"النقطة"

دراسة في "معاني الحروف"

 

 

د. حسن ناظم

 

   

قالت سكينة النور : ما للشعر والحروف ؟

 

قلتُ : حتى أرسم ملامح وجهي وصيحات قلبي

 

      في كتاب جديد

 (أديب كمال الدين، النقطة، ص34)

 

 

لماذا النقطة ؟ ولماذا الحروف ؟ ولماذا هذا الترميز الغاطس في بحر الرموز ؟ ولماذا هذه المراوحة بين الرمز والمرموز إليه، بين الرمز مشبعاً بالرمزية تارة والمرموز إليه عارياً منها تارة أخرى ؟

 تضعنا محاولة تسويغ انتهاج الحروفية منهجاً شعرياً في مجموعة أديب كمال الدين "النقطة"، كما هو الحال في سائر أشعاره الأخرى* ، تضعنا في مواجهة خيارات عديدة. لكن إقصاء بعض الخيارات ممكن بحسب المعرفة المتوفرة بالنصوص والشاعر معاً. إذ لا يمكن طبقاً لما سبق النظر إلى طبيعة شعرية "النقطة" كونها ترفاً أو لعباً على الحروف انسياقاً وراء الفوضى الشعرية التي عمّت النصوص الشعرية إبّان الثمانينيات. كما لا يكفي القول إن الشاعر بانتهاجه هذا النهج إنما كان يحاول البحث عن الأسلوب الشعري الخاص فقط. فالأسلوب مهما استند إلى مقومات اللغة والتأثر بحياة الأدب عبر التاريخ يبقى وليداً لتلك المعايشة التي يمارسها المؤلف بوعي أو من دونه في تاريخ مجتمعه. والحروفية في نصوص أديب كمال الدين خيار يخضع لمتطلبات كثيرة يقف على رأسها التاريخ والحقبة التي وعاها وحاول التعبير عنها في "المحاولات". فالطبعة الأولى من مجموعة "النقطة" كانت في العام 1999، ولعلها كانت، خلال التسعينيات كلها، تعتمل وتتخلق في إطار عريض من المعاناة التي صبغت الناس والشاعر والنصوص على حدّ سواء. إن طاقة الحروف طاقة هائلة، واستيلاد هذه الطاقة وتشكيلها بحاجة إلى احتراف حروفيّ يفقه أسرار هذه المهنة، ويولد منها إشعاعات تنبثق من النصوص لتصبّ في الواقع، وهذا هو محكّها النهائي، وغايتها الفضلى. فبدلاً من بقاء النصوص ملتفة بعضها ببعض، يقوم نجاحها في التفافها بالواقع ومعانقته وكشف دوائره المظلمة.

 

لعلي أميل إلى القول إن أشعار "النقطة" تخرج عن الأطر الترميزية البحتة التي تبقى حبيسة عمليات التلغيز إلى أطر أرحبَ مجالاً وأجدى: أطر الحياة بما فيها من أسرار ووقائع، وابتهالات وتجديف، وضحك وبكاء، إلخ. أقول هذا وينتابني قلق بصدد صحة ما أقول، فمجموعة "النقطة" حمّالة أوجه، وربما تكون خادعة، وفيها من الانطواء والانفتاح ما يجعل الأحكام تتململ بين إغلاق النصّ على ذاته وانفتاحه على أفق أرحب. ولذلك سينصبّ جزء من تناولي مجموعة "النقطة" على اختبار فاعلية رمزية الحرف في تناول الواقع ومعالجته والتعبير عنه. ونصوص أديب تدّعي الحروفية أسّاً متيناً لبناء رؤية تلمّ شتات تفصيلات الواقع وتضمّه، فقد يصمت الشاعر في لحظات الخطر، لكن الحروف متكلمة أبداً. ومن دون خوف، تفصح الحروف عمّا تريد؛ لأنها دائماً في منأى عن الاتهام. إنها تعين الشاعر على التعبير عن المحظور وتمنعه من العقاب في آن. إنها تستنطق الشاعر من عمق مخاوفه وتنطق هي عبره من عمق غموضها. إنها تجعل الشاعر يعمل قريباً من الخطوط الحمر وعليها، لكنها تعده دائماً بالأمن والأمان فتفي بوعدها: "الكلّ انطوى على نفسه / كوتر مقطوع" (النقطة، ص93)، "أبي / ضاقت النافذة / بنفسها وتحطّمت / ونزل زجاج الموت إلى الشاعر / فأزلته بلساني الجريح / يا أبي" (النقطة، ص103).

