المشروع الشعري لأديب كمال الدين:

 

تشابيه لواقعة الخلق

 
 

 

د. ضياء نجم الأسدي

 

   حظي الشاعر الكبير أديب كمال الدين باهتمام نقدي خاص من بين شعراء العراق, وهو اهتمام تستحقه تجربته الشعرية لما تمتاز به من ريادة وابتكار على المستويين المنهجي والفني. فهو الشاعر الوحيد الذي وظّف الحرف واستثمر جوانبه المتعددة. وعلى الرغم من أن هذه التجربة لم تكن واضحة المعالم في مجموعتيه المبكرتين (تفاصيل, 1976, و ديوان عربي 1981) إلا أنها أصبحت قطب الرحى في دواوينه اللاحقة. حيث تحوّل الحرف لديه من مجرد عملية شخصنة إلى أسطورة تخالط الواقع حتى يصعب على مستوى الفرز الدلالي أن تكتشف أيهما الواقع وأيهما الخيال.

  في لغة الأدب عموماً يتحوّل الفعل الكلامي (speech act) إلى فعل افتراضي يمتلك قوة إنجازية  (per formative act/illocutionary act) في عالم خيالي. ومهما بلغ تأثير تلك القوة الإنجازية في عالم الواقع الخيالي (أي العالم الموضوعي لعالم النص الخيالي) فهي ستبقى دائماً ضمن الأطر المنطقية والدلالية لذلك العالم.

  هذا التناول تؤطّره نظرية أفعال الكلام في فلسفة اللغة لجون سيرل (Speech acts theory by John Searle) وهي النظرية الأهم من بين نظريات فلسفة اللغة منذ مطلع القرن العشرين (أي منذ فتجنشتاين وجون أوستن) وحتّى يومنا هذا. وهذه النظرية تقارب الأدب على أنه عالم من الخيال تشتغل فيه اللغة على مستوى الفعل الإفتراضي وتعمل على وفق شروط الصدق ذاتها (felicity conditions) التي تعمل عليها لغة العالم الحقيقي. وهكذا فلغة الأدب لا تميزها عن لغة الواقع إلا مستوى تأثير القوة الإنجازية الذي لا يتعدّى في الأولى حدود عالم النص, ويؤثر في الثانية على العالم الموضوعي فيقوم فيه بصنع الوقائع والأحداث ضمن القواعد المنطقية للدلالة والسياق.

  يحاول أديب كمال الدين في منهجه الشعري أن يصنع عالمين: أحدهما افتراضي يلعب فيه الحرف دور البطولة المطلقة ويمارس القوة الإنجازية بما أودعه الشاعر فيه من قدرة على الخلق. فهو في عالم القوة والفعل معا – أي عالم الخلق والقوة وهما تحت سيطرة الشاعر، وعالم الفعل الذي يمارس الشاعر فيه الخلق عبر أدواته الحروفية:

أنا النون الغامضة

أيها الألف الصريح

سأحوّلكَ، كلّ ليلةٍ، إلى طلاسم

وقصائد جمر

وأحوّلكَ، كلّ صباحٍ، إلى رماد.

 (خطاب النون, مجموعة نون, 1993)

 

   وهو – أي الشاعر – في عالمه الخاص (عالم الفعل) يمارس دوراً آخر، وهو تدبير شؤون حروفه التي تحوّل عالمها إلى مجرّة سحيقة شاسعة تعجّ بالمؤامرات والثورات التي تقودها الحروف فيما بينها, وقد بدا أيضا أنها تخطط للثورة على مبدعها ومليكها (الشاعر):

النقطةُ فضّة

والحرفُ ليرةُ ذهب

فما أسعدني أنا ملك الحروف.

 (ملك الحروف,  مجموعة حاء 2002)

 

  تقترح هذه القراءة المقتضبة للعمل الإبداعي للشاعر أديب كمال الدين, بأنّ منهجه الشعري يشبه إلى حد كبير رؤية العارفين والمتصوفين لصناعة الخلق والخليقة وشؤونها وتصاريفها. وهي رؤية  ليست بالجديدة إلا أنها تفترض أنّ هذا التعامل العرفاني أو السلوكي الذي ينتهجه الشاعر مع مادته الشعرية وأدواته يعتمد على رموز محدودة تشكل سرّ هذا الإبداع – مثله مثل الكون الذي يعتمد في كل عظمته وإبداعه على مجموعة من الأسرار لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم:

سأمنحكِ أيتها النون المجنونة بالجمالِ والانكسار

مجدَ الكلمة

وسأعلنكِ إمبراطورةً حقيقية

وأتوّجكِ في احتفالٍ سرّيّ عظيم

بتاجِ الحروف

وقلادةِ الكلمات

وطيلسان القصائد

ووسامِ الهيام

وعصا السحر.

