قراءة وتأويل: أربعون قصيدة عن الحرف لأديب كمال الدين

 

بين المهيمنات الحدسية والتطلع الإشراقي

 

 

رياض عبد الواحد

 

   لعل ما يميّز/ أديب كمال الدين/ في منجزه الشعري الرصين/ تلك اللغة العقلية ذات السمت المبطّن بالأبعاد اللغزية للوجود، إذ يتمركز البعد الوعيوي ليبثّ مجموعةً من الأسئلة التي تشيع وجوداً إرادياً يتحقق في مجموعة من المسموعات اللغوية المتشكلة على هيأة خطوط سوريالية محكمة الدقة تستوجب تفكيكاً دقيقاً لها عبر رؤية متفحصة وفاحصة لنقاطها الدالة على طول التعامدات القائمة على عدم كشف المستور من تلك الدوال من أجل تذكية جمرة النص المتوزّع بين مهيمن لغوي محسوس يمسّ مفتريات الروح من دون أن يعطيها المقود، وبين تجريد يخلق مستوى عال من الأنساق التعبيرية ذات السمة الرؤيوية الشفيفة المساعدة على تنشيط فاعلية البؤر الدلالية المتوالدة عن بؤرة مركزية ذات ملمح لغوي يطوي بين دفتيه الاختلاجات النفسية حيال الوجود وأسئلته الصعبة.

   سنختار في هذه القراءة قصائد معينة بغية الوقوف على مقترباتها النصية التي تتيح لنا ما ذهبت إليه. سنبدأ بقصيدة /المتبرقع/ حيث يضعنا/ النصيص/ أمام مواجهة البحث والتقصي على الرغم من أنه أي النصيص /معرف بال/ غير أنه متخفي وراء قناع الحدث وهذا ما يستنبع منا ملاحقة لرسم صورة ذلك المبرقع، هذه التقنية تترك لنا مساحة من الخيارات والتوقعات أو المباغتات التي يمكن أن تظهر لنا فجأة مما يؤدي إلى عصف أفكارنا عند عتبة النص.

   يبدأ النص بحملة اسمية ترسم لنا حالة الاستقرار التكويني لا النفسي إلا إن اللعبة الذكية التي كسرت هذا الاستقرار التكويني وحولت مساره هي قلب سيرورة الكينونة الخلقية بدليل القرينة /بجسد دون رأس/. إنّ تعمد وضع الجسد من دون رأس له ما يبرره، إذن /الرأس/ مركز التفكير وفيه وبه يتحقق الكلام المتشكّل من مجموعة من الحروف والكلمات. فعملية الفصل ذات مقصدية ذكية وان بررت لمجمول زماني منفصل عن ذات السارد:

بجسدٍ دون رأس

وضعَ آبائي الأرضَ فوق كتفي

   إذن عملية الوضع المتحققة خارجة عن الذات الحاضرة، بمعنى أنها مسبوقة بفعل آخر، أي مفروضة من قوى ثابتة وإن اتصلت بذات السارد بنحو أو آخر. أما جملة القول التي يتحقق فيها فعل /المباركة/ فهي منظور روحي تخضع لاعتبارات تاريخية. يتجه النص فجأةً إلى البؤرة متحولاً بالقول من صيغة الجمع إلى صيغة المفرد بيد إن هذا الأفراد لم يخرج عن مقولة الآخرين، إذ إن الدال اللساني /نفسه/ يدل صراحة على الدخول في ما قاله الآخرون غير إن كشف اللثام عن المبرقع بهذه السرعة مردّه كسر التوقع، إذ يظهر إن /البرقع/ كان معنوياً وليس مادياً :

نعم، قال المبرقع بالنبوة

   هذه الحوارية إحدى السمات المهمة في النص الشعري المتداخل التي تسحبنا مرة ثانية إلى مركز البؤرة الرئيسي إذ إن /المبرقع/ لم يخرج في إخباره عما تنضح به /النبوة/ المحددة بسمتها الخاصة لا العامة بدليل القرينة:

هذه كهيعص

   إذن العلامة /الإشارة للدرب/ الحياة مكتسية كينونه الحرف غير المعلن عنه بنيته الاشارية أو الدلالية. ينحرف النص مرة أخرى باتجاه تشظية البؤرة الرئيسية وتقنيتها اذ يتخذ /المبرقع/ أشكالاً متعددة بيد إنها لا تخرج في كنهها عما آلت إليه في البداية. إن المبرقعين المنوه عنهم هم وجه آخر للمبرقع الأول أو امتداد له في مسعاه ومآله الأول.

