية إلى ساحة الموت، عرفنا أن الحروف تتمرأى جنوداً، ولنلاحظ ذلك حين يضرع الشاعر إلى حلمه، ويفتقد عطفه:

في الصيحة الأربعين

قلتُ:

أيّها الحلم

يا مَن يظهر ورق اللعب صورته

يميناً ويساراً

يساراً ويميناً

كم افتقدنا عطفك

كم افتقدنا ركوبك الخيل والمساءات

سائلاً عنّا نحن الحروف التي بلا نقاط

والنقاط التي بلا مستقبل

والمستقبل الذي بلا معنى

والمعنى الذي بلا مغزى

والمغزى الذي يقودنا بوحشيةٍ إلى ساحةِ الموت. (النقطة، ص6)

    هذا الخطاب الحلمي، في هذا المقطع وفي الصيحة الأربعين، يمارس الاحتجاج عبر الحروف، الاحتجاج على الحرب من خلال الحرف. والطاقة التي يستغلها الشاعر ليست هي طاقة الحرف الذاتية، إذ ليس ثمة معنى للحرف هنا غير ذلك اللعب الذي ينتزع عبره الشاعر من الحرف نقاطه ليبلور صورة انتزاع الآراء والمشاعر من أشخاص مسلوبي الإرادة: الجنود. إن طاقة الحرف هنا تُختلق وتوجَّه مثلما توجَّه طاقة الجندي تماماً، ولا حيلة لكليهما سوى الإذعان.

أما في الباب الأربعين فقد يبدو الأمر مثيراً إلى حدّ أكبر:

 في الباب الأربعين

لم يكن الحلم ليأبه لصيحاتي وحشرجتي

كان الحلم هناك ……

ليس مع ملكاته

ليس مع خدمه وحشمه

ليس مع حراسه وعرشه وذهبه

ليس مع من يأتمرون بإشارته

كان الحلم هناك…

مقتولاً

كحرفٍ سقط من فمٍ أخرس

كموعدِ حبٍّ مزقته السكاكين

كنارٍ طيبةٍ بالتْ عليها الكلاب.

     هنا يوجد حرف في حلم، وحلم كحرف ساقط من فم أخرس. إنه كالضياع في الحياة تماماً. الحلم هو الحياة المرجوّة التي سقطت كحرف أجوف، وكموعد حبّ تبدّد في زحمة الهموم، أما البول على النار فهو غاية التحقير والاحتقار منذ أولئك القوم الذين "قالوا لأمهمُ بولي على النار". الحرف هنا ضياع وفقدان، وهو مظهر الحياة الذي يصف بؤسها. الحلم هنا حلم يحاكي الواقع بالضبط، ليس هو الحلم الرومانسي الذي ينصّب المرجوَّ ويناشده، إنه الحلم المقنّع بالواقع، والعكس صحيح. أما الحلم الذي يدغدغ الكيان الناعم والناعس فلا يتحقق ولا يجيء إلاّ في "محاولة في السحر"، يجيء بقدرة قادر وسحر ساحر. في تلك المحاولة، يقول الساحر الرابع من الصين: "أنا من يجعل الحلم باب اليقين" (ص11).

الحروف إذن متلوّنة. تبدو أحياناً كقطيع من الذوات المطواعة والمستكينة، لكنها تبدو، في أحايين أخرى، ذواتاً شريرة منافقة، وسخيفة تختلق الأكاذيب والترهات، تبدو عقبات في سبيل الخير. ففي "محاولة في أنا النقطة" (ص14)، تتخذ الحروف صورة الأشرار الذين يشوّهون صفاء النقطة ويشككون في معرفتها التي تتمتع بها بإطلاقية تامة. تبدو لي هذه المحاولة في "أنا النقطة" محاولة في "أنا الشاعر"، النقطة ذات الشاعر بمقابل الحروف كذوات أخرى. إنها محاولة في النرجسية الطاغية التي تنتصب فيها ذات الشاعر ذاتاً تحيط بكلّ شيء، ليس على طريقة: "فيَّ احتوى العالم الأكبر" كما يقول الشاعر (ص15)، بل على طريقة أنا وأنا وأنا ولا شيء غير ذلك:

 أنا النقطة

أنا بريق سيف الأصلع البطين

أنا خرافة الثورات وثورات الخرافة

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم

أنا ألف جريح

ونون فتحت لبَّها لمن هبّ ودبّ. (ص15)

في هذا التعداد المستشري للأنا ثمة التفاف يتجاوز به الشاعر ظلام النرجسية الموبوء إلى أنوار الغيرية. لكن مثل هذا الالتفاف قد يحدث وقد لا يحدث، وقد يعقب هذه الأنوار ظلام النرجسية نفسه:

 أنا النقطة

عرفتُ الحقيقة وعجنتها بيدي (ص15)

بل قد ينصّب الشاعر نفسه طاغية على كل شيء مثلما حدث في آخر قصائده التي تتخذ هذا المنحى: "ملك الحروف" (ينظر مجلة المسلة، ع2، السنة3، كانون الثاني 2002، ص34)، أو مثلما أسبغ على نفسه أسماء ملك الكلمات، وسلطان الحروف، وإمبراطور النقاط (ينظر: النقطة، ص38)، لذا كان لا بدّ للأمر من أن يصل إلى جنون العظمة: "حبّكِ قاد شعري/ إلى كنه الحروف والنقاط/ وقادني إلى العظمة/ إلى جنون العظمة" (النقطة، ص97).

إن الذات هنا أو النقطة تمنح كلّ شيء معناه: "أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى"، تختزل التاريخ: "فيّ تجمهر الماضي/ وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرة حاشدة"، وتختزل المعرفة واحتواء الحقيقة: "عرفتُ الحقيقة وعجنتها بيدي/ قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة"، أما المعرفة فهي خطيئة هذه الذات: "ما أفدح خطيئتي: خطيئة المعرفة"، وتعلن استقلاليتها عن الملل والنحل بأسرها: "بحثتُ عن اسمي لم أجده مع الهراطقة/ ولا مع الزنادقة ولا العبادلة/ ولا مع الرهبان ولا الكرادلة/ ولا مع المهزومين ولا المنتصرين/ ولا مع المتمترسين ولا المهاجرين/ ولا مع الطالبين ولا اللصوص"، وأخيراً تبدو النقطة (ذات الشاعر) تصطنع التقابل بينها وبين الحروف (الذوات الأخرى)، النقطة الخيّرة بمقابل الحروف الشريرة:

أنا النقطة

أنا مَنْ يهجوكم جميعاً

أيتها الحروف الميتة

سأهجو نفاقكم وسخفكم

سأهجو أكاذيبكم وترّهاتكم (ص16)

     إذن، النقطة مانحة المعنى والحياة، والحروف ميتة، والشاعر مانح المعنى للحروف الميتة التي قد تعيق نموّ معارفه بموتها. والحروف في ميتتها تُستذكَر صفاتها السيئة. وفي تقلبها بين هذه الصفات السيئة وصفات أخرى تواصل مجموعة "النقطة" شحن النقطة والحروف بمعانٍ أخرى. فالنقطة هي: عسل أسود، وجوهرة، وحلم، وطفلة/ امرأة، ونور، وخرافة، وهزأة، ومهرّج، وسيرك عظيم، وهي كريمة، تمسك بيد الشمس والحلم، وهي دم الجمال والمراهقة واللذة والسكاكين والدموع والخرافة والطائر المذبوح، والنقطة دم الشاعر (ينظر: "محاولة في دم النقطة"، ص17). أما الحروف فتحاول أحياناً أن تكون حروفاً فقط. الحروف مؤنسة، تتشكل أمام ناظري الشاعر في صمته ووحشته. الحروف تحاكي الموسيقى أيضاً: "الموسيقى تهبط بلاماتٍ عذبة كشفاه الأطفال/ وراءات تزقزق وسينات توسوس/ وندى من نونات" (محاولة في الموسيقى، ص27). والحروف تعانق معاني الحزن والحرية في تحولاتهما: "الموسيقى تتألق فتتحوّل الأحزان إلى حاء/ وتحوّل الحاء إلى حرية" (ص29). والحروف هي القصيدة التي تثقل كاهل الشاعر بمعاودتها زيارته كلّ حين:

حتّى الحروف صارت تتعبني

فهي الوحيدة التي تزورني في وحشتي الكبرى

دون أن تحمل في يدها باقة شمس

                                أو حفنة قمر

                                أو قبلات ريش. (النقطة، ص26-27)

الحروف هنا نصّ يبدّد الوحشة، لكنه نصّ ثقيل في الآن نفسه، إنه نصّ غائم بلا شمس أو قمر أو مواساة. هذا النصّ الحروفي هو حمّى الشاعر في وحشته، وهو ما يمكن أن يُنسَج من تلافيف قلب الشاعر الممتلئ بالأبجديات: "ومنذ أن تعرفتُ إلى قلبي/ وجدتُه ممتلئاً بالأبجديات" (ص28)، الشاعر الممتلئ بالأبجديات له نقاطه وحروفه التي لا يفرح إلا بها وبنفسه: "أما أنا فكالموسيقى/ لا أفرح إلاّ بنفسي/ ولا أندمج إلاّ بنقاطي وحروفي" (ص29). الحروف أدوات للتعبير، إنها تفصح عن وجه الشاعر وعن آلامه:

 "قالت سكينة النور: ما للشعر والحروف؟

 قلتُ: حتّى أرسم ملامح وجهي وصيحات قلبي

 في كتابٍ جديد" (النقطة، ص34).

 إن قراءة شعر أديب كمال الدين عبر مجموعته "النقطة" تشبه إلى حدّ كبير ما قاله في إحدى "محاولاته":

في سُلّم الحظ

كلما صعدتُ درجةً هوتْ تحت ناظري

وبدا السُلّمُ عميقاً حدّ اللعنة. (النقطة، ص109)

     إنها تشبه "سُلّم الحظ" تماماً، فنحن كلما ظننا بأننا نشرف عليها، ونحيط بتفصيلات كافية لتقديم معرفة بصددها، بدت لنا أكثر عمقاً، وأكثر سَعَةً، وأكثر تناقضاً أيضاً، ولاحت لنا خبرة تلك السنوات الطويلة التي تختفي خلف هذه "المحاولات"، سنوات الكتابة، والتأمل، وممارسة الحياة.

         ينتمي الشاعر أديب كمال الدين، بموجب فكرة ذات صيت سيئ، إلى جيل شعراء السبعينات بالعراق، لكن مجموعته "النقطة" لا تنتمي، قطعاً، إلى الهموم والأساليب والأفكار التي لفّتْ هذا الجيل وتلك الحقبة. إن الحرف هو ما يختزل تجربة أديب الشعرية، ونصوصه تحاول أن تستبطن "معاني الحروف"، فضلاً عن كونها تستدعي تداولاً مختلفاً ليس هو التداول العصيّ الذي نعانيه في نصوص مجايليه. ومع ذلك، يبقى ثمة سؤال مهم: كيف يمكن أن نقرأ "النقطة" وهي تخطّ عالماً حروفياً ملتبساً وذا خصوصية شعورية تندّ عن الوصف؟ ثمّ إن للحرف دلالات متعددة هي الأخرى تتسع لتشمل عوالم غامضة تتقلب بين الناحية الرمزية والصوفية وحتّى الشكلية، وأخيراً قد يكون اللجوء إلى الحروف إنما هو خيار لتلغيز الوجدان والفكر لتبدو بعد ذلك الحروفية كتوجّه شعري يؤمّن هرباً من بطش الحياة. وفي هذه الناحية الأخيرة بالضبط توضع تجربة أديب كمال الدين على المحكّ، لأنه إذا ما كان خيار الحروفية خياراً تلغيزياً حسب فإنه سيتماهى مع التهويم الموجع الذي عززه جيل السبعينات في الشعر العراقي، وإنْ تكن لأديب أساليبه الخاصة في هذا التلغيز.

قد يُشَمّ، في بعض الأحيان، أن انصياعاً قسرياً يجرّ الشاعر إلى تلك الطرق التي ألِفها شعراء جيله: الطرق التي يسكنها الضباب الكثيف، الطرق الوعرة بفعل وحشتها، الطرق التي لا تؤدي إلى شيء، وهي لم تؤدِّ إلى شيء فعلاً.

يتيح اتخاذُ الحرف بنيةً تعبيريةً الانفرادَ بتمثيل رمزي قلما حاول الشعراء إشباعه، فهذا الميدان ربما أشبعه الرسامون بلوحاتهم، لكنه ظلّ مهجوراً من طرف الشعراء. والحرف بوصفه رمزاً يستثير الإنسان خالق الرموز، ويمكن أن يمثّل رافداً للوعي الإنساني يجعله يبحث عن طرق جديدة لربط عالم الحسّ بمعانٍ جديدة أيضاً. لكن خطورة مثل هذا المسلك، في أثناء ممارسة الترميز، تكمن في الإمكانية الكبيرة لتحوّل التمثيلات الرمزية إلى عوالم مغلقة، أي أن الرموز المتولدة عن استعمال الحرف بنية تعبيرية قد تفصل الواقع المعيش عن تجربة التمثيل الرمزي؛ وبذلك تعلو الرموز على الواقع، وتنفصل عن ما يجب إدراجه فيها. إنها إذن لعبة خطرة: فإلى أيّ مدى نجح أديب كمال الدين في استثمار الحرف بنية تعبيرية لترشيح رموز تبقى، رغم تجريديتها، تعانق العالم المرئي؟ ذلكم هو مدخلي لقراءة "النقطة"، وأرى أن مثل هذا المدخل يوفّر إمكانية بقاء النقد أيضاً معانقاً للواقع: واقع الشعر وواقع ما يعبّر عنه.

تبدو الإجابة عن هذا السؤال، لأول وهلة، واضحة. إذ لا صلة بين الواقع والتمثيل الرمزي الذي يتخذ من الحرف أداة. وربما تتسع دائرة الإجابة لتشمل كلّ تجربة داخلية (دينية، صوفية)، فمثل هذه التجارب لا يمكنها التعامل مع معطيات حسية عيانية، ونحن أيضاً لا يمكن أن نفكّر في تعبيريتها على نحو حرفي. لنفترض أن أديب كمال الدين حريص على أن يطلّ من داخله (المستغرق في نزعة صوفية) على الحياة (حياتنا جميعاً) التي توقظ المنتشي بأوهامه، وتهزّ رخيّ البال. مع هذا الافتراض، هل يمكن القول إن التجربة الحروفية في "النقطة" قادرة على التغلغل في أعماق الروح وسطح الواقع في آن؟

  وفي الحقيقة، فإن أديب كمال الدين يضحّي بالواقع من أجل تجربته الداخلية، أولاً لأنه لا سبيل بالمطلق للتعبير عن التجارب الدينية والصوفية ـ ولأديب تجربته في هذا المضمارـ سوى الاتكاء على الرموز، ثانياً لأن الواقع بالنسبة لذوي التوجّه الصوفي لا يمثل الحقيقة إطلاقاً، ومن ثمّ يجب صبّ الجهود بأسرها من أجل التعبير عن العالم الجواني. ولأن العالم الروحي عالم يندّ عن الإدراك عقلياً، فإن اللجوء إلى الترميز إنما هو الحلّ الوحيد لتسويغ وجود العالم الروحي وجدانياً، وطغيانه شعورياً.

 هكذا تكون "النقطة" في وضع تحدٍّ لا يدع مجالاً لإهمال شيء من أجل تعزيز شيء آخر. فأما أن تؤثر عالمك الخاص أو أن تندرج ضمن عوالم متنوعة، وأية صيغة توفيقية بين الاثنين ستتحمل، من دون شك، خطر إمكانية تشويه الاثنين. إن أيّ تجريد ينفصل عن أية ظاهرة خارجية. ومحاولة الاقتراب من الواقع تجريدياً إنما هو عبث لا طائل من ورائه. والتجريد الفعلي، كما في حركات الفنّ التشكيلي، لم يكن من مقاصده تناول الواقع. والحروفية، في جانبها التشكيلي، تتبع هذا الخط باستثناء أنها تعلقت بشي فجّر خصوصيتها: الحرف. ويمكن نقل هذه الحجة إلى منطقة الشعر، فالتجريد في شعر "النقطة" إنما هو وضع قائم ولا مراء فيه، ولا انفكاك لتوجّه أديب كمال الدين عنه. ومع ذلك فهو يحاول ـ تحت ضغط اللحظة وعنفها والمسؤولية التي تلقيها على عاتق كلّ ذي عاتق ـ أن يطوّع التجريد للتنويه، مجرد التنويه، للواقع. ومن هنا يحيا شعر "النقطة" صراعاً بين أصول التجريد المحلِّق والضرورة التي تطأطئ العنق صوب الأرض، أو بين صياغة الحكمة والتعبير عن الواقع:

 في ظهيرة تموزية

جلستُ تحت سنّ الشمس

فطحنني الحرُّ حتّى ابتلّتْ ثيابي

(…)

أنا المحروم حدّ اللعنة

وعذّبني الجوع

والرغيف هنا مغموس بالدم

وأثقلني الفراتُ بالندم ……… (النقطة، ص10)

     هي ذي فسحة تطلّ بها الذات على الواقع، واقعها الذي يصار إلى تعميمه عبر حكاية تكتسي طابع الخرافة، حكاية السحرة الذين يحاول أن يلوذ بهم كلّ محبط عسى أن ينتشله أحدهم من جحيم الحياة إلى مسراتها، هي "محاولة في السحر"، تمرّر الألم بين ظلال السحرة وبهلوانياتهم. أما "محاولة في الانتظار" فتغادر حقاً اللهث وراء النقاط والحروف لتعبر أصدق تعبير عن الحياة، ودعماً لقولنا إن نصوص الحروف تتجاوز أحياناً عالمها المشبع بالباطن، وإن أديب كمال الدين يراوح في النقطة بين إطلالتين: على الخارج والداخل بالتناوب أو في آن، ربما يكون من المناسب أن نختتم هذه المحاولة أيضاً بالتحديق في مقطع محاولته في الانتظار:

 مَن ينتظر مَن؟

الشمسُ تنتظر الشارع

أم الشارع ينتظر الناس: مغفّلين وشحّاذين؟

الحقولُ تنتظر النحل

أم النحل ينتظر الأزهار؟

الخوفُ ينتظر الموت

أم الموت ينتظر الظلام؟

مَن ينتظر مَن؟

الخيبةُ تنتظر المفاجأة

أم المفاجأة تنتظر اللاجدوى؟

العبثُ ينتظر الأكاذيب

أم النساء ينتظرن الثرثرة؟

الجسرُ ينتظر الفرات

أم الفرات ينتظر الجسر الأحدب؟

الشاعرُ ينتظر الحروف

أم الحروف تنتظر النقاط؟

مَن ينتظر مَن؟

القاتلُ ينتظر الضحية

أم الضحية تنتظر السكين؟

(…)   (النقطة، ص43-44)

 هنا تصل المعالجة في "النقطة" حدّ امتزاج كلّ شيء بكلّ شيء، الرموز بالمدلولات، الحرفي بالاستعاري، وترتقي فيها قيم الكلمات إلى إشاعة حسّ عام برفض المحيط ليس انطلاقاً من عزلة الصوفي وإنما من رغبة المفعم بالحياة في محاولة صياغتها على نحو أفضل.

 ***********************

* اتخذ أديب كمال الدين الحروفية طريقة تميّز بها من بين الشعراء المعاصرين له. ينظر بهذا الصدد مجموعاته: جيم، ونون، وأخبار المعنى.

  

 

هاملت أديب كمال الدين

د. عدنان الظاهر

ص 177 - 183

 

  

     أهدى لي الشاعر (أديب) مجموعتين من مجاميعه الشعرية. قرأتهما على مهل فاستوقفتني فيهما قصيدتان بشكل خاص. تحمل القصيدة الأولى عنوان "محاولة في هاملت" [كتاب النقطة 2001 ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت]، وتحمل الثانية عنوان "صورة الولد في ورق اللعب" [كتاب حاء 2002 ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت].

كتب الكثير من الأساتذة  والشعراء والنقّاد عن الشاعر وخصوصيات تجربته الشعرية وقالوا فيه ما يستحق من تقويم وإعجاب وتفرّد في دنيا الشعر. لكني وجدتُ نفسي أخالفهم جميعاً في أمر قد أجمعوا عليه: التركيز على ظاهرة الحرف والنقطة في أشعار شاعرنا أديب كمال الدين. لم يضفْ أديب الشاعر والمفكّر والمثقف شيئاً جديداً عمّا قاله وبحث فيه (جابر بن حيان الصوفي الكوفي الأزدي) المفكّر والمحسوب على كيمياء القرن الثاني الهجري. أنفق هذا الرجل الكثير من وقته في معالجة ظاهرة الحرف ومدلولاته السحرية وعلاقته بمضمون المسميات الدال عليها (د.  زكي نجيب محمود في كتابه: جابر بن حيان/  الهيئة المصرية العامة  للكتاب ـ 1975: أقصد الموضوعين التاليين: الحروف وطبائع الأشياء. ميزان الحروف. الصفحات 131 ـ 147).   لا أروم الخوض في تفصيلات هذا الأمر، فذلكم موضوع آخر ولكل حادثٍ حديث كما يُقال. أردت أن أقول إنَّ شعر هذا الشاعر المتميز لغةًً وموهبةًً إنما هو شعر كبير ومتميز بصرف النظر عن تركيز الشاعر ومن قام بنقده وتقويمه على ظاهرة النقطة والحرف. لست معنياً ـ كقارئ ـ بعلاقة الشاعر برمز الحرف ودلالته الروحية ـ الصوفية ـ التأريخية لا من قريب ولا من بعيد. ربما تأثر الشاعر بمطالع بعض آيات القرآن الكريم من قبيل (كهيعص... ألف ميم نون، وغيرها مما نقرأ في القرآن والتي لم يُحسم الجدل والتفسير حولها بعدُ).

