نون الشاعر.. وتفسير الناقد

 

 

          بشير حاجم

 

  مهـّد الشاعر أديب كمال الدين لمتن ديوانه (نون) بالآية الكريمة (ن والقلم ومايسطرون) التي قال المفسر عبد الله شبر عن نونها (روي انه نهر في الجنة وقيل اسم للحوت أو للدواة) لنجدها ازاء ثلاث ثنائيات: نهر/ جنة.. بحر/ حوت.. حبر/ دواة!!!

  أهي مصادفة حروفية انتهاءات الأقطاب الأولى والثانية بحرفي الراء والتاء على الترتيب؟ حيث (روحي  طفل/ وطفلي راء) تقول (أنا سرّ النار).. و(الموت ذاكرة لا تذكر أحداً/  حتى تاء طفولتها الممزّقة) تشبه (تاء التيه)!!

  إذن .. فالنون هي:

(1) جنة : الأبجدية هي الجنة التي ينتظر الشاعر هبوطها  له محملةً  ب(أنهار ربيعك).. ولأنّ: النهر في الجنة/ النون في الأبجدية.. لذا (عيناك جنة) أيضاً . حيث إن مفردتي (ربيعك) و(عيناك) تعنيان ربيع وعيني النون. وإن (كانت الباء جنة عدن) أي جنة إقامة لمكان الخلد فيها.. فإنّ فعل الماضي (كانت) الذي جرّد الباء من الجنة، جرّد النون من الجنة كذلك لأنّ (أكثر ما أخشاه يا نوني/ أن تكوني باءً مقلوبة). وهنا نستشف أن الشاعر لم يك ذا (لعبة حروفية خاصة)  كما ارتأت شذى أحمد:  بل إنه ذو فلسفة حروفية خاصة.. ذلك إن (اللعبة)  غاية قابلة للنفاد. في حين ان (الفلسفة)  وسيلة  قابلة للامتداد. فإذ نعلم ان (عدن) هو الموضع الذي وضع الله فيه آدم، نسأل: هل ان الشاعر ونون الديوان هما آدم وجنة عدن؟ إذا كان الجواب: نعم: وهو المرجح: فهذا يعني ان الشاعر تجاوز ثنائية قديمة عامة: رجل  ـ  آدم/  امرأة ـ حواء: مبتكراً ثنائيةً جديدة ً خاصة:  أديب ـ آدم / نون ـ جنة

  لهذا سنرى ان ضياع نونه جعل قلب آدم (نهراً كفّ عن الجريان) فأعلن له نبأ تصدّع جسمه بعد تيبّسه في الدورة الأخيرة. لكنه (نهر عظيم) بالرغم من ذلك.. فهو النهر ذاته الذي قصده قول أديب آمراً رمز جنته:

 (تعالي نغسل أخطاءكِ وأخطائي في نهر الحبّ)

 

(2) حوت: جاء في المعجم (نون.. جمعه:  نينان وأنوان: حوت) لذا قيل عن النبي  يونس عليه السلام  الوارد ذكره في القرآن المجيد وهو يونان الوارد في الكتاب المقدس انه ( ذو النون ) في  ( نون )  أديب.. ليس ثمة ( يونس ) و (حوت)  بل ثمة  (ألف)  و(نون) نستخلص منهما هذه  الثنائية: ألف ـ يونس/  نون ـ  حوت 

 ف (الألف يلقي بنفسه في البحر) هو يونس الذي هرب إلى الفلك المملوء فركبه مثلما فعل الألف (حينها يتعـّين عليّ  أن أركب البحر / بحثاً عن ملاذٍ مزيفٍ جديد) .

 

 

 وإذ قيل ان في الفلك عبداً آبقا تظهره القرعة، قارع يونس فكان من المغلوبين في القرعة فقال: أنا الآبق. ورمى بنفسه في البحر فابتلعه الحوت. وها هو الألف/ يونس  يخاطب الكاف/ السماء (لتكن رحمتك.. بحراً ينشقّ فأدفن فيه همومي)  ثم يلتمس من النون/ الحوت (خذيني إلى الساحل أو إلى البحر). وحين يفقدها كما فقد آدم (أديب)  نونه (جنته)  في  (1)  ، يتساءل:

( أين أجدك الآن/ في القبر/ أم في البحر؟) 

فهو يخاف عليها من البحر بالرغم من:

( أنتِ لا تبحرين إلاّ في البحار التي يبستْ )

لأنّ

( البحر ازداد اتساعاً /  وامتدّ حتى أكل قلبي فبكيت)

وهذا عود ثان إلى (1) ..  إلى:

(قلبي الذي يشبه نهراً كفّ عن الجريان)

وهو:

(نهر يبس في دورته الأخيرة) !!

