نقطة الشاعر أديب كمال الدين

مابين جيم الجنة وجيم الجحيم

 

 

 

عبد الأمير خليل مراد

 

  

ترتبط تجربة الشاعر أديب كمال الدين بالحرف بوصفه بؤرة الإشارة والكشف والتأويل ، فقد انصبّ اهتمامه بهذا الاتجاه منذ البدايات حيث وردت في شعره بعض من هذه اللمحات والإحالات الموجهة الى الحرف في مجموعته  الشعرية الأولى (تفاصيل) غير انّ هذا الاهتمام بموضوعية الحرف لم يتبلور الى تجربة كلّية الاّ في مجموعته (النقطة)  فالشاعر استطاع أن يقيم فيها منطقة خاصة به أو عالماً يغاير الكثير من التجارب الشعرية السائدة .

    لقد اعتمد الشاعر في نصوصه على المفارقة في غموض المعنى ووضوحه ، ولم يجعل من الغموض في هذه التجربة جداراً سميكا ً يحجب الرؤية عن قارئه أو يحول دون التسلسل أو النفاذ  الى أعماق تلك النصوص ، فنراه يقرر أن النقطة كريمة معه الى حد الجنون ، وهي تأكل ذاتها إن تركها دون حرف ، فالحرف علامة الشاعر ودليله الى المعنى ، فالمعنى لن يصلنا الاّ من خلال الحرف القائم بذاته أو الحروف التي تشكّل في أنساقها كلاً متوحدا ً من الجمل والكلمات. وإذا كانت البنية الداخلية لهذا المقطع تعكس نوعا ًمن الغموض ، فإنه في الأخيرغموض يستطيع المتلقي أن يفتض خواتيمه بفعل التدقيق والتأمل والقراءة الفاحصة ، فعزوف الشاعر عن ( نقطته ) التي تبحث عن حرفها لا يساويه الفوز بصندوق الليرات العظيم ، حيث يتحوّل الشاعر بعد أن صادر الندم أمنياته الى أسطورة لم يجد فيها مايحرق به نفسه سوى الحروف الباردة .إنّ التضاد في هذه الصورة  المبهمة يقوم على الضربة الفنية التي ينتهي بها المقطع ، ولعلّ هذه الضربة متجسدة في حرق الشاعر لنفسه ببرودة تلك الحروف . لاحظ انه يقول حرق وليس ( احتراق ) أي انه حرق ذو بعد مادي أو بمعنى آخر مادام الحرف باردا ً فانه لم يفعل أو لم يأخذ مداه من نفسه كما يريد له الشاعر ، وهذا ما يدفع به لأن يبقي ذاته رهن الحريق :

 كانت النقطةُ كريمةً حد الجنون

(أذكرُ أنها قررتْ حرقَ نفسها

إن تركتها دون حرف )

لكني تركتها كأيّ مجنون

لم يستطع أن يسيطر على ضربات قلبه

وهو يتلمّس صندوق الليرات العظيم .

وحين تحوّل ندمي إلى أسطورة

لم أجد ما أحرق به نفسي

سوى حروفي الباردة.  

وفي قصيدته ( محاولة في القهقهة ) تبرز الطاقة الدلالية للحرف ، حيث يجد الشاعر في توظيف قيمته الحسية في اختيار المفردة الشعرية التي تتأسس عليها الإشارات أو سيمياء المعنى كما يقول النفريّ ( الحرف يسري حيث القصد ) ، وانّ هذه الطاقة لا نلمسها في شعر أديب كمال الدين من خلال الجرس الموسيقى للحرف أو بنيته الشكلية ، وانما نهجس تحولاتها ومراميها في الأبعاد التي يصبح فيها الحرف قضية أو غاية للنص الشعري .

