النقطة وجدلية اصطياد المعنى

 

 

                                                    

أمير الحلاج

 

    إنّ استخدام الحروف في الكتابة الشعرية يعبرعن فاعلية اللغة بانتفاء وصفها بأن تبقى الإرادة المجرّدة للتفكير والحوار فقط لينمي الرموز القائمة على التقابل والتوازي بين الحروف وبين عناصر الكون وظواهره في خلق سلسلة  غير متناهية في الأشكال المدّونة، حيث شفراتها والإشارات بأجيالها المتعاقبة توسع التصورات  الفكرية صوب أفق أكثر اتساعاً من خلال ما تستمده الذاكرة وتصوّره المقدرة التخيلية مادام جمال الحياة  يحرّكه فينا العامل السايكولوجي. إذ (الجمال) هو الكامن في باطن الشيء لا في ظاهره على وفق ما تصوّره أفلوطين، وهو (الجمال)  المشترط اتخاذ وسط التأملات النابضة للانفلات من التداعيات المترسّبة، لا أن  يتخذ الحدس الاّ إذا اتخذت الذاكرة  بحافز التخييل في وسط طفولي حسب تعبير باشلار، وهو ماسعى اليه أديب كمال الدين في استغلال الحرف توليداً للنص الشعري الموغل في تحقيق المعنى بكل مايستوعبه نسيج كينونته، والمعنى  كما يراه رولان بارت مسألة جدلية تعبر عن اللامحدودية لينفتح النص بين إرادة  الكاتب وتاريخه المحدد، وخلقه المستثمر الحدث بقوة مخيلته في تحفيز الذاكرة  كي لا تنساق الى التشتت والسقوط في الهذيان المكوّن الصور المهشمة.

وقد عبّر أديب عن الحرف في حوار معه في صحيفة القدس العربي  ب (أغوص لأصطاد ثروة المعاني وأشتري ثياب المعرفة وأتعمم بنور العلم، فيه أستردّ طفولتي المحطّمة وشبابي القاسي وكهولتي الأقسى. الحرف كما أراه، شبكة  لصيد البهجة والحلم والشمس).  

   إنّ من يتأمل في شعر أديب كمال الدين  يراه يرسم شخصيتين للذات الواحدة، الأولى ذات بناء قوامه الشكلانية  في رصد الظواهر بلا استجابة لإغراءاته التجريدية البحتة، والثانية من الأحلام والعواطف المحكومة بوسائل المعرفة والأخلاق والتغنّي بالحياة التي أساسها المخيلة الخلاّقة، رغم كلّ المتغيرات الفكرية التي طرأت عليه والتي  بحكم المجاورة  تفعل المؤثرات العفوية والتأثيرات القصدية فعلها في البنى التكوينية بعيداً عن الأيديولوجيا  المسيرة والتي لو سيطرت عليه تسلب استقلاليته فيتحول من كونه كياناً الى منقاد بطقوس الليتورجيا وخليط من الثقافات الوافدة بطغيان فلسفتها الكاشفة عن وظيفة الطابع السحري في تشكيل الطلاسم والرقى، وكذلك ما يخفى في مقصد الطابع السحري الإيحاء عن إلمامه و ضمّه القوى السماوية والأرضية موسعاً من هذا الميل كلّ التصورات  الخارجة عن كلّ ما ألفه الناس من الوظيفة المسندة للمهيمنيين على المملكة الباطنية بأبعادها اليوتوبية  وما تتميز به قصائد أديب كمال الدين بانثيالها اللاشعوري المترشح والإحساس الواعي لتنأى القصيدة  من عالم مفترض لتكوين الصور الى بيئة ساخنة بمعادن الأحلام التي تمزج التجربة الذاتية بتجارب الآخرين.

 

haa

 

 

  إنّ ما جاء في قصيدة (محاولة في  السحر) هو تمرين أو مناورة لإثبات مقدرة الذات المتذبذبة للوصول صوب ما .تصبو اليه من أحلام وأمنيات تتطلب التحقيق    فكان الإبتداء ب (ظهيرة  تموزية) إعلان صريح عن (أنا)  تتمرّن بطريقة تعذيب ذات ال (أنا) المعلنة، بما توفر لها من موروث روحي لكبح الملذات الحسية تطهيراً للروح و رجوعاً الى البدء حيث الظهيرة هي النصف الأشد حرارة في رفده دافع استمرارية الجو، فالجلوس تحتها إصرار ذاتي لتحقيق فعل ما بوسيلة  للبرمجة. إذ تبدأ الإصابة ب(الإصابة من الشمس) التي تصحبها الأعراض الفيزيولوجية  من الحمى  والتقيؤ والخمول المقترب بشيئية إلى الإغماء الذي يقود المصاب الى عالم الهلوسات المرئية والسمعية مولدة وسط الشطحات اللفظية (طحنني الحرّ حتى ابتلّت ثيابي وقلبي وأصابعي) أو(الدمعتان انقلبتا بقدرة قادر إلى ساحرين)

أو:

 

( عجّلوا عجّلوا فقد دفنني الحرمان

 كما يدفن الزلزالُ جيشاً قوامه ألف فارس)

 

فهنا تتجلّى صيغة فعل الأمر (عجلّوا عجلّوا)  للسحرة المنبثقين من انقلاب الدموع المتساقطة من عينيه توليداً  للوضع الجمالي الناشىء من استقرار الوضع النهائي انطلاقاً من معنى مقولة (هيجل) بأنّ الوضع حالة مستقرّة  ومحرّضة للخلق الفني ليدخل مختبرالتجربة المعلنة أهمية الانسجام بين المسبّب والسبب في خلق الحيز، حيث تنقلب  الدموع الى السحرة المتحلّقين من المعادلة الكيميائية ذات التفاعل الفيزيائي على حساب الأسئلة والأجوبة، فالأسئلة  تفتح باب استقبال الشمس والأجوبة  تكسر أنساقها في التداول حيث تميل الى الكفّة الأولى كاسرة الرتابة باستجابتها  لحظة الإعلان عن لاقصدية الافتراضات قدر ما هي نتيجة ايحائية تقوّي عنصر الدهشة.

 كما إنّ انقياد قصيدة (محاولة في أنا النقطة)  للمضامين المكتسبة من ثقافة الآخر يخلف  جوهر الإرادة  التي لو عطلت يبدأ الكسل بنخر الجهاز العصبي للمخيلة علَّ (الإرادة) تصاب بالشلل ما دامت الشخصية الواحدة تملك نوعين من الذاكرة، فالأولى تتقولب بالاستجابة السريعة الناتجة من المعرفة المختزنة والتي تتعرّض غالبا للتشويه  حال التعرض  للارهاق وهي عكس الثانية المعادلة لأهميتها في اكتناه الأشياء وأهمية الأجزاء، لذا تسطع النقطة  بتنقلاتها بين (أنا النقطة) وسؤالها والدخول فيها وفي حقيقتها وفرحها بكل أهميتها  التجريبية معبرة عن وجود  الإنسان  حيث تتخذ مثلا الموضع الأسفل المشكّل لحرف الباء، المتميز من قبله بصدارة الموقع وعلى حد قول الشبلي (أنا النقطة التي تحت الباء)  بوصفها مركز العالم.  لذا عزز بخصوصية لم تمنح للآخرين (أنا ألف جريح  ونون فتحتْ لبّها لمن هبّ ودبّ )  وهو قول سبقته عدة مقولات ذات بنى متناقضة مع فلسفة اليومي المعاش لما فيه من إجراءات تتطلب بسط سياسة الاحتواء للجهات التي ضمت مسببات الآلام المثيرة للشجن.  لذا تسطع النقطة بين ال (أنا الرائي) ودمها لخلق بيئته المرتجاة هروباً من تأمل الواقع الى واقع التأمل بصورة  متحفة بالأنساق الحبوية ذات التوترات الحادة في صياغة التعابير التي من خلالها ينتقل من محور الى آخر دون الإخلال بوضع اللغة المستخدمة في الإنبناء وطبيعتها، كقوله:

 

( جلستُ على بابِ الحلم 

 كان الحلم نحيلاً كموعدٍ ضائع

 طيباً كنارٍ بدوية).

 

إنّ هذا الحلم ذو صفات طبيعية غير مألوفة، وعلى الرغم من طبيعة الصفات الاّ أنّ انكساره ب (بكيتُ رقّته  اللؤلؤية) يجعل من السكونية في حالة الجلوس والمحددة ب (جلستُ على باب الحلم) قفزة حلم يتجلّى في الذات  الشاعرة وتتجلّى الكلمات في الموازاة بين هيئة اللفظ وجوهر المعنى الذي عبّر عنه قيس بن الملوح بقوله: (أنا ليلى) الفنائية الاتحادية، والتي أثرت بأبي المغيث الحلاج حين أنشد (أنا الحق).

 بيد أن الإيحاء والانسجام هما إيحاء استيطيقي، ومثله الانسجام تراه روحياً تبادلياً ضمن الإطار الحيوي لماهية الرثاء وغايته بما للمفردات إمكانية ابتكار الأجواء الفاتحة الموصد من كوى الحقيقة لأنوار الجمل المولّدة في السلسلة الحلقية المعبّرة عن تعاقب الأجيال بقوله:

 

  ( سائلاً عنّا نحن الحروف التي بلا نقاط

 والنقاط التي بلا مستقبل

والمستقبل الذي بلا معنى 

 والمعنى الذي بلا مغزى 

 والمغزى الذي يقودنا بوحشية إلى ساحةِ الموت ).

 

 حيث الفن الجليل يدخل الرهبة في النفس عن عدم انتظام  نظام الطبيعة المعاكس لرؤيا الفن الجميل بما ميّزه (كانت) بينهما حيث الجليل يتمثل بالعقل فلا وجود لصورة  محسوسة مثلما الجميل يكشف عن نظام الطبيعة.  

 

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home