(نقطة) الشاعر أديب كمال الدين

نقطة ذهب على جبين الشعر!

 

   

 

 

د . حسين سرمك حسن

 

 هذه (نقطة) ترصّع جبين الشعر العراقي والعربي الحديث، وتؤكد ما قلناه مراراً، إن المدد يأتي إلى الشعر العربي من العراق دائماً. وبهذه النقطة يتربع أديب كمال الدين على عرش شعري قائم بذاته. ولكلّ شاعر عظيم عرشه ورايته. ولا يوجد تسليم رايات في الإبداع. لمن سلّم المتنبي أو الجواهري أو السياب رايته بعد موته أو ولادته بتعبير أدق؟ كلّ شاعر يموت وراية فنه ونرجسيته البيضاء بيده، يمسك بها بعنف ومحبة. كيف يسلّمها وهي الراية التي ستخفق يوم البعث ويصطف خلفها طابور العناوين؟

 لقد حاول الشاعر استكشاف سحر النقطة في القصيدة الثانية من مجموعته وتقليبه على وجهيه: الأبيض والأسود. وقد استهلها بقوله:

 

 (في ظهيرة تموزية

جلستُ تحت سنّ الشمس

فطحنني الحرّ حتّى ابتلّتْ ثيابي

وقلبي وأصابعي

وسقطتْ من عيني دمعتان....)

 

سياط الخارج تأكل لحم الذات وتمزّقه.. واللاشعور اللائب مطأطىء الهامة بفعل ضغط الشعور.. الرقيب على غير عادته بجسارته الطفلية المعهودة تحت (سن الشمس) ليطحنه طحنا.. لقد أتعبت شاعرنا الشمسُ وسلَّ قلبه مرأى الجمال وقد توافق اللاشعور مع الشعور على وعد مؤكد هذه المرّة بعد قمـع دائب ـ بدغدغة نرجسية مشتركة ونقلة إشباع غريزي غامر.. وهذا التوافق سحري في جوهره ـ كلّ إيمان بوعد هو سحر بالنسبة للاشعورـ فالشـعور لا يؤمن إلاّ بالمتحقق المادي الناجز.. وقد تحقق الوعد المؤجل والرجاء المعطل... حيث انقلبت الدمعتان ـ بقدرة قادرـ  إلى ساحرين.. ثم سقطت دمعتـان أخريان فصار السحرة أربعة... قصة قصيرة محكمة ستدهشنا حبكتها.. مزج أجناس أدبية يتم لتعطيل اكتشاف الدافع.. ثوب آخر يغلّف جسد الرغبة الأحمر.. لعبة ماهرة تسهم في تحريف الرغبة الأصلية وتشوهها كما يفعل عمل الحلم ـ السحرة الأربعة صنعهم سحر الرغبة الخارق: أربع دمعات من دموع اللاشعور المحاصر المطحون بسنّ الشمس ـ سنّ الشمس وسياطها التي كانت تلهب وجه أديـب وظهره حينما شاهد أربع فتيات خارقات الحسن... سماويات ـ كما قال لي ـ وهو يقف وسط زحام باب المعظم ببغداد العزيزة. وهاهم السحرة الأربعة الذين تشكّلوا من دموع صاحبنا، يتحلّقون حوله ويسألونه بصوت خفيض : لِمَ تبكي؟ فيأتي الجواب حاداً لكنه مغرب وبعيد عن جذر الاستثارة:

 

(أنا المحروم حد اللعنة

وعذّبني الجوع

والرغيف هنا مغموس بالدم

وأثقلني الفراتُ بالندم).

 

 كم نقلة حصلت لتستحيل الرغبة.. نداء الغريزة إلى محنة وجود همّ شامل؟ لقد وسع الشاعر حدود محنته وألبسها لباس الجوع والخوف: الرغيف المغموس بالدم.. من قال إن الرغيف رمز للإله الشاب/الابن/ القتيل فقط؟ إنه كعادة رموز اللاشعور مركب تسووي، فهو في جانب منه أول بديل عن الاشباع الأمومي الدافئ الذي لا يعوض– بقية أمومية- ولكن المفارقة تقوم حين يعرض كلّ من السحرة الأربعة مفتاح قدرته السحرية:

* الأول هندي يستطيع أن يلبسه ثياب الذهب.

* الثاني من اللامكان يستطيع الطيران به من غيمة إلى غيمة.

* الثالث من عاد وثمود قادر على إعطائه سرّ اللذة .

أما الرابع فمن الصين وهو بخلاف مهارته المعهودة في الإمساك بأسباب الحكمة والمعرفة قادر هنا على أن يجعل الحلمَ بابَ اليقين. وهذا ليس غريباً لأنّ كلّ شيء تشكّله الرغبة.. والعطش النفسي ممزّق وأوجاع الروح لا حد لضراوتها:

 

(فلقد دفنني الحرمان

كما يدفن الزلزال

جيشاً قوامه ألف فارس.)