 (قاف، محموعة نون, 1993)

  وهذه الرؤية تدعمها الرموز التي تطفح بها أعمال الشاعر بل والعلاقات التي انتظمت بها تلك الرموز لتحاكي قصة الكون وحركته. وأزعم بأنّ تلك الرموز على كثرتها وتعدد وظائفها في أعمال الشاعر إلا أنها يمكن أن تُختزل على وفق قاعدة التوليد والإنتاج إلى بضعة رموز أو بالحقيقة بضعة علاقات رمزية, يعمل فيها الحرف على إنتاج عدد غير منته من الإيحاءات ضمن نسق توليدي دلالي ورمزي إذا ما استخدم بشكله العام وبطاقته القصوى. ولكنه عند الشاعر يحيل إلى دلالات معينة تنطلق منها بعدئذ تلك الطاقة القصوى للمعاني فتولد مجرّات من المعنى والفعل الدلالي. وآلية التوليد هذه تشابه آلية التوليد النحوي عند نعوم جومسكي والتوليد الدلالي عن التوليديين الدلاليين من الناحية التقنية والإجرائية. ولكنها تُستثمر في حقل آخر وموضوع مختلف وهما حقل الشعر وموضوع قصة الخلق.

  ينطلق التحليل الحالي من فكرة مفادها أن تردد مفردة ما أو مفهوم ما في نص معين لا بد وأن تكون له خصوصية أسلوبية ودلالية تميز أسلوب منتج النص وتشي بأبعاده (أي النص) ومستوياته اللغوية وغير اللغوية (كالنفسية وغيرها). وهذا مايذهب إليه جان موكاروفسكي وسبيتزر في مايسميانه بالإنحراف عن المعيار  (deviation) أو التقديم (foregrounding) كما يراه مكاروفسكي  وجفري ليج أو البروز (Prominence) كما يراه هاليداي وجميعها تشير إلى أن أنساقاً معينة أو مفاهيم معينة على أي مستوى من مستويات النص يُقدِمُها ويُبَرِّزها (أي يُكثر من استخدامها) الكاتب بوعي أو بغير وعي لتشكل فيما بعد خصيصة أسلوبية لها أثرها في تحليل النص وتأويله. ولم يكن ليحدث هذا لولا أنّ الكاتب لديه مدى واسعا من الخيارات التي يستطيع أن ينتقي من بينها مفاهيمه ومفراداته وأنساقه. وهذه هي رؤية الأسلوب بوصفه إنتقاء (selection) كما يراه تراغوت و برات.

  وهناك ثلاثة من المفاهيم يمكن أن تشكّل مفاتيح لعالم أديب الشعري وهي الحُلم والعُري والإرتباك. تتكرر هذه المفردات بشكل لافت في معظم قصائد الشاعر. ورغم تعدد وظائفها وتنوع سياقاتها الدلالية إلا أنها دائماً ما تنتهي إلى الغرض الوظيفي نفسه. فالحلم هو الكون الإفتراضي الذي خلقه الشاعر لتسكنه حروفه بعد أن ينفث فيها الحياة:

في البابِ الأربعين

لم يكن الحلمُ ليأبه لصيحاتي وحشرجتي

لم يكن يأبه لعريي وضياعي

كان الحلم ُهناك…

ليس مع ملكاته

ليس مع خدمهِ وحشمه

ليس مع حرّاسهِ وعرشهِ وذهبه

ليس مع مَن يأتمرون بإشارته

كان الحلمُ هناك…

مقتولاً.

(محاولة في الرثاء، مجموعة النقطة 2001)

 

  وتبدأ المحنة الحقيقة عندما تتكسر جدران الحلم وعالم الكون الإفتراضي الذي تعيشه الحروف لتنسكب على الواقع, ويتحوّل الحلم ومستوى الوعي الباطن إلى وعي ظاهر مفضوح, وهنا يشتغل مفهوم العُري عند إنكشاف عالم الحلم وسوءاته أمام عالم الواقع. فتعرّي الحروف وفضيحتها هو فضيحة الشاعر الذي أبدعها. وهكذا يحدث الإرتباك في لحظة كونية مهولة:

كانت الزاي ارتباكاً جديداً

وأنا أقايض ارتباكاً بآخر

أنا تاجر الارتباك

أنا ممّول المرتبكين الحالمين

بجهنم باذخة خالدة.