 لا يعني هذا أن أديب كمال الدين جرّد نفسه لمقاومة مألوفية الشعر جنباً إلى جنب مقاومة الظلم. فبعض نصوصه تنجرف إلى ذاتها لتعبدها؛ وبذلك تنأى عن أنبل شيء خُلقت من أجله الرموز. ينجرف نصّ أديب، أحياناً وفي حماسة لا يكاد يوقفها معمار قصيدته الرصين، صوبَ هذيانات لا تضاهيها "شطحات" شاطح. إن نصّه الذي اعتدنا على رزانته يشطح في تعميات لغوية هي، في الحقيقة، استجابة لاشعورية للضغط الهائل الذي تمارسه نصوص جيله على شعريته المنفلتة من إسار التجييل في الآن نفسه:

 

الزمنُ غبار

واليومُ قش

والساعة رماد

وإذ أمسك الشاعر

بغينِ الغبارِ وقافِ القشِ وراءِ الرماد

تحوّل إلى حرفٍ لا نقطة فيه

لا بهجة ولا نار.  (النقطة، ص57-58)

 

ومع ذلك، كم هو موهم اعتبار تلك "الشطحات" سمة تَجرُد نصّ أديب ضمن سلسلة طويلة من  النصوص الشعرية في حقبة السبعينيات بالعراق. والسبب من وراء ذلك هو قلة هذه الشطحات، والعودة الكاسحة لنصوصه نحو أحضان مرتبطة بطريقة أو أخرى بالمحيط بكلّ تجلياته.

في نصوص أديب ترزح الحروف تحت سلاسل من المعاني السلبية والإيجابية؛ فهي النصوص كما أنها الذوات، وبين كونها نصوصاً وذواتاً ثمة حلقات في السلاسل المديدة أيضاً. ولكي نصل إلى "معاني الحروف" هذه، لا مناص من تسوية مصاعب جمة تضعها الحروف والنقطة في طريق التأويل.

مع "النقطة" نستشعر محاولات أخرى غير تلك التي بوّب الشاعر نصوصه على وفقها. إنها "محاولات" أخرى ذات مسحة غيبية، وربما تنجيمية، وأديب كمال الدين شخص ذو نفس مشبعة بالطقوس: ذات الشاعر تشهد جملة من التحولات؛ فهي تكتسي سيماء المنجِّم، والصوفي، والعرّاف، والضارع إلى الغيب في شهوده القاسي. وفي لحظات من نصّه وحياته، ينتابنا شعور بالرتابة والوتيرية، فيبدو النصّ من خلالنا ذا تكرار طقسي في بنيته ودلالاته: (ينظر مثلاً "محاولة في دم النقطة" بمقاطعها التسعة)، وهنا نموذج منها :

 

خرجت النقطة من الباب

كانت عسلاً أسود

فتبعها كلّ ذباب الزمن.  (النقطة، ص17)

 

وسوف تسير بنية هذه المحاولة على الوتيرة عينها، على هذا النسق التركيبي نفسه، لننظر مثلاً إلى المقطع الآتي:

 

   كانت النقطة نوراً يلفّ كلّ شيء

   نوراً خرج لينير سواد طفولتي

   فحاول قتله كلُّ ظلام الأرض. (النقطة، ص18)

 