  أقرأ مقطوعات كتابي الشاعر فأجد نفسي وجهاً لوجه أمام شاعر لا يشبه غيره من الشعراء. وهذا ما أتوقعه وما كنتُ قد أكّدتُ عليه في كل ما كتبت عن قصيدة الشعر المنثور. شعراء هذا الضرب من الفن أمراء على إمارة شعرهم...أباطرة على إمبراطورات شعرهم... ملوك ممالكهم الخاصة  بتيجان وأكاليل غار على هاماتهم.

   لغة شاعرنا لغة بسيطة واضحة الدلالات لكنها تستبطن موروثاً عميقاً وتوظّف مخزوناً ثقافياً عريضاً واسع الآفاق. وقبل هذا وذاك نجد في طوق الشاعر مُكنة خاصة به على قول الأشعار المؤثرة واضحة الأهداف، يُنفّذها بأشكال مباشرة دقيقة الإتجاه والتصويب،  لكأنها تسعى عارفةً أهدافها ومواقع التأثير في نفوس قارئيها. نعم، كل شاعر هو أمير على إمارة شعره وسيد صنعته ومالك قلمه وما يخط من حروف.

محاولة في هاملت

   كيف وقع إختياري على هذه القصيدة؟ كتبتُ ونشرتُ في موقع "الكاتب العراقي" مقالةً بعنوان (هاملت البياتي وقباني) قارنتُ فيها بين قصيدتين لهذين الشاعرين المعروفين تحملان اسم هاملت، بطل مسرحية شكسبير المعروفة باسم (هاملت أمير الدنمارك). بيّنتُ في دراستي تلك بُعد كلا الشاعرين عن جوهر مسرحية شكسبير وعن دقائق طبيعة ومهمات هاملت. لكني وجدتُ الشاعر أديب كمال الدين الذي تفصله عن هذين الشاعرين المعروفين فترة زمنية  تقارب الثلاثة عقود... وجدته أفضل من كتب وتناول موضوع هاملت وقد تفوّق كثيراً على كل من الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي والشاعر السوري نزار قبّاني.

 كيف؟ سؤال وجيه من حق القارئ أن يسأله. لا بدَّ للمقارنة من الرجوع لمقالتي سالفة الذكر، بخصوص هاملت البياتي والقباني. هاملت أديب كمال الدين أقرب كثيراً لهاملت شكسبير الحقيقي الذي ابتعد عنه الشاعران المعروفان الآخران. حوّلاه إلى مسخرة وشوّها رسالته النبيلة التي ضحى بنفسه من أجلها: كشف القتلة ومن تستّر على الجريمة ثم الانتقام لدم أبيه من قاتليه. حتّى نزار شاعر النسوان والجنس والآيروتيكا الفاضحة.... حتّى نزار لم يتطرق إلى ذكر الصبية الجميلة الوحيدة في المسرحية: أوفيليا التي ماتت غرقاً بعد مقتل أبيها. على الضد من ذلك، نجد الشاعر أديب يفتتح قصيدته بمخاطبة أوفيليا على لسان هاملت:  Hamlet

أوفيليا،

يا غيمةَ البراءة،

أخبريني كيف اجتمعت الدنيا في جسدك

ثم ضاعت في الماء؟

أخبريني كيف قُتِلَ أبي

وكيف أباحت أُمّي طيورَ طفولتي للثعبان؟

كيف قادني الشبحُ إلى الشبح

والموتُ إلى الطوفان؟

لقد برع الشاعر في تلخيص مأساة هاملت كلها في ثمانية أسطر لا أكثر:

1 ـ  مقتل والده

2 ـ  خيانة أمّه

3 ـ  شائعة موت الوالد بلسعة أفعى سامة

4 ـ ظهور شبح والد هاملت فوق أبراج قلعة آلسينور وكشفه لابنه حقيقة مقتله لا بأنياب أفعى سامة ولكن بزئبق سكبه عم هاملت (أخ الملك السابق)  في أُذنه ثم تزوّج أم هاملت (زوج الملك القتيل).

5 ـ  غرق أوفيليا

   هذه هي أهم أحداث المسرحية وقد لخّصها الشاعر أديب كمال الدين برشاقة وسرعة ببضعة أسطر. وقد جعلها مُفتتحاً لقصيدته التي حملت عنوان (محاولة في هاملت).

لِمَ إختار الشاعر مأساة أوفيليا غريقةً كمُفتتح لقصيدته وقد سبقها حادث مقتل أبيها (بولونيوس) على يد هاملت؟ لِمَ يتطرق الشاعر لهذا الحادث، الذي قد يكون سبب غرق أوفيليا مصادفةً وجزعاً بعد مقتل أبيها من الحياة، أو انتحاراً مع سبق الإصرار. في الشاعر ميل قوي لمخاطبة الجنس الآخر، ميل غريزي، فلقد جاء منه (الأم) وسكنَ إليه (القرينة) وكرر ظاهرة الأم بإنجابه بنتاً. إنه محاصر بمثلث متساوي الأضلاع: الأم ـ الزوج ـ البنت. لذا نراه قد اندفع أماماً إندفاعة سهم يعرف بدقة هدفه فسعى إليه بجسارة وهيبة: المرأة/ أوفيليا. أحب الشاعرُ أوفيليا المسرحية، إذ وجد فيها ضالته ورمز الجمال المتخيّل. دخل في هاملت فخاطبها بكلمات لم يقلها هاملت. قال فيها شعراً أو غزلاً أو كلاماً جميلاً لكنه سَرعان ما انقلب عليه فنفاه، ثم شرع بالتهكم والسخرية من الصبية أوفيليا من قبيل: هل أنتِ شريفة؟ اذهبي إلى الدير. ترهّبي. ثم يسألها بشكل فجائي: أين أبوك؟ قرأ أديب مسرحية شكسبير هذه دون ريب. قرأها شاعراً ثم قرأها طالباً في كلية اللغات الأجنبية/ فرع اللغة الإنجليزية.

يتغزّل الشاعر في المقطعين الثاني والثالث بجسد وجمال أوفيليا (جسدكِ المقمر مرثاة عمري.... دعيني أتعرّف إلى ـ هكذا وردت، الأصح على ـ جسدك البضّ... دعيني أتعرف إلى أصابعك لأعرفَ سرّ الفرح....دعيني أتعرف إلى بطنكِ النحيل لأعرفَ سرّ الطفولة والطمأنينة). ثمَّ (أوفيليا...جمالكِ الأسطوري عذّبني كل يوم حتّى قادني إلى منافي الكلمات...ورضابكِ أبهجني مثلما يبتهج الساحرُ بالصاعقة... فضميني قبل أن تهلكَ آخر قطرات دمي معك... ضميني قبل أن يأكلني الماء).هل في رأس وذاكرة الشاعر امرأةٌ سبق وأن وقع في غرامها في الزمن السالف فيها شبه ما من أوفيليا جسداً أو وجهاً؟ جائز. يحصل ذلك مع الجميع! أوفيليا الشاعر أديب هي بصورة ما آلهة الجمال (فينوس) أو(أفروديت) أو آلهة الجنس والخصوبة العراقية القديمة (عشتار السومرية). هل في أديب شيء من حبيبها (تمّوز) الذي يختفي نصف عام ويظهر في النصف الآخر؟ لا، ولكنَّ أوفيليا هي التي غابت بالموت غَرَقاً الغيبة الأبدية.

     أنهى الشاعر هذه القصيدة نهايةً رائعةً جمع فيها كل ما يعرف من ثقافة معاصرة وتراث عراقي عريق ضارب في القِدم. نقرأ المقطع الرابع والأخير:

مدّت أوفيليا يدها إليَّ

لكنْ ما أنْ قبّلتُ أصابعها المترفة

حتّى تحوّلتْ إلى خناجر وشتائم

ما أنْ قبّلتُ صدرَها الفاتن

حتّى خرجت المَرَدةُ والشياطين

وأحاطتْ بي من كلّ جانب

وما أنْ قبّلتُ شفتيها

حتّى خرجت الأفعى إليَّ

فسقتني السُمَّ

لأموتَ إلى الأبدْ.

     يبدأ الشاعر [الذي يذكّرني بأورفيوس] بالحركة من الأسفل إلى الأعلى. يقبّل يد أوفيليا أولاً ثم ينتقل إلى أعلى فيقبِّل صدرها لينتهي بتقبيل شفتيها. هذه تقنية وجدتها في الكثير من أشعار أديب: انتقالات رأسية فيها جنوح رمزي نحو الصعود  والتسامي الأمر الذي يدلُّ دلالة قوية على ما في هذا الإنسان من مطامح وقوى دافعة نحو شكل من أشكال المجد الأدبي ـ الشعري والشخصي. ولا غرابة في ذلك، إذ يكفي أن نُلقي نظرة على موجز تأريخ الشاعر لندرك على الفور سعة طموحاته وكثرة ما حقق من هذه المطامح والتطلعات. هذا المقطع غريب بقدر ما هو عميق و مثير. ما وجه الغرابة والإثارة فيه؟ في  مقطع القصيدة الأول مثّل الشاعر دور هاملت عاشقاً مغازلاً ومتسائلاً يبحث عن أجوبة صعبة المنال، لأنَّ طابعها العام هو الموت. وهل هناك ما هو أكثر غرابة وإثارةً من الموت؟! (كيف اجتمعت الدنيا في جسدك ثم ضاعت في الماء ؟)... (أخبريني كيف قُتِلَ أبي؟)... (وكيف أباحت أُمّي طيور طفولتي للثعبان؟)... ( كيف قادني الشبحُ للشبح ؟). هاملت الشاب يسأل صبية ماتت غرقاً أسئلة غاية في الإحراج. لكأنه ـ مثل جلجامش السومري ـ يمتحن أوجه الموت وكيف ينجو من مخالبه وكيف يعيش حياةً أبدية لا موت فيها. ما طعم الموت يا قتيلة؟ هل أنا سبب موتك غرقاً في البحيرة لأنني قتلتُ أباك خطأً وكان المقصود عمّي قاتل أبي وزوج أمي المتواطئة؟ كان يتدرّب على قبول الموت وكان  يُجري تمرينات ويمارس أنواعاً من الرياضة النفسية كما المتصوفة والدراويش ليبلغ أقصى درجات التخدير وليأتي الموت بعد ذلك فـ(ما لِجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ) كما قال المتنبي. هاملت يستجوب فتاة لا وجود لها إلاّ تحت أديم الأرض جثّةً هامدة. يمارس أمامها طقوساً غريبة لم يمارسها قبله إلاّ جلجامش سومر. البشر يخافون الموت.. السفر الذي لا رجعة من بعده.

   جميل أن يجمع أديب ما بين هاملت الذي ما زال حيّاً وفتاة زالت من الوجود. وضع الحياة والموت وجهاً لوجه. وضع هاملت أمام ضحيته التي لم تكن لتموت لولا قتله لأبيها. أوفيليا لا تجيب. لا وجود لها على الأرض. لم يعدْ لها ثمّةَ من وجود. أحسبُ أنَّ الشاعر أديب (ما علاقة الاسم أديب بأوديب؟) أراد توظيف بعض التكهنات أو التفسيرات التي تقول إنَّ هاملت كان مجنوناً أو مضطرب العقل أو فيه مسٌّ من خبال. وإلاّ كيف يخاطب حيٌّ ميتاً؟ هنا برز ذكاء الشاعر على مسرح الأحداث ليذكِّرنا أنْ ليس في الأمر من غرابة: أَفلمْ يخاطبه شبح أبيه القتيل فوق أبراج قلعة آلسينور مبيّناً له تفاصيل مقتله وكاشفاً هوية القاتل وحاثّاً أن ينتقم له من قاتله؟ (إذا كانت الطبيعة سويةً فيك انتفض). رجلٌ ميت يكلِّمُ نجله، فما المانع في أن يكلّمٌ هذا النجلُ الحي فتاة ميّتة؟ (كيف قادني الشبحُ  إلى الشبح ؟). هذا ما قاله أديب الشاعر.

ما علاقة هذا المقطع بالمقطع الأخير؟ كيف ترتدُّ البداية  لتناقض النهاية؟ كيف يؤول الغزل والوله والأسئلة الوجودية المحيّرة إلى شتائم وخناجر وعقوق وشياطين وسم وأفعى؟ يتحول إصبع أوفيليا إلى خنجر، وتخرج من صدرها مَرَدةٌ وشياطين، وتخرج من شفتيها أفعىً سامّة تقتل (أورفيوس) الذي غامر بالنزول إلى  العالم السفلي لإنقاذ زوجه (أويريدكا). إنها لنهاية رائعة. فيها من  الفكر والفلسفة أضعاف ما فيها من أهوال وفضائع. ومن ذا يلوم أوفيليا الصبية ضحية مخططات ومؤامرات القصر الملكي ونذالة والدها (بولونيوس) وخبثه واتهامه هاملت بالجنون واستخدامها وسيلة ساذجة لكشف هذا الجنون المزعوم؟

   أوفيليا... تنتقم من هاملت قاتل أبيها. لا تُصفحُ عن هذا القاتل الذي جاءها معتذراً عمّا فعل... لا تقبل ما يطبع على أناملها من قُبل زائفة، فهذه الأنامل خناجر وسباب.  وترفض تلك التي وضعها على صدرها ففي صدرها حقد على قاتل أبيها أكبر من كل المَرَدة والشياطين. أخيراً... حين يُقبِّلُ ثغرها يتحول لسانها إلى أفعى حقيقية قاتلة تسقيه سُمّاً  لا (زئبقاً) كذاك الذي صبّه عمه في أُذن أبيه في ساعة قيلولته في حدائق قصره الملكي في الدنمارك ثم زعمَ أنَّ أفعى سامّة قتلته.

   نهاية ما كان شكسبير يحلم بها أبداً. فيها تفسير جديد للرواية. فلا مبارزة أخيرة بين هاملت وشقيق أوفيليا (لايرتس) حيث يسقط الاثنان قتيلين، ولا موت أمه بالسم الذي أعدّه زوجها لهاملت، ولا مصرع هذا الزوج بطعنة من هاملت. أنهت أوفيليا المظلومة المسرحيةَ بقتل هاملت... أصل البلاء. قتل والدها فقتلت نفسها جزعاً من هول المصيبة. أهملها هاملت وأهانها في حياتها ثم قتل أباها. جاء الآن دورها لتنتقم من قاتل أبيها ومن كان السبب في موتها. لا جوابَ لحب هاملت وهي في عداد الموتى إلاّ الموت بسم أفعى حقيقية ليست مزعومة. أفعى حيةٌ قتّالة تطلع من فم امرأة ميّتة. المرأة تنتقم حتّى لو كانت في عالم الأموات. وهذا هو الحب القاتل (ومن الحب ما قتل) ... على حد تعبير بعض الشعراء.

أليس هذا إبداعاً متميّزاً وعملية خلق لما نعرف من تراث ومأثور؟ لوحة جديدة ما فكّر قطُّ شكسبير بها. فيها الكثير من العِبر وفيها رصيد ضخم من التفكير الذي ربما هبط على الشاعر في لحظ إلهام نادرة.

 

   

 

ظاهرة التكرار الإيقاعي في (النقطة)

 

أ‌.      د . عبد الواحد محمد

 ص 185 - 191

 

 

1ـ تمهيـد: بعد قراءة قصائد ديوان (النقطة) الثلاثين لاحظت أن جميع عناوين القصائد تبدأ بكلمة محاولة، ويبدو أن الشاعر فعل ذلك عامداً، ربما ليوحي إلى القارئ بأن ما فعله في كل قصيدة لا يعدو سوى (محاولة) أولى قد تتبعها محاولات أخرى في الثيمة التي اختارها، وبذلك تظل قصائده مشاريع مفتوحة لمحاولات شعرية مستقبلية قادمة، في سماء (الحروفية) التي لانهاية لها. وهذا يعني أنه في حالة طموح دائـم للتحليق الطليق بين نجوم سماء الحروفية.

إنّ جميع القصائد مقطّعة تقطيعاً رقمياً ماعدا قصائد هي: محاولة في أنا النقطة ومحاولة في الحروف ومحاولة في الجنون ومحاولة في الرصاصة. وبالطبع كان لهذا التقطيع أثر بارز في إتاحة المجال للشاعر بأن ينفلت من قيود الزمن والرتابة ورعب المنطق الجامد، وأن يتسلل خفيفاً إلى بوابات الحلم النحيل كموعد ضائع والطيّب كنارٍ بدوية وإلى امرأة أحلى من العسل وأصابع كفّ تجعل الحلمَ ـ أيّ حلم ـ بابَ اليقين. وفي النقطة وجد الشاعر (حلماً مليئاً بالدفء الباذخ) إذ كانت النقطة تمسك الشمس بيد، وتمسك الحلم بيد أخرى.

وكرّس الشاعر ست قصائد فقط عن (النقطة) التي هي عنوان الديوان وهي: محاولة في أنا النقطة ومحاولة في دم النقطة ومحاولة في سؤال النقطة ومحاولة في دخول النقطة ومحاولة في حقيقة النقطة ومحاولة في فرح النقطة وهذه القصائد بحد ذاتها تشكّل، إذا جُمعت سوية، مدخلاً رحباً إلى عالم الديوان. وإذا ألقينا نظرة على القصائد في الصفحـات40 و53 و62  نلاحظ، تدرّجاً  في المحاولات تبدأ بالسؤال، وتنتقـل إلى الدخول وتستقر إلى الحقيقة، ومن ثم ينتهي بها المطاف في فـرح النقطة ومع ما تحظى به هذه القصائد من استقلالية، إلاّ أنها لا تنفصل عن التيار العام للقصائد الأخرى.

إنّ هذا الديوان يفتح أمام الناقد أبواباً مختلفة لأداء مهمته النقدية. فهناك بـاب للنقد السايكولوجي وباب  للنقد الواقعي وللنقد الواقعي السحري وباب للنقد الاجتماعي، وباب للنقد الشكلي أي للنقد اللغوي ـ الأسلوبي، والنوع الأخير هو الذي نعتمد عليه في هذه الدراسة القصيرة. وفي ضوء النظرة اللغوية ـ الأسلوبية نلاحظ أن تكرار علامة بارزة ومهيمنه هيمنة تامة في جميع القصائد، والتكرار برأي بعض النقاد  يعكس أذانا مؤهّلة جيداً للموسيقى واللحن في اللغةـ  كما أنه يميل لخلق قصيدة كلامية وليست مكتوبة ويأتي التكرار تحت تأثير اللحظة العاطفية والذهنية التي طالما تتأجج عندما يكرّس الشاعر نفسه بؤرة مشعة لعاطفة تجتاحه أو فكرة تخلب لبّه.                        