(ارتباك الزاي, مجموعة حاء, 2002)

 

ويغيب الشاعر في لحظة الارتباك هذه عن الوعي ويطير صوابه ليتأمل مشهد الفضيحة الدامي والسمج إلى حد بعيد:

مرتبكاً مذعوراً

كان المعنى قدّامي وورائي

يبحثُ عن معنى لطلاسمي العظمى!

(ارتباك المعنى, أخبار المعنى 1996)

 

  ويعود الشاعر مدارياً ارتباكه بإن  يمضي قدماً في مأساته يستسيغها رغم مرارتها ليحمل أوزار خطيئته الكبرى, ويعلن عن نفسه مصلوباً قبل قيامته وموتوراً رغم جمهورية حروفه وغريباً وهو الذي ألف كلّ الكائنات. وفي خضم هذه المرارة ينتظر الشاعراحتفاله الكوني البهيج بمقتل آخر حرف خرج من صلبه ليصفي كل حساباته ويذهب إلى الجحيم أو النعيم, لا يهم طالما أنه تخلص من عار الحروف إلى الأبد.

  إن أديب كمال الدين قد مارس لعبة خطيرة وحاول أن يحاكي قصة الخلق والتكوين. إنها تشابيه لواقعة الخلق. يريد الشاعر أن يجسدها أمام الخليقة (في عالمه الواقعي) ليريهم المدى الذي بلغته خطيئاتهم الكبرى والحد الذي وصلوه في التمرد على بارئهم وجحود لطفه. فكان الحرف أول مخلوق أوجده الشاعر ليحمله الأمانة الكبرى. ومثلما خلق الله سبحانه وتعالى الكون من نوره وبدأ يضفي على هذا النور تجلياته حتى وصل إلى خلق آدم (عليه السلام) الذي معه بدأت عذابات الخليقة وابتلاءاتهم وبدأت معه غواية أبليس وحربه، خلق أديب كمال الدين عالمه الإفتراضي من وهج الحرف وبدأ بنقطة الباء والنون ومنها ذرأ حروفه الأخرى ليجسّد في تشابيه ممثالة لقصة الخلق واقعاً آخر أخرجه من عالم القوة (الواقعي) إلى عالم الفعل الإفتراضي:

كانت النقطةُ تحت

وقتها كنتُ ملكاً عاشقاً

ثم انتقلت النقطةُ فوق

فصرتُ صعلوكاً فشحّاذاً فلا شيء!

 (محاولة في حقيقة النقطة,  مجموعة النقطة 1999)

 

  وعند تبدل موقع النقطة من الباء إلى النون تداخل عالم الشاعر (الواقعي) الذي هو فيه محض مخلوق ضعيف مع عالمه الإفتراضي الذي مارس فيه سلطة الخلق وأوجد كوناً من الحروف التي بدأ فيما بعد (خلافا للخالق الفعلي القوي المقتدر) بفقدان سيطرته عليها وعلى أفعالها. فكان قتيلها وأول من فتكت به دون رحمة:

كانت النقطةُ دمَ الجمال

 دمَ المراهقة

 دمَ اللذة

 دمَ السكاكين

 دمَ الدموع

 دمَ الخرافة

 دمَ الطائر المذبوح

كانت النقطةُ دمي

أنا تمثال الشمع.

 (محاولة في حقيقة النقطة,  مجموعة النقطة 1999)

 

  كان همّ الشاعر إيضاح مدى الحب العظيم واللطف الذي عامل به الخالق مخلوقاته (أخلق فيعبد غيري وأرزق فيشكر غيري, خيري إليكم نازل وشركم إليّ صاعد): فأراد أن يكون يحيى والمسيح والحسين والحلاج وكل الأضاحي التي نُحِرَتْ لكي تلفت أفهام الخلق المتحجرة بالظلم والظلام إلى حجم الحبّ الفادح الذي يقابل به الخالق جحود مخلوقاته:

حين احتضن الآباءُ أبناءهم

والعشاقُ حبيباتهم

والفَجَرةُ دنانيرهم

لم أجد من يحتضنني إلاّ الله

الذي قال: (اركعْ). فركعت

فانشقَّ صدري وطارَ منه طائرُ الخوف

وقال: (اسجدْ). فسجدت

على سجادتي الصغيرة الممزّقة

حتّى تحوّلتُ إلى دمعة،

بل نقطة.

