أديب كمال الدين يلبس جلباب التوحيدي وعمامة ابن عربي

وبيده مسبحة الحلاّج

 


 
عادل الشرقي


  لا أغالي إذا قلت: إنني وبعد سنوات القهر والألم والاحتلال ، لم يطرق باب قلبي خبر سار كالذي قرأته وسمعته من خبر حول اختيار نص لصديقي الشاعر المبدع أديب كمال الدين من عشرين نصاً لشعراء يكتبون أصلاً بالإنكليزية لتوضع في كتاب سنوي يؤرخ "انطولوجيا" لسيرة الشعر الأسترالي.

  والحق أقول: إن معرفتي بالشاعر، كوني قد زاملته طويلاً ولسنوات خلت، هي التي جعلتني أكون على يقين من أنه وبسبب من تشبثه بحروفه وقلبه ورؤاه ، سيصل القمة التي كان يبغي الوصول إليها ، شأنه شأن "سيزيف" الذي حمل صخرته أيّاماً كثيرة حتي أدمت أكتافه ، وأرهقت جسده في الصعود النزول، ولكم عاب عليه البعض من زملائنا ، بحثه المضني في أسرار الحرف، بدعوى أنه بحث باتجاه اللاّجدوى، وبزعم منهم من أن الحرف مهما اتسعت فضاءاته ، فإنها ستضيق بالشاعر، فتحبس قدرته على الكشف والإزاحة ، وتسحبه إلى بواطن البوح المسموع والمرئي .

  غير أن هذا الشاعر الدؤوب الممسك بحبل صبره، قرّر أن يصمّ آذانه عن كل نداء ، ولم يصغ إلاّ لصوت قلبه، فكان يستخدم مجساته الخاصة في البحث والكشف والتجلي ، ليجدف في أغوار بحار المعرفة الروحانية، متوغلاً وغائصاً في يم التراث الزاخر بالمعاني والدلالات والرموز، فكانت دواوينه الأولى تسبر أغوار المعنى، أي أنه وقبل أن يسعي لإضاءة أقبية ودهاليز الحروف الممتنعة عن البوح بأسرارها إلاّ لمن "أوتي علما" ليفك رموزها ويشدّ لجامها لتكون طوع بنانه ، فقد صال وجال في ميادين المعنى ليجعل منها مرآته التي تتشوّق الروح قبل العين إليها ، لفك طلاسمها ، والإمساك بتلابيبها ، والغوص في بحارها المتلاطمة التي هي أكثر عمقاً وغزارة من كل بحار الدنيا .

  ولقد وفّر لي قربي من الشاعر، فرصة التعرّف على بعض من مصادره المعرفية ، إذ كان وبسبب بيئته الدينية التي أنتجته ، منحازاً إلى الكتب الروحانية الزاخرة بالتجليات والتسبيحات الصوفية والربّانية ، حيث كان والده مشهوداً له بالمعرفة والزهد والحضور الديني والاجتماعي، ولهذا كان "أديب" يسبح في أفلاك المعنى، غائصاً متجولاً، مستخدماً حواسه في سبر أغوارها، والتسلل بين مغاراتها البعيدة، متحرياً بواطن الظلمة والإبهام فيها ، لكشف سرّا نيتها ، واستجلاء ما يستقر في مخابئها من رقى وأحاجي ، ليعود بعد ذلك التجديف المضني ، ممسكاً بالبريق المدهش، كامناً ولزمن ليس بالقصير، كواحد من المعتزلة القدماء في الإسلام، ليبوح لنا فيما بعد بسرّ الأسرار، وجواهر المعاني والأفكار.

 ذات يوم ، أبصرت  أديب كمال الدين  قادماً من بعيد ، وقد كان متجّهاً صوبي ، فرأيت أحد الشعراء الذين كانوا يكتبون قصيدة النثر آنذاك وهو ينادي عليه متهكماً: ـ توحيدي ... توحيدي ـ ... التفت أديب إليه فابتسم ولم ينبس ببنت شفه ... عندها اقتربت من الرجل وقلت له بانزعاج :هل قرأت التوحيدي؟ قال: كلاّ.. قلت: إسمع يا صديقي ... لقد قرأت التوحيدي جيداً ، فلم أر في مؤلفاته ما يدعوك للضحك ... ولن يمثِل كل ما كتبته وستكتبه أنت، قطرة من بحار هذا العالم الفذ؟ قال لي وهو ينزل شفته السفلي قليلاً: ومن يكون التوحيدي؟ قلت: عالم ومفكر وفيلسوف روحاني إسلامي أحرق جلّ كتبه قرفاً وألماً من زمن كان فيه، ضحية للفقر والفاقة، وليمنع عن أمثالك فرصة الإفادة من سفره الفكري والإنساني الزاخر بكل أصناف المعرفة ، ثم اصطحبت صديقي الشاعر وذهبنا إلى حيث ما نريد.