2 ـ التكرار: يكون التكرار بالمفردات المستقلة وبالعبارات وبالجمل، ويأتي بأشكال مختلفة هى تكرار الـ  anaphoraويعني تكرار الكلمات والعبارات الأولى في أبيات متعاقبة، وتكرار الـ   epistrophe ويعني تكرار الكلمات والعبارات الأخيرة نفسها في نهاية الأبيات وتكرار الـ symploce ويعني تكرار الكلمات والعبارات نفسها في بداية ونهاية الأبيات، وتكرارالـ anadiplosis ويعني تكرار الكلمات والعبارات نفسها الواردة في نهاية الأبيات، في بداية الأبيات التالية، والأمثلة على ذلك ( حسب التسلسل السابق) كالآتي:

 1 ـ تكرار اللفظة في أوائل الأبيات:

(أنا النقطة

أنا بريقُ سيف الأصلع البطين

أنا خرافةُ الثورات وثورات الخرافة

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له.) ص 14

 *

(كانت النقطةُ دمَ الجمال

دمَ المراهقة

دمَ اللذة

دم َالسكاكين

دمَ الدموع

دمَ الخرافة

دمَ الطائر المذبوح

كانت النقطة دمي

أنا تمثال الشمع). ص 21

*

(واأسفاه يا حروفي الغامضات

واأسفاه يا نسائي الضائعات

واأسفاه يا أقنعتي التي لا تكفّ عن فضحي

واأسفاه يا سنيني التي تلاحق بعضها بعضاً

دون معنى أو بعض معنى

واأسفاه يا عريي الذي أحاط بي

كما يحيط الجنودُ برجلٍ أعزل). ص 23

*

(من أنت ِ

حتّى أكتب إليكِ إلياذتي المعاصرة

اكشفي عن أنانيتك

حتّى أريكِ يتمي

واكشفي لي عن بخلك

حتّى أريكِ نخلتي

واكشفي لي عن غموضكِ ومؤامراتك

حتّى أريكِ وضوحي وسذاجتي

وأكشفي لي عن موتك

حتّى أريك قيامتي!) ص 23

 2 ـ  تكرار اللفظة في أواخر الأبيات:

 (لستُ سوى طفل

سقط في البحر.. بحر الحروف

فغرق حتّى بكته الحروف.) ص 24

*

(سألتُ كلّ شيء عن كلّ شيء

فلم يجبني أيّ شيء عن أيّ شيء)

*

(هكذا فأنا أجلسُ في نفسي

لأحرس نفسي.) ص53

*

(حبّكِ قاد شعري

إلى كنه الحروف والنقاط

وقادني إلى العظمة

إلى جنون العظمة!) ص97

 3 ـ  تكرار الألفاظ في أواخر الأبيات في بداية الأبيات التالية لها:

 (كانت النقطةُ جوهرة

جوهرة بحجم تفاحة كبيرة)  ص 17

*

(طار اللقلق

لقلق طفولتي) ص 22

****

(لا يزال اللقلقُ يحومُ حول قلبي

قلبي الذي صادره الموتُ والجوعُ والنار) ص25

*

(الدنانير وحدها تتكلم

تتكلم و تتكلم وتتكلم!) ص 56

*

(المرأة في المرآة

والمرآة في الحمام)  ص 59

4 ـ  تكرار الألفاظ في أوائل و أواخر الأبيات:

 (من أنتم  ـ قال  المقهقه ـ رجال من الشرق؟

من أنتم  ـ قال المقهقه ـ  رجال  من الغرب؟) ص 82

*

(حبيبتي

تجيء كلّ يوم

بألفها الذي يشبه ألفي

وبيائها الذي يشبه يائي

وبعذابها الذي يشبه عذابي) ص 107

 5 ـ من الممكن أن نضيف نوعاً خامساً من التكرار تقع فيه الكلمة المكررة  في وسط العبارة كالآتي

(بعتُ اللاشيء مقابل طفولتي

واللاجدوى مقابل صباي

واللامعنى مقابل لذتي

واللامستقر مقابل جثتي) ص 51

*

(المرأة في المرآة

والمرآة في الحمّام

والحمّام في الطبل

والطبل في الدينار

والدينار في الفقر

والفقر صديقي) ص 59

 ولابد من الإشارة إلى أن ترتيب أنواع التكرار حسب تسلسل الأرقام يؤشر التدرّج في نسبة استخدام كلّ نوع منها ومن ذلك يظن أن النوع الأول، مثلا، يسود في جميع القصائد ويليه النوع  الثاني، وهكذا. ومن الجدير بالذكر أن تكرار الألفاظ بأنواعه الخمسة ليس هو التكرار الوحيد من نوعه، بل نجد إلى جانبه ما يطلق عليه التكرار النحوي، ويتمثل هذا التكرار بتراكيب نحوية كاملة أو جزئية،  وأقصد بذلك الجملة الاعتيادية التي تتألف مثلاً من الفعل + الفاعل + المفعول به، أو نكتفي بالفعـل + الفاعل إضافة إلى العبارات الظرفية والمجرورة. إنّ استخدام هذه التراكيب  بشكل متكرر يؤلف حالة من التوازي الذي ينطوي  على الايقاع وتوكيد  التنوع  وتضاد الآراء . لكن نظام الألفاظ في هذه التراكيب النحوية معرض للتغير، حتّى يصير من الممكن أن تبدل هذه الوحدات اللغوية مواقعها لاسيما في الشعر، لغرض معالجة نقطة التركيز أو لكسر رتابة  نموذج معين.

 والآن، لو أخذنا  قصيدة (محاولة في الحبّ) كمثال تطبيقي لما رمينا إليه، لوجدنا أن القصيدة تتألف من تسعة مقاطع شعرية، حيث تتشابه التراكيب النحوية تماماً في المقاطع الأربعة الأولى، بينما تدخل تنويعات إضافيـة في المقاطع الخمسة الأخيرة فجميع الجمل الأولى في المقاطع 1 و2 و3 و4 هي حبيبتي جنّية صغيرة، حبيبتي نخلة باسقة، حبيبتي أغنية عميقة وحبيبتي بستان تفاح، على التوالي: وجميع الجمل الثانية تبدأ بـ(مليئة)، وجميع الجمل الثلاثة تبدأ بـ (عليّ أن  أجد طريقاً..)  وجميع الجمل الأربعة تتألف من: الضمير( أنا+ أسم + الذي + تكملة). أما المقاطع الخمسة الأخيرة فتكاد أن تتبع نظام التوازي النفسي باستثناء تنويعات قليلة. ومن هذه التنويعات أن الشاعر واصل استخدام (حبيبتي) في بداية المقاطع،  لكن الفرق بينها وبين (حبيبتي) في المقاطع الأربعة الأولى هي أن الأخيرة: (حبيبة + ي) تؤدي وظيفة نحوية مختلفـة عن وظيفتها في المقاطع الخمسة. إنّ (حبيبتي)  في المقاطع الأخيـرة تؤدي وظيفة فاعل، لنأخذ المقطع 7 مثالاً: 

(حبيبتي

تزورني كلّ يوم

مليئة بالرقم سبعة

وإشاراته وارتباكاته وصيحاته) ص 106.

ومع أنني لا أريد أن أدخل في مجال النقد الدلالي/ التفسيري/ فأننـي ألاحظ هذه الضربة الفنية بين رقم المقطع  (7) وعبارة (مليئة بالرقـم سبعة) حيث يمثل الرقم سبعة رمزاً للأنثى، ولو أن النقطة لا وجود لها ظاهريا هنا،  فأن المرء يشعر أنها تتحسس طريقها إلى الرقم سبعة، استجابة لإشاراته وارتباكاته وصيحاته.

  

 

  

 

الحرف في ضيافة القصيدة

 

 

صالح زامل حسين

 ص 193 - 198

   

 

   في هذا المبحث، نحاول أن نجد تأصيلاً لتجربة الحرف باعتباره بنية تستنطق لتكون مادة لقصيدة ونموذجاً لدراسة مجموعة (النقطة) للشاعـرأديب كمال الدين، أما الجانب الآخر في هذه الدراسة فهو إيجاد صلة بيـن العنوانات الداخلية للمجموعة ومشروع الشاعر: الحروفي. 

(1)

 يأتي التأصل في الحرف متأخراً وهامشياً داخل المنظومة الفكرية الإسلامية ولعل ذلك محمول على صلة التراث بالشفاهية التي كرّسها ـ في مرحلة تاليةـ القرآن الكريم، عندما ارتبط النص القرآني عنـد الفقهاء بجماليات الصوت وتحريك اللسان عند القراءة(1) على الرغم من أن القرآن احتفى بالكتابة، لكنها لم تكن هي الحافظ للنص، وإنما الحفظ له صلة بقدسية النص (إنا نزّلنا الذكرَ وإنا له لحافظون). وإنّ الحروف التي كانت اسماً لأربع سور ومفتتحاً لتسع وعشرون سورة قـد دفع العلم بها إلى الغيب. وفي هذه المفتتحات غلبة حروف بعينها، وهي الميم واللام، والألف، والحاء، والراء بالتوالي. كما نستطيع أن نحصي حروفاً أخرى مثل س، ص، ه، ك،  ق، ن، ي، وكلّ الحروف التي ذكرت مما نسميه غير معجمة عدا الثلاثة الأخيرة وهي القاف والنون والياء التي لا يزول إعجامها إلاّ بنقطة، وهذا يشير إلى أن قيمتها في المفتتحات لا تقف عند كونها منقوطة أو غير منقوطة، فضلاً عن ذلك فإن الأبجدية المتألفة من الثمانيـة والعشرين حرفاً، خمسة عشر منها منقوطة وهذه الملاحظة نطلّ بها على وهجة اشتغال الشاعر أديب كمال الدين في الحرف والنقطة.  

 لو تأملنا هذه الحروف مرّة أخرى، في فضاء الابتداءات لوجدنا الألف متقدمة بامتياز، لذا منحه المتصوفة وبعض المفكرين الإسلاميين مكان الأوائل بين الحروف إذ (هو أول الحروف التي سجدت لآدم)(2) ولعله لهذا السبب تقدم بالأبجدية، وتصير الحروف (كائنات روحانية خلق الملائكة على عددها)(3) وهي وإن اختلف في تأويلها فهناك إجماع نظر إليها بأنها (ساهرة على فضاء السور القرآنية)( 4).

على أنّ المتأولين يقفون عند باء (بسم الله الرحمن الرحيم) طويلاً (فيجعل المتصوفة نقطتها لشيوخهم، وبعض طوائف الشيعة يجعلها لعلي بن أبي طالب)( 5) ويذكر المفكّر هادي العلوي في مداراته( 6 ) نكتة في هذا الصدد هي للشاعر النجفي محمد علي اليعقوبي يهاجم فقيهاً شيعياً أفتى بحذف اسم علي من الآذان فيقول:

محا نقطة الباء عن الآذان...... لترضى به النقطة الرابعة

 ويقول العلوي (ليست نقطة الباء أية نقطة كانت بل هي باء البسملة، فهي نقطة لها موقع دال وكينوني ولو سقطت لاختل نظام البسملة وكذلك يختل الآذان بسقوط اسم علي منه(7).ولعل من تأمل باء (بسم الله) كانت نظرة الفراهيدي لفحولة الباء من جهة الجنس عندما ذكر في معناه (أنها الرجل الكثير الجماع)8 ).

تختزل المفتتحات بشكل واضح وتؤشر للأهمية التي ستأخذها الحروف في الفضاء الرمزي  وخاصة عند المتصوفة أو في الممارسة التخطيطية( 9) التي ستخرج بالحرف والكلمة من سلطة الصوت والدلالة المقترنة به إلى الحركة الصورية التي تمثلها الزخرفة أو أشكال الخط التي عوضت فـي تنوعها، إلى حد ما، في منظومتهم عن الرسم للمجسمات، فليس غريبـا بعد ذلك أن يكون الالتفاف للحرف على أنه اقتران بالشكل عند شاعر مثـل المتنبي في قوله:

أول حرف من أسمه  كتبت             سنابك الخيل في الجلاميد 

وهو يمدح سيف الدولة الحمداني واسمه الأول (علي) والسنابك حوافر الخيل والجلاميد الصخر وشكل الحافر وقد حوطته الحدوة يشبه حرف العين، فيكون الشاعر بانساق مع المنظومة السائدة. على أنّ أول ملتفت للحرف في عصرنا الحديث على أنه بنية بذاته هو الفنان التشكيلي والعراقي على وجه الحصر في أعلامه المهمة كشاكر حسن آل سعيد في تجاربه الصوفية للحرف في اللوحة، وضياء العزاوي في اشتغاله على الشعر والرسم منذ تخطيطاته لمجموعة مظفر النواب : للريل وحمـد، إلى رسوم المعلّقات إلى مختارات المتنبي إلى عذابات المتنبي، فهل نستطيع بعد ذلك، أن نقول إن التفات الشاعر أديب كمال الدين في تجربتـه مع الحرف إنما تأتي من نظر في المنظومة الثقافية العراقية ومنها اللوحة التشكيلية، على وجه الخصوص، بعبارة أخرى هل نجد الرسم في الاشتغال على الحرف عند الشاعر، لنرى ذلك في الأمثلة التي سنختارها من المجموعة يقول: (كانت الهاء توزّعني ذات اليمين وذات الشمال) ص 75 والتمعّن في رسم الهاء إنما يكون الابتداء من اليمين إلى الشمال، ويقول:

(مددت ُيدي إلى الله

 ....

سارعَ ليضع وسط الحرف نقطة 

 فأمتلأ قلبي ذهباً ودنانير فضّة) ص 91 .

 إنّ الذي يعطي يوصف بمساحة الكفّ المستوية والذي يطلب تكون كفه فيها تكوير إلى القعر، وهذا التكوير إذا علته النقطة صار أشبه برسم النون وهو أول كلمة (نول) بدلالة العطاء ويقول:  

(أبي 

 أيها الشفوق كهلال العيد) ص 102.

وليس بخافٍ أن هلال العيد بإحالته نحو اليمين يشبه رسمه حرف الراء وهو أول الرحمة وهي مرادفة للشفقة وقد ينظر إلى رسم الكلمة فيفتتها مثل كلمة جنس:

(نحن نركض خلف جيم وسين وبينهما النون عارية كالمتاهة) ص84

 أو

(هل أبيع حبي؟

 قد فعلتُ

ومن اشتراه؟

اشترته النساء اللاتي لا حاء في بائهنّ

ولا باء في حائهنّ) ص37

  فإذا تأولنا هنا الباء بالدلالة التي ذكرها الفراهيدي (كثرة الجماع) ونؤول الحاء بالحنان، تكون الدلالة التي فككت فيها الكلمة أو فتتت إليها انكسار صور الكمال الغائب وغياب أحد المكملتين الحنان أو الجماع. هذا التفتيت اشتغل عليه الأوائل في المعنى كقول أبي الطيب:

سميت بالذهب اليوم تسميةً            مشتقةً من ذهاب العقل لا الذهبِ

وهو نظر في الجناس الذي يطلب التأمل في رسم الكلمة، لكن من الواضح أن قصيدة أديب خرجت من سلطة  الحركة المقترحة للعين في حركة صوتية مرئية وبمرجعية  تبحث عن تفرّد، وإن كانت تعود للتكثيف الصوتي من خلال مجاورة الحرف للكلمة، لكن، كما قلنا، ليس بغير اقتران مع التأمل في تشكيل الحرف وهي القراءة  التي يقترحها  للحرف، وهي منهمكة في بحث الصلة بين النقطة والحرف فتتأمل في الحرف محتضنا في خانته العلوية النقطة، أو مرتكزا عليها خانة سفلية، فتضفي للحرف المجرد بالرغم من تجريدها هي الأخرى معنى. يقول

(وضائع كحرفٍ لا نقطة فيه

 كانت النقطة دمي 

 أنا تمثال الشمع) ص21  

 

(2 )

العنوان بنية لها وظائف عديدة، فهو الثريا في فضاء النص، والعتبة لمساربه ورحلته، ومسيج لجغرافيته، والضلع(10) المقترح بأن النص يرتكز عليه، وهنا يكفّ العنوان عن أن يكون حلية(11)، وهو التسوير الذي اشتغلت عليه بنية العنوانات في مجموعة أديب (النقطة) بالرغم من سيادة نسق تكراري مركب اسمي تقدم كل عنوانات القصائد هو(محاولة في ...) التي كانت بؤرة للعناوين كافة، تتشظى عنها حالات إلى النصوص المختلفة، وهذه البؤرة من الممكن أن تلحق العنوان الرئيس للمجموعة (النقطة.. محاولات) لقد اختزل المركب الاسمي ألق التنوع في العناوين إلى نسق واحد هو (محاولة في ...). إنّ المعجم يحيل إلى جهة اشتغال الشاعر فيما نعده مشروعاً، إذ دلالة المحاولة هي طلب نيل الشيء بحيلة وذو الحيلة القادر التصرف بحذق والكتابة عموماً تتضمن الحذق سواءٌ أكانت حرفة أم دونها، فهي متوجهة إلى مرسل إليه تحاول أن تحرضه أو تحثه أو تثيرها. إنّ عنوان (محاولة في ....) إعفاء للشاعر من أن ما يقوله هو المطلق أولاً وثانيا ًإنه يخوض في مشروع هو بلاشك مشروع الحرف الذي يتكرر في عنوانات المجاميع السابقة للشاعر (جيم)، (نون) فيوحي بانفتاح التجربة واستمرارها قد يكون إلى مجاميع تالية، وثالثا تحيل إلى التواضع ولعلها تقابل (الله أعلم) أو هي في إسارها، أن لا أحد يحيط بشيء سواه، فالإنسان كائن ناقص ولذلك يطلب الكمال، وهي تحاول أن تقنعنا إن ما يفعله كدّ واشتغال يحيلنا إلى الدلالة المقترحة لقرائته، لأنّ العنوان خارج إطار الخطاطة الأولى للقصيدة وخارج هيمنة لحظة الكتابة، وإنما يكون حاضراً بعد اكتمالها غالباً، والشاعر بعد أن أغلق صدفته اقترح باباً مفترضاً للدخول إليها، وذلك واضح فيما تقدم، ولا تكفّ المجموعة عن تقديم الدعوة للمحاولات الافتراضية في هذا المشروع عندما تحاول الهيمنة على المرسل إليه لتنتهي لمجموعة من الآراء، لحقت قبل فهرس المجموعة وقبل تعريف الشاعر الذي عزل خارج المتن المفهرس وهي رأي فلان ورأى فلان، ليؤكد تلقياً موازياً لافتراضاتة ومؤكداً لبنية التكرار التي تقصد التسويد، وهذه البنية التي يميل اليها الشاعر يمكن ان نلاحظها في بناء القصيدة كذلك لعلها تقابل الوحشة والعزلة والانفراد على مستوى التجربة التي يخوضها منفرداً في الحرف وعلى المستوى النفسي بافتراض التجميع الزائل الذي يجد مداه، على الأقل في توحّد النفس في الكتابة التي هي بحث عن آخرين.

 

****************************************

(1) الجسد والصورة والمقدس في الاسلام/ فريد زاهي- أفريقيا الشرق 1999 بيروت- المغرب/ص 132.

(2) م.ن: ص .133

(3) م.ن: ص133.

(4) م.ن: ص .133

(5) مدارات صوفية /هادي العلوي/ مركز الأبحاث والدراسات- المدى– دمشق  1997: ص105.

* النقطة الرابعة من الواضح إنها جناس وهي أشارة للنقطة الرابعة من  برنامج المساعدات الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تخص العالم الخارج من النير الكولينيالي إلى هيمنة جديدة في صورة مساعدات/ انظر مدارات صوفية.م.س ص 107-108.

(6) مدارات صوفية /هادي العلوي / مركز الأبحاث والدراسات- مدى-دمشق 1997 ص105.

(7) م.ن: ص105.

(8) الجسد والمقدس.م.س: ص 134.

(9) م.س: ص 133.

(10) الشعر العربي الحديث: بنيته وإبدالاتها- محمد بنيس – دار توبقال – المغرب- ط1 1989- ص 1/ 102

(11) المصدر السابق 1/ 113

 

   

  

موت النقطة

 

الدكتور مقداد رحيم

 ص 199 - 205

 

 

    يبدو الشاعر أديب كمال الدين منشغلاً طوال الوقت بأبجدية الحروف، كما كان انشغل بها المتصوفةُ، ثم شعراءُ العصور المتأخرة على نحوٍ آخر مختلف من حيث الدلالة الرمزية لكل حرف. غير أنَّ أديب كمال الدين يمزج بين الطريقتين ليؤسِّسَ له منهجاً خاصاً به هو.

   فهو يختلف عن المتصوفة في أن دلالات أحرفهِ لا تحقق النشوة المطلوبة ولا تقتربُ من الغاية المنشودة حيث السعادة المطلقة كما هو الحال لدى المتصوفة، ويتفق مع أصحاب المنهج الثاني في بعض نصوصه فتُعطي بعض أحرفهِ الدلالات التي يُخفيها وراء كل حرف.

    وفي مجموعته الشعرية "النقطة" تأخذ النقطةُ دلالتين أساسيتين هما نقطة الحروف ونقطة الدم، وكلتا الدلالتين تتسعان أحياناً وتتحدان أحياناً أخرى لِتشكِّلا معادلاً موضوعياً للشاعر نفسه، فهو النقطة في حروفه، وهو النقطة في دمه، وهو النازف دائماً، المقتول دائماً. يقول متحدثاً عن النقطة وعن نفسه في آنٍ معاً:

 كانت النقطةُ تحت

وقتها كنتُ ملكاً عاشقاً

ثم انتقلت النقطة فوق

فصرتُ صعلوكاً فشحّاذاً فلا شيء! ص70

وبين النقاط والحروف تدور ثلاثة أشياء دوراناً جليَّاً في جملته الشعرية في هذه المجموعة، هي الموت والدم والطفولة الضائعة، وجميعها تحمل دلالاتٍ سلبيةً وتشير إلى العدم. إنَّ دوران الشاعر حول هذه الألفاظ يدلُّ على تمكنها من نفسه، واستحواذها على أفكاره، وهو في كل ذلك إنما يرثي نفسه بإمعان واضح، ويُعلن عن امِّحاء وجوده في الحياة.

