غواية الحرف

 

 

حسن النواب

 

 

  لا أدري إن كان هناك من يختلف معي في الرأي حول مشروع الشاعر أديب كمال الدين، فلقد كثرت مشاريع الشعراء هذه الأيام، فهم ما أن يصدروا مجموعة شعرية لا يتجاوز عدد قصائدها أصابع اليدين حتى يظهروا بلقاءات مبرمجة على الصحف وهم يتحدثون عن مشروعهم الشعري!!

 لكن الأمر يختلف تماماً مع شاعر مثل أديب كمال الدين، فهذا الشاعر انشغل بالحرف العربي حد الهوس مما أثار حفيظة مجايليه، فراحوا يغمطون حقه في كلّ جلسة ثقافية وفي كلّ حوار.. بل انهم ذاهبوا بعيداً بغيرتهم منه.. فهو لا يذكر معهم عندما يستعرض أحدهم أسماء الشعراء من جيل السبعينيات.. لقد كان وحيداً بينهم وهو مازال كذلك.. ذلك انّ همّه الشعري أحسبه متفرداً ليس على الواقع الشعري المحلي بل أقول، من دون تردد، إنّ مايكتبه من شعر أهجس انه متفرد حتى في خريطة الشعر العربي..

 أديب كمال الدين بدأ هوسه مع الحرف ب(تفاصيل) ثم (ديوان عربي) وألحقه بديوانين هما (جيم) و (نون) وديوان أخر هو (أخبار المعنى) والآن يصدر مجموعته الشعرية الجديدة وعلى نفقته الخاصة وهي تحمل عنوان (النقطة).. فهذا الشاعر كرّس جلّ وقته لأجل الشعر، أضف إلى ذلك قدرته على الترجمة من لغات أخرى. إنه الشاعر الصافي وسط زحام الشعراء هذه الأيام. وأديب كمال الدين يكتب شعره بوجع لذيذ وله خطابه الشعري الواضح وهو يمارس لعبته السحرية مع الحروف، حتى أظن انّ هذا الشاعر يمارس الغواية بمنتهاها مع الحرف حين يقرر كتابة قصيدة جديدة وحسبي أن مشروعا ً كهذا بحاجة إلى أكثر من وقفة نقدية.

وربما يظن بعضهم أن أديب كمال الدين تنّبه إلى جمالية الحرف وهو يرى المعارض التشكيلية التي أزدهرت برسم الحروف أواسط السبعينيات وتمّكن أن يقتنص فكرة كهذه لمشروعه (الحروفي)، أقول إنّ هذا الشاعر فيه من التصوف الجميل الشيء الكثير، وفيه أيضاً من قوة تفاعله مع سور القران الكريم للحد الذي يخيل إليّ أنّ هذا الشاعر يحفظ ما جاء في القران الكريم عن ظهر قلب ولذا نجد أن شعره أصيل بكلّ شيء، فهو يمارس لعبة الغواية الشعرية مع الحرف بشكل جريء ولكنه يحمل من العمق الشيء الكثير. انظروا كيف يكتب قصائده في النقطة:

 

النقطة عند الباب

تعبتْ من الحنين

 

واللافت للنظر أن هذا الشاعر بديوانه ( النقطة) لم نجد لديه سطراً شعرياً واحداً خالياً من النقاط وتلك الظاهرة يحسبها بعضهم ليست علامة بارزة على أية حال.. ولكن الذي يدعونا أن نفكر بقصائد هذا الشاعر هو إخلاصه العجيب للحرف العربي، على الرغم من كون قصائده مزدحمة بالألم والأسى .. لاحظوا ذلك:

 

أنتِ.. من أنتِ ؟

وأين هي نقطتك؟

فوق حيث الشمس تسقط ببلاهة

أم هي تحت

حيث الشمس يسرقها الكفرةُ الفَجَرة ؟

 

نعم يبدو لي أحيانا ان هذا الشاعر يلجأ إلى المباشرة في شعره..ولكن هل يا ترى ضاقت لديه الجملة الشعرية فراح يكتبها بهذا الشكل  أو انه يتعمد هذه اللهجة الشعرية الحادة في بعض مقاطع قصائده؟

إنّ هذا الشاعر في حقيقة الأمر.. أراه مليئاً بالسخط على كلّ شيء.. بل إنه يشعر بالاضطهاد الشعري وهو يكتب مقاطع قصائده .. وإلاّ بماذا أفسر هذه المباشرة أحياناً والتي تأخذ من نقطته الشعرية الشيء الكثير؟

كل هذا لا يمنع من القول إنّ لدى أديب كمال الدين شعراً لا ينتمي الاّ اليه ويمكن أن يكون (التابو) الرسمي لمسيرته الشعرية. ويكفيه انه تمكّن من التفرد بخطابه الشعري وهو يغازل الحرف العربي من جميع جهاته.. يقول أديب في إحدى قصائده: 

 

كان لي قلب

حين كبرتُ تحوّل إلى عصفور

ثم إلى وردة

ثم إلى كلمة

فدمعة ورغيف..

 

يبقى أن نقول أخيراً أن أجمل ما في هذا الشاعر وضوح كلمات لديه ودلالة المعنى . ويكفي انه لم يغرر مثل مجايليه بلعبة اسمها الحداثة. إنّ هذا الشاعر تمّكن من ابتكار حداثة خاصة لنفسه  - مثلما فعل الشاعر عدنان الصائغ - حداثة لا تليق الاّ بالحرف العربي الذي مازال منشغلاً به شعرياً.. ولكن إلى متى؟ هذا هو السؤال.

 *******

جريدة الزمان اللندنية - 12  - 8-  2001

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home