قراءة في شعر أديب كمال الدين

تفكيك اللغة وجمالية الصورة الشعرية

 

 

مهدي شاكر العبيدي

 


  ما أغنى الشاعر أديب كمال الدين عن الاستعانة بهذه النقول والمقتبسات من أقوال المقرظين لأشعاره المودعة في دواوين أو مجموعات شعرية سبق له أن طبعها ، وما بغيته منها غير أن يدل على قطعه شوطاً في ميدان الإبداع وانه جاوز حد التجريب بمسافة ولا يجوز أن يعد من الناشئين المبتدئين في هذا السياق. فمعتمد هذا المنوال أوالعادة قائم على المجاملة وحبّ الثـناء وتكلف ذويه واصطناعهم لهيـئة المستغرق في الإعجاب والوقوع تـحت تأثـير هذه الشاعـرية والاستسلام لموحياتها  وقد ألفنا هذا الصنيع منذ استنته ودأبت عليه مجلة الشعر اللبـنانية فـي الترويج لمطبوعاتها المحتوية لنتاجات أقطابها وأصدقائهم من الشعر الحديث المشوب والمشتمل على شيء من الانغلاق والغموض والفكر الفلسفي، صدموا به أذواق الناس وشذّوا عن مألوفهم في مراس التجربة الشعورية وبايـنوهم في الأغراض والمعاني الـتي اعتادوها زمناً موليـن هذه المرة تدبر المصير الإنساني والتـفكير في ما ينتـظره من مستقبل قسطاً من عنايتهم واهتمامهم . فبداهة أن يتوسلوا بهذه الطريقة وغيرها لفرض ذواتهم علي الوسط الأدبي، ورياضة الجمهور القارئ على التصدّي هو ومنطلقاتهم وتوجهات رأيهم، منتحلين في الوقت ذاته لقدر من العمق والتفلسف، فيما يوحون به من رؤى ونوازع، ليوهموا أنهم يحيون حضارة القرن العشرين بكل تعقيداتها وملابـساتها، ويجبوا عنهم ما يرامون به كلّ آن من طعون و تخرصات تكرّس الانتهاء بالسلائق الأدبية إلى الاعتمال والإغراب والتصنع بدعوي التحول والتجديد .
فإذا عانيت بعض العسر في تفسير مرامي هذه اللقيات التي يصوغها أديب كمال الدين متوفراً على حبكها بقالب نثري منثال متدفق لا يعفيك من التوقف عند الاسترسال في قراء ته، مما سمّي بقصيدة النثر وعُد المجلي فيه شاعراً بمقدار ما أنه احتفظ لشاهده بجرسه وتموسقه الداخلي، و من أعلام هذا النموذج أو المثال والذين أجمع الكتبة والشراح والنقاد على تفوقهم وبراعتهم  بله إبداعهم وصدقهم الفني. قلت من أعيانهم في هذا الميدان الشاعر المتميز محمد الماغوط المولود بسلمية في بلاد الشام، والمستجمع في ذهنه لأشتات متنوعة من الثقافات الإنسانية وتاريخ الحضارات في الشرق والغرب، وبداية عهد الإنسان في هذه المسكونة بالأديان والمذاهب واشتباكه في الصراع حولها وفي إثبات أيٍ منها هوالأرجح والأسمى وأهدى للبشرية في الخلاص من معضلاتها وازماتها  والذي أربى على نظرائه و مجايليه في الأخذ بنصيبه في هذه الحياة من الحزن والقهر والرعب والتشرد ، فامتلأت نفسه بالسخط والنقمة و توقع أن يغدو فريسة لأعداء وهميين أو حقيقيين شأنهم أن يوقعوا بالإنسان المسالم ويزيفوا حقيقته ويمسخوا جوهره، وعلى منواله في النسج الشعري الذي دلل على حضوره ومقبوليته من لدن أشياخ النقد السلفيين و مجدديه معاً ، جري آخرون وسلكوا طريقته. وأبرز من يصح الاستدلال به على اقتفائه في تعرية ما يشوب حياتنا اليومية من الختل والزيف والبهتان والخداع ، والتدليس والمداهنة هوالشاعر أديب كمال الدين الذي ليس بحاجة إلى تعريفات ملحقة بآخر ديوان له تثني على جرأته وصراحته وإبداعه والإسفارعن حالاتنا وأوضاعنا وكشف عيوبنا ونقائصنا.

الشطح الصوفي

***********

 