    فأما لفظ الموت فله حضوره المهيمن، فقد تكرر أكثر من أربعين مرة، ومن ذلك: (الموسيقى تجيء/ فأقومُ من الموت إليها. ص27، بكيتُ حتّى سالت روحي. ص53، أم أني سأدخل في إيقاع المغني العجيب/وأغرقُ فيه حتّى الموت.ص62، أم أنه كُتب عليَّ أن أرى جسدي/يموت أمامي عضواً عضواً؟ ص78، وأبكي حتّى أموت/ثم أولدُ كي أبكي ثم أموت. ص82، البارحة متُّ. ص94، فسقتني السمَّ/لأموت إلى الأبد. ص100، أنا الساحر الذي أُحرِقَ حياً حتّى الموت. ص104.)، وبما أنه والنقطة سواء فهو يبحث عن حقيقتها إذ يبحث عن حقيقته هو فيصل إليها فإذا هي تتجلَّى في الموت نفسه: (أنا أبحث عن حقيقة النقطة/حقيقة النقطة في الموت. ص72-73).

     أما لفظ الدم فقد تكرر أكثر من أربعٍ وعشرين مرة، وأكثر من نصف هذا العدد للطفولة الضائعة، في قصائدها الثلاثين:

1- أنا الذي بنيتُ المأساة بدمي.ص7

2- والرغيف هنا مغموس بالدم. ص11

3- أنا دم أخذته السماءُ ولم تعطه الأرض. ص14

4- كانت النقطةُ دمَ الجمال/دمَ المراهقة/دمَ اللذة /دمَ السكاكين/ دمَ الدموع/ دمَ الخرافة/ دمَ الطائر المذبوح/ كانت النقطةُ دمي. ص21

5- فلم يبقَ لي منكِ سوى النقطة/ نقطة الدم. ص32

6- محتفلاً بدمي../فرحاً به.. ص38

7- لُطمتُ على فمي حتّى سال دمي. ص40

8- أريد أن أبدأ أو أنهي سمفونية دمي. ص46

9- من دمكِ اقتبستُ موتي. ص48

10- ركبتُ زورقي متجهاً إلى بحيرة دمي. ص52

11- وضعتُ رمحاً على بابي/ خضبتُه بدمي. ص53

12- كيف نخرج والطريقُ إلى النهر/زلزاله كالحجر/ وأحداقه من رغيف مدمَّى؟  ص65

13- فلن أترك سوفوكليس يقلع عيون مخلوقاته/على خشبة دمي. ص79

14- لا شأن لي إلاّ بما يكتب الشاعر/ في حروف دمه. ص81

15- أتجلّى في ذيل الشمس/ الملآن بالدم والغبار والأنين. ص86

16- أين أنتِ/ لتعيدي إلى دمي طبول أفريقيا. ص96

    بل إنَّ بين ثنايا كلماته ما يُوحي بالرغبة في الانتحار، وحيث لا يتأتى له ذلك في الواقع، فقد لجأَ إلى خيالهِ ليحقِّقَه فيه، فانصبَّ في شعره، ومن ذلك قوله: أعجبني موتي/وحين حاولتُ أن أكرره/ جننتُ. ص28، وضعتُ رمحاً على بابي/ خضبتُه بدمي.ص52، من أجلك افتتنتُ بالموت.ص33، هل أجرِّبُ الموت؟ ص36 .

وتتجلّى رغبته في الانتحار بإصرار في قوله:

كلّ يومٍ أطلقُ عليكَ النار ولا تموت

أشفقُ عليك لأنكَ قويٌّ كالثور المجنّح

ووحيد كمرآة أعمى

وغامض كرأس مقطوع

ووحشيّ كدبابةٍ تسحق طفلاً

وضائعٌ كحرفٍ لا نقطة فيه

وساذج كأنكيدو

وخاسرٌ ككلكامش

أشفقُ عليكَ لأنكَ تشبهني تماماً

لأنكَ أنا! ص33

    يقف الشاعر إذن على شفا مأساةٍ عميقة الغور، لا يستطيع معها إخفاء فورانه، أو السكوت على أحزانه، فما سبب هذه المأساة؟ إنَّ مَن يتفحَّص حياة الشاعر أديب كمال الدين يراه مهدورَ الطفولة، ضائع الشباب، وليس أعزَّ على المرء من هاتين المرحلتين في حياته، وقد أحسنَ هو غايةَ الإحسان فعبَّر عن ذلك بجلاءٍ شديد، وبوحٍ صادق. هاهو يُشبِّه طفولته باللقلق وهو طائر يختلط لون السواد فيه بالبياض، ولا يبني عشه إلا في الأماكن العالية البعيدة إمعاناً منه في رسم الصورة المناسبة لطفولته النائية فيقول:

 طار اللقلقُ

لقلقُ طفولتي

بعيداً بعيداً

غير أنَّ اللقاء به

ظلَّ حلماً ينمو فيَّ

كما تنمو النارُ في فوَّهة البركان. ص22

    وأيُّ معنى لهذه الطفولة وهي لا تساوي شيئاً على الإطلاق؟ بل هي ضائعة أو مسروقة، فلا يعرف لها معنى ولا يفقه لها سراً:

 1- وحين أفلستُ

بعتُ اللاشيء مقابل طفولتي

واللاجدوى مقابل صباي. ص50

2- لو دخلت نقطتي في هلالك

لاستعدتُ طفولتي المسلوبة

من سوق اللصوص والمرابين. ص67

3- أنا اللص الذي سرق الزمنُ طفولته البريئة. ص105

4- دعيني أتعرفُ إلى بطنكِ النحيل

لأعرف سرَّ الطفولة الضائعة. ص99

       وتقف طفولته في طابور أشيائه ومتعلقات حياته التي يرثيها وخصَّها بقصيدته "محاولة في الكتابة" وهي قصيدة تقطر ألماً ومرارة، غير أنَّه يرسمُ لطفولته بعض الملامح من خلال سرد بعض ذكرياته في مدينته الحلة:

 بحثتُ عن طفولتي في أغنية قديمة

بحثتُ عنها في نخيل بابل والعراق

وسألتُ عنها ليل الحلة

فلم أجدها إلاّ في كفّ طفل شحاذ

يجلس قرب الجسر العتيق

ويمد يديه للعابرين الساهمين

يضحك تارةً، يبكي أو ينام. ص59

           ولا يجد أديب كمال الدين غير الموت عزاءً لضياع تلك الطفولة البريئة:

 إلى الحظ

أرسلتُ رسائل شديدة اللهجة،

شديدة التقريع:

"أنتَ من أفسدَ طفولتي

وحطّم شبابي

وأربك شيخوختي".

ضحك الحظ، وقال:

"حسناً،

سأجعل من موتك

مناسبةً مليئةً بالبهجة والشموع!". ص108

      غير أنه مع ذلك ما يزال يحنُّ إلى طفولته، ويعيش على ذكراها، ويتمنى لو عادتْ إليه لا لمعاندة الزمن والسير ضدَّ إرادته وقَدَره المحسوب بدقة متناهية، وإنما لأنَّها معادل موضوعي للفرح الذي يتطلَّع إليه الشاعر، وحيث هي كذلك فالشوق إليها يستحيل شوقاً إلى الفرح نفسه حيث تتمنَّعُ عودتها على أجنحة ذلك اللقلق النائي:

 يا لقلقي

متى تجيء حتّى أكفَّ عن البكاء؟

متى تحطُّ حتّى أكفَّ عن الدموع؟

متى تحطّ حتّى ألمس السعادة

في منقارك الدافئ

وأحسّ بصباي

يضحك في بياض ريشك العجيب؟ ص25

     ولكن كيف تَضيع الطفولة؟ ترعرعَ الشاعر في العراق وما لبث أن فتح عينيه على بلدٍ يقف لهُ الأعداءُ على الأبواب فجأةً، ولا يشغلهم غير إعلان الحرب عليه، بحسب الخطاب السياسي المُعلَن، ولذلك وجب عليه أن يشمِّر عن ساعديه ليخرج من حربٍ ليدخل في أخرى، فأيّ طفولةٍ هذه التي تعلكها الحروب المتتالية؟ أليس من المعقول والحالة هذه أن تتوشَّح بالسواد، فلا تنجو منه حتّى الصباحات؟!

 الصباح قطعة كفن

فتعالي يا نقطة الطفولة

قبِّلي خرابي

كلّ سنة مرّة

وضعي على رأسي الذي شيَّبتْهُ الحروب

حرفَ أمل وغصن حياة

تعالي، فالصباح عباءة سوداء

عليها سقطَ عصفور روحي كسير الجناح. ص88

       أما شبابُه فليس هو بأقلَّ ضياعاً من طفولته، وهو ضياع يتحمل الوطن مسؤوليته التامة: (خذيني فعلى الرماح حُمِلَ رأسي/ وعلى الورقة البيضاء سُفح شبابي. ص34، وشبابي الذي غيّبته دجلة الغموض. ص89)، فإذا ضاعت طفولة الشاعر وتبعها شبابه فما الذي بقي لديه غير الضياع التام والهلاك؟:(وَضِعتُ حتّى اكتشفتُ أرخبيل الضياع. ص71، أهي قليلة مناسبات ضياعي وهلاكي/ حتّى تضيع، يا صوتي، وتهلك؟ ص77)، وهو الضياع الذي يساوي الموت الذي أمعن فيه الشاعر أيما إمعان، كما مرّ.

     ويستغرقُ الشاعر في مشروعه الشعري المستفيد من إمكانات حروف الأبجدية في التغيُّـر تبعاً لأوضاع النقاط من فوق أو من تحت، فتتغيَّر معاني الكلمات تبعاً لذلك، وهو في هذه المجموعة يستفيد مما تفعله النقطة عندما تنتقل بين الأمكنة في الكلمة الواحدة، ويمكن أن ننظر في قصيدته "محاولة في حقيقة النقطة" لنكتشف فلسفة الشاعر في ذلك:

 1-كانت النقطة تحت

وقتها كنتُ ملكاً عاشقاً

ثم انتقلت النقطة فوق

فصرتُ صعلوكاً فشحّاذاً فلا شيء!

2- استمرَّ صعود النقطة عشرين عاماً

بالتمام والكمال

خلالها حلّقت الطائرات مرّتين

واحترقتْ مرتين

فاستبدلتُ رائي بالألف

وعيني بالدال ودالي بالياء والباء. ص70

      ففي هذين المقطعين من القصيدة يحاول الشاعر أن يصنع مشتركاً بين تغير أمكنة النقطة وتغيُّر ماجريات حياته، فكأنهما شيئان متلازمان، ففي المقطع الأول يقارن بين حالتين: حالة مزدهرة يقابلها وجود النقطة تحت فيتحقق اسمه "أديب"، وهو يقصد الملِك "أوديب" بطل التراجيديا الإغريقية للكاتب سوفوكلس الذي ذكره الشاعر في موضعٍ آخر من مجموعته هذه كما مرَّ، ويشبِّـه نفسه بهذا الملك لتشابه الاسمين فضلاً عن تشابُه المحنتين من حيث النهاية المفجعة، وإنْ كان نصَّ على الجانب الإيجابي من الفجيعة متمثلاً بصفة الملك العاشق، وحالة مندحرة يقابلها انتقال النقطة إلى تحت فيتغير اسمه إلى "أودين" وهو إله الحروب والقتلى في المعارك بحسب الميثولوجيا الاسكندنافية، وإنْ كان نصَّ على الصعلكة والشحاذة.

    وفي المقطع الثاني يحاول الشاعر التأريخ لمأساته في الانتقال من حالة الازدهار إلى حالة الاندحار فيما هو واضح من السياق، غير أن التغيير هنا يتعدى انتقال النقطة إلى استبدال الحرف بحروف أخرى، استبدال حروف بلا نقاط بحروف منقوطة، فتمام الحروف الأولى غير المنقوطة التي ادعاها الشاعر اسماً له هو "رعد"، الذي استبدله باسمه الحالي "أديب"، بعد تلك العشرين عاماً.

   إنّ أديب كمال الدين شاعر ذو منهج خاص به، وقد أثبتَ خلال مدة طويلة من التجريب والتعميق أنه مخلص لمنهجه هذا غايةَ الإخلاص، ذاهباً معه إلى أقصى حدّ، مستفيداً من اكتشافاته الجديدة، ويبدو أنه يقف منه على جديدٍ في كل مرّة، على الرغم مما يعتور هذا المنهج من غموض وتعميات لا يستطيع القارئ العادي ملامستها، وإدراك مجاهيلها أحياناً. وقد بدا في هذه المجموعة دائمَ النزيف والأوجاع، محاطاً بالضياعات، مسكوناً بالانهزامات والانكسارت والخيبات، منكفئاً على اليأس، مهموماً بالذكرى...مقتولاً.

 

   

 

(نقطة) البداية والنهاية

 

ماذا عن خصوصية الأفق الشعري؟

 

هادي الربيعي

ص 207 -209  

   

 

في مجموعته الشعرية (النقطة) أكّد الشاعر أديب كمال الدين أنه قد أنجز من التفاصيل في بناء تجربته الشعرية مايكفي لأن نقول إنه قد كوّن أخيراً أفقه الشعري الخاص، الأفق الذي يخشى الآخرون الاقتراب من سماواته ليحلّق هو وحده فيه بحيوية خارقة ليتفرّد في عالم شعري متميز بخصوصية الرؤيا الشعرية، وخصوصية الأدوات التي تنير الوهج المتواصل في هذه الرؤيا. ويمكن لأديب كمال الدين أن يرفع اسمه من أي عمل شعري يكتبه لنعرف أنه يعود إليه، وهذا الرهان الصعب على نحت بصمات أصابع خاصة، في عالم يموج بآلاف الشعراء استطاع أن يحققه الشاعر بدأب الصابرين الطويل على طريق تجربة محفوفة بالمخاطر، نادرة المرجعيات، مجهولة النتائج والنهايات.

     والمجموعة الشعرية (النقطة) هي البؤرة الأكثر توهّجاً التي انعكست عليها خلاصات تجارب الشاعر المهمة وهو يواصل استغوار تفاصيل الحروف وأسرارها الخفية معتمداً على مرجعيات إسلامية يأخذ منها الجوهر الذي يتسق مع قصديته، والاتجاه به نحو معمارية شعرية حديثة، ولكنك تستطيع أن تلمح في أجوائها أشباح الماضي التي لا تتعدى فاعليتها الإشارة إلى ترابط روحي يعوق كحاضر غائب داخل كيانات شعرية تستلهم الحروف لتعبر عن روح العصر الحاضر بكلّ الخراب الذي ينطوي عليه، وبكلّ مافيه من متناقضات. وحين أقول قصديته فإنني لا أعني رغبته الخاصة، وإنما أعني مجرى تطور وعي الشاعر المنصهر في مجرى تطور أدواته الشعرية الذي يصبّ في نهاية الأمر في مجرى وعي المتلقي.

والشاعر أديب كمال الدين يعلن من خلال (النقطة) انحيازه التام إلى العالم الروحاني، العالم الذي ينسحق تحت وطأة المعطيات الحضارية الجديدة تحت شتى الذرائع والمسميات لتبقى الحقيقة الوحيدة التي تؤكد أنّ كلّ إنجازات الحضارة في شتى ميادين الحياة، وعلى ماوصلت إليه من تطور مذهل لم تستطع أن تتوصل إلى إسعاد البشر. فعلى امتداد الخريطة الأرضية هناك دائماً نيران تنتشر في كلّ مكان،  ومدافع تقصف في كلّ مكان، وطائرات تلقي قذائفها في كلّ مكان، وانتهاكات إنسانية تجري في كلّ مكان، فأين يكمن الخلل في كلّ هذا الخراب الأرضي: هل هو في المنجز الحضاري الذي جاء أصلاً لتغيير حياة الإنسان إلى ماهو أفضل؟ أم يكمن في مَن يستخدم هذا المنجز الحضاري ويمرره لغاية في نفس يعقوب؟ وهنا نتوقف عند الخلل الحاصل في مايمكن أن أسمّيه (المسألة الكبرى). وفي ضوء هذه المسألة، يمكننا أن ندرك أنّ السبب في كلّ مايحدث هو اختلال التوازن بين ماهو مادي وماهو روحي. فقد تضخّم الجانب المادي على حساب الجانب الروحي مئات وربما آلاف المرات لنشاهد انحسار الجانب الروحي إلى الدرجة التي بدأ يفقد فاعليته في مجرى الأحداث الإنسانية.

 (النقطة) هي لحظات الوجد الأسمى، هي لحظة انهمار الحروف وتوحّدها لتكون كائناً واحداًً، هي جوهر الوجود في ذروة سمّوه ،هي الأسرار المتجمعة داخل بؤرة  متوهجة واحدة، هي وضوح الوضوح وسرّ الأسرار. ولكي نعرف حجم هذا الكائن الهائل في طلاسمه، يكفي أن نشير إلى من يؤكد في المراجع الإسلامية العديدة، أنّ سورة الفاتحة هي قلب القرآن الكريم وأنّ (بسم الله الرحمن الرحيم) هي قلب سورة الفاتحة، وأنّ حرف الباء هو قلب - بسم الله الرحمن الرحيم- وأنّ النقطة هي قلب الباء، وبهذا المعنى تكون النقطة هي بؤرة الإشعاع الالهي الكامن في أهم كتاب مقدس هبط إلى الأرض .

 ومن جانب آخر فإنّ هناك روحانيين أفنوا حياتهم في استغوار أسرار الحروف الإلهية التي ترد في مقدمات بعض سور القرآن الكريم وقد توصل  بعض من هؤلاء إلى حقائق مذهلة عن حيوات أخرى لا نعرف عنها شيئاً وكواكب أخرى مأهولة مازالت مجهولة لدينا وأسرار روحية أخرى يصعب تصورها وعلى الرغم من كلّ ما تحويه هذه الأسرار من غرابة تثير الذهول، فإنّ بعضها يقترب من التفسير في ضوء معطيات النظريات العلمية والحديثة وبعضهم لايزال ينتظر زمن هذه الأسرار الهائلة ولكن كل هذه الحقائق  الخارقة التي تقع في جانب  البناء الروحي للبشرية، هي حقائق مهملة وعديمة الفاعلية والتأثير، لأنها حقائق لا يعرفها الاّ بشر معدودون. ولأنّ البشر بصورة عامة وتحت وطأة ظروف سياسية ونفسية واجتماعية يصوغها العصر أمامهم لا يتاح لهم إدراك وتطوير قابلياتهم الروحية بما يتناسب وحجم التطور المادي الهائل الذي يهيمن على حياتهم، وربما كان هذا مقصوداً، فإنّ القوى الإمبريالية العالمية طوّرت هي الأخرى أساليبها للتوغل داخل أعماق الشعوب، فبدأت تبتكر الوسائل الأحدث تطوراً وباستخدام أحدث تقنياتها لإحداث الانهيارات من داخل أعماق هذه الشعوب للإبقاء على حالة اللاتوازن التي تهيمن على حياة البشر. ولو وقفنا لنتأمل ما يحدث فوق  بعض بقاع الأرض، وأخضعناه لتأملنا الطويل وحساباتنا الموضوعية لوصلنا إلى أن هناك من يعمل على إبقاء هذه الخلخلة الروحية داخل تشابكات وتعقيدات العصر لإفراغ القيم الروحية من فاعليتها وتأثيرها.

(النقطة) بهذا المفهوم تتجاوز كونها مجموعة شعرية تشير في توهّجها إلى معاناة تجربة شعرية أصيلة لتنطلق إلى فضاء أكثر رحابة وشمولية، وتتحول إلى صرخة احتجاج وإدانة في وجه العصر السائر بلا جوهر إيماني عميق  يسند خطواته. إنّ صخرة واحدة قد لا تستطيع أن تصدّ مجرى سيل جارف، ولكن الشاعر وهو شاهد هذا العصر الذي لا يكتفي بوقوفه شاهداً، لابد له أن يرفع هذه الصخرة ويضعها في مجرى هذا السيل الهائل. وحسبه في ذلك أنه لم يكتف بالوقوف وأنه أنجز ما عليه، وحسبه أن يشير إلى ما ينطوي عليه هذا السيل الهائل.

أجل.. لقد انتهى زمن الأنبياء وهذا ما يدركه الشاعر جيداً، ولكن ما زرعه الأنبياء على هذه الأرض مازال مؤهلا ًلأن ينعطف بالبشرية الانعطافة الحاسمة التي تتجه بها إلى مسرى التوازن الروحي الذي يستطيع أن يصعد بالقيم الروحية من أدنى المنخفضات إلى السمو الكامن في الأعالي.

