(الحروفيّ): باقة جهود نقدية تضافرتْ لتشكّل خلاصة تجربة

 أديب كمال الدين الشعرية

 

 

  

عبدالرزاق الربيعي

 

 

 

 

    عندما أصدر الشاعر أديب كمال الدين مجموعته الشعرية (جيم) عام 1989 أحدث  عنوان مجموعته صدمة في الذائقة الشعرية آنئذ. ففي الوقت الذي بدأت عناوين دواوين مجايليه "السبعينيين" تستطيل لتشمل سطراً كاملاً مثل "انكسري يا عربة الغزاة" و"من أجل توضيح التباس القصد" لزاهر الجيزاني و"أنا صحوت من الطفولة لاتصح أنت أبدا" لعبد المطلب محمود، جاء الشاعر أديب كمال الدين ليقتصد بالعنوان حتى يصبح حرفًا واحداً فقط هو (الجيم). ولم تكن الصدمة تقف عند العنوان بل تجاوزت هذا لتشمل المحتوى أيضاً  فقصائد الشاعر المثقل بهموم المتصوفة وإشاراتهم كانت تجري في واد آخر ، وكان الشاعر أديب كمال الدين يعزف منفرداً بلغة خاصة متخمة بالدلالات  والرموز التي لجأ اليها ليقول ما لا يستطيع قوله في وقت سادت به تنظيرات النقاد حول "قصيدة الحرب" مفككاً الكلمة الى حروف ملتقطاً أصغر بنية تقوم عليها الكلمة وهي (الحرف) ليكتب نصه المتفرد مقلباً الحرف على أوجهه مسقطا عليه أحاسيسه وهواجسه وأشواقه وغضبه وسروره وهجاءه للقائم مغلفاً كل ذلك بخطاب جمالي  صار سمة من سماته . ولكن بعد مرور أسابيع على صدورها لم تواجه المجموعة بترحاب يليق بتجربة شاعر أصدر مجموعتين من قبل أن يصدر (جيم ) ورأى البعض أن الشاعر بعد أن شاهد هذا الفتور النقدي  سيجرب حظه في لعبة جمالية أخرى ، لكنه لم يكترث وواصل حفرياته في هذا النهر لتجري به مياه الحروف عذبة رقراقة، وألحق مجموعته (جيم )  بعد أربعة أعوام ب(نون) . هذا الإصرار أكد دخول الشاعر مدينة الحروف لم يكن بسبب زلة قدم شاعر بل إنه جاء بعد تشبعه بالتجربة الصوفية وإطلاعه الواسع على النصوص التراثية العربية القديمة!! عندها بدأت الذائقة النقدية تنتبه له وتصغي لقوله الشعري. وقال البعض: لقد دخل الشاعر منطقة التجريد على حساب المعنى وتساءل : ماذا سيقول بعد ذلك؟ فجاء شاعرنا ب(أخبار المعنى)عام 1996 ليفتح أفقاً شعرياً ومساراً آخر في تجربته وليتلاعب باللغة والمعاني ليجمع المجرد والواقع في كف واحدة !! قالوا :بعد الحرف وانشغاله بالمعنى ماذا بقي لديه؟ ففاجأ المتتبعين لتجربته ب(النقطة ) عام 1999 التي هي مركز الكون وشاغلة المفكرين والمتصوفة ، وهي جزء من الحرف وكلاهما يسند الآخر ويتجاذب معه ويستمد ضوءه منه. وقد أكد هذا التكامل في مجموعته (حاء) عام 2002 . ثم ذهب الى أبعد من ذلك ليصل الى (ما قبل الحرف. ..مابعد النقطة ) عام 2006 . وأخيراً اكتشف أن شجرة الحروف قد كبرت وأينعت ثمارها  فكانت (شجرة الحروف ) أحدث إصدارات الشاعر2007.

   لذا لم يجد الدكتور مقداد رحيم كلمة مناسبة يصف بها الشاعر أديب كمال الدين غير كلمة (الحروفي) لتكون عنوانَ  آخر إصدار نقدي له صدر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت وحمل عنوان "الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية" وصدر ب368  صفحة من القطع الكبير. وقام بتصميم غلافه الأنيق الذي تتصدره صورة الشاعر المحتفى بحروفياته ، الشاعر والفنان زهير أبو شايب.

