النقطة: تشكيل لغوي ومعادل ترميزي لأزمة الذات

 

 

عيسى حسن الياسري

 

 

   

في الطعنة الأربعين

أجلسُ قرب شجرتكَ: شجرة التين

وأقول لها:

يا شجرة مَن تظهر الأشجار صورته

كلّ آن وحين

ها أنذا قربكِ في عواصم الجوع

أدعو الله أن يؤيدكِ بالثمر

علّي أشبع

ويؤيدكِ بالماء

علّي أرتوي

ويؤيدكِ بالكتابة

علّي أكتب نشيدي للحلم...

(قصيدة محاولة في الرثاء)  ص5

 

  الشاعر أديب كمال الدين واحد من شعرائنا العراقيين المتميزين، لاسيّما بعد أن أستطاع أن يجد له طريقاً كتابياً خاصاً به يمرّ من خلال عناقه الحميم مع أهم منجز إبداعي شعري عرفه تراثنا العربي الخالد ونعني به الشعر الصوفي. وعلى الرغم من أن القراءة الخارجية لقصيدة أديب كمال الدين توحي بأنها اعتمدت إنجازات الصوفيين في الاستخدامات الحروفية بصورة خاصة الاّ أن القراءة التحليلية لهذه القصيدة.. لم تأخذ من المدرسة الصوفية سوى تشكيلاتها الخارجية.. إيماناً من الشاعر.. بأنه يعيش عصراً يبتعد كثيراً في إشكالاته.. وتعقيداته  وأزماته النفسية والروحية عن العصر الذي عاشه الصوفي القديم على الرغم من تشابه النهايات التدميرية التي يشترك فيها العصران. وإنّ عودة سريعة إلى بعض مجموعاته الشعرية.. والتي تعلّق على واجهاتها لافتات صوفية.. تتضح من خلال التسميات الحروفية لتلك المجموعات مثل حرف (الجيم) وحرف (النون) ومن ثم ( النقطة) إلاّ أن الاستخدام الداخلي للحرف عند الشاعر.. يخرج عن شرطه الصوفي.. ليتحول إلى معادل ترميزي يعالج من خلاله أزمته الذاتية والموضوعية في آن معاً. إنّ شاعرنا لم يتوقف عند الحدود الرؤوية الصوفية المتقدمة التي اتخذت من الحرف (طلسماً) لا يتعدى عن كونه مفتتحاً لتعويذة سحرية أو مقابلة (رقمية) كما هو حاصل في (الأبجدية الحروفية) والتي أعطت لكل حرف رقماً يبدأ من (1) الذي يشكل أعلى قيمة رقمية لحرف (الألف) وتنتهي بالرقم (1000) والذي يشكل أعلى قيمة رقمية في هذه الأبجدية.. والتي استحوذ عليها.. واتصف بها حرف (الغين) ولعل أكثر الاستخدامات التي لجأ اليها الصوفيون الأوائل للمنجز الحروفي وسيلة لاستقراء الدورة الفلكية للشمس والقمر والكواكب السيارة  وربطها بعوالم الشر القائمة على الأرض. وعلى الرغم من أنها استخدامات توحي لنا بتوفرها على حد ترميزي لا يستهان به.. وعلى الرغم من أنّ هذا الحد التميزي  يمسّ ولو بطريقة غير مباشرة محفة الذات الإنسانية في عالم لا يفتح أمامها أصغر نافذة للضوء أو الحرية.. الاّ أنه استخدام ظلّ يمثل مرحلته التاريخية.. وشرطه الزمني تمثيلاً صادقاً ومبدعاً.. مما يجعل منه ذا قوة خلاقة تنشط إبداعنا المعاصر وتغذّيه بعناصر كتابية فاعلة إلاّ أن نقل هذه التجربة نقلاً مباشراً.. وبالحدود والمسافات والأبنية التي منحها لها عصرها.. سيكون له تأثيره السلبي على تجربتنا المعاصرة.