ثمة "محاولة في الرثاء"، هي محاولة لممارسة التشخيص أيضاً. في هذه المحاولة تظهر الحروف كذوات. لكن الحروف فيها كانت بلا نقاط، وحين تكون الحروف مصطفةً بلا نقاط تكون ملتبسة، وليست هناك ذوات مصطفة وملتبسة إلا إذا مُسخت؛ أي إذا نُزعت عنها ذاتيتها وخصوصيتها لتكون ذواتاً متشابهة وبلا ملامح. وإذا عرفنا أن هذه الذوات الملتبسة، فاقدة الملامح تساق بوحشية إلى ساحة الموت، عرفنا أن الحروف تتمرأى جنوداً، ولنلاحظ ذلك حين يضرع الشاعر إلى حلمه، ويفتقد عطفه …:

 

في الصيحة الأربعين

قلتُ:

أيها الحلم

يا من يظهر ورق اللعب صورته

يميناً ويساراً

يساراً ويميناً

كم افتقدنا عطفك

كم افتقدنا ركوبك الخيل والمساءات

سائلاً عنّا نحن الحروف التي بلا نقاط

والنقاط التي بلا مستقبل

والمستقبل الذي بلا معنى

والمعنى الذي بلا مغزى

والمغزى الذي يقودنا بوحشية إلى ساحة الموت.  (النقطة، ص6)

 

هذا الخطاب الحلمي، في هذا المقطع وفي الصيحة الأربعين، يمارس الاحتجاج عبر الحروف، الاحتجاج على الحرب من خلال الحرف. والطاقة التي يستغلها الشاعر ليست هي طاقة الحرف الذاتية، إذ ليس ثمة معنى للحرف هنا غير ذلك اللعب الذي ينتزع عبره الشاعر من الحرف نقاطه ليبلور صورة انتزاع الآراء والمشاعر من أشخاص مسلوبي الإرادة: الجنود. إن طاقة الحرف هنا تُختلق وتوجَّه مثلما توجَّه طاقة الجندي تماماً، ولا حيلة لكليهما سوى الإذعان.

أما في الباب الأربعين فقد يبدو الأمر مثيراً إلى حدّ أكبر:

 

في الباب الأربعين

لم يكن الحلم ليأبه لصيحاتي وحشرجتي

كان الحلم هناك ……

ليس مع ملكاته

ليس مع خدمه وحشمه

ليس مع حراسه وعرشه وذهبه

ليس مع من يأتمرون بإشارته

كان الحلم هناك …….

مقتولاً

كحرف سقط من فم أخرس

كموعد حبّ مزقته السكاكين

كنار طيبة بالت عليها الكلاب.

 

هنا يوجد حرف في حلم، وحلم كحرف ساقط من فم أخرس. إنه كالضياع في الحياة تماماً. الحلم هو الحياة المرجوّة التي سقطت كحرف أجوف، وكموعد حبّ تبدّد في زحمة الهموم، أما البول على النار فهو غاية التحقير والاحتقار منذ أولئك القوم الذين "قالوا لأمهمُ بولي على النار". الحرف هنا ضياع وفقدان، وهو مظهر الحياة الذي يصف بؤسها. الحلم هنا حلم يحاكي الواقع بالضبط، ليس هو الحلم الرومانسي الذي ينصّب المرجوَّ ويناشده، إنه الحلم المقنّع بالواقع، والعكس صحيح. أما الحلم الذي يدغدغ الكيان الناعم والناعس فلا يتحقق ولا يجيء إلاّ في "محاولة في السحر"، يجيء بقدرة قادر وسحر ساحر. في تلك المحاولة، يقول الساحر الرابع من الصين: "أنا من يجعل الحلم باب اليقين" (ص11).

الحروف إذن متلوّنة. تبدو أحياناً كقطيع من الذوات المطواعة والمستكينة، لكنها تبدو، في أحايين أخرى، ذواتاً شريرة منافقة، وسخيفة تختلق الأكاذيب والترهات، تبدو عقبات في سبيل الخير. ففي "محاولة في أنا النقطة" (ص14)، تتخذ الحروف صورة الأشرار الذين يشوّهون صفاء النقطة ويشككون في معرفتها التي تتمتع بها بإطلاقية تامة. تبدو لي هذه المحاولة في "أنا النقطة" محاولة في "أنا الشاعر"، النقطة ذات الشاعر بمقابل الحروف كذوات أخرى. إنها محاولة في النرجسية الطاغية التي تنتصب فيها ذات الشاعر ذاتاً تحيط بكلّ شيء، ليس على طريقة: "فيَّ احتوى العالم الأكبر" كما يقول الشاعر (ص15)، بل على طريقة أنا وأنا وأنا ولا شيء غير ذلك:

 

أنا النقطة

أنا بريق سيف الأصلع البطين

أنا خرافة الثورات وثورات الخرافة

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم

أنا ألف جريح

ونون فتحت لبَّها لمن هبّ ودبّ (ص15)

 

في هذا التعداد المستشري للأنا ثمة التفاف يتجاوز به الشاعر ظلام النرجسية الموبوء إلى أنوار الغيرية. لكن مثل هذا الالتفاف قد يحدث وقد لا يحدث، وقد يعقب هذه الأنوار ظلام النرجسية نفسه:

 

أنا النقطة

عرفتُ الحقيقة وعجنتها بيدي (ص15)

 

بل قد ينصّب الشاعر نفسه طاغية على كل شيء مثلما حدث في آخر قصائده التي تتخذ هذا المنحى: "ملك الحروف" (ينظر مجلة المسلة، ع2، السنة3، كانون الثاني 2002، ص34)، أو مثلما أسبغ على نفسه أسماء ملك الكلمات، وسلطان الحروف، وإمبراطور النقاط (ينظر: النقطة، ص38)، لذا كان لا بدّ للأمر من أن يصل إلى جنون العظمة: "حبّك قاد شعري / إلى كنه الحروف والنقاط / وقادني إلى العظمة / إلى جنون العظمة" (النقطة، ص97).

إن الذات هنا أو النقطة تمنح كلّ شيء معناه: "أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى"، تختزل التاريخ: "فيّ تجمهر الماضي / وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرة حاشدة"، وتختزل المعرفة واحتواء الحقيقة: "عرفتُ الحقيقة وعجنتها بيدي / قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة"، أما المعرفة فهي خطيئة هذه الذات: "ما أفدح خطيئتي: خطيئة المعرفة"، وتعلن استقلاليتها عن الملل والنحل بأسرها: "بحثتُ عن اسمي لم أجده مع الهراطقة / ولا مع الزنادقة ولا العبادلة / ولا مع الرهبان ولا الكرادلة / ولا مع المهزومين ولا المنتصرين / ولا مع المتمترسين ولا المهاجرين / ولا مع الطالبين ولا اللصوص"، وأخيراً تبدو النقطة (ذات الشاعر) تصطنع التقابل بينها وبين الحروف (الذوات الأخرى)، النقطة الخيّرة بمقابل الحروف الشريرة:

 

أنا النقطة

أنا مَنْ يهجوكم جميعاً

أيتها الحروف الميتة

سأهجو نفاقكم وسخفكم

سأهجو أكاذيبكم وترّهاتكم (ص16)

 

إذن، النقطة مانحة المعنى والحياة، والحروف ميتة، والشاعر مانح المعنى للحروف الميتة التي قد تعيق نموّ معارفه بموتها. والحروف في ميتتها تُستذكَر صفاتها السيئة. وفي تقلبها بين هذه الصفات السيئة وصفات أخرى تواصل مجموعة "النقطة" شحن النقطة والحروف بمعانٍ أخرى. فالنقطة هي: عسل أسود، وجوهرة، وحلم، وطفلة / امرأة، ونور، وخرافة، وهزأة، ومهرّج، وسيرك عظيم، وهي كريمة، تمسك بيد الشمس والحلم، وهي دم الجمال والمراهقة واللذة والسكاكين والدموع والخرافة والطائر المذبوح، والنقطة دم الشاعر (ينظر: "محاولة في دم النقطة"، ص17). أما الحروف فتحاول أحياناً أن تكون حروفاً فقط. الحروف مؤنسة، تتشكل أمام ناظري الشاعر في صمته ووحشته. الحروف تحاكي الموسيقى أيضاً: "الموسيقى تهبط بلامات عذبة كشفاه الأطفال / وراءات تزقزق وسينات توسوس / وندى من نونات" (محاولة في الموسيقى، ص27). والحروف تعانق معاني الحزن والحرية في تحولاتهما: "الموسيقى تتألق فتتحوّل الأحزان إلى حاء / وتحوّل الحاء إلى حرية" (ص29). والحروف هي القصيدة التي تثقل كاهل الشاعر بمعاودتها زيارته كلّ حين:

 

حتى الحروف صارت تتعبني

فهي الوحيدة التي تزورني في وحشتي الكبرى

دون أن تحمل في يدها باقة شمس

                                أو حفنة قمر

                                أو قبلات ريش. (النقطة، ص26-27)

 

الحروف هنا نصّ يبدّد الوحشة، لكنه نصّ ثقيل في الآن نفسه، إنه نصّ غائم بلا شمس أو قمر أو مواساة. هذا النصّ الحروفي هو حمّى الشاعر في وحشته، وهو ما يمكن أن يُنسَج من تلافيف قلب الشاعر الممتلئ بالأبجديات: "ومنذ أن تعرفتُ إلى قلبي / وجدتُه ممتلئاً بالأبجديات" (ص28)، الشاعر الممتلئ بالأبجديات له نقاطه وحروفه التي لا يفرح إلا بها وبنفسه: "أما أنا فكالموسيقى / لا أفرح إلا بنفسي / ولا أندمج إلا بنقاطي وحروفي" (ص29). الحروف أدوات للتعبير، إنها تفصح عن وجه الشاعر وعن آلامه:

 

"قالت سكينة النور: ما للشعر والحروف ؟

 قلتُ: حتى أرسم ملامح وجهي وصيحات قلبي

 في كتاب جديد" (النقطة، ص34).

 

إن قراءة شعر أديب كمال الدين عبر مجموعته "النقطة" تشبه إلى حدّ كبير ما قاله في إحدى "محاولاته":

 

في سُلّم الحظ

كلما صعدتُ درجة هوت تحت ناظري

وبدا السلم عميقاً حدّ اللعنة. (النقطة، ص109)

 

إنها تشبه "سُلّم الحظ" تماماً، فنحن كلما ظننا بأننا نشرف عليها، ونحيط بتفصيلات كافية لتقديم معرفة بصددها، بدت لنا أكثر عمقاً، وأكثر سَعَةً، وأكثر تناقضاً أيضاً، ولاحت لنا خبرة تلك السنوات الطويلة التي تختفي خلف هذه "المحاولات"، سنوات الكتابة، والتأمل، وممارسة الحياة.

 

ينتمي الشاعر أديب كمال الدين ـ بموجب فكرة ذات صيت سيئ ـ إلى جيل شعراء السبعينيات بالعراق، لكن مجموعته "النقطة" لا تنتمي، قطعاً، إلى الهموم والأساليب والأفكار التي لفّتْ هذا الجيل وتلك الحقبة. إن الحرف هو ما يختزل تجربة أديب الشعرية، ونصوصه تحاول أن تستبطن "معاني الحروف"، فضلاً عن كونها تستدعي تداولاً مختلفاً ليس هو التداول العصيّ الذي نعانيه في نصوص مجايليه. ومع ذلك، يبقى ثمة سؤال مهم: كيف يمكن أن نقرأ "النقطة" وهي تخطّ عالماً حروفياً ملتبساً وذا خصوصية شعورية تندّ عن الوصف؟ ثمّ إن للحرف دلالات متعددة هي الأخرى تتسع لتشمل عوالم غامضة تتقلب بين الناحية الرمزية والصوفية وحتى الشكلية، وأخيراً قد يكون اللجوء إلى الحروف إنما هو خيار لتلغيز الوجدان والفكر لتبدو بعد ذلك الحروفية كتوجّه شعري يؤمّن هرباً من بطش الحياة. وفي هذه الناحية الأخيرة بالضبط توضع تجربة أديب كمال الدين على المحكّ، لأنه إذا ما كان خيار الحروفية خياراً تلغيزياً حسب فإنه سيتماهى مع التهويم الموجع الذي عززه جيل السبعينيات في الشعر العراقي، وإنْ تكن لأديب أساليبه الخاصة في هذا التلغيز.

