دلالات الألوان في مجموعة:

(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)

 

 

 

 

 

عبدالرزاق الربيعي

 

     

   تمثل الألوان ملمحاً جمالياً في الشعر العربي منذ القدم، ورغم فقر الصحراء العربية بالألوان إلاّ أن نصّ الشاعر العربي القديم جاء حافلاً بالدلالات اللونية، ربما تعويضاً عن جدب الواقع وجفاف الصحراء، فقد تتبدل صورة المحبوبة ولواعج العاشق تبعاً للون الخمار. فالشاعر يقول:

قل للمليحة في الخمار الأزرقِ               بالله مهلا واشفقي وترفّقي

إنّ المحبَّ إذا جفاه حبيبــه               هاجت به زفرات كلّ تشوقِ

فبحقِ حسنكِ من جمالٍ زانه               هلاّ رثيت لقلب صبّ محرقِ

لكن الدلالة تتغيرعندما ترتدي لوناً آخر هو الأسود:

قل للمليحة في الخمارالأسودِ                    ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبدِ

قد كان شمرّ للصلاة ثيابه                   حتّى وقفتِ له بباب المسجدِ

   إنّ صلة القربى التي تربط الشاعر بالفنان التشكيلي لاشتراكهما في الصورة  سمحت للون أن يتسلل إلى هذه الصورة ليعمّقها ويشحنها بدلالات عديدة أغنت النص الشعري الحديث وجعلت اللون ملمحاً جمالياً ودلالياً واضحاً في هذا النص. دارت في رأسي هذه الأفكار وأنا أرى سبعة نصوص من مجموعة: (ما قبل الحرف..ما بعد النقطة) للشاعر أديب كمال الدين المؤلفة من أربعين نصاً والصادرة عن أزمنة للنشر والتوزيع في الأردن قد وضعت الألوان عنواناً لها وهي: (خنجر أسود.. صرخة بيضاء)، (هو أزرق وأنتِ زرقاء )، (مطر أسود.. مطر أحمر)، (حصانان أسود وأحمر)، (امرأة بشعر أخضر)، (حقائب سود).. هذا التركيز على الألوان جعلني أقرأ المجموعة ككل قراءة لونية محاولاً معرفة دلالاتها الفنية والنفسية والكيفية التي وظف بها الشاعر هذه الألوان في نصوص هذه التجربة التي كتبها في أستراليا حيث يقيم الشاعر فيها حاليا منذ عام 2003 . وكما هو واضح فقد ركّز الشاعر على اللون الأسود بالدرجة الأولى ويليه اللون الأحمر ويليه الأبيض والأخضر والأزرق والأصفر. هذا التردد اللوني يجعل من القتامة مسيطرة على تجربة الشاعر فهو لون الخنجر والمطر والحقائب والحصان .وقد تنسكب عدة ألوان عند فتح حقيبة لونية واحدة كما في نصه (هو أزرق وأنتِ زرقاء) و اللون الأزرق من الألوان الباردة وهو لون السماء والبحر والتفاؤل، إنه لون الامتداد الذي لا نهاية له البتة كما يقول:

 

أنتِ تشبهينَ البحر

لاشكّ في ذلك!

لكنْ أيّ معنى يختفي خلف ذلك البحر؟

خلف تلك الزرقة العجيبة التي تبدأ

لكي لا تنتهي

أو تنتهي كي تبدأ من جديد

خلف تلك المراكب الضائعة

والبحّارة الذين يرقصون أو يبكون

على سطح سفنهم المبحرة أبداً

خلف تلك المدن التي تنتظرهم لتنساهم أبداً

خلف ذاك البياض الذي لا أفهمه

خلف ذاك السواد الذي لا أتقبّله

خلف ذاك الاحمرار الهابط الصاعد.

 

    وتحتشد الألوان في نص عنوانه (ألوان) تكون الغلبة فيه للون الأبيض الذي استهلكه الشاعر أمل دنقل في إحدى نصوص مجموعته الأخيرة (أوراق الغرفة 7) حين كان البياض يحيط به من كل جانب: ثياب الممرضة ولون كأس الحليب والمصل والطبيب. لكن الشاعر أديب كمال الدين يعطي للون قيمة رمزية ضمن سياق سردي يضجّ بالعديد من الأسئلة المغلقة حيث يقول:

 

قال الطبيبُ الذي يرتدي قميصاً أبيض

وبنطلوناً أبيض

وحذاءً أبيض

* هل كانت طفولتكِ بيضاء؟

_ (لا)

* هل كان شبابكِ أبيض؟

_ (لا)

*  هل كانت شيخوختكِ بيضاء؟

_ (لا)

* قال الطبيبُ: إذن ماذا تنتظرين؟

_ قالت :(أنتظرالموتَ ليأتي ويأخذني

مرتدياُ طفولةً سوداء

وشباباُ أسود

وكهولةً سوداء.)

