أخبار المعنى: البحث عن أقاصي المرآة

 

 

 علي حسن الفواز

 

 

 في المعنى ثمة إيغالات وتوريات ينجذب اليها الشاعر بحثاً عن متعته، أو تماهياً في استحضار إشراقاته التي تراود المعنى بالتأويل أو ربما بالإستعارة والترميز اللذين يضران (أيهامات) الشاعر في خطابات رغبته وبالحلول أو الانغمار في كينونة الفكرة دونما عودة إلى أنطولوجيا المعنى.

وهذه الإيغالات وإستعاراتها هي الكوامن التي جذبت الشاعر أديب كمال الدين إلى فصول المعنى ورهانه في التأويل أو رهابه في سطوة الصور والوقائع والمرموزات وانزياحات الكينونة وما تحمله شفراته من انحراف عن السياق الاستعاري والذي يفضي إلى نوع من التجريد حتى  تبدو القصائد برمتها وكأنها جسد يتشهى بلذته وأخباره ووصاله وموته الوصول إلى أعالي قمتها أو الفناء بحلولها فماذا تعكس لنا مرآة المعنى في أخبار المعنى؟

المجموعة الشعرية  للشاعر أديب كمال الدين الموسومة (أخبار المعنى)  تحمل في أخبارها/ حضورها كيينونة المعنى المهددة وورطته في التعريف وأنفتاحه على غواية التأويل وشفراتها في الايضاح والتورية والوصال والتعمية. وهذه (المواقعات) تجعل المعنى وأخباره في حالة انشداد وانشغال دائمين أمام قسوة اللغة/ مرجعيتها أو كونها الشعري/ انحرافها حين يتمرد الثاني على مشبهات المعنى بما يجعله تمعينا في الاختلاف واستحضاراً لقوة التأويل/ شرط إحضار الرغبة وهي مغمورة بفروضها وقلقها.

إن متعة النص/ نص المعنى تكمن في متعة الحس أو التلذذ بلا نهائية الجسد اللغوي الذي يجعل حرية التأويل ممكنة. وانّ الجسد الشعري حين يعبر عن تحوّلاته ومتعته فإنه يقارب وباستعارية عالية الجسد اللغوي وفي حالة من التوحد أو التشابك بحثاً عن توريات اللذة التي يضمرها الشاعر كثيراً في نصوصه، وهي تحمل أسماء وحالات ومعان ويقظات وكأنها الموجة التي لا تصنع البحر لكنها تكشفه إيقاعاً كما يقول ريلكه.

في سيرة (أخبار المعنى) وهي سيرة تفصيلية لجسد شعري واحد، لكنه متمفصل بطياته وإرسالاته وتحوّلاته، ثمة أسئلة نضعها مباشرة أمام اختلافية التحول في هذا الجسد.. تبدأ من لحظة إعادة كتابة تاريخه/ موته إلى لحظة وعي كينونته/ وصول المعنى والتي إعتاد الشاعر في تجاربه الشعرية السابقة أن يتقصدها من خلال دالات متخيلة أو مجسّات تسعى لتحويل علاماته الشخصية/ حروفه إلى فضاء من التجريد لنيل اللذة والاطمئنان أو التطهير والوصال في هذا النص/ الجسد تتعالى هذه الحالات وضمن طيات سردية إلى حدّ تعرية الجسد الشعري وجذبه متلبّسا باللذة/ الانصات/ الحلول/ المحبة/ الايهام بتفكيك الخارج/ الخطيئة المسكونة بالموت والاحتمال:

 

جسدي يخضّر كعشبٍ ويموتُ كرملٍ ويضيع بنهرِ الكلماتِ فلا

جدوى. أُقْتـَلُ أو يُرفَعُ رأسي فوق الرمح، يُنادى باسمي في

الريحِ فلا جدوى. فلغاتكِ قد قتلتني. لم تأكلني الأمراضُ  ولم

يذبحني السيفُ وما حاصرني الماضي  بالدعوةِ  للبحرِ الفاضحِ.

يطلع من بين لغاتكِ جسد عار يفتحُ باب القبرِ إلى  بابِ الـدارِ

يناديني، فأشيخ سريعاً وأنا بين طفولة أسماء صباي، ويدعوني

تفاحاً مرّاً، يدعوني فأجوسُ المنفى: منفى الرمل ومنفى القبر

ومنفى المدن الموءودة باللامعنى حتى أصل الغيمات.

 

ولعل ما نلمسه في هذه المجموعة/ النص هو تطور الرؤيا وانفتاحها عند الشاعر أديب كمال الدين أزاء نصوصه الأخرى التي كان الأغواء الحروفي قصديتها أو ربما نسقها الذي تنبجس منه الفاعلية الشعرية- وإن شعرية هذه المجموعة تعمد إلى اختراع بعض المسميات لفاعليتها في حركية الحرف كأداة  توصيل للمعنى من خلال تأسيس شبكة من العلاقات قائمة على أساس حساسية المعنى ازاء تجريدية الحرف.

أي إن هذا الحرف يجلس عند حدود التقاطع بين التجريد والمعنى ويتحوّل إلى نوع من القوة التي تبدد عتمة المتعة وتجريدها وتحولها من قصدية ساذجة مألوفة تتكرر صورها إلى إيحائية لها جاذبية الكشف والتأسيس بحيث يتحول الشعري إلى لحظة تنامي الكشف عن تعالي الجسد في فنائـه أو استحضار خطابه الذي يجد دالاته في الإغواء الحرفي:

 

وقعتْ سينُ سمائي

 في سينِ الرأسِ، اهتزّ دمي

بانَ عمودُ الصحراءِ عميقاً

واقتربتْ مني ريحُ العرش.

 

 

 أو استحضار لذاته في نصوص الإحسان والحلول والتسميات التي تفضي به إلى البياض/ الموت/ التعالي على الآثام لأنّ المعنى هو جذب للمتفصل مع الأشياء.. حيـث يملك الكائن الشعري خاصيته في التسمية وأن يعيد الأشياء ويعود معها إلى أصلها حيث نسيان الكينونة

 

أزهرتْ وردةُ الروحِ والروح ماء

وتناهبتُ في غفلةِ الدهرِ أرجوحتي

دولةً من بكاء

وانقشعتُ كما ينبغي غيمة

ترحل اليوم صوب الأقاصي

*

أطعنُ الريحَ في فرح

اختفي كالسنين النيام

ملكا ًلا يُضام .

 

إنّ لمعة الشعري واستعادته في هذا النصوص تستقطب قصدية الكلام وحضورية التسميات، لأنّ (الامتداد الحروفي) أو غواية الحرف في الكشف عن صور الذات أو أيقونة الكائن، تمثل استعارة كبرى تجوهر الوجود وشروعاته حيث يكتب الجسد نصه سائحاً في الامتداد وهو يواجه اللامتناهي والفناء والخطيئة ويمارس  نقائضه مع الوقائع التي يستجلبها إلى نص الإخبار أو نص التطهير. وبذلك استطاع الشاعر أديب كمال الدين  أن يقدم (نصه الخبري) وكأنه لوغوس ينشر افادته ورؤيته في مسائل الكينونة والكم وينبيء عن صور الحلول/ الفناء بوصوله إلى المعنى/ تعالي الرتبـة/ كشوف السر.

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home