استكناه دلالات عطاء الحرف

 قراءة جمالية في قصائد (نون) للشاعر أديب كمال الدين

 

 

خضير ميري

 

 

   يشكل الحرف، بحد ذاته، هاجساً شعرياً مركزياً بالنسبة لتجربة الشاعر أديب كمال الدين. ومبدئياً تتمثل (الحروفيات) بالنسبة اليه كدلالات زاخرة بالمعاني، وكشروع مكثف لاستقراء الجذور التكوينية لكيان اللغة. بالطبع ان الحرف الذي (يشتغل) عليه الشاعر لا يفضي بنا إلى إحالات موضوعية مشتركة بمعنى أن تعميق دلالات الحرف بالنسبة إلى (المعامل الوجداني) الذي اختطه الشاعر بقصدية أو شبه قصدية لا يبلغنا استعمالاته بذات الموضعية أو بذات التلقي الذي يوزع الحرف فينا تأثيره، ومعناه واستخدامه التداولي بل يتخذ (الحرف) غالباً دلالات مزدوجة تحتمل التعددية في القراءة وبالطبع التعددية في مستويات التأويل وبامكاننا تأشير (التجربة الحروفية) للشاعر أديب كمال الدين مبدئياً  بالمستويات الآتية:

1-المستوى الشكلي لاستثمار عطاء الحرف.

2- المستوى (الصوفي) لاستثمار عطاء الحرف.

3- المستوى (الشخصاني) الاعتباطي لاستثمار عطاء الحرف.

4- مستويات أخرى تعتمد (الترابط الوظيفي) والاستخدام (البراغماتي) للحرف كأداة فنية بديلة خاصة بتحريك الرؤى الجمالية للشاعر وهي تساهم غالباً بانحراف دلالات الحرف عن سياقه الشعري المطلوب.

فهل تساعدنا مجموعة الشاعر أديب كمال الدين الجديدة (نون) في الإلمام بكلّ ذلك؟ هل عثرنا حقاً على هذه  المستويات والممارسات المتبانية والشائكة بأداء شعري وجمالي موفق؟

هذا ما سنحاول الإجابة عليه في متن هذه القراءة.

لا ندعي حقا ، بأن المستويات (المصنفة) قبلاً، هي لوائح مثبتة بشكل (تقابلي) مع أو أزاء تمظهرات الحرف المسثمر تواً من قبل الشاعر، إنما هي (مقاربات) جمالية لمحاذاة كيفية إعادة انتاج الحرف مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ (الجانب المعرفي) بل حتى (المعلوماتي) متوفر بدقة في متن العمل الشعري الخاص بأديب كمال الدين. وكذلك فإنّ عنصر (الانزياح) عن المعنى الكامن (في الحرف ذاته أو المعنى الإستقاطي) المعتم عليه من الخارج متوفر هو الآخر كذلك ولكن ما يهم الشاعر تبليغه إلينا هو (كلية الحرف) وأبعاده اللامحدودة. الحرف في معطيات (الشاعر الشعورية أو شبه الشعورية) هو (أسس المعاني، والرؤى والحالات) الحرف كيان مستقل يحتمل مديات شتى من الإنتاج والاستثمار والتأويل كما تبلغنا به الاستقطاعات الآتية:

 

ينزفُ الشاعرُ حين يعشق

آلافَ الكلمات والحروف

ليغربل لغته من أدغال الصدأ

ويغربل قلبه من أدغال الموت.

 *

أموتُ ومعي حرفي

وأُبْعَثُ من الموت

ومعي حرفي.

 

 

 

        لا يمكن لنا، كما هو واضح ، من متن الاستقطاعات المذكورة آنفاً، إلاّ أن نؤشر أن ورود الحرف كاستخدام لغوي، بصبغته (التدوينية) كحرف يحتمل المجاز العام، أو الاستخدام الشعري (العائم) لمفردة حرف وهو يأتي كخارج) من علٍ . ولعل الإتيان ب(الحرف) كحرف أي صيغة كتابية (وكلفظة مفهومية في جهاز اللغة العام) هو الذي آثرناه على انه المستوى الشكلي في استثمار الحرف (حرفاً كما هو) ومن ثم فإنّ (الحرف)  يحتمل تراتباً شكلياً معيناً غير مفخخ شعرياً كما في الاستخدامات الآتية:

 

يقول النحوي : سأضع النقاطَ على الحروف

ويقول الفيلسوف: أضع النقاط على الحروف

ويقول المغني: ها أنذا أضع النقاط على الحروف

أنا الوحيد الذي قلت:

سأمسح النقاطَ عن الحروف

لأضيع في جنوني القادم

في نونكِ التي أضاعتْ نقطتها

في الزحامِ والثرثرةِ والخوفِ من الشوارع المظلمة.

 

تماماً لا يحتمل هذا النوع من الاستخدام الشعري (للحرف) أكثر من هذا (المسح) الميداني الموجز لكيفات ظهور الحرف مقياساً نحوياً مرّة ومقياساً إدراكياً مرّة أخرى علاوة على أن كلّ هذه مجرد (أمثولة) مصاغة من قبل موروث جمعي تداولي.