   إنّ نبوءة المبرقعين أعطت للشخصية الرئيسية غير المنوه عنها بصراحة منزلةً خاصةً ولا نعرف السر الذي يقف وراء هذه المنزلة الرفيعة إذ ترك الشاعر الباب مفتوحاً بنحو فنتازي وسوريالي معاً. إذ إن من غير الممكن على مستوى الواقع أن يحمل الإنسان رأسه بيديه إلا بمعجزة، والشاعر يريد أن يقول لنا إن الإنسان، أنّى كانت منزلته، محور الأشياء، والكون كله قابع فوق ذلك المحور:

والأرض،

كلّ الأرض،

مثبتة فوق كتفيك

فانظر الآن ماذا ترى؟

   إن منحى الدال اللساني /الآن/ مع الفعل /انظر/ يحيلنا إلى تبنّي فكرة مسح ما مضى والتشبث بما هو آت، بمعنى الانفصال عما كان من الرؤية المتحققة وتلمس مستجدات الرؤية في الزمن الحالي والمستقبل.

 

   القصيدة الثانية ستكون القصيدة /الشبيه/. تبدأ هذه القصيدة بمجموعة من الجمل الفعلية التي لم ترد جزافاً بل تكتشف لنا عن كينونة الحرف بستراتيجية شعرية تقوم على المباغتة والمخالفة والغموض والسرّية من أجل أن لا نمسك بسرعة على جمرة النص عند عتبته الاولى:

سيكون معك:

اسمه سيتكرر أمامك

مثل كوارثكَ التي لا تكفّ

عن الحضور.

وسيتنفس معك:

نَفَسَه ثقيلٌ أثقلُ من دخانِ الموت

وطلعته كئيبة

مثل جمجمة متروكة في العراء.

    لاحظ كيف إن (سين المستقبل) متلاصقة وملاصقة للأفعال المضارعة، بمعنى أنها تحمل زمنها بنفسها من دون عون أو إسناد زماني على الرغم من أن تركيم الأفعال جاء بمقصدية مسبقة / يكون، يتكرر، يتنفس/ إذ جاء فعل التكوين بداية ثم فعل التكرار التكويني ثم فعل /النفس/ الذي ينمّ عن حركة وانفتاح نحو أفق جديد وتتزامن مع ذلك كله بنية التشبيه التي تزيد من تصعيد الحدث باتجاه ما هو درامي. كما وأن الدلالات تتعاضد لتزيد من مساحة الانزياح الشعري بواسطة احتدام تلك الدلالات مع ما يماثلها من المشبه به على سبيل المثال:

نفسه ثقيل = دخان الموت

طلعته كئيبة = جمجمة متروكة

   هذا التضايف أضاف طاقةً إلى هذه الإنساق المتشاكلة من أجل أن يبدو البناء الكلي للقصيدة  بناءً رصيناً وإن تعددت نوياته. هذه الشخصيات الافتراضية التي خلقها النص تجسد حسية النص التي تحيلنا إلى كيفية تداخل الإنسان مع الآخر في جل حياته تدخلاً يصعب فصله وقد يبدو وجهان لعملة واحدة .

 قد يكون صديقكَ، إذن

وقد يكون زميلكَ أو شبيهك.

مَن يدري

ربّما هو مثلك يحبّ التمثيل.

   يستمر النص على هذا المنوال ثم ينعطف انعطافه حادة ضمن بنية متشككة متسائلة تحاول استرجاع البؤرة الزمنية بواسطة بنية المخالفة النصية

لا تنزعجْ

قد يكون هو الممثل الحقيقي

وأنتَ المزّيف!

وربّما هو الُمخرج

وأنتَ الممثل الثانوي

   إنّ مجموعة التضايفات التجريدية استطاعت أن تنضوي تحت بنية الحرف وتشكلاته وتعاملاته بوصفه مظهرا أشارياً وعلامانياً قادراً على استيعاب كلّ مفردات الحياة واستطاع الشاعر أديب كمال الدين أن يمسك خيوط هذا كله بنجاح وامتياز وهذا سرّ تفرّده.

*************************

أربعون قصيدة عن الحرف- شعر: أديب كمال الدين- دار أزمنة للنشر والتوزيع- عمّان 2009

 نُشرت في مواقع المثقف وكتابات  والنور ودروب  وأدب فن بتاريخ 15- 10- 2009

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home