النقطة في الشعر لأديب كمال الدين

 

النص حين يحتمل التأويل

 

 

هشام العيسى

 

    عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت صدرت مجموعة شعرية جديدة للشاعر أديب كمال الدين تحت عنوان (النقطة). ضمت هذه المجموعة ثلاثين قصيدة تنتمي جميعها الى قصيدة النثر، وقد اعتلت جميع عنونات القصائد تسمية (محاولات) إضافة الى عنوناتها الرئيسة. هذه المحاولات التي أرادها الشاعر بأنّ تشكّل دلالاتها الشعرية على مستوى اللغة من خلال رؤيته التي استمدها من التجارب السابقة للقصيدة الصوفية في تأريخنا العربي.

   وإذ نسلّط الضوء عليها فاننا نأمل في أن نقدم عرضاً وافياً لما تحمله هذه القصائد من إشارات دلالية، تمككنا من الكشف عن المضامين الجمالية للرموز والحروف المستخدمة في هذه التجربة. تشكل الحروف مجموعة من الإشارات الدلالية الحاملة للمعنى في بنية اللغة والتي تتمثل بالمرجعيات الأولى للحروف ودلالاتها وطرائق بناها لتكوين مثل هذا الخطاب. إنّ عملية استخدام الحرف لتكوين خطاب ما هي العملية التي يمكن أن يقوم على أساسها اظهار المعنى ضمن خصائص محددة تتوفر في منتجة هذه الخصائص التي تشكل في مجملها رؤيته الفنية، والتي تتمثل في قدرته على توظيف الحرف واستخداماته داخل هذا النسيج بغية إيصال دلالاته بالشكل الذي يكفل الحضور الجمالي داخل النص.

   إنّ الاشتغال على هذه الآلية يتطلب عمقاً معرفياً كونها آلية ثنائية مزدوجة تحمل أبعاداً فلسفية فهي تقارب مابين الواقعي والمتخيل، الحقيقة والحلم، كما انها تشكل في جوهرها خطاباً ذهنياً مركباً يحتمل التأويل ويقوم على أساسه المعنى ويمكننا أن نستدل على ذلك من خلال استخدامه المتداخل للرموز والإشارات ودلالاتها بالشكل الذي يحيلنا الى  ذلك العمق المعرفي.

   إنّ هذه التجربة هي الأقرب في نشأتها الى التجارب الصوفية المجرّدة فهي تعمل على خلق واقع جديد مغاير وحقيقة أخرى يمكنها أن تمثل وجوداً جديداً وحضوراً أبدياً .. ومن خلال هذا يمكننا أن نخترق مجموعة الشاعر أديب كمال الدين.. في قصيدة (محاولة في أنا النقطة) يقول:

 

أنا بريقُ سيف الأصلع البطين

أنا خرافة الثورات وثورات الخرافة

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماءُ ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم

أنا ألف جريح

ونون فتحت لبّها لمن هبّ ودبّ.

 

   إنه يشير إشارة واضحة الى الله المطلق الذي يتجلى بخلقه من خلال استخدامه (للنقطة) فهو يسقطها على نفسه محاولة منه للتوحد مع الذات الألهية وإعلان ذلك الاتصال، كما أنه يستخدم في بنية جملته دلالات عديدة من خلال المفردات التالية: الأصلع البطين، المعنى، الجدوى ثم الدم والإثم، ويشير كذلك الى (النون) في نهاية هذا المقطع أي الله الذي يفتح أبوابهُ ولبّهُ لخليقته التي أرادها أن تكون غاية له. إنه يرتقي في هذه القصيدة الى أعلى درجات الشعرية من خلال إحكامه الكامل على تطويع المفردات ودلالاتها في بنية اللغة. في قصيدة أخرى، يقول:

 

القمرُ على الباب

 معلّق من قدميه.

*

الكلّ انطوى على نفسه

 كوترٍ مقطوع.

*

الأصدقاء تناسلوا هنا أو هناك

أكاذيب وترّهات.

 

   فهو يعمل على خلق تجانس صوري مكثف لإيصال فكرة النص، هذا التجانس الذي يظهر مقدرته التخيلية والتي يطرحها على شكل جمل موجزة مكثفة تحمل غاية الإدهاش. إنّ إمكانية الشاعر الفذة تظهر من خلال محاولته في إيصال عالم منظور بعالم أخر أكثر عمقاً وجمالاً إذ تشكل هذه الرؤية في مجملها خلاصة لتجربته الصوفية. إنني إذ أثمن جهد الشاعر أديب كمال الدين في مجموعته (النقطة) فإنني آمل في نتاج إبداعي جديد لرفد الثقافة العربية بما يؤهلها لإبراز دورها الحضاري والتأريخي.

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home