 

   كلما كانت قبضة الكبت أشد قسوة، كان عمل الحلم باذخاً في عطائه.. لقد حقق الحلم –السحرة الأربعة- الوعد.. وجلس صاحبنا في اليوم الثاني مرتدياً ثياب الذهب وتحت أقدامه غيمة صغيرة جميلة، وامرأة أحلى من العسل وأصابع كفّ تجعل الحلمَ – أيّ حلم– بابَ اليقين. كان صاحبنا تنهش أوصال روحه غربان الكبت السود من الداخل وسياط الحرمان ولهيب الشمس من الخارج. وها قد أنعم عليه سحرته بانفلاتة باهرة خارج حدود المكان وقيود الزمان. ولكن هل يفلح عبر هذه المخاتلة الحلمية في النفاذ والخلاص من قبضة الوجود الحديدية المرعبة؟ ألسنة لهيب الخارج  قادرة على اختراق جسد الحلم الهشّ وإحراق أجنحة الرغبة الطفيلة المحلقة؟ لقد توسّطت الشمسُ كبد السماء وأذابت خيوط الذهب والغيمة الصغيرة وامرأة العسل وكفّ الحلم التي تحوّلتْ إلى أصابع هيكل عظمي.. لقد بانت بوضوح مؤلم صارخ هشاشة الوجود الفردي المحاصر وسموم خديعة اللاشعور، وهاهي – من جديد– ثياب الشاعر المهلهلة– وأقدامه قبيحة كسيحة لا تقوى على الانتقال وشفته مرّة كالسمّ. لقد أفسدت شمس الخارج المتجبرة القاسية لعبة الرغبة وها هو صاحبنا يصرخ:

 

(يا دموعي يا إخوتي يا أصحابي

أين أنتم

أين أسراركم وإشاراتكم؟)

 

وتتسرّب في ظل النداء المفجوع الأسى زلة لاشعورية.. فلتة لسان شعرية مبكرة.. فهو العارف إنه يعرف كل شيء.. فهو الذي أحتفظ – بخلافنا– بتلك القدرة الطفيلية المطلقة ولذا فهو يعرف ما تحويه جعبة سحرته وخراجهم من أسرار وإشارات. إنّ محنة الوجود الفردي هي الزوال وصاحبنا يريد الثبات.. لقد أرعبه عريه وهشاشة (مادته) وقبح قدميه اللتين تكافئان ذكورته التي أستفزها مرأى الجمال والحرمان من الإشباع الأمومي.. فما العمل؟ لقد صمت السحرة الأربعة في البداية، وهم ينظرون بإشفاق نحو القلب المحطم كمرآة أعمى! لقد كانوا – في الواقع تكثيراً لأناه الشخصى وعملاً حلمياً بفعل النرجسية الفائضة، وردة نرسيس.. والتثبيت النفسي الذي عرّته ألسنة الشمس. كانت الغيمة الحلمية الوردية دفاعاً والتفافاً أكثر من كونها حلاً وتصالحاً وكشفاً وانكشافاً. لقد قرر السحرة منحه الثبات ونفهمه بمعنى التناغم الصحيح والصحي بين الشعور واللاشعور.. بين الهو والأنا والأنا الأعلى بلا كبت إضافي مؤلم.. ولا سبيل إلى هذا المقال إلاّ من خلال تصفية الكبوتات وكلها مؤسسة على ركائز الرغبات الأوديبية الآثمة. ولكن كلما اهتزت أركان هذه الركائز ارتج العالم الداخلي باكمله وفقدنا الثبات وصرنا عرضة للزوال.. الثبات والزوال شأن داخلي..إنه وظيفة ذلك التناغم الأخاذ الذي لا سبيل إلى الدخول إلى فردوسه. الإنسان حيوان معصوب أوديباً وصاحبنا مطرود من هذا الفردوس المعذب المحروم كما يصفة السحرة ولا خلاص من شباك هذه المحنة إلاّ من خلال تحريفها وتصريفها. ومن هنا جاءت أهمية السحر والشعر  والتصوف واللغة فكلها نبتت في تربةالدوافع الأوديبية، ولم نرَ سوى ساق الشجرة الوارفة وأغصانها. لم نمسك بالجذور ولم نتبع مسارها. لقد قرر السحرة أن لا سبيل إلى تحقيق الثبات إلا إذا تلمّس شاعرنا شيئاً من روحهم. فقام أولهم عارياً من كلّ شيء وقال:

 

 (سنفعل..

 سنعطيكَ حروفنا أيهذا المعذّب

 ونعلمكَ نقاطنا أيهذا المحروم)..

 

 سيمنحونه أول وأعظم أدوات السحر التي امتلكها الإنسان عبر تاريخ نموه النفسجنسي.. أداة قادرة على إحضار موضوع الحبّ الطفلي وخلقه: (تقول للشيء كن فيكون).. المطلق كلمة.. وفي هذا ما يخيف:

 

(لكننا نخاف إن تعلمتها

أن تسخر من الذهب وثياب الذهب

أن تسخر من البلدان

أن تسخر من الأثداء والسيقان

أن تسخر من الأحلام).