قد يُشَمّ، في بعض الأحيان، أن انصياعاً قسرياً يجرّ الشاعر إلى تلك الطرق التي ألِفها شعراء جيله: الطرق التي يسكنها الضباب الكثيف، الطرق الوعرة بفعل وحشتها، الطرق التي لا تؤدي إلى شيء، وهي لم تؤدِّ إلى شيء فعلاً.

يتيح اتخاذُ الحرف بنيةً تعبيريةً الانفرادَ بتمثيل رمزي قلما حاول الشعراء إشباعه، فهذا الميدان ربما أشبعه الرسامون بلوحاتهم، لكنه ظلّ مهجوراً من طرف الشعراء. والحرف بوصفه رمزاً يستثير الإنسان خالق الرموز، ويمكن أن يمثّل رافداً للوعي الإنساني يجعله يبحث عن طرق جديدة لربط عالم الحسّ بمعانٍ جديدة أيضاً. لكن خطورة مثل هذا المسلك، في أثناء ممارسة الترميز، تكمن في الإمكانية الكبيرة لتحوّل التمثيلات الرمزية إلى عوالم مغلقة، أي أن الرموز المتولدة عن استعمال الحرف بنية تعبيرية قد تفصل الواقع المعيش عن تجربة التمثيل الرمزي؛ وبذلك تعلو الرموز على الواقع، وتنفصل عن ما يجب إدراجه فيها. إنها إذن لعبة خطرة: فإلى أيّ مدى نجح أديب كمال الدين في استثمار الحرف بنية تعبيرية لترشيح رموز تبقى، رغم تجريديتها، تعانق العالم المرئي؟ ذلكم هو مدخلي لقراءة "النقطة"، وأرى أن مثل هذا المدخل يوفّر إمكانية بقاء النقد أيضاً معانقاً للواقع: واقع الشعر وواقع ما يعبّر عنه.

 

تبدو الإجابة عن هذا السؤال، لأول وهلة، واضحة. إذ لا صلة بين الواقع والتمثيل الرمزي الذي يتخذ من الحرف أداة. وربما تتسع دائرة الإجابة لتشمل كلّ تجربة داخلية (دينية، صوفية)، فمثل هذه التجارب لا يمكنها التعامل مع معطيات حسية عيانية، ونحن أيضاً لا يمكن أن نفكّر في تعبيريتها على نحو حرفي. لنفترض أن أديب كمال الدين حريص على أن يطلّ من داخله (المستغرق في نزعة صوفية) على الحياة (حياتنا جميعاً) التي توقظ المنتشي بأوهامه، وتهزّ رخيّ البال. مع هذا الافتراض، هل يمكن القول إن التجربة الحروفية في "النقطة" قادرة على التغلغل في أعماق الروح وسطح الواقع في آن ؟

 

 وفي الحقيقة، فإن أديب كمال الدين يضحّي بالواقع من أجل تجربته الداخلية، أولاً لأنه لا سبيل بالمطلق للتعبير عن التجارب الدينية والصوفية ـ ولأديب تجربته في هذا المضمار ـ سوى الاتكاء على الرموز، ثانياً لأن الواقع بالنسبة لذوي التوجّه الصوفي لا يمثل الحقيقة إطلاقاً، ومن ثمّ يجب صبّ الجهود بأسرها من أجل التعبير عن العالم الجواني. ولأن العالم الروحي عالم يندّ عن الإدراك عقلياً، فإن اللجوء إلى الترميز إنما هو الحلّ الوحيد لتسويغ وجود العالم الروحي وجدانياً، وطغيانه شعورياً.