 هذا الأمر وعاه جيداً شاعرنا أديب كمال الدين.. لذا فانه وكما أشرنا قبل لحظات .. لم يتخذ من ذلك المنجز الكبير الاّ تلك القيمة الابداعية والتي تنسجم تماماً مع عصره الذي يتميز عما سبقه في أزماته.. ومحنة الإنسان فيه.. مما يتطلب من الشاعر والكاتب المبدع أن يمتلك وعياً مُشكّلاً بطريقة قادرة على خلق أساطيرها ورموزها الحياتية الفاعلة.. التي تحمل كلّ سمات عصرها.. لأنّ كلّ أبداع معزول عن عصره.. وأزمة إنسان عصره.. سيظل مرفوضاً في حضرة الأزمنة القابلة.

ونحن هنا.. ومن خلال استقرائنا لمجموعة الشاعر أديب كمال الدين والتي تحمل عنوان (النقطة) لا نتوقف طويلاً عند هذا العنوان لأنه ومن أول نص يقابلنا من نصوصه الشعرية فيه نراه يغادر منطقته الصوفية تلك التي تجعل من النقطة وعلى الرغم من صغرها المتناهي المحور والقطب الذي تبدأ منه الحياة.. ومن ثم تبقى تدور من حوله ليوظف هذه النقطة توظيفاً(رمزياً) معاصراً.. ويشكّل إضافة لا يستهان بها للرموز الشعرية الصوفية.. آخذاً بنظر الإعتبار الرمز الشعري الذي ينسجم مع أزماته المعاصرة.. وتبرز أزمة الشاعر بكل وضوح وهو يتصفح تقاويم العمر.. وعندما يقف أمام صفحتها الأربعين نجده يحتفل بها بطريقة معذبة ومحزنة  فبدلاً من أن يوقد لها (أربعين شمعة) ويقدم بين يديها (كعكة) الفرح  ويعلّق الأشرطة والبالونات الملونة في غرفة الجلوس وعلى غرار مايفعله السعداء والمبتهجون بأعمارهم.. بدلاً من هذا كله يقدّم الشاعر أمام هذه الصفحة مرثاته الحزينة.. فهو ومن خلالها  ولا يرى أمامه سوى كدس من الآلام والعذابات والجوع.. بل وحتّى عدم الحصول على كمية كافية من الهواء الذي يتنفسه.. وعبر مقاطع القصيدة الستة يعطي الشاعر أكثر من توصيف لهذه الورقة التي أخافته وأرعبته.. فهو مرّة يصفها (بالعام الأربعين) وأخرى يطلق عليها اسم (الصيحة الأربعين) أو (الليلة الأربعين) أو(الخزانة الأربعين) أو (الطعنة الأربعين) أو (الباب الأربعين).. ومن خلال هذه الصفات الموجعة نرى أي جحيم عاشه الشاعر عبر أربعين سنة من العمر الضائع.. والذي لا جدوى منه.. ولا نفع فيه.. ويستخدم الشاعر الكثير من الحروف التي تنسجم رمزياً.. مع الحالة النفسية التي يعيشها.. ولعل أكثر تلك الحروف نجاحاً في أستخدامها كمعادل ترميزي للحالة التي يعيشها الشاعر هو الحرف (الحاء):

 

 في الليلة الاربعين

سقطتْ صيحتي

فجمعتُ زجاجها بلساني الجريح

كانت الصيحةُ مرسومة (بالحاء).

كانت الصيحةُ طفولية كالماء...

 

 لقد استخدم الشاعر (حرف الحاء) في هذا المقطع الصغير خمس مرات لأنّ (الحاء)  هو الحرف الذي عندما نلفظه لا يتجه إلى خارج الفم بقدر مايتجه إلى الداخل.. وإلى حيث موقع (القلب) وهذا الأمر يتحقق في حالتي الوجع الذي يسبب (الصيحة) أو (الحبّ) الذي يفقد القلب الإنساني هدوءه واستقراره.. لأنّ هاتين الحالتين الإنسانيتين محكومتان بذلك الاحتراق الذي يكون داخل الإنسان حاضنته. أما في المقطع الخامس من هذه القصيدة المؤثرة.. فهو يستخدم الشجرة وبالذات (شجرة التين) والتي عرفت بأداء وظيفة (سترالعورة) بطريقة إشارية.. تؤسس إحالات نفسية ممتزجة بوعي ميثولوجي.. فالشاعر هنا ينزع عن هذه الشجرة التي طفق (جداه آدم وحواء) يخصفان عليهما من ورقها: وظيفتها الطيبة.. من خلال شرط مجاورته لهذه الشجرة التي ما عادت تمارس فعلها التكتمي الذي يحمي الإنسان من أخطائه الصغيرة.. وربما يحميه حتّى من فضائله التي ماعادت مقبولة من عصره.. نظراً لاتساع المناطق المحرمة في جسد هذا العالم.. لقد تحولت  شجرة  (التين) إلى شجرة عاقر.. لا تمنح الجائع ثمرة.. ولا العاري ورقة يستر بها عريه.. إضافة إلى افتقادها قوتها في المخيلة الحلمية.. وهنا تتجسد خسارات الشاعر الفادحة وهو يقف أمام (عامه الأربعين) أو (المحطة الاربعين) لرحلة العمر:

 

 كان الحلم هناك مقتولاً

كحرفٍ سقطَ من فمٍ أخرس

كموعدِ حبّ مزّقته السكاكين

كنارٍ طيبةٍ بالتْ عليها الكلاب.

 

 ففي الشطر الأخير من هذا المقطع يقدّم الشاعر إحالة تناصية مع بيت شعري لأحد الشعراء القدامى يقول فيه:

 قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم                      قالوا لأمّهم بولي على النارِ

 وهي إحالة تناصية تتفق مع تحولات وعي الشاعر داخل القصيدة من دون أن تكون إحالة مقحمة حيث أبعد الأم كرمز للحنو.. ووظف بدلاً عنها (الكلاب) وتكاد قصائد الديوان أن تتفق جميعها على الاتجاه سوية.. وبإيقاع سمفوني متناسق نحو أكثر مناطق الشاعر وجعاً.. وإيلاماً.. وتظل ملازمة له.. حتّى وهو  في أشد حالاته النفسية والروحية تناقضاً عبر محاولاته التحرر من قيده المادي.. وولوج عالم الروحانية.. وهنا يتناهبه قطبا اللذة وكذلك ترويض الجسد:

 

 أن تسخر من البلدان

أن تسخر من الأثداء والسيقان

أن تسخر من الأحلام

فتكون مثلنا فارغاً

بارداً

ضائعاً

عارياً للأبد.

 

 وعلى الرغم من أن (أنا) الشاعر ترتفع معلنة عن نفسها في أكثر من قصيدة  إلاّ أنها (الأنا) التي تخرج من حدودها الذاتية الضيقة.. لتدخل في شرطها الموضوعي المتسع .. فهو عندما يعلن بأنه (بريق سيف الأصلع البطين) ويعني بذلك الإمام (علي بن أبي طالب) أو أنه يمثل الثورات الخرافية.. وأنه معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى  وأنه (آدم) وهو (بقية من لا بقية له) وهو (الفرات قتيلا ً) وهو (دم عبد الله الرضيع) الذي أخذته السماء و (دجلة المدججة بالإثم) وأنه فيه يختبىء (ألف جريح).. إنّ أناه هذه وغيرها من عشرات (الأنا) التي أحتشدت بها قصيدته (محاولة في أنا النقطة) ما هي الاّ إشارات واضحة يتحدث فيها عن وطن كبير.. وأمة تضرب جذورها في عمق التاريخ البعيد. وإنسان يحمل إرثه الخالد على كتفيه.

إنّ الشاعر أديب كمال الدين وهو يواصل كشوفاته عبر منظومته الحروفية الخاصة يركّز في مجموعته هذه على نموذج ضدي يبدأ من القداسة وينتهي إلى التلوّث ووساخة هذا العالم.. من طهارة (النون) إلى تحولها إلى (بغي) وهو يرى في كائنه البشري (العالم الأكبر) الذي تحوّل إلى (جرم صغير) لا أحد يلتفت إليه.

إننا نقف في هذه المجموعة أمام أكثر من مفارقة شعرية رائعة حيث تنسلخ الأشياء عن كينونتها الحقيقية لتلبس أقنعتها المضللة والزائفة:

 

 لم يعد الرغيفُ حلماً

صار قصيدة حبّ

لا تُقرأ إلاّ بين يدي الملوك.

 

******************************** 

  نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية - العدد 1032 - 27 سبتمبر-  أيلول 2001

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 245 - 249

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home