 

هنا تحل اللعنة ويسود الخراب المدمر.. حيث ينتقل الإنسان لا من سجن العقل كما يقول كانط أو سجن الرغبة كما يقول فرويد إلى سجن اللغة كما فعل هيدجر بل إلى سجن النقطة… النقطة الذات.. وردة نرسيس المثبتة حد اللعنة تلك الذات التي لاتدرك أن مرأى الفتيات السماويات الأربع في زحام تلك الظهيرة التموزية القائظة في باب المعظم والجريدة على الرأس لاتقاء سياط الشمس أعظم من أيّ اكتفاء ذاتي نقطوي.. صوفي.. وأروع من أيّ حل سحري دفاعي والتفاتي.. فحين يصبح الفرد نقطة سوداء في بحر المطلق فإنه سيصبح:

 

 ( فارغاً

بارداً

ضائعاً

عارياً للأبد)..

 

 ولكن ما الذي سيحصل له حين يكون نقطة بيضاء؟

 

   

نص القصيدة: محاولة في السحر

شعر: أديب كمال الدين

إلى: د. بشرى موسى صالح

 

 

 1.

في ظهيرةٍ تموزيّة

جلستُ تحتَ سنّ الشمس

فطحنني الحَرُّ حتّى ابتلّتْ ثيابي

وقلبي وأصابعي.

وسقطتْ من عيني دمعتان

انقلبتا، بقدرةِ قادرٍ، إلى ساحرَين.

ثُمَّ سقطتْ دمعتان

فصارَ السحرةُ أربعة

تحلّقوا حولي بهدوء،

لِمَ تبكي؟ سألوني بصوتٍ خفيض.

قلتُ لهم: أتعبتني الشمس

وسلَّ قلبي مرآى الجمال،

أنا المَحروم حدّ اللعنة،

وعذّبني الجوع

والرغيفُ هنا مغموسٌ بالدم

وأثقلني الفراتُ بالندم.

قالَ أوّلهم: أنا مِن الهند

أستطيعُ أنْ أُلبسكَ ثيابَ الذهب.

وقالَ ثانيهم: أنا مِن اللامكان

أستطيعُ أنْ أطيرَ بكَ مِن غيمةٍ إلى غيمة.

وقالَ ثالثهم: أنا مِن عادٍ وثمود

أنا مَن يعطيكَ سرَّ اللّذّة.

وقالَ رابعهم: أنا مِن الصين

أنا مَن يجعل الحُلْمَ بابَ اليقين.

قلتُ لهم: عجّلوا عجّلوا

فلقد دفنني الحرمان

كما يدفنُ الزلزال

جيشاً قوامه ألف فارس.

2.

في اليومِ الثاني

جلستُ مرتدياً ثيابَ الذهب

وتحتَ قدمي غيمةٌ صغيرةٌ جميلة

وامرأةٌ أحلى مِن العسل

وأصابع كفٍّ تجعلُ الحُلْمَ – أيّ حُلْم –

بابَ اليقين.

3.

لكنَّ الشمس إذ توسّطت السماء

ذابتْ خيوطُ الذهب

فبدتْ ثيابي مُهلهلة.

وذابت الغيمةُ الصغيرةُ الجميلة

فبدتْ قدمي قبيحة.

وذابت امرأةُ العسل

فبدتْ شفتي مُرّةً كالسمّ.

وذابتْ كفُّ الحُلْم

حتّى تحوّلتْ إلى أصابع هيكلٍ عظميّ.

فصرختُ: يا دموعي يا إخوتي يا أصحابي

أينَ أنتم؟

أينَ أسراركم وإشاراتكم؟

4.

صمت السحرةُ الأربعة

لكنَّ رابعهم أشفقَ على قلبي المُحطَّم

كمرآةِ أعمى،

قال: أتريد الثباتَ لا الزوال؟

قلتُ: نعم.

قال: لا سبيل إلى ذاك المقال

إلّا إذا تلمّستَ شيئاً مِن روحنا.

فأومأ الثلاثةُ بالإيجاب.

ثُمَّ قامَ أوّلهم عارياً مِن كلّ شيء،

قال: سنفعل،

سنعطيكَ حروفنا أيّهذا المُعَذّب

ونعلّمكَ نقاطنا أيّهذا المَحروم

لكننا نخاف إن تعلّمتَها

أنْ تسخرَ مِن الذهبِ وثيابِ الذهب

أنْ تسخرَ مِن البلدان

أنْ تسخرَ مِن الأثداءِ والسيقان

أنْ تسخرَ من الأحلام،

فتكون مثلنا فارغاً

بارداً

ضائعاً

عارياً للأبد. 

 

***************************

  نُشرت في صحيفة العرب اللندنية  2 آب- أغسطس 2000 

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 237 - 244

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home