 ((إركعْ) فركعت, مجموعة حاء, 2002)

 

  أراد من خلال عالمه الإفتراضي أن يعرّي جميع نقطه وحروفه ويكشف كل سوءاتها لإنه أراد بذلك أن يكشف سوءات البشر وعريهم وخطاياهم في عالم الواقع. فمنذ اليوم الأول الذي أنشأ فيه الشاعر خليقته واستوى على كرسي التدبير وقال لحرفه الأول كنْ, فلم يكن! فارتبك الشاعر, وتصبب عرقاً, وتجلّى أمامه عري الحروف الناشزة النزقة، بل عُريه هو لإنه أراد أن يلعب دوراً ضخماً لوحده, دور الرب الشهيد, المفجوع بأبنائه العاقين, وبقومه المخادعين وبذرية كاملة غير منتهية من الأفاقين الخطائين. فلقد كان مشهده (مشهد الخراب الكبير) دون كومبارس أو جوقة موسيقيين أو مكياج أو ديكور ليعلن عن خروجه من مسرح التكوين ولينزوي في ثقب أسود يداري فيه هزيمته الكبرى.

  لقد كانت لحظة الإرتباك الكبيرة تمهيداً لقيامة الشاعر, بل جنونه الذي أرغمه أن يخرج إلى فضاء الكونين (كونه الإفتراضي, وعالمه الواقعي) عارياً حاسراً مشدوهاً يتضرّع إلى الله (المسيطر الحقيقي على العالمين – أي العوالم كلها) أن ينهي هذه التراجيديا ويوقف طغيان الحروف التي صعد جرمها إلى عنان السماء. فعرضَ صليبه, وجَلَدَ نفسه حتى أدمى آخر حرف تعلّق به, وأحرق كل بروتوكولاته وزبره التي نشرها لحروفه تكفيراً عن فعله الفادح, لكن كان مكتوباً عليه أن يكون عبرةً وأن يتيه بعريه وارتباكه وأوجاعه في سفر الخليقة وأن تظل حروفه المتمردة عاراً على الآدميين ليشعروا بخطيئتهم المتصلة:

لحظةَ الموت أعلنتُ حبيّ

ما تيسّر من فرحةِ الأنبياءْ

ثم هيّأتُ مائدةً من دمي

كأسها، خبزها، ليلها البربريْ.

(الشهيد, مجموعة جيم 1989)

 

  لقد أراد الشاعر أن يُشيد حلماً, وأن يتحكّم هو بهذا الحلم, في هدف نبيل يريد من خلاله أن يصور كيف هو حُب الإله لمخلوقاته. ولكن حدود هذا الحلم التي تفصل عالم القوة عن عالم الفعل تكسرت لمشيئة إلهية لا يملك الشاعر إزاءها حولاً ولا طولاً. فاستحال عالم الظلم الإفتراضي إلى عالم واقعي وأصبح الحلم حقيقة تضجّ بالخطايا, وبدلاً من أن يكون الشاعر في كرسي التدبير يشرح ويوضح ويضرب الأمثال تحوّل هو إلى مضرب مثل وضحية تائهة بعد أن ثارت عليه مخلوقاته النزقة:

 جسدي يخضّر كعشبٍ ويموتُ كرملٍ ويضيع بنهرِ الكلماتِ فلا جدوى. أُقـْتـَلُ أو يُرفَعُ رأسي فوق الرمح،  يُنادى باسمي في الريحِ فلا جدوى.  فلغاتكِ قد  قتلتني. لم  تأكلني الأمراضُ  ولم يذبحني السيفُ وما حاصرني الماضي  بالدعوةِ  للبحرِ الفاضحِ. يطلعُ من بين لغاتكِ جسدٌ عار يفتحُ بابَ القبرِ إلى بابِ الدارِ يناديني.

(أخبار المعنى، مجموعة أخبار المعنى 1996)

   ما يشجع على هذه القراءة لمنهج أديب كمال الدين الشعري والفني هو أن جانبي العمل الإبداعي الذاتي والموضوعي لديه غارقان في لعبة الترميز الديني, وأن إحالاته الأساسية في معظم كتاباته تستمد أصولها من الأطروحة الدينية للكون.