إن (شكلية استخدام الحرف) هو بمعنى ما عدم أستقرار الحرف (بحد ذاته) أي (تهجئة) الحرف ومن ثم فإن (استكناه) الحرف بأداء شعري معين هو الذي يفترضه الشاعر أديب كمال الدين على أن يكون (رمزاً شخصانياً كما هو الحال في حرف (نون) أو جيم أو كاف .. الخ. وهنا يتوفر لنا قدر معين من ذوتنته للحروف ذوتنة للحرف تطرح ذاتها باتجاهين : ثيوحرفية الحرف وشخصانية الحرف. الأول أمر مستوى كوني وطلسمي للحرف بحد ذاته بينما يقع المستوى الآخر في نطاق حقل استثمار الحرف بدلالات شخصية وحالات وجدانية خاصة.. وإذا كان المستوى الصوفي لاستخدام الحرف يمكن أن تفضي بنا إلى (معامل موضعي مشترك في مجال القراءة والتلقي) ومن ثم تتحقق ممكنة (التوصيل) التي تؤدي إلى سيادة {الكفاية اللغوية بين (الحرف كجزيء قائم في نسق كلي) وكفاية (إدراكية) على مستوى الفهم والاتصال الآني أو المرجعي  لواقع التاريخ الحرف (ذاكرة فردية أو جمعية) .

ولا ننكر كون الملاحظة وارادة في طروحات (تشومسكي) بخصوص ( التنظيم التوليدي) فهل نعد (الحرف) جدلاً (ثابتا) في البناء اللغوي العام أو هو ممكنة ( لفظية) تتمظهر على اعتبارها اداءً متكرراً لفصل الكلام؟

الحرف بالنسبة للشاعر أديب كمال الدين لا يحاكم بهذه الطريقة، فهو يشكل بمثابة (اللوغوس) وهو ( الكلمة البدء) و(الجذر المطلق) تماماً كما هو في المخاطبات الآتية:

 

انظري الآن  يا حبيبتي

إنّ في الحرف سحراً

يطوّقكِ فلا مهرب عنه

إلا ّإلى الضياع.

أنا أنتظر أن تضيعي

وتذوبي

وتمّحي

لأدفن جسدكِ البضّ في شمسٍ من الحروف.

*  

يُقال : آخر الدواء الكيّ

وأقول: آخر الدواء الحروف.

 

ولعل المستوى الصوفي الذي أختاره الشاعر أديب كمال الدين كرؤية شعرية خاصة هي التي تساعده أكثر من غيرها على التخلص من مأزق (الجمودية ) أو (المحدودية) الكامنة في استخدام الحرف كما هو (يماثل ذلك استخدام الرقم في الرياضيات وذلك لما ينطوي عليه الحرف (من موروث جمعي) يحيلنا بصورة غير مباشرة أو غير مباشرة إلى (طلسمية) الحرف القرآني (بما فيها أعجاز السرّ الاعظم) والإحالات الشعبية لعناصر (الخرافة والشغوذة وطلاسم الحروفيات المتوافرة في الرقى والفلكيات ومهارات الفراسة). ويراهن الشاعر أديب كمال الدين كثيراً على هذا (الجذر المزدوج ) للحروف في ذهن المتلقي فيضفي على حروفه الدلالات الآتية:

 

سأمنحكِ أيتها النون المجنونة بالجمالِ والانكسار

مجدَ الكلمة

وسأعلنكِ إمبراطورةً حقيقية

وأتوّجكِ في احتفالٍ سرّي عظيم

بتاجِ الحروف

وقلادةِ الكلمات

وطيلسان القصائد

ووسامِ الهيام

وعصا السحر.

 

أو بتذكير (شعبي / ميثولوجي) متعارف عليه كما في رمز (الهلال والنقطة) في المقطع الآتي:

 

ينبغي للشاعر أن يعشق

حتى يتعرّف إلى الشمس وهي تشرق ليلاً

وإلى الهلال وهو يصبح نوناً من غير نقطة

وإلى النقطة وهي تصبح سحراً

يضيء فحمة الليل.

                          

ومع كل ّهذا فأن خطاب (نون) الشعري يبقى في( بنيته التكوينية) ومن حيث التجربة الوجدانية للشاعر خطاباً شخصياً  لا يخلو من تطلع (عياني) مباشر متمثل بشخص (نون) الذي عنيت للشاعر رمزاً موحياً بالوجدان الشقي.. ولذلك فإن معظم الصور الشعرية التي بلغنا الشاعر إياها، كانت تنسج ملامح متناثرة ل(نون) التي هي علامة النص بشكل عام مما جعل القصائد تدور وبشكل لا يخلو من المباشرة أحياناً في دائرة (نون) تجربة عاشقة محرقة غير قابلة للتحقيق :

 

من أنتِ

سؤال أطلقته بعد أن كتبتُ عنك

ديواناً كاملاً

ولم أجد أيّ بارقة أمل

 تعينني على حيرتي الكبرى

وضياعي المكتوب.

 

ولكننا عنينا هنا تجربة (الحروفيات) لدى الشاعر أديب كمال الدين بشكل عام ويبدو لي أن ممكنات استثمار الرقعة الحروفية في الأداء الشعري تحتمل الكثير من الاضافات خاصة إذا ماعرفنا  بأنّ ( للحرف) بحد ذاته أفقاً شعرياً كامناً ولقد سبق للفن التشكيلي أن أعقده رمزاً موحياً وشكلاً عيانياً مجسداً لضمير وعوالم الذاكرة اللغوية العربية التي كانت بطبعها ذاكرة متداعية ميثوولوجيا إلى ما لانهاية. ترى هل تصبح حروفيات أديب كمال الدين لوناً جديداً من التعميق الجذري لانتماء الشاعر إلى لغته الأم.. أم كان من الأجدر في قصائد (نون) أن تقدم لنا ثراءً جديداً لمستويات أخرى في تفجير الحرف؟

بالطبع ان سؤالاً كهذا يقع في صف مشروع أديب كمال الدين الشعري الذي يبدو بانه عازم على المضي به إلى النهاية ذلك لأنّ الشاعر يؤسس أمبراطورية الحرف. وفي قصائد (نون) الكثير من التحديات التي لا نملك ازاءها إلاّ أن نقول بانها مغامرة شعرية ننتظر منها المزيد.

 

الصفحة الرئيسية