وإذ ضاع يونس في الحوت فلقد ضاع الألف في النون:

( كما يضيع الخاتم في البحر)

ومن ثم .. فهما معاً :

( أنا أسبح في بحرٍ لا أعرفه ولم أره من قبل /  وأنت تسبحين في شيء لا تعرفينه )

المعادلة ل :

( تعالي نغسل أخطاءك وأخطائي في نهر الحبّ) .. في (1)

 

(3) دواة :  فضلاً عن  ( نون الكلمة : الحقها التنوين ) وتنوين  .. في النحو: نون ساكنة  زائدة تلحق آخر الكلمة  لغير توكيد ) ثمة (النونة: الكلمة من الصواب.. وكلها تقود إلى مُنـّون واحد هو: قلم في دواة / شاعر في (نون)..  يقول:

(النقطة حبر)

مما يعني ان الهلال وعاء ومن ثم فالنون دواة (محبرة) .. حينها تنبثق الثنائية: شاعر ـ قلم/ نون ـ دواة  وهكذا سنقرأ:

(ينبغي للشاعر أن يعشق)

ليتعرّف (إلى الهلال وهو يصبح نوناً من غير نقطة)  أي  : دواة من غير حبر/ جنة من غير نهر/ حوت من غير بحر 

 وليس غريبا اقتران عشق الشاعر بهذا التعرّف المجرّد .. ذلك (أنّ الشاعر مجنون.. أمام إيقاع نونكِ المريب)  وهو يؤكد :

( لأجل أن أنال نونكِ فأنا مستعد أن أكون .. الشاعر أو العاشق.. تذكّري هذا المجنون).

هنا نتساءل: لماذا جنّ الشاعر؟

 لقد أدرك أن هلال النقطة/ وعاء الحبر هو (إناء الانتباه) الذي أخذته الأبجدية من النون/ الدواة وهي الدال في:

(أكثر ما أخشاه يا نوني /  أن تكوني باءً مقلوبة / أو دالاً تنكّر لها الجميع)

وهذا عود إلى  (1)  حيث  النون جنة. لقد أخذت الأبجدية الوعاء ولم تأخذ الحبر .. لذا:

( انكسر ألفي وسالَ دمُ نوني) ..

وهو عوْد إلى (2)  حيث النون حوت . وها هو الشاعر  يقول للدواة:

( يا نوني

  يا نقطتي وهلالي

 لا مستقبل لك إلاّ مع جنون الشاعر)

مثلما قال أديب للجنة:

( تعالي نغسل أخطاءك وأخطائي في نهر الحب)

في (1) .. ومثلما قال الألف للحوت :

( أنا أسبح في بحر لا أعرفه ولم أره من قبل /  وأنت تسبحين  في شيء لا تعرفينه ) في (2)   .

إنّ القراءة العُـمـْقية التي نتج عنها هذا المقال .. هي التي جعلتنا تكتشف مصداقية قول أديب  في لقاء صحفي  جديد ( لقد عمدت في قصائد مجموعتي ( نون ) إلى إجراء  حوارات بين المستويات التي يمتلكها الحرف وخلطها أحياناً  لاستخراج تركيبات جديدة  من المستويات  أو استخراج مستويات جديدة في الصورة الشعرية أو دمدتها  الإيقاعية  أو معناها الملغّز

  وإن عدّ المعجم حرف النون صوتاً لثوياً أنفياً مجهوراً مرققاً.. فإن الشاعر أديب كمال الدين صيـّره لحناً راقصاً (يذكرنا بكلّ أفراح العالم إبتداءً من فرحة جدنا آدم  بحواء التي خلقها الله من ضلعه وتلك اللذة الهائلة التي شعرها بعد الخلق وهو يمسها مساً رقيقاً دفـّاقاً بمشاعر لا يمكن وصفها ) كما قال:  فيصل عبد الحسن.

 عموماً ..

( فلقد تحولتِ يا نوني إلى رمز

  تحتفل قصائدي به كلّ ليلةٍ حتى الفجر

  حتى أجد حروفي سكارى وماهي بسكارى )

 

هكذا أنهى أديب / الألف / الشاعر:  جنته/ حوته /  دواته.. هكذا  أنهى المُـنـّون نونه.. فهل انتهت؟  

 

 ***************************

نُشرت في صحيفة العراق  14 كانون الثاني 1995


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home