  وهو بطبيعته كشخص – في روحه على الأقل – بوهيمي سائح يقتفي أثر الحقيقة العارية, بل يلهث خلفها حتى الرمق الأخير. وهو كشاعر وكإنسان صاحب رؤية (تكاد تكون تجلّياً) في الله والخلق والكون وجميع ما نراه وما لا نراه من عوالم (1):

هَوّمتُ، معي خطوات دمي

وزُجاجات الفجر الثكْلى

هَوّمتُ... أنا روحُ العشب ِ

عنقُ العُصفورِ وذاكرةُ التُفّاحْ،

وجعُ الطين ِالأسودْ

لأمنّي الروح بأرض تُؤوي جذري المنفيّ

لَعلّي أَلقى مَنْ سَمّاها

مَنْ قالَ لذاكرة ِالتُفّاحْ:

كوني... كانتْ شجراً محترقاً..

يلتفّ ُعلى الماءْ 

لا ماءْ!       

          (إشارة التهويمات, إشارات التوحيدي,  مجموعة جيم, 1989)

 

  فربما هو لا يرى مع دي سوسير أن العلامة بأبعادها الثلاثة اعتباطية الدلالة, وأن اللغة كما يراها فتجنشتاين هي لعبة تبحث عمن يتقن قواعدها. إنه يفجر الحرف أمامنا ليرينا تكوينه الذري وجزيئاته العارية ملمحاً إلى أن هناك مؤامرة كبرى تنطوي عليها هذه الحروف المتلمظة المخادعة. وهو يكسر جميع قواعد اللعبة اللغوية والدلالية ليرينا أننا حتّى في عالم الأحلام لن ننجو من مؤامراتنا وأنها ستخرج علينا من اللاوعي لتدمر حياتنا.

إنّ آلية الحلم والعمل الحلمي عند أديب كمال الدين لا تشبه ما ذهب إليه فرويد. فالحلم الفرويدي يُنتج في مستوى اللاوعي وهو يؤثر ويتأثر على المستويين – الوعي واللاوعي. أما عند أديب كمال الدين فالحلم هو فعل واع, يمارس تأثيره الأول على الوعي ثم ينتقل إلى عالم اللاوعي الإفتراضي محدثاً فيه تأثيراً لا يقل قوة وخطورة عما يفعله في عالم الوعي. وتتجلّى عند الشاعر مضامين النزوع الجنسي لدى الحروف مما يعزز في قراءة أولى ما ذهب إليه فرويد على أن اللبيدو هو محرك الفعل الآدمي المبكر. ولكن فيما بعد نكتشف بإن هذه القراءة خاطئة وأن الحروف إذا ما تزحزحت عن سبب تكوينها ومركزها فإنها تحركها كل نزعات الشر والتمرد وليست نزعة الجنس النزقة فحسب. بعد عُريه وارتباكه وهزيمته الكبرى يتكلم الشاعر, كما تكلم زرادشت ولكنه يقول ما لم يقله الأخير, ويتساءل: "لماذا آمنت هذه الحروف اللعينة بإن الله قد مات؟" لماذا ثارت وتمرّدت وهي تعلم انما أمرها الأول (كنْ) لا يزال بيد خالقها الأزلي؟ ولماذا يقبل الخالق بهذا الخراب وبهذه الفضيحة التي اجترحتها مخلوقاته؟

  يتيقّن الشاعر بإنه لن يعثر على أجوبة لتساؤلاته بسبب ما أطبق على نفسه وطالها من جرم حروفه التي صنعها فينطلق هائماً في عالمي الفعل والقوة والإيجاد باحثاً عن أجوبة لتساؤلاته المشروعة, ويسلم بإن حلمه الحالي (الحياة الدنيا) لن تمنحه هذه الراحة وعليه أن ينتظر قيامته مدججاً بصليبه وجراحات هزائمه ومضمخاً بدماء تجربته البريئة التي انقلبت وبالاً عليه ليلحق بركب الأنبياء والشهداء والمعذَبين علّه يظفر أخيراً براحة النصر على أمّة الحروف.

*********************************

 (1) أقول ذلك مطمئناً لصدق انطباقه على الواقع لأنني عايشت الشاعر في مرحلة حالكة من حياته غلّفها الخوف والقلق والترقب والشعور بالضياع. وقد كانت تلك الظروف كفيلة بأن تجلّي عن الشاعر جميع القشور التي تفرضها طبيعة الحياة ليتجلّى بهيئته الحقيقية. على أن تلك المرحلة لم تكن قصيرة أو عابرة بل كانت مرحلة مضنية ومفصلية في حياته (وهي بين الأعوام 1997, 2000– 2003).

  


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home