 

 

 

 

ديوان (النقطة) للشاعر أديب كمال الدين

 

قصائد مخلصة لإيحاء الحرف

 

فيصل عبد الحسن

 ص 211 - 215

 

 

 يعتبر الشاعر أديب كمال الدين أحد أهم الشعراء السبعينيين في العراق، وهو من الشعراء الذين يهتمون كثيراً بإثراء قصائدهم بالصور الشعرية التي تنهل من التاريخ والتراث ويستخدم بكثافة قلّ نظيرها الرمز العقائدي – الديني في معظم قصائد ديوانه (النقطة) وغيره من الدواوين الشعرية التي نشرها من قبل. وقد كان الشاعر مخلصاً لتجربته الشعرية التي بدأ بنشر بداياتها في ديوان تفاصيل عام 1976  وقد كانت قصائد ذلك الديوان مكتوبة أثناء فورة كتابة قصيدة التفعيلة وكان الجيل السبعيني  يحاول أن يثبت وجوده في الساحة الشعرية العراقية والعربية وقد جاء شعراء هذا الجيل بعد فترة قصيرة نسبياً للتحولات الشعرية الكبرى من فترة شعراء الريادة الشعرية التحديثية في العراق، السياب والبياتي ونازك الملائكة ومحمود البريكان. والحق يقال أنّ الفرصة التي توفّرت لهذا الجيل أفضل بكثير من الفرصة التي جاءت للجيل الذي جاء من بعدهم برغم تحدّيات جيل العمالقة الذي سبقهم بعقدين من السنوات، إذ ادلهمت سماء العراق وانفضّت الجبهة الوطنية وتفرّدت المؤسسات الأمنية في حكم المشهد بكامله دون أن تعطي الفرصة لأحد من الشعراء من غير المدّاحين والمصفّقين بالظهور والاستمرار في الساحة الشعرية العراقية، وأذكر من أسماء شعراء هذا الجيل الشعري المهم: عادل عبد الله، خزعل الماجدي، شاكر لعيبي، كمال سبتي، جواد الحطاب، صاحب الشاهر، زاهر الجيزاني، كزار حنتوش، رعد عبد القادر وغيرهم.

كانت الدواوين الأولى للشاعر أديب كمال الدين مكتوبة بلغة الحلم وتستقرىء عاطفة جياشة باحثة في هيلولتها الكلية عن لذة البحث عن المفردة الغريبة والصور الناشزة وتحقيق الذات ونقل التجربة الشخصية في كل قصيدة تقريباً من قصائد دواوينه بداية فترة السبعينات، وستلاحقه أشباح هذه الفترة الشعرية عندما يتحول في الثمانينات إلى كتابة قصيدة النثر. وفي تلك المرحلة الشعرية -أي فترة السبعينات- كان أديب أكثر شعراء جيله فهماً لأهمية الوزن في قصيدة التفعيلة، فجاءت قصائده قريبة من الموتيفات الموسيقية، التي يحلّق من خلالها المستمع لبعض قصائده من دون أن يستطيع متابعة سيل الصور الشعرية في كلّ قصيدة، والشاعر من أكثر شعراء جيله دربة وفهماً لأهمية أستخدام الوزن الشعري في القصيدة، لذا جاءت قصائد تلك الفترة قصائد في غاية الإتقان والأهمية لتطوره الشعري، وكان لقصائده جرس موسيقي مميز ومفردات بوح خاصة به، ولم يكن انتقاله إلى قصيدة النثر عجزاً عن صوغ قصيدة موزونة، لها القابلية على لفت النظر إلى موهبته الشعرية  بل لأنه كان يشعر بشكل مبكر أن الإيقاع الشعري في الوطن العربي يؤشر إلى هذه الانتقالة الذوقية، والانتقالات الذوقية والمعرفية كثيرة في وطننا العربي، فالحكم الذوقي حتم في الموسيقى والغناء العربي إلى انتقالة سريعة إلى الأغنية الشبابية الخفيفية على سبيل المثال، وأدى في الفن والتشكيل إلى تحبيذ التجريد على الرسم الطبيعي والتأثري. ولن نضيف شيئاً إذا أشرنا إلى انتقالة الشعر العربي في الخمسينات من القرن الماضي من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة الخفيفة التي تعتبر ثورة في الفهم والذوق الشعري عند أمة كاملة لا شىء عندها في الحاضر تباهي به غير الشعر. فالحكم الذوقي هو فعل يخضع عادة لحكم المعرفة النظرية والعملية وهو حكم غير مُؤسس على مفاهيم ثابتة ولا يتخذ من المفاهيم غاية له والقانون الذي يتبعه عادة هو البحث عن الممتع والجميل والحسن، وتدل جميعها على ثلاث علاقات مختلفة لها تمثلات الشعور باللذة، والابتعاد عن الألم، والبحث عن الغبطة، وكلها ترتبط بالوجدان وتستجيب له، وهو شعور ذاتي باللذة كما يرى – كانط - في تفسيره للتذوق الشعري، وأن حكم الذات هو حكم جمالي بالأساس، لذا فانتقالة الشاعر لكتابة النص النثري، هي انتقالة ذوقية جمالية كانت ضرورية في خضم تحولات عالمية انتقلت فيها طرائق الحياة ابتداء من نهاية الثمانينات إلى عالم القطب الواحد، وبداية اختفاء دول المعسكر الاشتراكي وسيادة ثقافة السوق، وطغيان مفردات الحياة الأمريكية بشكل خاص في حياتنا العربية، فانتشرت ثقافة السوق وظهرت في لغتنا مفردات لها علاقة باقتصاد السوق وثقافة الاستهلاك، اللحن السريع، سندويج الهمبوركر، بنطلون الجينز، وقصيدة النثر التي كتبها محمد الماغوط وأنسي الحاج وغيرهما. وصارت قصائد من هذا النوع تدهش الشاعر العراقي الشاب الميال لكلّ جديد يميّزه عن جيل الآباء وأخذ يردد هذه القصائد النثرية في جلساته الخاصة وأخذ البعض الذي يبحث عن تبرير مفاهيمي لهذه الانتقالة الذوقية محاولاً تأصيل تجربته بربطها بالماضي البعيد مستنداً في ذلك إلى شواهد التراث العربي متمعناً بكتابات الصوفيين كالحلاج والتوحيدي وابن عربي وباحثاً في نصوصهم النثرية ما يؤمن له الجانب المعرفي – النظري في الأقل للدفاع عن تحوله الذوقي ذاك.

 لقد انتقل الشاعر في نهاية الثمانينات إلى كتابة قصيدة النثر ولم يكن ذلك النوع يعتمد على الوزن بل على موسيقى المفردة اللغوية وعلى الصورة الشعرية، والمفردات المعبّرة عن ذات الشاعر خير تعبير من غير إطناب أو بحث عن المفردة التي توافق الوزن الشعري، وكان النص النثري مسبوكاً سبكاً ليؤلف بنية نصية لا يمكن اعتبارها نصاً نثرياً لا روح فيها ولا نكهة غير تأدية وظيفتها المعرفية الخالصة كما هي لغة السوق أو وظائف النثر العادي في تسهيل نقل المعرفة بغائية لا جمال فيها ولا روح. وبالرغم من أن كتاّب تلك المرحلة لهذا اللون لم يجيدوا استعمال اللغة فكثرت في كتاباتهم الأخطاء الإملائية والنحوية والأسلوبية، إلاّ أن قصائد الشاعر النثرية الأولى كانت سليمة من هذه الأمراض ومدهشة وصار على الشعراء الأكثر تجربة وخصوصاً أولئك الذين يكتبون قصيدة التفعيلة والذين بدأوا بكتابة قصائد النثر كان عليهم أن يواروا وجوههم أمام أولئك الشعراء من جيلهم الذين تمسكوا بالشكل القديم للشعر ورفضوا أن يستجيبوا للدعوة الذوقية الجديدة، واتهموهم بذات النقص الذي استشرى في كتابات الشباب كما أشرنا لذلك وصارت كتابة قصيدة النثر سبّة حقيقية لشاعر انتقل لكتابة هذا اللون.

 وبالرغم من هذا فقد كتب أديب كمال الدين قصيدة النثر ونشر الكثير من القصائد من هذا النوع في الصحافة العراقية والعربية، وقد وقفت مع أديب في قصائده الجديدة ثقافة تراثية غنية، وثقافة فلسفية ومعرفة بقوانين الاقتصاد التي لها علاقة وطيدة بمعرفة اتجاهات الحياة العامة للناس – لقد أكمل الشاعر دراسته في السبعينات في كلية الادارة و الاقتصاد – إضافة إلى ثقافة أدبية وفكرية أجنبية – درس  وتخرج الشاعر أيضا من كلية اللغات، قسم الإنجليزي – يضاف إلى ذلك ولع الشاعر بدراسة القرآن الكريم، وبحكم علاقتي به فأنا أعرف أنه أعاد ختم القرآن الكريم أكثر من ثمانين مرّة، وقد حفظ عن ظهر قلب آلاف الأبيات الشعرية لشعراء من مختلف العصور الشعرية وكلّ هذه الدراسات والقراءات الشعرية العربية والإنجليزية قد وظفها الشاعر في نصه الشعري توظيف المتمثل الذي يتذوق كلّ كلمة وكل صورة شعرية.

 وعند قراءتنا لديوانه -النقطة- نجد مبلغ الألم الذي يشعره الشاعر لما حلّ بأهل وطنه من مصائب الحروب والحصارات، حيث يتحول الوطن في قصيدته إلى أب قبل أن يصير نقطة في أفق هذا العالم، نقطة مضيئة كعهد العراق -الوطن- دائما وتأثيره في الحضارات الأخرى:

              كان ورقُ اللعب يظهرُ صورته

             بالتاج وبغيره

             في الزيّ الرسميّ وبالعقال

             فأنتبهتُ إلى صمته

             وبكيتُ رقته اللؤلؤية.

  واستمع اليه يقول عن دجلة:

              لم تكن دجلة بمدادِ الحبرِ مرسومة

             ولا بمداد الدم

             ولا بأيّ شيء

             كأنّ دجلة لم تكن .

             فعجبتُ من تخاذلي

             وارتباك رواياتي

             لكنّ خزانتكَ - خزانة التاريخ - أعجب

             وروايتكَ – رواية المقهورين – أتمّ.

 ويقول في نص آخر:

  وعذّبني الجوع

 والرغيف هنا مغموس بالدم

 وأثقلني الفراتُ بالندم.

 وأيّ ندم هذا الذي يشعر به الشاعر وهو يرفض عطايا من يستطيع أن يعطي:

  سنعطيكَ حروفنا أيهذا المعذّب

 ونعلمكَ نقاطنا أيهذا المحروم

 لكننا نخاف إن تعلمتها

 أن تسخر من الذهبِ وثيابِ الذهب

 أن تسخر من البلدان

 أن تسخر من الأثداء والسيقان

 أن تسخر من الأحلام

 فتكون مثلنا فارغاً

 بارداً

 ضائعاً

 عارياً للأبد .

 وربما يأتي سؤال الشاعر الخطير واشياً بنفسه للقارئ عما يعانيه من عذاب ممض بعيداً عن الوطن، في عمان المجاورة لبغداد أو في أستراليا تلك القارة البعيدة عنها:

  أخبريني كيف قُتلَ أبي

 وكيف أباحتْ أمي طيورَ طفولتي للثعبان؟

 كيف قادني الشبح ُإلى الشبح

 والموتُ إلى الطوفان؟

 

 

 

 

قراءة ظاهراتية في (نقطة) أديب كمال الدين

 

د . إسماعيل نوري الربيعي

 

 ص 217 - 224

 

   من أين تبدأ العلاقة مع النقطة؟ من جهود النحويين العرب بدءاً من أبي الأسود الدؤلي مروراً بنصربن عاصم أم أنّ رابطاً آخر يجوس وسط هذه العلاقة المتوترة التي تقوم على التغاضي عنها (عند الأقدمين) خشية  الضعف وقلّة الفطنة؟ مَن يضع النقط على الحروف يكون كمن يكشف الغمّة عن عجمة حروف هذه الأمة. فالنقطة تفصح وتحدد العلاقات وإذا قالت العرب كنقطة في بحر دلالة التصغير، فإنّ تشكلاتها واستتباعاتها لابد أن تحرك مجالا وتجلو عن فسحة، صغرت أم كبرت. النقطة تستجلب لمعة المعرفة ونورها، تكشف الحجب القائمة عندما تمارس حضورها. إنها نقيض المكان الذي اتخذه الاسكندر المقدوني عندما وقف على ديو جينيس الكلبي (323 ق. م.) قائلاً له: اطلبْ ماشئت،  فما كان من الفيلسوف إلاّ أن أجاب: انكَ تحجب نور الشمس عنّي.

 في قصيدة (محاولة في أنا النقطة) التي هي واحدة من أهم  قصائد مجموعة الشاعر أديب كمال الدين المعنونة بـ(النقطة)  يعمد الشاعر إلى استثمار تكنيك التكرار في عموم القصيدة التي وزعها على خمسة مشاهد رئيسة  كان مفتتحها  جميعاً  (أنا النقطة). لكن التكرار هنا يتسرّب  في عموم القصيدة حتّى لكأنه يتبوأ مكانة دلالية حاول الشاعر إثراءها من خلال الانتقاء الدقيق في منظومة تكرار مفردة بعينها، وهكذا نجد مفردة (أنا) وقد تكررت خمس عشرة مرّة، و(لا) خمس مرات، (قبل) ثلاثاً، (سأهجو) مرتين (ما) أربعاً، (النقطة) ست مرات. ترى هل يدعونا الشاعر إلى انتقاء مفردات بعينها ووضعها في بيت جديد، وبما تسمح به نظرية التلقي:

       أنا      لا       فيّ          قبل

      سأهجو      ما             النقطة

    لكن  الهجاء هنا لا يستحظره الشاعر لأغراض الهجاء الذي عرفته القصيدة العربية الكلاسيكية، بقدر ما يجعل منها لدلالة رفض للعلاقات الراكدة التي تعتمل فيها السطحية والمباشرة بل إنه يعمد إلى تحديد أهداف هجائه: (نفاق، سخف، كذب، ترّهات) المشهد الأول يجعل منه الشاعر بمثابة كولاج افتتاحي يتداول فيه: التاريخي (سيف الأصلع البطين) الأيديولوجي (خرافة الثورات وثورات الخرافة) الوجودي (معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى) الأسطورة الدينية (دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض) الصوفي (بقية من لا بقية له)  تناص مع حكاية قابيل وهابيل وإسقاطها على دجلة والفرات (الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم) حضور رمز البطولة ممثلا ًبالرقم (ألف) في السيرة الشعبية خصوصاً حيث البطل السيروي الذي لا يتنازل عن قتل ألف من أعدائه  في ضربة واحدة (ألف جريح)، التناص القرآني (نون والقلم ومايسطرون): (ونون فتحت لبّها لمن هبّ و دبّ).

     يتطلع الصوفيون إلى الدلالية الرمزية في الحروف باعتبارها الموصولة إلى كشف الحقيقة الإلهية، على اعتبارها حجاباً، لذلك فإنّ (البرهان) يسقط في حساب الصوفية للإعلاء من شأن (الكشف) الذي يكون بمثابة الطريق إلى الإيمان. وإذا كان خلق الكون قد تم عن طريق تجليّات الذات الالهية، حيث الأمر الالهي المستند إلى الكلمة ليكون الارتباط بالحقيقة الأزلية الجامعة. ويكون النبي (ص) قد أخذ الكلام عن الله جلّ جلاله ليقوم بتفسيره وتوضيحه إلى عموم البشر، فإنّ الحروف هنا سيتم فيها الاكتناز بالمعاني المرتبطة بأفكار النبي (ص) وليس الارتباط هنا مع ظاهر النص. التأويل الباطني سيكون له الحضور الأهم والدور الفاعل في التفسير. المشهد الثاني يكون بمثابة البحث عن الذات، لكنه يستهل العلاقة مع الخرافة وليس الأسطورة، وبقدر ما قـيّض لكلكامش الحصول على سرّ الحياة من خلال العمل على خلود اسمه  فإنّ شاعرنا هنا يبحث عن اسمه وسط زحمة من الرموز المختلفة والمتناقضة  السلبية (الهراطقة، الزنادقة، المهزومين، المتمترسين، الطبالين،  اللصوص) والإيجابية :(العبادلة، الرهبان، الكرادلة، المنتصرين، المهاجرين) إنه يقرّ ابتداءً:

       أنا خرافةُ العصر وسرّته

     ولعلّ السؤال هنا، يكمن في مصير الخرافة ومآلها، لكن البيت يشي بمركزية، قوامها الارتكاز إلى الذات. فها هو الشاعر يصيح بملء فمه: (أنا سرّة العصر). لكن التصريح هذا يعود به إلى تراث أسلافه من الشعراء الذين  غازلوا العصر والزمان وأبوا إلاّ أن يناكدوه ويحاوروه ويكاشفوه، لكن الشاعر هنا يجمع دلالتين في بيت واحد عامداً إلى وضع العصر بين دلالتين متناقضتين: الخرافة بكل تداعياتها والسرّة بكل قوة حضورها. المشهد الثالث قوامه الرؤيا الفلسفية حيث ماهية الوجود البرمنيدسي (نسبة إلى برمنيدس الايليائي ت 450 ق. م) حيث تمام الموجود  الذي لا نهاية له، المتساوي والممتلىء الجوانب (الكروي الشكل). يقول الشاعر أديب كمال الدين:

  فيَّ احتوى العالمُ الأكبر

  والألمُ الأفدح

  فيَّ تجمهر الماضي

  وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرةٍ حاشدة.

    هاهي مظاهر الافلاطونية المحدثة تتجلىّ عبر مفهوم (الخير المحض) حيث المبدأ لجميع الأشياء ليكون أول ما تفيض عنه الآنية  ثم العقل وبعدها النفس، لكن الآنية والعقل يدخلان في حيز الدهر حيث الأزلية التي تتجلّى فيها صورة الزمان المتحركة. وباعتبار أن النفس هي مصدر الطبيعة وعلّة الحركة، فإنها تكون بمثابة الرابط بين عالم الجواهر العقلي الذي لا يتحرك، وعالم الكائنات الحية المتحركة حيث عالم الطبيعة المنفصل عن النفس.

    يؤسس الشاعر للبدهي واليومي في المشهد الرابع من القصيدة، حيث يقوم بعجن الحقيقة بيديه، وهو يستحضر الزمني الما قبل تاريخي (قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة) والمستقبلي الذي تبلغ فيه ذروة الحداثة (الوصول إلى القمر). إنه يوظف الما بعد الزمني لتأسيس رؤاه القائمة على (قبل) هذه، ليحقق من خلالها نبوءته الخاصة. وهكذا يجعل من لغة الإدانة ولعنة تاريخ العالم المليء بالشرور بدءاً بالإثم الأول (قابيل ماذا فعلت بأخيك) مروراً بالمقابر الجماعية والفقر والطغيان والجوع والرفاهية. وكل هذه التناقضات والمتنافرات التي تملأ أرجاء هذا العالم  الطافح بكل ماهو غريب وعجيب. الشاعر هنا يقول: (أنا النقطة) لكن الدلالة المضمرة كأن لسان حالها يقول: (انها النقطة) .

 الشاعر أديب يجنح إلى ابتكار (النهاية الطللية)، فها هو يلملم ركام هذا العالم من  (حروف  ميتة، نفاق، سخافة، أكاذيب، ترّهات، لهاث نحو المتع الحسية). وكأنه يستكثر إطلاق (آه) كاملة، بالقدر الذي يشحذ حرف الألف المحدود وكأنه السيف. وهكذا يعمد الشاعر إلى ضخ جرعات الأنسنة داخل النقطة، ذلك  الشيء الإتمامي الذي لا يلتصق بجنس الحروف ولا بجنس الكلمات! إنها النقطة الحزينة، الدامعة التي ارتكبت خطيئة المعرفة. فالنقطة الدالة الموضّحة والكاشفة عن غمه الحروف، والمرشدة إلى المعاني. أية ظاهرة عقلية تلك التي يخوض فيها الشاعر، هذا باعتبار القصدية المتطلعة نحو الموضوع (النقطة). الدرس الظاهراتي نتمثـّل فيه تفصيلات الفكر في توجهه نحو ظاهرة محددة من أجل ممارسة فعل القصدية، حيث الوعي من بلوغ المعقولية التي تؤسس للتطابق في الوجود وصولاً إلى ربط الوجود بالمعنى الذي يسعى إليه الفكر.

   الظاهراتية تتجه ساعية نحو البحث في مجال الشعور حيث الحياة بلوغاً إلى الماهيات، وانطلاقاً من التراتبيات المنهجية حيث الخطوة الأولى، فإنّ (تعليق الحكم) يستند إلى عزل المظاهر الطبيعية من (نفسية، بيولوجية، انثروبولوجية) وأهمية التدقيق في الظاهرة الإنسانية  باعتبارها من الماهيات المطلقة. فيما تكون (المحايثة) حيث التجربة الحية في الشعور والتوجه نحو (قلب النظرة) استناداً إلى دمج الظاهرة في الزمان وليس المكان. ليكون المستند هنا قوامه تحليل الشعور الداخلي داخل الزمان. وهكذا يتم البحث في مضمون الشعور من خلال البعد الزماني راصدا ًلمشاعر: التوتر، الانتظار، الكراهية. وبقدر ماينفتح الزمان نحو الماضي فإنّ الحاضر يكون له الظهور وصولا ًإلى المستقبل. ومن هنا يكون السعي إلى توحيد الظاهرة مع الشيء في ذاته عن طريق دمجها في الشعور، وجعلها جزءاً في رباط واحد لا ينفصم. 