 

   وهنا يظهراللون الأسود ليبسط سلطانه على الجزء المتبقي من النص لتتحول الدلالة من الطفولة والحياة والبراءة إلى الموت:

 

مدّ الطبيبُ يده ذات القفاز الأبيض

إلى الضحية

فأبعدها الموتُ برفق

كان الموتُ يبكي على الضحية بدموعٍ سود.

لكنّ الضحية نفسها

وجدتْ في الأسود،

في آخرِ المطاف،

طمأنينةَ الألوانِ كلها.

 

   وهكذا يجد الطمأنينة في الأسود الذي هوأشد الألوان عتمة، وهو نقيض الأبيض في كلّ خصائصه وهو يحتل المرتبة الأولى في قائمة الألوان ويتعانق مع الأبيض الذي يعد أول الألوان الموسومة بالفئة الباردة التي تثير الشعور بالهدوء والطمأنينة في نص (خنجر أسود .. صرخة بيضاء) والذي به نرى الشاعر يتبع تلك "المرأة " الغامضة  بل المجهولة التي لا يعرف من تكون ولا يعرف سرّها وفحواها وهي تـنتـقلُ من شارعٍ إلى شارع، ومن زمنٍ إلى زمن،  ومن منفى إلى منفى. لكنه حين يقترب من سرّها يلتفت ليرى خنجراً أسودَ يثقبُ ظهره ويرى صرخةً بيضاءَ تخرج من فمه وتتناثر كالزجاج. لكنه بمواجهة هذا المشهد القاتم الذي يفيض بالخوف كان فرحاً كطفل حقيقي في قصيدة (امرأة بشعر أخضر) حيث يلتقي بصورة أخرى للمرأة: الحياة. فإذا كانت المرأة: الحياة مجهولة في قصيدة (خنجر أسود.. صرخة بيضاء) فإنها هنا واضحة وضوح الموت البدائي النزق الساذج الذي لا يكفّ عن إطلاق القهقهات الفارغة من كلّ شيء. يقول:

 

 فيما كانت المرأة بشعرها الأخضر المتطاير

بثدييها العاريين

بعينيها الكبيرتين

بملامحها الساذجة

تسوق السيارة بسرعة

لتطلق قهقهاتها الفارغة من أيّ شيء.

 

   هنا يفرغ اللون الأخضر من محتواه ليرتدي لوناً مخادعاً يحاول أن ينصب له (فخّاً) في حديقة صيفية فيجلس كما في نصه (فخ):

 

وسريعاً جلستُ في حديقةٍ صيفية

لأرى بقلبٍ أزرق

الوحوشَ وهي تحتفل

لتطلقَ كالبالوناتِ قهقهاتها وترّهاتها

وسريعاً

توهّم الطفلُ في داخلي

انه يستطيع

أن يمثّل – مثلكِ – دورَ الوحش

وسريعاً

تركتني وحيداً

في غرفة سوداء بفندق يطلّ على نهر العذاب

تركتني أزحفُ إلى جهنم زحفاً

تركتني أتدرّبُ على دورِ الميّت

حتّى الموت.

 

  ولا يرد أيّ لون في نص(حقائب سود) إذ إنّ الشاعر فقط يكتفي بألفاظ دالة على السواد فهذه الحقيبة هي:

 

حقيبة الأسقام والأوجاع

حقيبة مَن ينتظر اللاشيء

أعني مَن يريد أن لا ينتظر شيئاً

ومَن ضيّع عمره في الانتظار.

ومعي حقيبة المنفى

حقيبة العذاب المسلوق والمملّح.