فقد يوقع التحيز لشاعريته أصحابه بضرب من الشطح الصوفي أو شبهه من غموض العبارة وانغلاقها فوق ما نحن فيه من العسر في اكتناهه و جلاء مراميه ، سوى ما وفّق له الشاعر عيسى حسن الياسري الذي أفصح عن رأيه بخصوص تمكن صديقه من ناصية الفن بعبارة واضحة وبيان سلس أبان فيه عن صلته بالتراث وارتباطه بالموروث من الأدب المعني بالتصوف . وما ذاك إلا لأنه الأدنى في تحصيله مما تعود عليه جيلنا من قراءات ومراجعات في الثقافة قبل أن يطل علينا الجيل التالي بقراءاته وكتاباته التي نجم عنها أن يشيع في أدبياتنا لون من الضبابية والتعقيد والإيهام بالتفلسف الذي يضيع على أفهامنا ومداركنا معه المعني الكامن في وجدان كاتبه وترتعش به نفسه . و ما أغناني عن مساجلة كتبة تلك التعابير الممعنة في وصف شاعرية أديب كمال الدين بتفكيك اللغة واختراق صوتية الحرف ، وغيرها من الأفاكيه التي ما أظن حتى الشاعر نفسه بقادر على تفسير طلاسمها ومعمياتها ، وممسك بمعنى محدد لها .
والمسألة أهون من الوقوع في الحيرة لفهم مقصوده من شعره هذا الذي ابتعثته شاعريته قبل مغادرته الوطن واضطراره للعيش والتكيف ونمط الحياة باستراليا ، واغلب الظن أنه ما كان في وسعه أن يذيعه في الداخل قبل سقوط النظام الذي لا يشقّ علي بعض جلاوزته وممثلي ثقافته أن يجتلوا رموزه و ينفذوا الى مغاليقه ، لا سيما أن شاعت فيه ألفاظ بعينها وتخللته مفردات من قبيل البرابرة التي اصطنع معناها باليونانية أو أن تراجمته لم يألفوا سواها موفياً بالمعني الدقيق الذي ابتغاه الشاعر اليوناني الاسكندراني كفافيس مصوراً إشفاقه على مدينته من اجتياح البرابرة لها وعيثهم فيها ، واي تعبير أبلغ في الروعة واقدر على تصوير الحياة اليومية في العراق إبان نهايات النظام السابق حيث الملل يكتنف النفوس بعد أن افتقد عموم الناس الأمل في تحسن الحال وتغير الأوضاع ، وشهدوا غير حد من الضعف والتهافت الذي اعترى طويات من خيلوا لغيرهم أنهم كبار النفوس ، وما ندري بعد حجم الضغوطات التي تعرضوا لها ولم يطيقوا تحملها ، فتهاووا و مالوا إلي المسايرة فلا مراء أن أستهل قصيدته ( ملل) :

 

 مللتُ من النظر الى الدببة

وهي تأكل بشراهة

من عطايا دبّها الكبير.

ومن القردة

وهي تتسلّق ، كلّ يوم ، الأشجار 

لترمي الثمار

وتملأ الهواءَ صراخاً وزعيقاً.

مللتُ من الكلاب

وهي تتشمّم الجثث،

ومن الببغاوات

وهي تدهس الكلمات،

ومن الحمامة

وهي تتركنا ، كلّ يوم ، لنموت

وسط سفينة الحروف 

بحثا ًعن نوح وطوفانه العظيم.

 

الى أن يترسل في خواتيمها :

 

مللتُ من البريد وصندوق البريد،

من الأصدقاء الخونة

والأصدقاء الأجلاف

والأصدقاء اللصوص

من الحرف وهو يتألق

فلا يجد مَن يرى نوره،

ومن الحرف وهو يموت

فلا يجد مَن يقرأ عليه سورة الفاتحة،

مَن يقرأ عليه سبعاً من المثاني

 والقرآن العظيم.

فبدون شك أنه يرمز الى العلاقات الأدبية وما يسود العالم الأدبي من نقص وما يتفشى بين الأُدباء من ارتياب وتشكك بدخائل بعضهم لبعض حسبما شاءه لهم الأسياد المحتمون بالسياط والنار.

 

 

 بواعث الشعر

***********

 

وتتضح الصورة أكثر في استبانة بواعث هذا الشعر وتجلببه بهذا النسج من فن القول منبيا عن تسّخط الشاعر وعدم رضاه عما تحفل به حياتنا من اختلال في قياساتها ، وتأهبه للعراك في سبيل تعديلها وتشذيبها من العواسج والادران التي انتابتها وأضرّت بها كثيرا .

إذا انعمنا نظرا في قصيدته المعنونة ( كلمات ) متوخيّاً مخاطبة ابنته التي لم تصل بعد الى العاشرة من العمر علماً انه يدعوها بهذه التسمية المحببة ، هنا نقف على اقترابه من الحديث الشريف أو كاد يوفي عليه : ( الأولاد مبخلة مجبنة ) . والأولاد هم الذين يغروننا بالحياة والاصطبار على أهوالها وخطوبها ، ولولاهم لاخترنا الفناء واسترحنا من تبعاتها ، مما تهيأ له غداة إلمامه بالعاصمة الاردنية عمان في أوليات قرننا هذا الجديد والذي لانعي ما يزخر به مستقبلا من الكوارث والمآسي أو نقيضهما من الصفو والسعادة التي يمني بنو البشر نفوسهم بها :

 

كلما أريد أن أسافر خارج الملكوت

كما فعل دانتي

أو أضيّع أخي ونفسي

كما فعل أخوة ُ يوسف

أو أدخل النار

كما فعل إبراهيم

أتذكّرك

فأكفّ عن السفر،

والضياع ،

والنار.

 

ويستمر في إرسال النجوى على هذا النحو من الترسل الذي لايعرف التوقف ولا الحران :

 

لابأس إذن

أن أرجع لأمارس دوري

كأبّ لك

ولكنّي لا أحسن الكلام معك

لأنّ أبجديتكِ عمرها ستة آلاف سنة

ولا أحسن الرقص معك

فكريّات دمي البيض والحمر

دمّرها القهر والسبي

ولا أحسن إسداء النصائح لك

لأنّكِ أكثر نضوجاً

من ملكة النحل .

هكذا إذن

أنحني أمامك

كأسدٍ أعجف

حطّمته السنين والوحشة والزلازل.

 

ألم أقل أن مراس هذا الفن البسيط يستدعي ارتباط مزاوله بالتراث وانفتاح وعيه عليه وتزوده مما يكتنز به من ألوان المعارف وقصص الأنبياء وما تخيّروه من سبل الهداية وأثروه من حسن السيرة في الناس ، فضلا عما يمتلىء به وجدانهم من اعتراض على مفارقات زمانهم المشحون بالنقص والاستلاب.

 

************************************
AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 2142 --- Date 21 / 6 /2005
جريدة (الزمان) --- العدد 2142 --- التاريخ 21 / 6 /2005

 

  الصفحة الرئيسية