    في إجراء (البناء  يبرز الاستناد إلى الذات التقليدية التي يتمثل فيها (القالب) والشعور المتطلع نحو الوقوف على ماهية الشعور عبر تحليل الوجود والمعرفة، والوقوف على القصد المتبادل بينهما. إنه (الشعاع المزدوج) المتحرك في تبادلية قوامها من الذات إلى الموضوع ومن الموضوع إلى الذات، وصولاً إلى الإدراك. وإذا كانت غاية الظاهراتية تتمثل في درء الانحيازات ومحاولة الوقوف على الفواصل بين الشك واليقين، فإنّ إجراء (الإيضاح) يكون بمثابة المسير الذي يميز بين المواضيع. وهكذا تكون النفس موضوعاً للظاهراتية، والبدن موضوعاً لعلم النفس، والشيء موضوعا للأنطولوجيا. لكنّ الإجراء لا يتوقف عند هذه المعطيات فقط، بل يتخطاه نحو مهام أخرى تبرز في أهمية (التفريق) بين الألفاظ المحكم منها والمتشابه، و(التوضيح) حيث التمييز بين الأشياء، و(الكشف) الذي يعنى  بمكامن الشعور الداخلي.

     من خلال علاقة الربط بين (أنا) و(النقطة) يسعى الشاعر أديب كمال الدين إلى ربط العلاقة بالماهيات، بحثا عن تعميق التجربة الحية في الشعور، من خلال دمج النقطة في الذات الإنسانية، فيما تتشكّل رؤاه الزمانية على ملامح العلاقات المكانية. إنه يعمد إلى فرز الأبعاد الزمانية للشعور من خلال فرز عناصر (التوتر) التي يحشدها الشاعر في تفاصيل شديدة الوضوح ممثلة بالتاريخي والأيديولوجي والوجودي:

   أنا بريق سيف الأصلع البطين

   أنا خرافة الثورات وثورات الخرافة

   أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى.

     فيما تبرز عناصر(الاستدعاء) في ربط الأسطورة الدينية والصوفية، والتناص مع قصة قابيل وهابيل:  

   أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

   أنا بقية من لا بقية له

   أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم.

     أما عنصر (الانتظار) فإنه يبرز في ظهور رمز الألف، ذلك العدد الذي يحضر بقوة وكثافة في السيرة الشعبية، والتناص القرآني في حرف النون

    أنا ألف جريح

    ونون فتحت لبّها لمن هبّ ودبّ.

عنصر (البناء) يتمثل واضحاً في المشهد الثاني من القصيدة حيث قصدية الشعور (الذاتي والموضوعي) وقابلية الفعل المرتبطة به بلوغاً إلى محاولة للإدراك، إنه السؤال المغيّب ـ المُضيّع، بل إنه سؤال النبر والتنغيم: 

بحثتُ عن اسمي لم أجده مع الهراطقة

     بل إن تطلعه إلى تكرار (اللا) المتصدرة لخمسة أبيات يجعل منها متوجهة إلى فعل القصدية بدءاً من الذات وصولاً إلى الواقع الموضوعي المليء بالطيبين والأشرار الذين يرصدهم الشاعر. ومن رصد العلاقة بين المعرفة والوجود يتم الوقوف على تحليل الشعور بالذات القائم بين(النقطة) المرتبطة بـ(أنا) الشاعر، وخرافة العصر وسرّته المرتبطة بـ(أنا) الشاعر أيضاً. العلاقة بين النفس والبدن والشيء يفضح إجراء (التوضيح) الذي يفصل بين الأشياء عنها. فإذا كان الشاعر لسان حاله يقول: 

  فيَّ احتوى العالمُ الأكبر

  والألمُ الأفدح

     فإنّ الشاعر سيعمد إلى التماهي مع (ابتسامة  الطفل، حفيف الشجرة، موجة البحر، ندى الربيع). أما إجراء (التوضيح) فإنه سيتبدّى واضحاً في إبراز مكامن الشعور:

     فيَّ تجمهر الماضي

   وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرةٍ حاشدة.

     إنه الإدراك في أعلى تجلّياته، حيث حالة (الشعاع المزدوج) بقوامها القصدي، من الذات إلى الموضوع ومن الموضوع إلى الذات، حيث يتكّشف الرعب الذي يتسع ليشمل العالم: 

     ورعبي الذي اتسع فشمل آسيا الطغاة

    وأفريقيا المجاعة

    وأمريكا الأعاجيب. 

     وتتولى اللغة في المشهد الخامس مهمة الإيضاح، حيث الكشف عن المشاعر الكامنة في دخيلة الشاعر. إنه يعمد إلى الحوار المباشر والحوار الداخلي، وتفكيك حروف الكلمات  كهذه (الآه) التي لم تكتمل ـ آخر القصيدة ـ وكأنها آه لرجل أصابته رصاصة!

 

 

نص القصيدة : محاولة في أنا النقطة

 

أنا النقطة

أنا بريقُ سيفِ الأصلع البطين

أنا خرافة ُالثوراتِ وثورات الخرافة

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم

أنا ألف جريح

ونون فتحتْ لبّها لمن هبّ ودبّ.

 

أنا النقطة

أنا خرافة العصر وسرّته

بحثتُ عن اسمي لم أجده مع الهراطقة

ولا مع الزنادقة ولا العبادلة

ولا مع الرهبان ولا الكرادلة

ولا مع المهزومين ولا المنتصرين

ولا مع المتمترسين ولا المهاجرين

ولا مع الطبالين ولا اللصوص.

 

أنا النقطة

فيّ احتوى العالمُ الأكبر

والألمُ الأفدح

فيّ اختفتْ ابتسامةُ الطفل وحفيفُ الشجرة

فيّ اختفتْ موجةُ البحر وندى الربيع

فيّ تجمهر الماضي

وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرةٍ حاشدة.

 

 

 

 أنا النقطة

عرفتُ الحقيقةَ وعجنتها بيدي

قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة

وقبل أن يصل إلى القمر

وقبل أن يبتكر المقابر الجماعية

بل انني عرفتُ الحقيقةَ عاريةً

عري هابيل وقابيل

فأعطيتها ملابسي المثقوبة

ورعبي الذي اتسع فشمل آسيا الطغاة

                              وأفريقيا المجاعة

                             وأمريكا الأعاجيب.

 

 

أنا النقطة

أنا مَن يهجوكم جميعاً

أيتها الحروف الميتة

سأهجو نفاقكم وسخفكم

سأهجو أكاذيبكم وترّهاتكم

وكفاحكم من أجل الأفخاذ والسياط وكؤوس العرق.

 

 

آ...

ما أشدّ حزني

ما أعمق دمعتي التي وسعتْ آلامَ البشر

ما أفدح خطيئتي: خطيئة المعرفة

ما أعظم زلزالي وخرابي الكبير

أنا النقطة.

 

    

 

قراءة في (النقطة) لأديب كمال الدين

مفاجأة المتلقي بجمالية القسوة

  

نجاة العدواني

 ص 225 - 236

 

قال باشلار: إنّ كلّ شاعر يدعونا إلى القيام برحلة، وهذه الرحلة تكون إلى عالم يخلقه الشاعر من مزيج صور، يعانق الواقعيُّ الخياليَّ فيها، والدعوة التي تلبيها هذه القراءة من شاعرعراقي تطغى على تجربته نزعة عنف دام فرضها واقعه المعيشي والتاريخي. ورغم أنّ المضمون أخذ حيزاً بارزاً من اهتمام الشاعر أديب كمال الدين في مجموعته الشعرية السادسة(النقطة) فإنّ القارئ لا يمكنه غير أن يحتفي بشعرية واضحة ومهارات تتراكم كماً ونوعاً لتؤكد بلغة عالية ملامح صوت متميز يفكك اللغة العربية إلى حروف ونقاط ليشكّل منها رموزه وصوره التعبيرية التي بنى عليها نصوصه.

استعمل الشاعر التشبيه بكثرة وكذلك المقابلة وجمع بين المتناقضات كما لجأ إلى أسلوب حكائي ينسجم مع قصيدته النثرية ذات الايقاع الداخلي وعمد إلى تكرار بعض الملفوظات والأرقام على امتداد القصيدة الواحدة أو عبر المجموعة كلها مثلما فعل في قصيدته (محاولة في الرثاء) ص5 وهي مرثية فعلية نسجها الشاعر بأسلوب المراثي القديمة، معدداً مراحل حلمه، حيث أعاد الرقم (أربعين)  ثماني مرات والطريف في هذه القصيدة أنّ الشاعر يشخّص الحلم ويمنحه ملامح الشخص: (كان الحلمُ نحيلاً كموعدٍ ضائع) ص5، فهو نحيل وطيّب ويضع على رأسه تاجاً ويرتدي زيّاً رسمياً وعقالاً ويركب الخيل، وبقوله: (جلستُ على باب الحلم) يكون الشاعر قد حدد الزمن والمكان والحدث في القصيدة كما حدد الهدف قبل دخوله إلى جوهرها لأنّ الباب يقود إلى الداخل وهو بجلوسه على باب الحلم كان يتهيأ إلى تلك الرحلة، ومثلما فعل في القصيدة الأولى فعل أيضاً في القصيدة الثانية (محاولة في السحر). إذ حدد الزمن والمكان والحركة:

(في ظهيرةٍ تموزية:

جلستُ تحت سنّ الشمس

فطحنني الحرّ حتّى ابتلّتْ ثيابي

وقلبي وأصابعي

وسقطتْ من عيني دمعتان

انقلبتا، بقدرة قادرٍ، إلى ساحرين.) 

 تبدأ الحكاية عادية وكأنها تنطلق من الواقع ظاهرياً وقد تجلّى ذلك بتحديده الزمن، ومن خلال فعلي الجلوس والطحن والحال الذي تؤول إليه ثياب من يتعرض إلى الحر. ولكنه انطلاقًا من قوله: (انقلبتا إلى ساحرين) يدخل منعرجاً آخر يحملنا إلى عوالم الخيال والخرافة فتتحول الصورة من إيحائية واقعية إلى إيحائية ترميزية فيذكرنا الشاعر  بأجواء السحر ويذهب بنا إلى الهند واللامكان وكأنهما متجاوران أو يعنيان الشيء نفسه بالنسبة للقارئ فالهند هي بلاد العجائب البعيدة وستظل كذلك في المخيلة مهما اقتربت.

 

الشاعر والحلم

إنّ الشعور الفني لدى الشاعر لا يمكنه الانفصال عن الحلم خصوصاً أحلام اليقظة التي يستبطنها جاعلاً قصائده امتدادا لها، والحلم في هذه المجموعة الشعرية تغلغل في كلّ النصوص مازجاً بين الذات والموضوع فكأنّ الصور تخفي في جوهرها حقائق كامنه خزنتها الذاكرة واستحضرتها لحظة الكتابة:

(وذابت امرأة العسل

فبدتْ شفتي مرّة كالسمّ

وذابت كفّ الحلم

حتّى تحوّلتْ إلى أصابع هيكل عظمي.) 

 هذا الحلم الذي بدأ جميلاً وساحراً انتهى بفاجعة مرعبة تفوح منها رائحة الدمار والهلاك وذلك لإنّ الشاعر رغم تعلقه بالوهم يدرك أنه لا يستطيع الخلاص من واقعه المرّ، فيصرخ مستغيثاً حتّى يرّق له قلب أحد السحرة الأربعة في قصيدته، فيقول

(سنعطيكَ حروفنا أيهذا المعذب

ونعلمكَ نقاطنا أيهذا المحروم

لكننا نخاف إن تعلمتها

أن تسخر من الذهب وثياب الذهب

أن تسخر من البلدان

أن تسخر من الأداء والسيقان

أن تسخر من الأحلام

فتكون مثلنا فارغاً

بارداً

ضائعاً

عارياً للأبد.) 

 ورغم قداسة العلم ومع أنه بمثابة السلاح لمن يملكه لأنّ به يمتلك ذاته وكل ما حوله إلاّ أن الساحر هنا لا يرى فيه هذه الخصال بل يعتقد من يمتلك الحقيقة يفقد الحياة. ربما لأن المعرفة تجعلنا نبتعد عن الحلم و نواجه الواقع بكلّ قسوته:

(أنا بريقُ سيف الأصلع البطين

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالأثم).

     من قصيدة: (محاولة في أنا النقطة)

 وظّف الشاعر الخرافة في هذه القصيدة أيضاً ولكن عن طريق الشكل الخارجي للملفوظات مثل: (الخرافة) وكلمة (اللامعنى) ولكن ونحن نتجاوز غشاء  الصور تطل علينا تلك الحقيقة التي تقطر دماً، حقيقة شعب استباحت دماءه ثورات خرافية. ولكن الأشياء، تتجرّد من معانيها فتصبح خاوية من كلّ شيء بالنسبة إلى رجل يرى الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم وليس باستطاعته أن يفعل شيئاً لذلك يلوذ بالحلم جاعلاً أناه تنحت ملامحها على كلّ الأشياء والأفكار إنها ذات الشاعر الحائرة التي لم تجد تفسيراً مقنعاً لما يحدث حولها:

 (أنا النقطة

عرفتُ الحقيقةَ وعجنتها بيدي

قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة

وقبل أن يصل إلى القمر

وقبل أن يبتكر المقابر الجماعية

بل إنني عرفتُ الحقيقةَ عارية

عري هابيل وقابيل

فأعطيتها ملابسي المثقوبة

ورعبي الذي اتسع فشمل آسيا الطغاة

وأفريقيا المجاعة

وأمريكا الأعاجيب).

 لا تعدّ الصورة صالحة بحد ذاتها بل بشبكة المعاني التي تنشرها. إنّ صورة العري هنا استمرت رغم محاولة الشاعر سترها وذلك لأنّ الملابس المثقوبة غير قادرة على تغيير معنى العري أو الفضح الذي كان ينشده الشاعر في قصيدته  هذه وصورة  العري تحيلنا إلى الحقيقة التي تصبح أحيانا خطيئة لأنّ المعرفة تحدث ذلك الزلزال الذي يقلب  كلّ شيء والنقطة هنا لها ملامح ومشاعر فهي تبكي وتشعر بالخطيئة وبالخراب الذي لمسته ولم تستطع الحروف الأخرى الوصول اليه فبقيت محافظة على موتها:

 (ما أشدّ حزني

ما أعمق دمعتي التي وسعت آلام البشر

ما أفدح خطيئتي: خطيئة المعرفة

ما أعظم زلزالي وخرابي الكبير).

 

الحلم والموت

بنى الشاعر قصائده على عالمين متناقضين لكنهما يلتقيان عند نقطة الغياب أو التلاشي وهما الموت والحلم. فالموت يعني الفناء، والحلم رغم جمال عوالمه وغرابيتها يقود إليه أيضاً وذلك لأنه يعني اللاوجود.

 (كانت النقطةُ جوهرةً

جوهرة بحجم تفاحة كبيرة

حملها طفل مدهوش ببريقها

فتبعه كلُّ لصوص المدن

كانت النقطةُ حلماً مليئاً بالدفء الباذخ

خرج إليّ ليعوضني عن يتمي وهلْوَسَتي

فتبعه كلّ أنين القصائد الحيّة والميّتة).

    قصيدة: (محاولة في دم النقطة).

إنّ أسلوب الشاعر الحكائي يجعل القارئ يتابع في لهفة طفل أحداث القصيدة وتطوراتها فهو يروي حكاية النقطة التي خرجت من الباب هذه النقطة المشخصة المتحركة التي كانت عسلاً أسود وتكرار فعل (كان) إلى جانب تأكيده حكائية القصيدة يؤكد أيضاً حركة النقطة داخل زمنين: ماض وحاضر، فالحاضر هو الزمن السابق في هذه القصيدة لأنه انبثق مع لحظة الكتابة وتشكل الصور الشعرية وكذلك الأحداث الراهنة التي أثارت شجون الشاعر وأيقظت  في ذاكرته أحلام الطفولة ودفئها. ولم يكن ذلك الطفل الذي  يحاول تهريب دهشته بعيداً عن فضول الذباب واللصوص والوحوش والقتلة الاّ أن رغبة الشاعر في الخلاص والراحة النفسية التي يجدها في الماضي  فهو يستحضر الطفولة ويفقدها  بمجرد أن يفتح عينيه على الحقيقة المرّة التي تغتال كلّ بارقة فرح في روحه:

 (كانت النقطةُ طفلة/ امرأة

خرجتْ إليّ بثديين غامضين

وعينين مفتونتين

وشفتين ذاهلتين

فتبعها كلّ وحوش المعمورة)

تبرز القصائد ذلك الصراع الذي يعيشه الشاعر على كلّ الأصعدة وخصوصاً النفسية فهو يشعر بقسوة خضوعه لمشيئة القدر التي تهدد بحرمانه من تحقيق أية حرية في الاختيار لذا يتسلّط عليه الماضي و تلازمه الطفولة ولا يرى في ذاته الاّ بئراً بلا قاع تزحف على فكره وقد تجلّى ذلك خصوصاً في بعض القصائد التي مثلت فيها النقطة دور أنثى بأجساد مختلفة فهي الطفلة التي تمثل البراءة والأخوة وهي كذلك الأم التي تلقم طفلها ثديها، وهي أيضاً المرأة الشبقة الفاتنة التي تثير غرائز الرجل ببهاء جسدها. وقد تجلّت هذه الصور من خلال صورة: (طفلة/ امرأة)  ثم من خلال السطر (خرجتْ بثديين غامضين) والغموض هنا يعطي للثديين أكثر من وظيفة فهما مصدر أمومة متدفقة حناناً وكذلك مصدر إثارة جنسية، لكن هذه المرأة المزدوجة لا تسلم من فضول (وحوش الأرض) ويعني الشاعر هنا أنّ الأنثى ستبقى تثير المطامع حتّى وإن كانت طفلة أو أمّاً:

(كانت النقطةُ نوراً يلفّ كلّ شيء

نوراً خرج لينير سواد طفولتي

فحاول قتله كلّ ظلام الأرض)

 بدت صورة الحلم في كل القصائد متبوعة بصورة الموت وذلك ربما لأن الكتابة هي الغوص في الذات واكتشاف ماترسب داخلها وتحريكه ثم بعد ذلك تبدأ لحظة التوحّد مع ذلك الكامن والصعود به إلى سطح الذات حيث يتم صقله وتشكيله على هيئة صورة قد تكون حلماً يجمع بين كيانين مختلفين كالحياة والموت مثلما فعل الشاعر هنا إذ عكس الصور فجعل النور يلفّ كلّ شيء بينما طفولته وحدها ظلت سوداء قائمة، وذلك يوضح الصراع القائم بين الذات والأشياء:

 (كانت النقطةُ نقطتي

لكنْ حين لعبنا طفلين مسحورين

على سرير اللذة الأحمر

تحوّلت النقطةُ إلى خرافة

ثم إلى هزأة

ثم إلى مهرّج

وحين عضّها الزمنُ بنابه

تحوّلتْ إلى سيركٍ عظيم

لا بداية له ولا نهاية).

 تعكس كلمة (سيرك) هنا معنيين أحدهما يحيل على فرح الطفولة وهو ماتفتقده طفولة الشاعر ومن هم مثله والمعنى الثاني يحيل على السخرية من العالم و خوائه من القيم والأخلاق، من ناحية  ثانية أجاد الشاعر اللعب بالملفوظات  عندما عمد إلى المقابلة بين المتناقضات مثلما فعل هنا:

 (لم أجد ما أحرق به نفسي

سوى حروفي الباردة)

 وقد تحوّل برود الحروف ضمنياً إلى نار تحترق بها نفس الشاعر التي تستلذ الحلم ويعجبها الموت الذي يليه بعث:

(الموسيقى تجيء

فاقومُ من الموت اليها

لنلتقي طفلين يتيمين

يتحسّران على أرجوحة العيد).

في هذا المقطع تبعث الموسيقى الحياةَ في الشاعر الذي يهرع من الموت إليها، وقد برز تعلق الشاعر بالموسيقى على امتداد نصوص الديوان فهي (عذبة كشفاه الأطفال) وهي يمجيئها تبعثه من الموت كالهة، كما إنّ الموسيقى تجمع الشاعر بطفولته البائسة التي اكتنفها اليتم والحرمان. وليس ضرورياً أن تكون المعنية هنا طفولة الشاعر وحده بل الطفولة في المطلق وخصوصاً في الأماكن المحاصرة:

 (السعادةُ راقصةُ باليه

والحزنُ بدويّ يفترش الأرض

ليعزف على الربابة)

 في اللحظة الأولى من التلقّي تساءلتُ بشأن إقدام الشاعر على تشبيه السعادة برقصة الباليه الرقيقة الجميلة وتشبيه الحزن بالبدوي يفترش الأرض؟ ولكنني وأنا أحاول تمثّل تلك الصورة أمام عيني وجدتني أوافقه بل أعجبني ترميزه هذا فصورة راقصة الباليه بكلّ مالديها من سحر تثير السعادة عند رؤيتها بينما تثير صورة البدوي وهو يفترش الأرض ليعزف على الربابة الحزن والبؤس. وهذه الصورة الذكية تؤكد مقدرة الشاعر على تطويع  اللغة حسب إرادته ويواصل الشاعر مفاجأتنا فيقول:

 (أعجبني موتي

وحين حاولتُ أن أكرره

جننت!)