 

 

 

 

 

   وقد أوضح الدكتور مقداد رحيم في مقدمة الكتاب  دلالة هذه التسمية بقوله: "إنَّ خصوصية تجربة الشاعر وَلَّدتْ ما اصطلح عليه النقاد والمهتمون بأمور الشعر العربي الحديث، وشعره خاصةً، بـ(التجربة الحروفية)، حتّى أصبح لصفة (الحروفي) وقعها الخاص الذي يدلُّ على الشاعر أديب كمال الدين وحده، وحتّى صار مناسباً أن تكون هذه الصفة عنواناً لهذا الكتاب

واصفاً المقالات والدراسات التي تضمنها الكتاب  بأنها  "باقة من الجهود النقدية المهمة التي تضافرتْ لتشكل خلاصة نقدية مثمرة طيبة الأُكُل، ولتكون أنموذجاً نقدياً يُمكن أنْ يُحتذى، فيُصار إلى افتراع اتجاهات نقدية جديدة تأخذ على عاتقها بلورة الرؤى حول التجارب الإبداعية المائزة، ليس في مجال الشعر وحده، بل يمكن أن تُعمَّمَ لتشمل الفنون الإبداعية كلها، كتابةً ورسماً ونَحتاً وسَماعاً.

    أما هذه التجربة فهي تجربة الشاعر أديب كمال الدين الذي اختطَّ لنفسه طريقاً عسيرةً تتماشى عُسرتها وما في هذه الحياة من تعقيدات وإشكاليات تتجلى عبرها أصناف لا عدَّ لها من المحن والكوارث التي ليس للبشر قِبَلٌ بتحملها، وقد رأى الشاعر أنَّ النظر إليها بالطرق المعهودة لا نفع فيه وهو يَنشُدُ الطرافة وابتداع الوسائل الكفيلة بالتغيير الذي هو سمة الحياة في كل زمان وفي كل مكان، فلفتَ إلى تجربته أنظار النقّاد فضلاً عن القرّاء ومحبي الشعر.

  تتجلى هذه التجربة فريدةً ذات خصوصية تدلُّ على الشاعر وحده، وتختص به دون سواه، وقد بدا وكأنه يعمل من أجلها بإخلاص وحب شديدين، منذ زمنٍ ليس باليسير، فأخذ يُغذِّيها بكل ما استطاع مِن قوةٍ استجمعها خلال حياته كلها من مفردات التعلم والثقافة والتجارب، ولم يبخل عليها بالسهر والتجريب، حتّى شَكَّلتْ ظاهرةً في الشعر العربي الحديث، كما شكَّلتْ الظاهرةَ الكبرى في شعرهِ هو، حتّى ليكادُ المتتبعُ يُشفق عليه لظنه أن لهذه الطريق نهاية، وأن لليل أحاديث سيقطعها بزوغ الصباح، حتّى يكتشف أنْ لا صباحَ وراء ليله، ولا انقطاع لأسماره!

   تألف الكتاب من ثمانية فصول ومقدمة حملت الفصول العناوين التالية : التجربة الحروفية ، ماقبل الحرف ..ماقبل النقطة ، حاء ، النقطة ، أخبار المعنى ، نون ، جيم ، وتضمن الفصل الثامن آراء لكل من : د.جلال الخياط والياس لحود وعبدالجبار البصري وأحمد الشيخ و مهدي شاكر العبيدي ومحمد الجزائري وعادل كامل ود.قيس كاظم الجنابي ومالكة عسال وعبداللطيف الحرز وهادي الزيادي وعبدالأمير خليل مراد وجمال جاسم أمين وفائز ناصر الكنعاني وأمير الحلاج وحمزة مصطفى وهشام العيسى وخضير ميري وتيسير النجار وعلي جبار عطية وماجد محمد لعيبي وعبدالعال مأمون ونزار جاف.

    أما الدراسات التي تضمنها الكتاب فقد جاءت  بأقلام : أ.د. عبد العزيز المقالح، أ.د. عبد الإله الصائغ، أ. د. حاتم الصكر، د. ناظم عودة، د. حسن ناظم، أ.د مصطفى الكيلاني، أ.د عبد الواحد محمد، د. عدنان الظاهر، عبد الرزاق الربيعي، صباح الأنباري، علي الفواز، وديع العبيدي، عيسى حسن الياسري، خليل إبراهيم المشايخي، زهير الجبوري، د. محمود جابر عباس، صالح زامل حسين، هادي الربيعي، فيصل عبد الحسن، د. إسماعيل نوري الربيعي، نجاة العدواني، د. حسين سرمك حسن، رياض عبد الواحد، واثق الدايني، ريسان الخزعلي، د. محمد صابرعبيد، د. بشرى موسى صالح، عيسى الصباغ، عدنان الصائغ، يوسف الحيدري، ركن الدين يونس، معين جعفر محمد، ود. مقداد رحيم