   وإذا كان الشعر صفوة الفنون كما يذهب اليه بعض الفلاسفة فكيف للشاعر أن يقبض على لغته التي  يغور بها الى  دخائلنا ، أي الشعر ونحن مازلنا نركض وراء تلك ( الهيولى ) المقلقة في الجيم أو السين ،  وكأنه يريد أن يعقل لهاثنا خلف الأشياء المضببة ،  بل ينبغي أن نبحث عن روحها ، حيث يمكن أن نرتقي الى هذه الروح عندما نعثر على النون المغيبّة في دوامة المتاهة ، وانّ مثول هذه النون في الوجدان الجمعي سيحقق لنا ذلك الجنس الشعري الذي نرتجيه  كما يدلنا الشاعر ان السين هي سيدة الحتم أو النهاية. إذ يمكن أن نزيح دلالتها الحدسية الى الأسئلة  المفترضة  في العالم الآخر، أي السين المصرّح بها في ألفاظ السؤال أو سين الحساب، إذ يومىء الى مأثور القول (الدنيا عمل بلا حساب والآخرة حساب بلا عمل )،  حيث تشتمل السين على تلك الإشارات الباطنية المضمرة والكامنة في سيادة المطلق أو سيطرته، وهي بمثابة الحروف الخاتمة والمطهرة من خطايا العالم الأرضي، وليس غريبا ًأن نرى مثل هذه الإشارات ماثلا ًفي سيف الوقت أو سيف الموت أو سيف الندم، وقد أكد الشاعر ذلك في توصيفه الصريح لحرف السين في قوله :  

( عليكَ ، إذن ، بالسين

فيها السكينة والسمّ والسكين )

 **

( كيف سنتفاهم بالشعر

ونحن نركض خلف جيم وسين

وبينهما النون عارية كالمتاهة ؟

إذن : السين سيدة الموت تغسلكم في النهاية )  .

    كما نرى ( نقطة ) الشاعر أديب كمال الدين مليئة بالتعالقات النصية مع القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، اذ يلتقي في صميم هذه التجربة العديد من المهيمنات التي تمنحنا نصا ًصافيا ًواصيلا ً، وهو غاية في التأثير والانشداد الى الموروث ، وهذا مايسميه مالارميه بالانعكاس المتبادل، حيث تأخذ المرجعيات الدينية والتراثية مساحة واسعة من قصائد المجموعة ، فكثيراً ماتدخل بعض الاقتباسات القرآنية في نسيج هذه القصائد ، وبالتالي فأنها تتحوّل الى بنية واحدة تحلّق بالمتن الشعري الى ذروة  التماسك والوحدة والاكتمال .

   ففي قصيدته ( محاولة في القهقهة ) يستعير البعد الرمزي لعصا موسى ( ع ) الواردة في النص القرآني (  سورة طه آية 18 ) كرقية يطرد بها الشاعر خيول الوحشة التي  تدهمه من كلّ جانب ، ولكنها بالتأكيد ليست تلك العصا التي كان موسى ( ع )  يهشّ بها على غنمه أو يلقف بها ما يأفك السحرة إذ يقول :( وعصاي التي أهشّ بها على وحشتي ) .

 كما يسيطر الرقم (أربعون)  ببعديه التاريخي والايحائي على تفكير الشاعر في قصيدته (محاولة في الرثاء) حيث ينشىء دلالته على الإرث الديني في انبثاق مفاتيحه من النص القرآني لوروده  فيه أربع مرات بتأويلات  متعددة ومنها،  قال تعالى (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة /  سورة البقرة آية 51) أو قوله ( فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة / سورة الأعراف آية 142 ) . ولعل تكرار مفردة الأربعين سبع مرّات في مقاطع القصيدة  يكشف عن هذا المناخ سواء في المعالجة أو الترميز كما انّ القيمة الايحائية للرقم ( سبعة ) وارتباطه بالاتجاهات الصوفية للإنسان تؤشر مدى قدسيته وتحققها معنويا ً في الكثير من الأشياء المألوفة بيننا كأيام الأسبوع والسماوات السبع وغيرها.وانّ حقيقة ذلك تتجلّى في العلاقات والروابط المشعة التي تصدر من العقل الباطن . إذ يقول الشاعر: 

1- في الأربعين 

2- في العام الأربعين

3- في الصيحة الأربعين

4- في الليلة الأربعين

5- في الخزانة الأربعين

6- في الطعنة الأربعين

7- في الباب الأربعين

 

وأخيراً يمكن القول بأنّ نقطة الشاعر أديب كمال الدين تفصح عن صيرورتها لزئبقية مابين

 (جيم الجنة وجيم الجحيم) كما يرى النفريّ، وليس لنا الاّ أن نلتقط نقطتنا من بيدر قصائده المضيئة بأنفسنا .  

  

  

 

 الصفحة الرئيسية