في هذا المقطع يحاول الشاعر تمثل صورة شعورية مخفية خلف تشابك الخيوط، أراد أن يجعلها مرئية كما أراد أن يحولها إلى فعل نابع من إرادته هو من خلال قوله: (أعجبني موتي) ومحاولته تكرار هذا القول. كلّ ذلك يجعلنا ندرك رغبة الشاعر في التحدي حتّى وإن كان يدرك مسبقا هزيمته. وبذلك لم يعد الموت يعني الاندثار بل يعني أيضاً حب الحياة والكفاح من أجلها، وهو هنا يوافق (فرويد) على مقولته الشهيرة (إنّ هدف الحياة هو الموت) وهذا يعني أنّ الموت حقيقة لا يجب أن نتجاهلها بل يجب أن نجعلها طريقنا إلى الحياة لأنّ قوة الحياة أعتى وأبقى:

 (الموسيقى تهبطُ.. تهبط ..

والروح تضيع.. وتمّحي).

 إنّ الموت هنا صورة ضمنية تتجلّى من خلال فعل الهبوط التدريجي للموسيقى وضياع الروح إلى حد الامحاء. لذلك يقترن هذا الموت باللذة التي تقود إلى الجنون والضياع، تجلّى الموت من خلال الملفوظات فكان عمارة (قبوراً وأضرحة، وجثثاً، وأكفاناً، وكان حزناً وقتلاً)

ولكنه دائماً يفتن الشاعر:

(من أجلكِ افتتنت بالموت).

لقد وظف الشاعرُ الأساطير مثل قلقامش وقابيل وهابيل ....... الخ

 (كلّ يوم أطلقُ عليكَ النارَ ولا تموت

أشفقُ عليكَ لأنكَ قويّ كالثورِ المجنّح

ووحيد كمرآة أعمى

وغامض كرأسٍ مقطوع

ووحشي كدبابةٍ تسحقُ طفلاً

وضائع كحرفٍ لا نقطة فيه

وساذج كأنكيدو

وخاسر ككلكامش

أشفق عليكَ لأنكَ تشبهني تماماً

لأنكَ أنا!).

 هناك رغبة كامنة في النسيان عند الشاعر في أن يغتال ذلك الضمير الذي يذكره بمعاناة شعبه بحضارته التي أصبحت ساذجة ولا معنى لها أمام أسلحة الدمار التي تحاول أن تمحوها وهو أول من جعل من قلقامش البابلي رمزاً للخسارة بعد أن كان رمزاً للخلود والوفاء والشجاعة  وربما تكون واقعية الشاعر وموضعيته ووعيه وراء تفطنه إلى تلك الخسارة التي لحقت بقلقامش في الغاب بحثاً عن عشبة الخلود لم ينته بعد وبالتالي فنتائجه لم تكن مضمونه وتحيل على الخسارة المجسدة في موت أنكيدو الذي تم فعلاً وهذه الصورة تخفي وراءها صورة أخرى صورة شعب دفع من دمه الكثير مقابل عشبة أخرى لم يتم تجسيدها في الواقع بعد:

(لأنّ غرفتي ضيقة

ولأنّ حرب الطيور بدتْ مليئةً بالرعب).

إنّ صورة الحروف وهي تحلّق في الغرفة على شكل (نسور، وصقور، عصافير وبلابل، نحلات وحمامات، بوم وشواهين) جعلت الحرب تبدو غيرعادلة لأنها تجمع أنواعاً غير متكافئة من الطيور فالعصافير والبلابل لا تقابل النسور أو الصقور عندما يتعلق الأمر بالقوة لأنّ القتال سيقوم به فريق واحد بينما يمثل الفريق الآخر الفريسة أو الضحية كما إنّ ضيق المكان يجعل ذلك الهجوم أكثر فظاعة لأن الغرفة تعني مكاناً مغلقاً محاطاً بحدود يسهل داخلها الانقضاض على الفريسة ومحاصرتها  بدون أن تقوى على الإفلات أو يسمع صوتها أحد. وهكذا هو العالم غرفة ضيقة تنقض داخلها الجوارح على الطيور المسالمة. وترافق هذا الموت أجواء احتفالية:

 (محتفلاً بنفسي

وضعتُ دمي في كأسي

وضغتُ منه أوركسترا حروفي ونقاطي

هل أجرّب الرقص؟

نعم سأهيىء من حروفي

رقصة باليه لكرياتي الحمر والبيض

هل أجرّب الموت؟

نعم  سأهيىء من حروفي تابوتاً أخضر

يحمله الشيوخ الملتحون ليضعوه في قصر من المرمر

فأكون معهم وحولهم وبانتظارهم).

 تمتزج طقوس الموت وعمارته بطقوس أخرى احتفالية تملأها الموسيقى والرقص، وكأنّ تجربة الرقص تمتزج  بتجربة الموت ليشكلا عالماً من الأهازيج والحركات التي تقود كلها إلى التلاشي لأن الاحتفال دموي والاوركسترا  صيغت من الدم والرقص أيضاً بطلاته مزيج من كريات بيض وحمر لهن رائحة الدم، ولكن الذات الواحدة التي قامت بالاحتفال انتهى دورها بعد أن دخلت التابوت الاخضر فأصبحت مفعولاً به عندما حملها الشيوخ الملتحون. لكن موتها هنا أيضاً لم يكن نهائياً وهم يضعون التابوت في قصر المرمر ستكون خارجة معهم وحولهم. إذن هي ذات لا تهزم ولا تموت رغم كل ما تتعرض له وبالعنف تقترن الموسيقى دائماً، بالدم أو الموت:

 (وحين اكتمل كلّ شيء

ولم يبقَ سوى موسيقى الفرح العظيم

أطلقتُ عليه النار

وإذ تلوّى دمي بدمه

وصار يسحب خيط الدم بألمٍ فادح

دهشتُ لهول المشهد

ثم ضحكتُ وضحكتُ

وبكيتُ

ومت).

 ورغم محاولة الشاعر إخفاء مشاعر العنف الكامنة في ذاته الاّ أن القارئ يلاحظ تلك الصورة الدموية التي تمتزج بكلّ مكونات قصيدته حتّى الجميلة منها وخصوصاً الموسيقى والرقص وربما كان لانعكاس الألم على ذات الشاعر ذلك التاثير القوي لهذه الصورة التي تشبه فيلماً أمريكياً هو (الرقص مع الذئاب) حيث البطل الوحيد في الصحراء بين الوحوش يروّض بموسيقاه الذئاب ويجعلها أليفة تشاركه رقصته المجنونة حول النار أو تشبه رقصة زوربا اليوناني التي أراد من خلالها أن يدوس على أحزانه وأحزان من حوله ويتحدى الصعوبات. إنّ الضحك من مشهد الدم والألم هنا هو ذلك الضحك المرّ الذي يشبه البكاء، والموت فهو لم يكن ضحكاً متحدياً كرقصة زوربا أو رقصة الذئاب ولهول هذا كلّه يصبح (العدم سعيداً) والموت (كمهرجان أسطوري).. يقول الشاعر أديب كمال الدين:

 (على نارِ شمعة

أريدُ أن أذيب أهرام حزني

وعلى نارِ دمعة

أريدُ أن أحرق رمادَ شبابي

وعلى نارِ اطلاقة

أريدُ أن أبدأ أو أنهي سمفونيةَ دمي).

 إنّ العنف والموسيقى متلازمان على امتداد القصائد:

 (الموتُ على الأبواب

الموتُ هو الصديق الوحيد الذي يتذكّرني بعمق

ولا يكفّ عن إرسال أزهاره السود إليّ

بالبريد المسجّل).

 اننا لم نلاحظ اشمئزاز الشاعر من الموت فهو دائماً مهرجان أو صديق أو لحظة متعة:

 (الزمن مدن بهيئة مقابر مضيئة

وضوء عذب ينير جثث المسافرين) 

 فحسب رأيه يكمن الموت الحقيقي في تلك المدن التي تشبه المقابر والضوء لا يعطيها شرعية الوجود والحياة ولكن مايثير الدهشة هو هذه الصورة المتناقضة التي تجمع بين عذوبة الضوء والجثث وبين الحركة التي يعنيها السفر والجمود الذي يعنيه برود الجثث. ومثلما يقابل بين الموت والحياة والحركة والجمود يجمع الشاعر بين الجريمة والبراءة، وذلك من خلال الاعتراف بالذنب وهذا يعني التطهر الذي تسعى إليه الذات المعذبة نتيجة إحساسها بالخطيئة التي تهدد بحرمانها من معانقة الحرية لأنه لا يتوفر الإحساس بالمسؤولية تجاه من أحبهم الشاعر إلاّ عندما تكون الذات متيقظة وعلى أتم الاستعداد للقفز في أتون الفكر:

 (أنتِ جريمة قتل متكاملة

لا ينقصها إلاّ أنا)

 هكذا يرى الشاعر الحياة من حوله: دم وقتل وجثث وأحلام وأطفال وذات حائرة بين كلّ هذا تبحث داخل متاهة الوجود عن خيط نور يشدها إلى الدنيا كي تحيا من جديد. في النهاية لم أشأ الغوص في الجانب الشكلي للقصائد وفضلت اختيار قراءة تأويلية رغم ما تحمله من مسؤولية لأنّ تجربة الشاعر رغم تشبثها ظاهرياً بالأساطير والخرافات وبعض ملفوظات القاموس القديم، فقد بدت لي تحمل نفساً جديداً يتأرجح بين الرومانسية والكلاسيكية إذ هي من ناحية نابعة من روح حساسة تنعكس على المواضيع وتؤثر فيها ومن ناحية أخرى تبدو الغلبة  ظاهرياً للشكل الذي اختاره الشاعر منذ البداية وطوّع له الجوهر كي يتماشى والحروف والنقاط التي شكّلت رموز هذه القصائد، وكذلك كان الأمر بالنسبة للمواضيع فبملفوظات ناعمة كان يتم التعبير عن معان وحالات قاسية بل بقدر ما تكون الملفوظات ناعمة يكون المعنى الموحي به جارحاً ومرعباً أحيانا.

 

 

 

 

(نقطة) الشاعر أديب كمال الدين

نقطة ذهب على جبين الشعر!

 

د . حسين سرمك حسن

 

 ص 237 - 244

 

  

 هذه (نقطة) ترصّع جبين الشعر العراقي والعربي الحديث، وتؤكد ما قلناه مراراً، إن المدد يأتي إلى الشعر العربي من العراق دائماً. وبهذه النقطة يتربع أديب كمال الدين على عرش شعري قائم بذاته. ولكلّ شاعر عظيم عرشه ورايته. ولا يوجد تسليم رايات في الإبداع. لمن سلّم المتنبي أو الجواهري أو السياب رايته بعد موته أو ولادته بتعبير أدق؟ كلّ شاعر يموت وراية فنه ونرجسيته البيضاء بيده، يمسك بها بعنف ومحبة. كيف يسلّمها وهي الراية التي ستخفق يوم البعث ويصطف خلفها طابور العناوين؟

 لقد حاول الشاعر استكشاف سحر النقطة في القصيدة الثانية من مجموعته وتقليبه على وجهيه: الأبيض والأسود. وقد استهلها بقوله:

 (في ظهيرة تموزية

جلستُ تحت سنّ الشمس

فطحنني الحرّ حتّى ابتلّتْ ثيابي

وقلبي وأصابعي

وسقطتْ من عيني دمعتان....)

سياط الخارج تأكل لحم الذات وتمزّقه.. واللاشعور اللائب مطأطىء الهامة بفعل ضغط الشعور.. الرقيب على غير عادته بجسارته الطفلية المعهودة تحت (سن الشمس) ليطحنه طحنا.. لقد أتعبت شاعرنا الشمسُ وسلَّ قلبه مرأى الجمال وقد توافق اللاشعور مع الشعور على وعد مؤكد هذه المرّة بعد قمـع دائب ـ بدغدغة نرجسية مشتركة ونقلة إشباع غريزي غامر.. وهذا التوافق سحري في جوهره ـ كلّ إيمان بوعد هو سحر بالنسبة للاشعورـ فالشـعور لا يؤمن إلاّ بالمتحقق المادي الناجز.. وقد تحقق الوعد المؤجل والرجاء المعطل... حيث انقلبت الدمعتان ـ بقدرة قادرـ  إلى ساحرين.. ثم سقطت دمعتـان أخريان فصار السحرة أربعة... قصة قصيرة محكمة ستدهشنا حبكتها.. مزج أجناس أدبية يتم لتعطيل اكتشاف الدافع.. ثوب آخر يغلّف جسد الرغبة الأحمر.. لعبة ماهرة تسهم في تحريف الرغبة الأصلية وتشوهها كما يفعل عمل الحلم ـ السحرة الأربعة صنعهم سحر الرغبة الخارق: أربع دمعات من دموع اللاشعور المحاصر المطحون بسنّ الشمس ـ سنّ الشمس وسياطها التي كانت تلهب وجه أديـب وظهره حينما شاهد أربع فتيات خارقات الحسن... سماويات ـ كما قال لي ـ وهو يقف وسط زحام باب المعظم ببغداد العزيزة. وهاهم السحرة الأربعة الذين تشكّلوا من دموع صاحبنا، يتحلّقون حوله ويسألونه بصوت خفيض : لِمَ تبكي؟ فيأتي الجواب حاداً لكنه مغرب وبعيد عن جذر الاستثارة:

(أنا المحروم حد اللعنة

وعذّبني الجوع

والرغيف هنا مغموس بالدم

وأثقلني الفراتُ بالندم).

 كم نقلة حصلت لتستحيل الرغبة.. نداء الغريزة إلى محنة وجود همّ شامل؟ لقد وسع الشاعر حدود محنته وألبسها لباس الجوع والخوف: الرغيف المغموس بالدم.. من قال إن الرغيف رمز للإله الشاب/الابن/ القتيل فقط؟ إنه كعادة رموز اللاشعور مركب تسووي، فهو في جانب منه أول بديل عن الاشباع الأمومي الدافئ الذي لا يعوض– بقية أمومية- ولكن المفارقة تقوم حين يعرض كلّ من السحرة الأربعة مفتاح قدرته السحرية:

* الأول هندي يستطيع أن يلبسه ثياب الذهب.

* الثاني من اللامكان يستطيع الطيران به من غيمة إلى غيمة.

* الثالث من عاد وثمود قادر على إعطائه سرّ اللذة .

أما الرابع فمن الصين وهو بخلاف مهارته المعهودة في الإمساك بأسباب الحكمة والمعرفة قادر هنا على أن يجعل الحلمَ بابَ اليقين. وهذا ليس غريباً لأنّ كلّ شيء تشكّله الرغبة.. والعطش النفسي ممزّق وأوجاع الروح لا حد لضراوتها:

(فلقد دفنني الحرمان

كما يدفن الزلزال

جيشاً قوامه ألف فارس.)

   كلما كانت قبضة الكبت أشد قسوة، كان عمل الحلم باذخاً في عطائه.. لقد حقق الحلم –السحرة الأربعة- الوعد.. وجلس صاحبنا في اليوم الثاني مرتدياً ثياب الذهب وتحت أقدامه غيمة صغيرة جميلة، وامرأة أحلى من العسل وأصابع كفّ تجعل الحلمَ – أيّ حلم– بابَ اليقين. كان صاحبنا تنهش أوصال روحه غربان الكبت السود من الداخل وسياط الحرمان ولهيب الشمس من الخارج. وها قد أنعم عليه سحرته بانفلاتة باهرة خارج حدود المكان وقيود الزمان. ولكن هل يفلح عبر هذه المخاتلة الحلمية في النفاذ والخلاص من قبضة الوجود الحديدية المرعبة؟ ألسنة لهيب الخارج  قادرة على اختراق جسد الحلم الهشّ وإحراق أجنحة الرغبة الطفيلة المحلقة؟ لقد توسّطت الشمسُ كبد السماء وأذابت خيوط الذهب والغيمة الصغيرة وامرأة العسل وكفّ الحلم التي تحوّلتْ إلى أصابع هيكل عظمي.. لقد بانت بوضوح مؤلم صارخ هشاشة الوجود الفردي المحاصر وسموم خديعة اللاشعور، وهاهي – من جديد– ثياب الشاعر المهلهلة– وأقدامه قبيحة كسيحة لا تقوى على الانتقال وشفته مرّة كالسمّ. لقد أفسدت شمس الخارج المتجبرة القاسية لعبة الرغبة وها هو صاحبنا يصرخ:

(يا دموعي يا إخوتي يا أصحابي

أين أنتم

أين أسراركم وإشاراتكم؟)

وتتسرّب في ظل النداء المفجوع الأسى زلة لاشعورية.. فلتة لسان شعرية مبكرة.. فهو العارف إنه يعرف كل شيء.. فهو الذي أحتفظ – بخلافنا– بتلك القدرة الطفيلية المطلقة ولذا فهو يعرف ما تحويه جعبة سحرته وخراجهم من أسرار وإشارات. إنّ محنة الوجود الفردي هي الزوال وصاحبنا يريد الثبات.. لقد أرعبه عريه وهشاشة (مادته) وقبح قدميه اللتين تكافئان ذكورته التي أستفزها مرأى الجمال والحرمان من الإشباع الأمومي.. فما العمل؟ لقد صمت السحرة الأربعة في البداية، وهم ينظرون بإشفاق نحو القلب المحطم كمرآة أعمى! لقد كانوا – في الواقع تكثيراً لأناه الشخصى وعملاً حلمياً بفعل النرجسية الفائضة، وردة نرسيس.. والتثبيت النفسي الذي عرّته ألسنة الشمس. كانت الغيمة الحلمية الوردية دفاعاً والتفافاً أكثر من كونها حلاً وتصالحاً وكشفاً وانكشافاً. لقد قرر السحرة منحه الثبات ونفهمه بمعنى التناغم الصحيح والصحي بين الشعور واللاشعور.. بين الهو والأنا والأنا الأعلى بلا كبت إضافي مؤلم.. ولا سبيل إلى هذا المقال إلاّ من خلال تصفية الكبوتات وكلها مؤسسة على ركائز الرغبات الأوديبية الآثمة. ولكن كلما اهتزت أركان هذه الركائز ارتج العالم الداخلي باكمله وفقدنا الثبات وصرنا عرضة للزوال.. الثبات والزوال شأن داخلي..إنه وظيفة ذلك التناغم الأخاذ الذي لا سبيل إلى الدخول إلى فردوسه. الإنسان حيوان معصوب أوديباً وصاحبنا مطرود من هذا الفردوس المعذب المحروم كما يصفة السحرة ولا خلاص من شباك هذه المحنة إلاّ من خلال تحريفها وتصريفها. ومن هنا جاءت أهمية السحر والشعر  والتصوف واللغة فكلها نبتت في تربةالدوافع الأوديبية، ولم نرَ سوى ساق الشجرة الوارفة وأغصانها. لم نمسك بالجذور ولم نتبع مسارها. لقد قرر السحرة أن لا سبيل إلى تحقيق الثبات إلا إذا تلمّس شاعرنا شيئاً من روحهم. فقام أولهم عارياً من كلّ شيء وقال:

 (سنفعل..

 سنعطيكَ حروفنا أيهذا المعذّب

 ونعلمكَ نقاطنا أيهذا المحروم)..

 سيمنحونه أول وأعظم أدوات السحر التي امتلكها الإنسان عبر تاريخ نموه النفسجنسي.. أداة قادرة على إحضار موضوع الحبّ الطفلي وخلقه: (تقول للشيء كن فيكون).. المطلق كلمة.. وفي هذا ما يخيف:

(لكننا نخاف إن تعلمتها

أن تسخر من الذهب وثياب الذهب

أن تسخر من البلدان

أن تسخر من الأثداء والسيقان

أن تسخر من الأحلام).

هنا تحل اللعنة ويسود الخراب المدمر.. حيث ينتقل الإنسان لا من سجن العقل كما يقول كانط أو سجن الرغبة كما يقول فرويد إلى سجن اللغة كما فعل هيدجر بل إلى سجن النقطة… النقطة الذات.. وردة نرسيس المثبتة حد اللعنة تلك الذات التي لاتدرك أن مرأى الفتيات السماويات الأربع في زحام تلك الظهيرة التموزية القائظة في باب المعظم والجريدة على الرأس لاتقاء سياط الشمس أعظم من أيّ اكتفاء ذاتي نقطوي.. صوفي.. وأروع من أيّ حل سحري دفاعي والتفاتي.. فحين يصبح الفرد نقطة سوداء في بحر المطلق فإنه سيصبح:

 ( فارغاً

بارداً

ضائعاً

عارياً للأبد)..

 ولكن ما الذي سيحصل له حين يكون نقطة بيضاء؟

 

  

 

نص القصيدة: محاولة في السحر

إلى: د. بشرى موسى صالح

 

 (1)

في ظهيرة تموزية

جلستُ تحت سن الشمس

فطحنني الحرّ حتّى ابتلّتْ ثيابي

وقلبي وأصابعي

وسقطتْ من عيني دمعتان

انقلبتا، بقدرة قادر، إلى ساحرين

ثم سقطت دمعتان

فصار السحرةُ أربعة

تحلّقوا حولي بهدوء

(لِمَ تبكي؟) سألوني بصوتٍ خفيض

قلتُ لهم: أتعبتني الشمس

وسلّ قلبي مرآى الجمال

أنا المحروم حد اللعنة

وعذّبني الجوع

والرغيفُ هنا مغموس بالدم

وأثقلني الفراتُ بالندم.