 

هكذا تكون "النقطة" في وضع تحدٍّ لا يدع مجالاً لإهمال شيء من أجل تعزيز شيء آخر. فأما أن تؤثر عالمك الخاص أو أن تندرج ضمن عوالم متنوعة، وأية صيغة توفيقية بين الاثنين ستتحمل، من دون شك، خطر إمكانية تشويه الاثنين.إن أيّ تجريد ينفصل عن أية ظاهرة خارجية. ومحاولة الاقتراب من الواقع تجريدياً إنما هو عبث لا طائل من ورائه. والتجريد الفعلي، كما في حركات الفنّ التشكيلي، لم يكن من مقاصده تناول الواقع. والحروفية، في جانبها التشكيلي، تتبع هذا الخط باستثناء أنها تعلقت بشي فجّر خصوصيتها: الحرف. ويمكن نقل هذه الحجة إلى منطقة الشعر، فالتجريد في شعر "النقطة" إنما هو وضع قائم ولا مراء فيه، ولا انفكاك لتوجّه أديب كمال الدين عنه. ومع ذلك فهو يحاول ـ تحت ضغط اللحظة وعنفها والمسؤولية التي تلقيها على عاتق كلّ ذي عاتق ـ أن يطوّع التجريد للتنويه، مجرد التنويه، للواقع. ومن هنا يحيا شعر "النقطة" صراعاً بين أصول التجريد المحلِّق والضرورة التي تطأطئ العنق صوب الأرض، أو بين صياغة الحكمة والتعبير عن الواقع:

 

في ظهيرة تموزية

جلستُ تحت سنّ الشمس

فطحنني الحر حتى ابتلت ثيابي

(…)

أنا المحروم حدّ اللعنة

وعذبني الجوع

والرغيف هنا مغموس بالدم

وأثقلني الفرات بالندم ……… (النقطة، ص10)

 

هي ذي فسحة تطلّ بها الذات على الواقع، واقعها الذي يصار إلى تعميمه عبر حكاية تكتسي طابع الخرافة، حكاية السحرة الذين يحاول أن يلوذ بهم كلّ محبط عسى أن ينتشله أحدهم من جحيم الحياة إلى مسراتها، هي "محاولة في السحر"، تمرّر الألم بين ظلال السحرة وبهلوانياتهم. أما "محاولة في الانتظار" فتغادر حقاً اللهث وراء النقاط والحروف لتعبر أصدق تعبير عن الحياة، ودعماً لقولنا إن نصوص الحروف تتجاوز أحياناً عالمها المشبع بالباطن، وإن أديب كمال الدين يراوح في النقطة بين إطلالتين: على الخارج والداخل بالتناوب أو في آن، ربما يكون من المناسب أن نختتم هذه المحاولة أيضاً بالتحديق في مقطع محاولته في الانتظار:

 

مَن ينتظر مَن ؟

الشمسُ تنتظر الشارع

أم الشارع ينتظر الناس: مغفلين وشحاذين ؟

الحقولُ تنتظر النحل

أم النحل ينتظر الأزهار ؟

الخوف ينتظر الموت

أم الموت ينتظر الظلام ؟

مَن ينتظر مَن ؟

الخيبةُ تنتظر المفاجأة

أم المفاجأة تنتظر اللاجدوى ؟

العبث ينتظر الأكاذيب

أم النساء ينتظرن الثرثرة ؟

الجسر ينتظر الفرات

أم الفرات ينتظر الجسر الأحدب ؟

الشاعر ينتظر الحروف

أم الحروف تنتظر النقاط ؟

مَن ينتظر مَن ؟

القاتلُ ينتظر الضحية

أم الضحية تنتظر السكين ؟

(…)   (النقطة، ص43-44)

 

هنا تصل المعالجة في "النقطة" حدّ امتزاج كلّ شيء بكلّ شيء، الرموز بالمدلولات، الحرفي بالاستعاري، وترتقي فيها قيم الكلمات إلى إشاعة حسّ عام برفض المحيط ليس انطلاقاً من عزلة الصوفي وإنما من رغبة المفعم بالحياة في محاولة صياغتها على نحو أفضل.

%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%

 

* اتخذ أديب كمال الدين الحروفية طريقة تميّز بها من بين الشعراء المعاصرين له. ينظر بهذا الصدد مجموعاته: جيم، ونون، وأخبار المعنى.

 ***********************

 نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية- العدد 1169 – 25 مارس- آذار 2002

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 165 -176

 

  الصفحة الرئيسية