عيسى الصباغ

 فنارات الحروف المتوقّدة  

 

 د. عيسى الصباغ

 

 

 

 

 

  

ـ 1 ـ

 يعمل الشاعر أديب كمال الدين على تفكيك اللغة إلى مستوياتها الأولية: أصوات ورموز كتابية. لا يعير كبير أهمية إلى المستوى الأول ويستغرقه الثاني في جو طقوسي مشع يعبق بشذى الأسطورة والبدايات الأولى. في مغامرته الحروفية هذه يرغب وبإلحاح في أن يوغل في أرض بكر لم تطأها أقدام غير أقدامه. 

ـ 2 ـ

بدءاً من العنوان عنوان مجموعته (نون) ثم الاقتباس – الآية – فالإهداء، ينهل أديب كمال الدين من تراث المتصوفة المسلمين. فالنون على مايبدو في ذلك التراث هي النفس الكلية التي استعيض عنها بأول حروفها (نون) والتي تنتقش عليها جميع صور الموجودات وأحوالها وصفاتها النفس الكلية في حركتها الدائبة في سيرورتها الوجودية وفي تمخضاتها وولاداتها. هذه النفس – الأنثى التي تهبط العالم منها - تلده – ويتكون بتكوناتها يتكثر ويتنوع ولكنه يبقى حبيس تناقضاتها وتضاداتها، صورها وهيئاتها. يدأب الشاعر وهو أحد هذه التمخضات، الانبثاقات -  جاهداً في الانفكاك الخلاص  منها ولكنه يعجز عن ذلك، يعرج إليها فلا يصل فهو منفصل عنها بصورة، متصل بها في صورة أخرى. لقد دفعته عن رحمها وتركته حائراً في مدارها يصرخ ويستنجد ويبكي ويضحك من وضعه غير المعقول هذا،  يبني وينسف ويتآمر ويتصعلك ويغضب ويهدأ ويتلبّس شتى الحالات ويتوسل بكلّ الوسائل وحين يكون في قمة تعاساته في ذروة  توحّده يكتشف الحرف ـ الزلزال ـ  يرتعش أمامه ثم يغرق في لذاذاته. هذا الحرف يقوده إلى النور والطمأنينة وربما اليها. إنه المركب الذي يجتاز به برزخ الموت، والموت أحد تشكيلات المجموعة تتعدد قيمه وتكثر صوره. للموت قيمة عبورية برزخية وقيمة خلاصية وأخرى فنائية ذات عبير صوفي مشع. غالباً ما تتراكب هذه القيم وتتداخل حتّى يصعب فصلها في بعض مظاهره.

-3-

 يؤسس أديب كمال الدين رؤيته الحروفية استناداً إلى تراث المسلمين المتصوفة - كما قلت - كمرجع خارجي لنصوصه الشعرية موظفاً مصطلحاتهم وصيغهم في بناء شعري يتسم بالكثافة والانضغاط مُطلِقاً العنان لاستخداماته الاستعارية دافعاً بها إلى مدياتها القصية محمّلاً لغته طاقات إيحائية وإشاراته تقترب أو تبتعد  كثيراً أو قليلاً من لغة المتصوفة وأساليبهم وتصرفاتهم بها.

 على أن الخبر الأوسع في مجال انشغالاته – مكابداته– يبقى للحروف فهي المادة الخام – الهيولى– الطين الذي خلق الله منه آدم.. يستلّها حرفاً كما تستلّ الشوكة من الروح ثم يشرع بعجنها، يكوّنها، يمعن في الخلق. أنت ترى ضوء حرائقها وتسمعها تجأر وتئّن بين أصابعه. إنه أزاء تكويناته التي كانت قبل قليل محض تصورات. النون، إذن، هي النفس الكلية الحاشدة لصور العالم، الأنثى في جميع مظاهرها وتجلياتها، أحلامها، رقتّها، غرورها، صلفها.. الخ. والألف هي الذات الأحدية التي تضيق على ماتقتضيه رؤية الشاعر وتتحول إلى ألف الشاعر، ذاته، أناه مقابل تلك النون المتكبّرة، والكاف هي كاف الواسطة والنداء والدعاء هي الكاف العلية والتي بمستطاعها أن تجمع شمل المفترقين، هي من تقبل التضرع والبكاء: (صرتِ تشاركينني مخاطبة الكاف والبكاء بين يديها). والقاف قاف القلب المعذّب الضائع الباحث، قاف الاقتراب من أنوار الحقيقة، قاف الكشف والسطوع، وهكذا تستكن الحروف وتخضع لرؤية الشاعر.