قال أولهم: أنا من الهند

أستطيع أن ألبسكَ ثيابَ الذهب.

وقال ثانيهم: أنا من اللامكان

أستطيع أن أطير بكَ من غيمةٍ إلى غيمة.

وقال ثالثهم: أنا من عاد وثمود

أنا مَن يعطيكَ سرّ اللذة.

وقال رابعهم: أنا من الصين

أنا مَن يجعل الحلمَ بابَ اليقين.

قلتُ لهم: عجّلوا عجّلوا

فلقد دفنني الحرمان

كما يدفن الزلزال

جيشاً قوامه ألف فارس.

(2)

في اليوم الثاني

جلستُ مرتدياً ثياب الذهب

وتحت قدمي غيمة صغيرة جميلة

وامرأة أحلى من العسل

وأصابع كفّ تجعل الحلمَ – أيّ حلم –

بابَ اليقين.

(3)

لكن الشمس إذ توسّطت السماء

ذابتْ خيوطُ الذهب

فبدتْ ثيابي مهلهلة

وذابت الغيمة ُالصغيرةُ الجميلة

فبدتْ قدمي قبيحة

وذابت امرأة ُالعسل

فبدتْ شفتي مرّةً كالسمّ

وذابتْ كفّ الحلم

حتّى تحوّلتْ إلى أصابع هيكل عظمي

فصرختُ: يا دموعي يا إخوتي يا أصحابي

أين أنتم؟

أين أسراركم وإشاراتكم؟

(4)

صمت السحرةُ الأربعة

لكنّ رابعهم أشفق على قلبي المحطّم

كمرآة أعمى

قال: أتريد الثبات لا الزوال؟

قلتُ :نعم.

قال: لا سبيل إلى ذاك المقال

إلاّ إذا تلمّستَ شيئاً من روحنا

فأومأ الثلاثةُ بالايجاب.

ثم قام أولهم عارياً من كلّ شيء

قال: سنفعل

سنعطيكَ حروفنا أيّهذا المُعَذّب

ونعلّمكَ نقاطنا أيّهذا المحروم

لكننا نخاف إن تعلّمتها

أن تسخرَ من الذهبِ وثياب الذهب

أن تسخرَ من البلدان

أن تسخرَ من الأثداءِ والسيقان

أن تسخرَ من الأحلام

فتكون مثلنا فارغاً

بارداً

ضائعاً

عارياً للأبد.  

  

   

 

النقطة: تشكيل لغوي ومعادل ترميزي لأزمة الذات

 

عيسى حسن الياسري

 

ص 245 - 249

 

   

في الطعنة الأربعين

أجلسُ قرب شجرتكَ: شجرة التين

وأقول لها:

يا شجرة مَن تظهر الأشجار صورته

كلّ آن وحين

ها أنذا قربكِ في عواصم الجوع

أدعو الله أن يؤيدكِ بالثمر

علّي أشبع

ويؤيدكِ بالماء

علّي أرتوي

ويؤيدكِ بالكتابة

علّي أكتب نشيدي للحلم...

(قصيدة محاولة في الرثاء)  ص5

  الشاعر أديب كمال الدين واحد من شعرائنا العراقيين المتميزين، لاسيّما بعد أن أستطاع أن يجد له طريقاً كتابياً خاصاً به يمرّ من خلال عناقه الحميم مع أهم منجز إبداعي شعري عرفه تراثنا العربي الخالد ونعني به الشعر الصوفي. وعلى الرغم من أن القراءة الخارجية لقصيدة أديب كمال الدين توحي بأنها اعتمدت إنجازات الصوفيين في الاستخدامات الحروفية بصورة خاصة الاّ أن القراءة التحليلية لهذه القصيدة.. لم تأخذ من المدرسة الصوفية سوى تشكيلاتها الخارجية.. إيماناً من الشاعر.. بأنه يعيش عصراً يبتعد كثيراً في إشكالاته.. وتعقيداته  وأزماته النفسية والروحية عن العصر الذي عاشه الصوفي القديم على الرغم من تشابه النهايات التدميرية التي يشترك فيها العصران. وإنّ عودة سريعة إلى بعض مجموعاته الشعرية.. والتي تعلّق على واجهاتها لافتات صوفية.. تتضح من خلال التسميات الحروفية لتلك المجموعات مثل حرف (الجيم) وحرف (النون) ومن ثم ( النقطة) إلاّ أن الاستخدام الداخلي للحرف عند الشاعر.. يخرج عن شرطه الصوفي.. ليتحول إلى معادل ترميزي يعالج من خلاله أزمته الذاتية والموضوعية في آن معاً. إنّ شاعرنا لم يتوقف عند الحدود الرؤوية الصوفية المتقدمة التي اتخذت من الحرف (طلسماً) لا يتعدى عن كونه مفتتحاً لتعويذة سحرية أو مقابلة (رقمية) كما هو حاصل في (الأبجدية الحروفية) والتي أعطت لكل حرف رقماً يبدأ من (1) الذي يشكل أعلى قيمة رقمية لحرف (الألف) وتنتهي بالرقم (1000) والذي يشكل أعلى قيمة رقمية في هذه الأبجدية.. والتي استحوذ عليها.. واتصف بها حرف (الغين) ولعل أكثر الاستخدامات التي لجأ اليها الصوفيون الأوائل للمنجز الحروفي وسيلة لاستقراء الدورة الفلكية للشمس والقمر والكواكب السيارة  وربطها بعوالم الشر القائمة على الأرض. وعلى الرغم من أنها استخدامات توحي لنا بتوفرها على حد ترميزي لا يستهان به.. وعلى الرغم من أنّ هذا الحد التميزي  يمسّ ولو بطريقة غير مباشرة محفة الذات الإنسانية في عالم لا يفتح أمامها أصغر نافذة للضوء أو الحرية.. الاّ أنه استخدام ظلّ يمثل مرحلته التاريخية.. وشرطه الزمني تمثيلاً صادقاً ومبدعاً.. مما يجعل منه ذا قوة خلاقة تنشط إبداعنا المعاصر وتغذّيه بعناصر كتابية فاعلة إلاّ أن نقل هذه التجربة نقلاً مباشراً.. وبالحدود والمسافات والأبنية التي منحها لها عصرها.. سيكون له تأثيره السلبي على تجربتنا المعاصرة. هذا الأمر وعاه جيداً شاعرنا أديب كمال الدين.. لذا فانه وكما أشرنا قبل لحظات .. لم يتخذ من ذلك المنجز الكبير الاّ تلك القيمة الابداعية والتي تنسجم تماماً مع عصره الذي يتميز عما سبقه في أزماته.. ومحنة الإنسان فيه.. مما يتطلب من الشاعر والكاتب المبدع أن يمتلك وعياً مُشكّلاً بطريقة قادرة على خلق أساطيرها ورموزها الحياتية الفاعلة.. التي تحمل كلّ سمات عصرها.. لأنّ كلّ أبداع معزول عن عصره.. وأزمة إنسان عصره.. سيظل مرفوضاً في حضرة الأزمنة القابلة. ونحن هنا.. ومن خلال استقرائنا لمجموعة الشاعر أديب كمال الدين والتي تحمل عنوان (النقطة) لا نتوقف طويلاً عند هذا العنوان لأنه ومن أول نص يقابلنا من نصوصه الشعرية فيه نراه يغادر منطقته الصوفية تلك التي تجعل من النقطة وعلى الرغم من صغرها المتناهي المحور والقطب الذي تبدأ منه الحياة.. ومن ثم تبقى تدور من حوله ليوظف هذه النقطة توظيفاً(رمزياً) معاصراً.. ويشكّل إضافة لا يستهان بها للرموز الشعرية الصوفية.. آخذاً بنظر الإعتبار الرمز الشعري الذي ينسجم مع أزماته المعاصرة.. وتبرز أزمة الشاعر بكل وضوح وهو يتصفح تقاويم العمر.. وعندما يقف أمام صفحتها الأربعين نجده يحتفل بها بطريقة معذبة ومحزنة  فبدلاً من أن يوقد لها (أربعين شمعة) ويقدم بين يديها (كعكة) الفرح  ويعلّق الأشرطة والبالونات الملونة في غرفة الجلوس وعلى غرار مايفعله السعداء والمبتهجون بأعمارهم.. بدلاً من هذا كله يقدّم الشاعر أمام هذه الصفحة مرثاته الحزينة.. فهو ومن خلالها  ولا يرى أمامه سوى كدس من الآلام والعذابات والجوع.. بل وحتّى عدم الحصول على كمية كافية من الهواء الذي يتنفسه.. وعبر مقاطع القصيدة الستة يعطي الشاعر أكثر من توصيف لهذه الورقة التي أخافته وأرعبته.. فهو مرّة يصفها (بالعام الأربعين) وأخرى يطلق عليها اسم (الصيحة الأربعين) أو (الليلة الأربعين) أو(الخزانة الأربعين) أو (الطعنة الأربعين) أو (الباب الأربعين).. ومن خلال هذه الصفات الموجعة نرى أي جحيم عاشه الشاعر عبر أربعين سنة من العمر الضائع.. والذي لا جدوى منه.. ولا نفع فيه.. ويستخدم الشاعر الكثير من الحروف التي تنسجم رمزياً.. مع الحالة النفسية التي يعيشها.. ولعل أكثر تلك الحروف نجاحاً في أستخدامها كمعادل ترميزي للحالة التي يعيشها الشاعر هو الحرف (الحاء):

 في الليلة الاربعين

سقطتْ صيحتي

فجمعتُ زجاجها بلساني الجريح

كانت الصيحةُ مرسومة (بالحاء).

كانت الصيحةُ طفولية كالماء...

 لقد استخدم الشاعر (حرف الحاء) في هذا المقطع الصغير خمس مرات لأنّ (الحاء)  هو الحرف الذي عندما نلفظه لا يتجه إلى خارج الفم بقدر مايتجه إلى الداخل.. وإلى حيث موقع (القلب) وهذا الأمر يتحقق في حالتي الوجع الذي يسبب (الصيحة) أو (الحبّ) الذي يفقد القلب الإنساني هدوءه واستقراره.. لأنّ هاتين الحالتين الإنسانيتين محكومتان بذلك الاحتراق الذي يكون داخل الإنسان حاضنته. أما في المقطع الخامس من هذه القصيدة المؤثرة.. فهو يستخدم الشجرة وبالذات (شجرة التين) والتي عرفت بأداء وظيفة (سترالعورة) بطريقة إشارية.. تؤسس إحالات نفسية ممتزجة بوعي ميثولوجي.. فالشاعر هنا ينزع عن هذه الشجرة التي طفق (جداه آدم وحواء) يخصفان عليهما من ورقها: وظيفتها الطيبة.. من خلال شرط مجاورته لهذه الشجرة التي ما عادت تمارس فعلها التكتمي الذي يحمي الإنسان من أخطائه الصغيرة.. وربما يحميه حتّى من فضائله التي ماعادت مقبولة من عصره.. نظراً لاتساع المناطق المحرمة في جسد هذا العالم.. لقد تحولت  شجرة  (التين) إلى شجرة عاقر.. لا تمنح الجائع ثمرة.. ولا العاري ورقة يستر بها عريه.. إضافة إلى افتقادها قوتها في المخيلة الحلمية.. وهنا تتجسد خسارات الشاعر الفادحة وهو يقف أمام (عامه الأربعين) أو (المحطة الاربعين) لرحلة العمر:

 كان الحلم هناك مقتولاً

كحرفٍ سقطَ من فمٍ أخرس

كموعدِ حبّ مزّقته السكاكين

كنارٍ طيبةٍ بالتْ عليها الكلاب.

 ففي الشطر الأخير من هذا المقطع يقدّم الشاعر إحالة تناصية مع بيت شعري لأحد الشعراء القدامى يقول فيه:

 قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم                      قالوا لأمّهم بولي على النارِ

 وهي إحالة تناصية تتفق مع تحولات وعي الشاعر داخل القصيدة من دون أن تكون إحالة مقحمة حيث أبعد الأم كرمز للحنو.. ووظف بدلاً عنها (الكلاب) وتكاد قصائد الديوان أن تتفق جميعها على الاتجاه سوية.. وبإيقاع سمفوني متناسق نحو أكثر مناطق الشاعر وجعاً.. وإيلاماً.. وتظل ملازمة له.. حتّى وهو  في أشد حالاته النفسية والروحية تناقضاً عبر محاولاته التحرر من قيده المادي.. وولوج عالم الروحانية.. وهنا يتناهبه قطبا اللذة وكذلك ترويض الجسد:

 أن تسخر من البلدان

أن تسخر من الأثداء والسيقان

أن تسخر من الأحلام

فتكون مثلنا فارغاً

بارداً

ضائعاً

عارياً للأبد.

 وعلى الرغم من أن (أنا) الشاعر ترتفع معلنة عن نفسها في أكثر من قصيدة  إلاّ أنها (الأنا) التي تخرج من حدودها الذاتية الضيقة.. لتدخل في شرطها الموضوعي المتسع .. فهو عندما يعلن بأنه (بريق سيف الأصلع البطين) ويعني بذلك الإمام (علي بن أبي طالب) أو أنه يمثل الثورات الخرافية.. وأنه معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى  وأنه (آدم) وهو (بقية من لا بقية له) وهو (الفرات قتيلا ً) وهو (دم عبد الله الرضيع) الذي أخذته السماء و (دجلة المدججة بالإثم) وأنه فيه يختبىء (ألف جريح).. إنّ أناه هذه وغيرها من عشرات (الأنا) التي أحتشدت بها قصيدته (محاولة في أنا النقطة) ما هي الاّ إشارات واضحة يتحدث فيها عن وطن كبير.. وأمة تضرب جذورها في عمق التاريخ البعيد. وإنسان يحمل إرثه الخالد على كتفيه.

إنّ الشاعر أديب كمال الدين وهو يواصل كشوفاته عبر منظومته الحروفية الخاصة يركّز في مجموعته هذه على نموذج ضدي يبدأ من القداسة وينتهي إلى التلوّث ووساخة هذا العالم.. من طهارة (النون) إلى تحولها إلى (بغي) وهو يرى في كائنه البشري (العالم الأكبر) الذي تحوّل إلى (جرم صغير) لا أحد يلتفت إليه.

إننا نقف في هذه المجموعة أمام أكثر من مفارقة شعرية رائعة حيث تنسلخ الأشياء عن كينونتها الحقيقية لتلبس أقنعتها المضللة والزائفة:

 لم يعد الرغيفُ حلماً

صار قصيدة حبّ

لا تُقرأ إلاّ بين يدي الملوك.

 

 

 

(النقطـة):

مثول الذات في صميم الوجود المطلق

 

رياض عبد الواحد

 

 ص 251 - 253

 

 

مابين النقطة والمعرفة الأصلية مساحة واسعة قد تملؤها الحروف، التفاصيل، الهذيان، المعارف والأحزان. هذه جميعاً  تتمحور فـي النقطة / المطلق  لتحقق حضوراً شيئياً لكلّ الموجودات التي تحيط ب (أنا) الشاعر، أو (أنا) الآخر، لذلك تمتد النقطة وتتسع في المكان، تتسع لتصبح علاقة احتجاج، محاولة في الجنون، أو في ما يشكّل مكوّنات كريات دمها المسفوح على الأبواب والأحلام، لتكون نقطة البدء ونهاية الأفق الروحي. هي ربما، عزلة الذات عن الآخر بكل مايحمل من تعاملات تؤثر هنا أو هناك على ما يحيط بها أو هي تجاوز ماتحمله منفصلة مرّة بكيانها ومتحدة مرّة أخرى بما يشاكلها من حروف هجائية أو علامات صوتية  تتوحّد لتعطينا صورة مرئية ومحسومة  للعام من خلال ما يترشح من الخاص الذي ينظر إلى الأشياء وينفذ فيها من خلال كوّة النقطة واستطالات الحروف.

إنّ ما فعله الشاعر أديب كمال الدين على مستوى المنجز الشعري ليس سهلاً. فهو أراد أن تكون له لغة منظورة، أي ذات بعد فني لذلك حاول الاعتماد على المختزلات (النقطة والحرف) ليؤلف بين ماهو داخلي وما هو خارجي، ويمازج بين ماهو زماني وما هو مكاني في ما يخصّ حقيقة الوجود الإنساني الذي لايقرّ له قرار:  

لا شيء ـــ طفولة

لا جدوى ــ صباي

لا معنى ـــ لذّتي

لا مستقر ــ جثّتي

هذه التقابلات تخفّف شدّة الصدمة عند المتلقي، بيد انها لا تستطيع أن  تهبنا نهاية تكون في صالح الكفّة الجيدة، وهذا مايجعلنا نستتنج أو نصل إلى قناعة تحيلنا على عدم تجذّر الذات التي يتحدث عنها الشاعر/ وهي ذات الشاعر في الأغلب، فهذه الذات طافية في فضاءات غير مستقرة وإن كان مركزها غير متحول (النقطة) غير أنها أرادت المقايضة، وإن بدت تك المقايضة غير فاعلة في إنقاذ تلك الذات مما يعرش فوقها من تعب مكدود:

لكنْ بدل أن تبتهج أسطورتي

أطلقتْ عليّ النار.

 إنّ هذه المناصفة التي احتلت مساحة في قصيدة (محاولة في سؤال النقطة) لم تحدث خلخلة في جو القصيدة العام، بل أعطت فضاءَ القصيدة العام لذةَ التضاد المعرفي المبني على كلمات يملأ فضاءها ذلك التقابل بما لا يجعله متمكناً من إحداث شرخ في هيكل القصيدة العام.

إنّ حركة قصائد ديوان (النقطة) التي تلمع فيها إرهاصات الذات/ داخلية أو خارجية  نمت بين خط وهمي بدايته في الماضي وامتدادته في الحاضر، وقد جسّدت الجمل الاسمية التي جاءت مفتتحاً لكلّ قصائد الديوان تتكثـف إرهاصاتها مشيرة من خلال الشفرات الخفية التي يستنطقها الشاعر من أجواء عالم النقطة كاشفاً لنا قدرته على خلق كينونته غير المستقرة الباحثة عن سرّها في الآخر/ المطلق الذي تتوّحد فيه من أجل الوصول أو الالتحام به من خلال التصورات التي تبدأ من النقطة  لتنتهي في غيب (الهو) الذي ليس كمثله شيء. أزمة الذات إذن لا تكون في الخضوع الأعمى إلى العبث واللاجدوى ولا تركن إلى الفوضى بل تركض خلف مشتهاها من خلال الخلاص الروحي باتجاه ماهو حيوي وغير حياتي، آني في التحصيل. وهي بهذا تؤسس تاريخاً انتقالياً مما هو جزئي إلى ماهو كلّي،  ومما هو نسبي إلى ماهو مطلق وهنا تظهر المعادلة كالآتي: الذات = النقطة = الهو.

 إنّ تحوّلات ذات الشاعر هي تحوّلات اتجاهية باتجاه تأسيس موقف روحي يتجاوز (كثافته نحو كينونته، نحو وجوده غير اللاذاتي= علاقة حركة النقطة المكانية بالزمان أي صلته بالمطلق). إذن هو لا يستكين داخل ذاته ولا يقف عند حدود عالمه الخارجي، غير أنه يتحرك في ضوء المرسوم على هذا الخط الممتد بين تلك الذات وهذا العالم ليرسم خطاً للتعبيرعلى لائحة الزمن:

 هكذا كنتُ صحراء فكان الحرفُ جَمَلاً

هكذا كنتُ ضياعاً فكانت النقطةُ معنى

هكذا كنتُ حتّى امتلأتُ

هكذا طرتُ أنا وجَمَلي

طرتُ كغيمةٍ من نور.

 بهذا الثقل الروحي يحمل الحرف والنقطة الخلاص (لاحظ المقابل للذات الذي تمثله تاء المتكلم) 

كنتُ صحراء ـــــ   جَمَلاً

كنتُ ضياعاً ـــــ   النقطة

كنتُ ــــــ حتّى امتلأتُ

 في هذا الجو التقابلي تتشكل صورة المطلق ـ الهو على هيئة نور منقذ للذات مما اعتراها في مسيرتها الطويلة.

 إنّ  ديوان (النقطة) يترك فينا أثراً واضحاً من خلال تقنيته السمعية والحسية. إننا هنا ازاء عمل جديد بدلالة الموقف والاقتراحات اللغوية التأملية  ذات الدفق الهادئ النزاع إلى توسيع افاق المتلقي وتحرّيه عما يمكن وراء مثل هذا التناول الشعري الجديد والذي يمكن أن نقول  فيه من دون تردد بأنّ صاحبه له قصب السبق في هذا الميدان الذي ترك فيه وعليه بصمات واضحة ستبقى علامة مضيئة له في تجربته المتفرّدة التي نحتها بتعب وجهد واضحين في مشغله الشعري الذي أنتج لنا مشغولات شعرية تستحق الثناء. 


يتبع ق4


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home

 

يتبع