النقطة حين تتكلم!

 

 

   علي جبارعطية 

 

 

   قدّمت النقطة خدمات كبيرة  للأرقام ويشهد على ذلك تاريخ  تطور الحسابات فيفضلها  اختصر التعبير عن مئات وآلاف وملايين وبلايين النقود بأصفار معينة ليس إلا. إنها اكتشاف هائل غير مسيرة الحياة الرقمية وصارت  للأرقام  قيمتها لو وضع الصفر على اليمين.. هذا من الناحية العلمية فما بالكم من الناحية الأدبية والفكرية والفلسفية؟ إنها في الأرقام صفر وفي الكتابة نقطة، فهي تعني نهاية جملة وبداية جملة جديدة وحسب التعبير المعاصر  فهي عبارة عن نقطة  تفتيش على الحدود تعرف الداخلين  والخارجين. 

   لكن الشاعر أديب كمال الدين المولود في بابل - العراق عام 1953 م - أصدر ديواناً هو (النقطة)  صدر    ببغداد 1999 م ضم ثلاثين قصيدة: ستاً منها حملت عنوان النقطة. وهو يجعل من النقطة بؤرة تتجمع فيها كل الأشياء والرموز والمعاني والدلالات ولأن قصائد الديوان تستحق التوقف عن كل واحدة  منها آثرنا أن نتبع أسلوب  الاستقراء الناقص في قراءة هذه المجموعة مستدلين بامكانية الحكم على الماء بأنه يتكون من أوكسجين  وهيدروجين  باختيار قطرة ماء من النهر أو البحر أو الحنفية.. هكذا وقع الاختيار على قصيدة (محاولة في أنا النقطة)  الموجودة  في ديوان  النقطة  نموذجاً. يستهل الشاعر قصيدته بالإفصاح عن المتكلم:

 

 أنا النقطة 

 أنا بريقُ سيف الأصلع البطين. 

 

   فيلفت انتباه القارىء للعودة الى مرجعياته الدينية والتاريخية:

 

أنا النقطة

أنا بريقُ سيفِ الأصلع البطين

أنا خرافة ُالثوراتِ وثورات الخرافة

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالاثم

أنا ألف جريح

ونون فتحتْ لبّها لمن هبّ ودبّ.

 

لاحظ، أيها القارئ، أن الشاعر جعل النقطة بريقاً للسيف دوماً وكياناً بشرياً ثم هي الفرات ودجلة وألف جريح و حرف نون لا يدرك سرّه سوى العارف. ثم يعطي للنقطة بعد الإنسان الذي يسع العالم:

(فيّ احتوى العالمُ الأكبر)

وهي الزمن المتمرد:

( فيّ  تجمهر الماضي 

  وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرة حاشدة).

 

والنقطة هي فيلسوف بحث عن الحقيقة ووجدها:

 

( أنا النقطة 

عرفتُ الحقيقة وعجنتها بيدي).

 

   ويستمر هذا الخطاب (الأنوي) خمس عشرة مرّة، فكلما أردت أن تكون صورة  لهذه النقطة فاجأك الشاعر  بصورة أخرى  تجعلك في حيرة  من أمرك وهي حيرة  مدهشة،  فالنقطة ترتدي النظارات وتتخذ دور العارف  بالناس الذين  يبدون عراة وحقائقهم  مكشوفة.  لكن الأكثر إدهاشاً أنها تهاجم الحروف في مواجهة ساخنة وساخرة  في آن واحد:

 

 أنا النقطة

أنا مَن يهجوكم جميعاً

أيتها الحروف الميتة

سأهجو نفاقكم وسخفكم

سأهجو أكاذيبكم وترّهاتكم

وكفاحكم من أجل الأفخاذ والسياط وكؤوس العرق.

 

إن مبعث العجب هنا أن الشاعر حوّل الحروف هنا الى كائنات حية مما يفتح مجالاً خصباً للتأويل فكأنّ الشاعر يريد  أن يقول إن هذا الخطاب نطقت به النقطة فكيف سيكون خطاب الحروف الأخرى؟

  وفي خاتمة رثائية حزينة تقول النقطة:

 

آ...

ما أشدّ حزني

ما أعمق دمعتي التي وسعتْ آلامَ البشر

ما أفدح خطيئتي: خطيئة المعرفة

ما أعظم زلزالي وخرابي الكبير

أنا النقطة.

 

    ويلاحظ أن الشاعر حاول التعويض عن الوزن في لقصيدة بإيجاد إيقاع يعتمد تكرار (أنا) ضمير الرفع  المنفصل خمس عشرة مرة واستخدام (لا) النافية للتوكيد عشر مرات  وتكرار (في)  لمكانية أربع مرات و(ما)  النافية (أربع مرات) والاعتماد على جمع المذكر السالم وحرف العطف (و) وصيغة التعجب (ما أفعل).  كل ذلك استخدمه من أجل توفير مناخ شعري حديث يعين القارئ أو السامع عن التناغم  مع موسيقى داخلية. 

 لقد استطاع الشاعر أديب كمال الدين أن يصنع نصاً مفتوحاً واسع الآفاق يثير حب المعرفة بلغة أنيقة وجمل شعرية  مكثفة تجعل القارئ يتحسس رأسه ويتساءل: هل أنا موجود؟!  

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home