 

    ويظل في غمرة هذه الألوان يحلم بتلك الشمس المتقلّبة كموجةِ بحرٍ تولد من اليمينِ إلى اليسار ليتدرج من الأزرقِ إلى الأصفر، فهذا الانتقال هو بمثابة الانتقال من الوقوفِ إلى الهرولة. فاللون هنا يكتسب صفة حركية متبدلة متغيرة تبعا لتغير حالات الشاعر ومزاجه الذي يعلّقه على عتبة الألوان  فلكلّ حالة لونها ولكلّ مقام مقال لوني يعكس نظرة الشاعر للعالم والوجود فالألوان تصبح هنا مرايا عاكسة لذات الشاعر وتبدلاتها من الفرح إلى الحزن ومن العشق والوله إلى اللامبالاة والتيه ومن الوطن إلى المنفى. وفي نصه (مطر أسود. . مطر أحمر) يستدعي من الذاكرة صورة المطر الأسود الذي سقط على بغداد عقب حرب الخليج الثانية عندما تشبعت الغيوم بخان الحرب والنفط والموت، وحين ألقت الغيوم حمولتها المائية سقط مطر أسود على البيوت والأشجار والنوافذ. هذه  "الشظية" أسس عليها الشاعر أديب مشهداً كاملاً يفضح عبثية الحرب ومغامرات (صاحب الجند) الذي جعله رمزاً للطاغية الذي يرسم له صورة كاريكاتيرية ساخرة هي أقرب لصورة الدون كيشوت عندما يقف في مقدمة الصفوف:

 

 ممتطياً حصانه الأبيض مزهوّاً

ونحن من خلفه نجرّ أقدامنا جرّاً

حفاةً، شبه عراة

قال، حين ظهرتْ مآذنُ المدينة،

"سأختارُ لكم موتاً جديداً".

فضحكنا

وتساءلَ الشيوخُ منّا

عن الموتِ الجديدِ وَجلين

أما نحن، خيرة الجند،

فتصوّرنا الأمرَ مزحةً عابرة.

 

ويواصل الشاعرُ الوصفَ بنفس سردي:

 

مرّت سنين طويلة

حتّى غطّتْ بغداد

غيمة لا أوّل لها ولا آخر

وبدأتْ تمطر

كانت الغيمةُ سوداءَ كجهنم

فنزل المطرُ أسودَ كالقير

ضحكَ الأطفالُ أوّل الأمر للمطر

لكنهم بكوا

حين أصبحتْ وجوههم كالقير

واستبشر الزرّاعُ خيراً

لكنهم وجموا إذ رأوا أشجارهم

تموتُ ببطء

ثم جاء الدورُ للسحرة الذين وقفوا

في أزقة المدينة

ينتظرون المطر ينزل في أوانيّهم.

كانوا يرقصون

فهذا المطر رديف للسحرالأسود

قالوا انهم سيسحرون به كلّ شيء

حتّى صاحب الجند نفسه!

 

   ويعود رمز (صاحب الجند)  في نص آخر هو (شعراء الحرب) الذين فرّوا إلى مشارق الأرض ومغاربها حين ألقى البحّارةُ أصحابُ العيونِ الزرق – وهي إشارة واضحة لا تحتاج إلى تفسير– القبض على صاحب الجند هذا، حيث فرّ كبير شعراء الحرب إلى بلادِ الظلام وفرّ صغيرهم إلى بلادِ الضباب والثالثُ إلى بلادِ الواق واق والرابعُ إلى بلادِ الأسكيمو والخامسُ إلى بلادِ الراياتِ السود والسادسُ إلى بلادِ الراياتِ الصفر والسابعُ إلى بلادِ الفلافل والثامنُ إلى بلادِ القلاقل والتاسعُ إلى بلادِ العماليق والعاشرُ إلى بلادِ المنجنيق. وهكذا انتشرت جرثومةُ الحرب في أرضِ اللهِ كلها!  ولأنّ صاحب الجند الذي يمتطي الحصان الأبيض لم يأتِ إلاّ بالمطر الأسود والويلات واللافتات السود على الجدران وثياب الحزن السود، لذا يختار الشاعر الحصان الأسود حالماً بغيمة بيضاء تمطر حبّاً وسلاماً في نصه المعنون (حصانان أسود وأحمر) لكنه سرعان ما يتحول عنه إلى الحصان الأحمر الذي لم يكن سوى رمز للحبيبة المختفية في سراب الصحراء:

 

كنّا نجلسُ عاريين في الصحراء

حين اقترب منّا حصانان أسود وأحمر

فقمتِ بعينين دامعتين

وقبلتني القبلة الأخيرة

فدهشتُ

ثم امتطيتِ الحصانَ الأسود

وقلتِ بصوتٍ مرتجفٍ: وداعاً

فذهلتُ

لكني قلتُ لنفسي

سأمتطي الحصانَ الأحمر

إنْ عصفَ بي الشوق

وعذّبني الحبّ

هكذا اقتربتُ من جسدكِ العاري

لأقبّل شفتيكِ وثدييك

ولأراكِ تختفين مثل سهمٍ في الصحراء.