  وعوداً على بدء أقول: لقد سعي هذا الشاعر سعياً حثيثاً، ليصل إلى مبتغاه، رغم كل ظروفه القاسية، حيث اختط لنفسه مساراً آخر غير الذي كنا نسير فيه نحن أبناء جيله السبعيني،  كان الرجل يمسك بتلابيب التراث، ولهذا فقد لبس جلباب التوحيدي ، وعمامة محيي الدين بن عربي، حاملاً مسبحة الحلاّج . ولا غرابة إذا ما رأيته ذات مرّة، راكباً قارب توليستوي ، ومرتدياً معطف همنكواي ، أو مكسيم غوركي ، أو قد تراه جالساً مع إليوت يخاطبه بلواعجه وأحاسيسه الهادئة والمتوترة أحياناً ... وهكذا .

لقد كان "أديب كمال الدين" صنو علاقتي ، فكنّا نلتقي يومياً تقريباً، في العمل وبدونه ، وكنا نتبادل النكات والملح ولعب "الطاولي"، ولهذا فقد كنت تري مجلسنا عامراً بالأصدقاء ، ولم يحضر أديب في مكان ما إلاّ وسألوه عني، ولم أكن حاضراً في مكان بعيد أو قريب ، إلاّ وقيل لي: أين صنوك ؟ ، أمّا من يحاول التهكّم على أحدنا ، فذنبه على جنبه ، وعليه أن يتلقي تعليقاتنا التي تجعل منه أضحوكة أمام الحاضرين .

  وثانية ... عوداً على بدء أقول: لقد فرحت فرحاً غامراً عند قراءتي لخبر اختيار نص لأديب  في الثقافة الاسترالية ، إذ أن هذا يعني فيما يعنيه : أن ولوج هذا الشاعر داخل مغارته في المنفى، متجلياً ومتأملاً أعماق الحرف، ومتوغلاً بين مسالكه الوعرة والممتدة امتداد المدى ، هذا الشاعر القابع تحت ركام من المفردات والألفاظ والرؤى ، والمثقل بعذابات الغربة وأنين الحنين للوطن ، هذا الكائن الذي راهن على عزلته فأنجبت إبداعاً ، نجده الآن وهو يرتدي جلباب الحرف العربي متجولاً في طرقات أستراليا، يذكِر الناس هنا وهناك ، بأن الحرف العربي، لم يكن سجنه الذي ظل حبيسا فيه وإنما هو سفينته التي يمخر بها عباب بحار الدنيا، ليعزف لنا فيها بمزامير لم نسمع للحنها مثيلاً من قبل ، مزامير" أديب كمال الدين" ،أجمل وأحلى ما تبوح به من رنين داخلي أصيل، وما تبعث عليه من الوجع المتجذر والمضمخ بالأسى ، ولهذا أقول: شكرا للشك وإليقين الّلذين منحا الشاعر قلقاً أبدياً نسج لنا فيما بعد ، بخيوط من الألم قصيدة اسمها (أرق) .... شكراً لذلك الطائر الملائكي ، الذي هبط عليه من الأعالي ، ليقول له:  

  نمْ..

فالوردةُ قد سقطتْ في البئر

وانفضَّ الأولاد

يا عيني.. أضحتْ عينكَ مئذنةً ورمادْ

نمْ..

الساعة قاربتِ الفجرَ ولا أحد يؤويكَ: فَمنْ يؤوينا؟

كفّكَ فارغة إلاّ مِنْ رائحةِ الآسْ

إلاّ مِنْ حلمٍ

يمتدّ ليصهر دائرةَ الناسْ

ورداً وفراتاً ونخيلاً 

أتعبنا الجري وراء السنوات

قد أتعبنا حرف كالثورِ الهائجِ: كيف نروّضهُ

بأظافرنا، وأظافرنا مُلئتْ بأنينِ الدمِ وأنين الراسْ

نمْ..

يا مَنْ أسقطتَ الوردةَ في البئرْ

يا مَنْ اسقطتَ الوردةَ في بئرِ الحرّاسْ

وبقيتَ، الساعةَ، درويشاً أعمى

يبكي في الظلمةِ شمسَ الله

نمْ..

لا عاصمَ، هذي اللحظة، مِنْ أمرِ الناسْ

والناسُ نيامْ...... الناسْ.

 

********************************

نُشرت في صحيفة الزمان بتاريخ  3 كانون أول- ديسمبر 2007

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home