 

 

 

 

-4-

ثوابت المجموعة:

1- النون – الأنثى المطلقة - في جبروتها وطغيانها، في انكسارها وخضوعها لتكوّنات مختلفة ومظاهر متعددة (إمبراطورة – حبيبة – قاتلة - أسطورة – الموت – قاسية - حائرة - غامضة – خرافة – أسرار الحروف – معراج ـ دم الشاعر ـ دمعته .. الخ). إنها وحدة المتناقض وجوهر الخطاب الشعري، منها الانبثاق وإليها التوجّه .

2ـ ألف الشاعر ـ ذاته ـ الموت مركبه والموت مبتغاه يتقهقر خائباً إزاءها مرّة أخرى، يتقدم  اليها مستعداً لتقبل الهيئات التي تناسبها وحسب ماتقتضي  مشيئتها (أمير – شاعر – عاشق – جلاّد ـ خادم ـ  شحّاذ ـ صعلوك ـ مهرّج ـ بواب ـ  متآمر..).

كلّ هيئة هنا تفترض هيئة غائبها الأنثوي الذي سرعان ماينبثق:

أمير مقابل أميرة

شاعر مقابل الطبيعة وعناصرها الجمالية

عاشق مقابل المعشوقة

جلاّد مقابل الضحية

خادم مقابل المخدومة

شحّاذ مقابل الغنية المقتدرة..الخ.  

إنه يتخلّق تبعاً لمشيئتها، تبعاً لخلقها هي. هكذا ـ  بهذه الطريقة ـ يكثر الشاعر من كائناته النصيّة.

3 ـ كاف التوسط والنداء والدعاء، يلتجيء إليها الشاعر راكعاً مستجيراً طالباً الخلاص من نفسه وفروض تقلب حبيبته واستبدادها مرّة أخرى.

4 ـ الموت قيمة شعرية متناثرة داخل النصوص. في بعض نثاره الأقل عفن بيالوجي، وفي بعضه الأكثر رؤى برزخية وأخرى نورانية خلاصية.

  هذه الثوابت، هذه الدوال الرئيسية التي تلتفت حول أعناقها مجموعة كبيرة من المداليل تتشابك فيما بينها وتتواشج مكونة شبكة النص الواسعة .

بالإمكان فرز بعض الاشكال العلائقية القائمة بين هذه الثوابت:

1ـ تعلّق ألف الشاعر بنون الأنثى ذو طبيعة ملتبسة، فهي صوفيته في جانب منها تطغى فيها مشاعر الحيرة واللبس والغموض والرغبة في الفناء وتبدو في جانب آخر عنيفة صادمة تستدعي مفردات مثل: القتل،  الذبح، الدم، الرصاص... الخ.  

 2ـ موت الشاعر (شعرياً) أعني مصدر اندحاره أو تغيبه داخل النص، تألق للأنثى في إطلاقيتها كحامل يستقطب مجموعة من  المحمولات زاخرة ومتنوعة بمضامينها العاطفية والوجودية ذات الطبيعة المتناقضة. هذه العلاقة تبدو على أوضحها لبعض الأحوال والمواقف المشتركة. غالبا ماتظهر الكاف هنا كطرف ثالث أو علاقة توسطية تحاول الربط أو التوفيق بينهما هذه العلاقة تتمظهر في صيغ منها:  

أ ـ صيغة الدعاء أو الطلب 

(أيتها الكاف

 شيئاً من رحمتكِ التي وسعتْ كلّ شيء

 تنزليها أمطاراً على صحارى النون

 علّها تخضرّ فتخرج قمح الألف).