 

   لكنه يستفيق ليجد أن الشمس التي شبهها الشاعر بـ(أسد أحمر) وهو تشبيه ممهور ببصمة الشاعر، قد غابت:

 

مرّت ساعاتُ الذهول

ساعة إثر أخرى

وأنا أنظرُ إلى جسدكِ العاري

يمتطي الحصانَ الأسودَ ويختفي في الأعماق

ثم سرعان ما عصفَ بي الشوق

وعذّبني الحبّ

فالتفتُ إلى حصاني الأحمر

لم أجده

ووجدتُ الشمسَ تغيبُ على امتداد الصحراء

مثل أسدٍ أحمر.

 

   واللون الأحمر من الألوان الحارة التي تستمد ألقها من وهج الشمس، واشتعال النار، والحرارة ومن هنا فالشاعر يدخل الحقل الدلالي نفسه عند بحثه في المشبه والمشبه به عن وجه الشبه لكن الحبيبة الغائبة  تعود اليه بشعر أخضر، واللون الأخضر هو اللون الوحيد الذي إذا ما طغى على كل الألوان الأخرى فإنّ الإنسان لا يحسّ بأيّ ضيق أو ملل، كما يؤكد علماء النفس. وهناك ألوان غير معلنة: ألوان مضمرة تظهر في جملة هنا وصورة هناك في أغلب نصوص المجموعة، ففي نص (ساحر) يعزف هذا الساحر أو الشاعر موسيقاه الشجية فتتساقط من حوله بالونات الأعياد  والفراشات الملونة لكنه عندما عزف للموت أحاطت به الجثث، وهنا يظهر اللون الأبيض واللون الأسود ويدخلان في صراع تكون الغلبة فيه للأسود الذي استفز الشاعر في نص آخر عنوانه (سؤال) حين ذهبَ إلى البحر وقت الليل (هنا إضمار لوني) لكنه لم يجد أحداً بل وجد سفينة على وشك الإبحار فرماها بحجر فكسر شبّاكاً لكنه لم يعرف إن كان شبّاك القبطان أم المرأة أم الكلب؟!

  ويتجسّد حضور الألوان بشكل غير معلن في نص (مسلسل) من خلال احتشاد لفظي تمثل بـ: طاغية ووحوش وأغلال وبحّارة بعيون زرق وطيور ذات أجنحة أسطورية ودشاديش قصيرة وعمائم ويأس ودم ويكرر اللفظة الأخيرة ثلاث مرات مشيراً إلى غلبة اللون الأحمر على المشهد اللوني العام، مثلما يهيمن في نصه: (قصيدتي المغربية) عندما يكرر مفردة نار تسع مرّات:

 

أهبطُ معي نار الغزاة

ونار البدو

ونار الهنود الحمر

ونار سحرة داود

ونار القراصنة

ونار الفراعنة

ونار أنكيدو وكلكامش

ونار أور وبابل

ونار آلاف المشاعل.

 ويتساءل في نصه (اذهبوا للجحيم) :

 مَن سيضع لنا الموسيقى التصويرية

لنرى دم أوديب يتدفّق من بين عينيه؟

مَن سيصمم الملابس للساحرات

وماكبث والمهرّج والشريف الرضيّ؟

    إنّ قراءة مجموعة :(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) للشاعر أديب كمال الدين يعني التجوال في حديقة مليئة بالألوان الباردة والحارة، الهادئة والوحشية، الصامتة والضاجّة بفوضى الواقع وصخب العالم، تبعا لتبدلات حياة الشاعر وانتقاله من الوطن إلى منفى قصي له خصائصه المختلفة التي وجد في الألوان تجسيداً لها، فجاء كلّ لون يحمل إشارة رمزية دالة على صورة ذهنية معادلة للواقع الذي يمثل مادة لونية ثرية تقوم بصهرها المخيلة ليرسم صورة عالمه الشعري الغني بألوان الحياة.

***********************************

مواقع كتابات والمثقف واتحاد كتاب الانترنيت العرب 26  آب 2006  كما نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية بقسمين بتأريخ 19 و 20 أيلول – سبتمبر 2006

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 105- 114

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home