   والملاحظ أن الذين كتبوا عن تجربة (الحروفي) كمال الدين من مشارب مختلفة فبينهم الأكاديمي الرصين والناقد الحداثي والشاعر والصحفي وهذا دليل على أن التجربة لاقت قبولاً حسناً في أوساط متعددة. أما مواضيع بحثهم فقد اختلفت من كاتب الى آخر، ففي حين تناول د. ناظم عودة رمزية الشاعر وصوفيته محاولاً الإجابة على سؤال مهم: هل كان الشاعر في استخدامه الحروفي صوفياً أم رمزياً ، تناول د. مصطفى الكيلاني مسألة الموت لدى الشاعر، وتناول البروفيسور عبدالإله الصائغ قصيدة "يابائي وبوابتي" بقراءة  جمالية وأسلوبية ، وكذا فعل د. عدنان الظاهر الذي تناول قصيدتين مهمتين للشاعر هما "هاملت" و"بانتظار أن تهبط حبيبتي". في حين تناولت د. بشرى موسى صالح "نون" الشاعر بقراءة بحثية حروفية ، وقرأ د. عبد العزيز المقالح مجموعة "حاء" قراءة خرجت بخلاصة ذات معنى ، كتب د. حاتم الصكر ود. عبد الواحد محمد ود. حسن ناظم ووديع العبيدي وعلي الفواز وزهير الجبوري ود. حسين سرمك حسن ونجاة العدواني وركن الدين يونس وعيسى الصباغ وريسان الخزعلي وصالح زامل وعدنان الصائغ وهادي الربيعي وفيصل عبد الحسن ود. إسماعيل نوري الربيعي وعيسى حسن الياسري وصباح الأنباري ود. محمود جابر عباس ود. محمد صابر عبيد ملاحظات في بنية القصيدة عند أديب وجوانب تفردها، وكذلك في معنى الاستخدام الحروفي وجذوره الروحية ودلالاته المعاصرة  عند الشاعر من جوانب شتى. أما أنا فاخترت الألوان ودلالاتها واستخدامها في مجموعته "ما قبل الحرف... ما بعد النقطة".

   على الغلاف الأخير ثبّت د. حسن ناظم كلمة جاء فيها : "النصّ الشعري الذي بدأت به، وانتهت إليه، خبرة الشاعر أديب كمال الدين نصّ يقوم على ما عُرف بالحروفية. وقد كُتب عن هذه الخبرة الشيء الكثير، وأُضفيت دلالات جمّة على رمزيتها، وما هذا الاختلاف في تأويلها سوى علامة على غنى النصّ الشعري والخبرة التي تقوم دعامة لها. وضعت الحروفيةُ الشاعرَ خارج السرب، سرب جيله السبعيني المهموم بالحداثة الشعرية على الطريقة الأدونيسية، فسلك بذلك درباً خاصاً، غامر في استكشافه وحده، وانتهى إلى هذه الغابة المتشابكة من الرموز الحروفية، والسرد المشوّق، والبناء المحكم للنصّ. الحروف التي يطلقها أديب كمال الدين تعبر عن حيوات كاملة، وذوات فريدة، وعوالم نابعة من التخييل المبدع. الحروف احتجاج على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهي خيّرة وشريرة، حيّة وميّتة، بل هي ألغاز ومفاتيح لفكّ المستغلق من هذه الألغاز نفسها. الحروف أيضاً انسجام وتنافر، إنها التناقض المطلق. وهي، من جهة أخرى، أدوات، ووسائل، وغايات، استعملها الشاعر ليحاول استبيان غموض العالم الداخلي، وغرابة العالم الخارجي، من دون أن يقرر بلوغه الفهم الأخير لكلّ شيء، فكلّ شيء يبقى مفتوحاً ومنفتحاً على المزيد من استعمال هذه الأدوات في البحث الروحي. ومن هنا تكون الحروف وجوهاً للشاعر نفسه، فهو أيضاً ذات فريدة، وتخييلي مبدع، ومحتجّ على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهو حيّ وميّت، إنه التناقض المطلق أيضاً. نصوص الحروفية عالم رحبٌ وممتع، والسرد الذي يغلّفها يتماهى بها ولا يعود إطاراً خارجياً، بل يتحول السرد إلى مكوّن أساسي للشعرية الحروفية. إنها نصوص تناجي الغيب والواقع، فتبقى معلّقة بينهما، تعيش حالة المابين، ومعها يجد القارئ نفسَه سابحاً في أحلام يقظة، ونهارات غائمة، وسلام مزيّف، وهدوء يسبق العاصفة: وتلك هي شيمة الحروف المتحوّلة، والشاعر الذي يحاول ترتيبها ترتيباً جديداً كلَّ مرّة ".

   ختاماً أقول: كنتُ أتمنى لو وضع معد الكتاب الدكتور مقداد رحيم الذي نثمن  جهده تعريفات ولو مختصرة بالكتاب إضافة الى إشارات لأماكن وتواريخ نشر هذه الدراسات من أجل توثيق ذلك جرياً على ما صنع في الفصل الثامن حيث وثق ذلك .

   لقد كان كتاب "الحروفي" بمجمله نافذة نقدية تعمق وعي القارئ بتجربة الشاعر أديب كمال الدين وتكشف عن عوالم الشاعر السرية فتعينه على ولوج أبواب هذه التجربة التي تتسم بالتفرد والثراء.

 

 

****************************

"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية" – إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007

*************************

نُشرت في في مواقع دروب وكتابات والمثقف بتاريخ 18 آب – أغسطس 2007

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home