ب ـ  صيغة المماثلة

(صرتِ تشاركينني مخاطبة الكاف

والبكاء بين يديها).

- 5 -

النفس الكلية، إذن، ترادف الأنثى في إطلاقها لانطباقهما فيما يشتملان عليه من صور الموجودات وأحوالها. بالامكان وضع مرادف  آخر للوجود في شموليته الأنثى هي الوجود في سيرورته وإحاطته قصيدة (خطاب الألف) تكشف ذلك بوضوح فالأنثى كنقطة وهلال هي (ضياع/ريح/أعجوبة/ طلقات وصرخات وسكاكين/مظاهرة/ قمع ـ كأس/ تحريم  ـ سخف/ فناء ـ ملك مشعوذ/  شعب مغلوب ـ عقل/ مستشفى مجانين).

تتعدد صور الأنثى وهيئاتها شاملة الوجود كله ـ الأنثى المطلقة، إذن، هي الوجود مقابل العدم. هذه ثنائية متصورة بالإمكان تطويرها على محورالاستبداد لتصبح الوجود ـ  الممتليء مقابل العدم ـ  الفارغ (العدم ـ الفراغ).  هذا الحقل الدلالي المفترض لا بكونه لاشيء بل كونه فضاء ً قابلاً للامتلاء، بكونه مشروعاً للتكوّن من خلال اتساعات الوجود انبثاقاته ـشاغلاً الفراغ بمكوناته الهادرة. قلتُ إن هذه الثنائية متصورة وفي حال سحبها إلى النص يتضح أن النص منطلقها، بمعنى آخر وجود النص بمكوناته الشعرية إزاء الفراغ ـ  اللانص الذي سوف يمتلىء بهذه المكونات وبواسطة الحرف ـ  الهيولى:

(وها أنذا أنتظرُ من الحروف أن تهبط لي

بشلالاتِ شمسك

وأنهارِ ربيعك

وجداول شوقك

وقطراتِ وعودك

وذرّاتِ اشاراتك

ونواةِ طمأنينتك)

 أو

 (ما أن تراكِ الأبجدية 

 حتّى تنفض عن ثيابها 

 النومَ والنسيانَ واللامبالاة

 لتأخذ من كفّكِ شمسَ الحنان

 وينبوعَ الصحو

 وأناءَ الانتباه

 وملعقةَ الحب

وملحَ الطمأنينة).

 إذن (مرّة أخرى) الأنثى ـ الوجود تلتهم الفراغ ـ اللاّنص، بشموسها وأنهارها وينابيعها وقطراتها...الخ. هكذا تنحلّ هذه الثنائية والتي منها تنفرض ثنائيات أخرى: ثنائية الأنثى المتضمنة في وحدة الأنثى نفسها عواطف تتناقض ومواقف يعارض بعضها بعضاً:

 (النقطةُ كأس

 والهلالُ تحريم).

 أو

 (النقطةُ ربيع من القبلات

 والهلالُ زلزال).

 أو

 (النقطةُ ملاك

 والهلالُ شيطان).

   ثنائية المرأة في شموليتها في أحاطتها في كلّ شيء مقابل المرأة الملموسة المحددة

  ثنائية نون الأنثى وألف الشاعر والتي تتعدد أشكال انحلالها:

 أ ـ بفناء الألف أو احتراقه في نون الأنثى:

   (نونكِ نار

  وألفي سقطتْ في النار

  ولم تكن النار برداً يا حبيبتي 

  ولم تكن سلاماً)

 ب ـ تماهي نون الأنثى وألف الشاعر:

   (نقطتكِ طفولتي

    وهلالكِ شيخوختي) 

 ج ـ انفصالهما بإقامة حاجز من المشاعر الثائرة المتمردة:

   (وداعاً

  يا إمبراطورتي المزّيفة 

 أنحني أمامكِ كصعلوك

 وأرميكِ بالحجرِ كمتمرد

 وأطلقُ عليكِ النارَ كإرهابي!).

 

************************

 نُشرت في صحيفة الثورة - 24 أيلول - سبتمبر 1993

وفي كتاب "الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 323- 328

 

 

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home