قصائد جديدة


شعر : أديب كمال الدين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ن والقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون.

 

سورة القلم. الآية 1

 

 

شخصيّات حروفيّة

 

شعر : أديب كمال الدين

 

 

 

 لم تكن

هاملت منتحراً

خالد جابر يوسف

حينَ قُتِلَ الملكُ الشاب

شوبان والبحر

 البحرِ والحرف

 زها حديد

 أنجلينا جولي

 آلن ديلون

 محمد القبّانجي

 قِرَدة

 صانعُ الكراسي الذهبيّة

 محمد علي كلاي

عبيد

في المطعمِ الفخم

 صوت مبصر

 فيسبوك

 ملك المنفى

 الملكة المجنونة

 وصيّة الحلّاج  

المطربة العارية

 المُمثّل الكبير

قصيدة عن الحديقة

حفلة الأقنعة

 صديقي صاحب الكأس

 تسونامي

 مراراً وتكراراً

كتاب الموتى

دعاء

تناص أم تلاص؟

 إلى الأعلى

شارع الذاكرة

 لكلّ حرف ...

 أصابع

 ملك الحروف غير السعيد

 الحفلة الكبرى

 صاحب الشاهر

  سلسلة

عيون القطط

 التعساء

أمام تمثال جان دمّو

 

 

لم تكن

 

 

لم تكنْ غلطتي

أنّني أضعتُ دراهمَ العيدِ السبعة

قربَ بوّابةِ المتحفِ العراقيّ

واتّهمتُ كلكامش بما قد حدث.

إذ قالَ لي:

أنا مُثلكَ، أيّها الطفلُ،

أضعتُ صديقي، وعُشبةَ روحي.

أنا مُثلكَ لا أستطيع

أن أنقذَ عينَ العيدِ من عينِ الدموع.

ثُمَّ إذ عبرتُ الجسر

وجدتُ الحلّاجَ مَصلوباً

فبكيتُ لما حلَّ بهِ مِن هوانٍ عظيم.

لكنّها لم تكنْ غلطتي.

هكذا قالَ لي:

هذه فتنةُ العشقِ أيّها العاشقُ،

أيّها المُندهشُ بما جَرى لي أو سيجري.

إنّها فتنة أن ترى ما لا يرى الآخرون

وتعرف مِن اللهِ ما لا يعرفون.

فكفكفْ دموعَك

لأنَّي سأُحْرَقُ غداً

وسَيُنثَرُ رمادي بعدَ غد

عندَ ناصية الجسر.

فكفكفْ دموعَك

ربّما ستبكي بصمتٍ أكثر ممّا بكيتُ

وتُصلَبُ سرِّاً على جسرِ منفى الحروف.

لكنّها لم تكنْ غلطتني

حينَ وجدتُ السيّابَ في البابِ الشرقيّ

يتوكّأُ على عصاه وحيداً

وبالكاد يمشي.

قلتُ له

وقد اقتربنا من المسجدِ

وتركنا خلفنا نصبَ الحُرّيّة:

كيفَ الحال يا أبا غيلان؟

فقالَ: اعطني سيجارةً أوّلاً.

وبعدَ أن نفثَ دخانَها

أضافَ، بصوتٍ خفيض:

حذارِ من هذا الزمان

وأكاذيب هذا الزمان.

إنّها لم تكنْ

غلطةُ قلبي الذي كانَ له

أن يكونَ دجلةَ حلمٍ

وفراتَ حرفٍ وحُبٍّ وشوق.

إنّها لم تكنْ

غلطة أنشودةِ المطر

أيّها الشاعرُ الذي سيرى

مِن الهولِ ما يكفي لقتلِ بلادٍ

لا يكفُّ ليلُها عن الهَلْوَسَة

ولا فجرُها عن التمتمة.

هاملت منتحراً

شعر : أديب كمال الدين

 

 

حينَ عرفَ هاملت

أنَّ الناسَ في كلِّ مكان

ملّوا حدّ اللعنة

من حيرته السوداء

وتردّده الأسْوَد،

قرّرَ أن يختفي من المسرحِ إلى الأبد.

في اليومِ التالي

عرضتْ مسارحُ الأرض،

في مشارقِ الأرضِ ومغاربها،

ما لا يُحصى من مسرحياتِ أميرِ الدنمارك

مثّلها مجانين وأنصافُ مجانين

وأرباعُ مجانين بالطبع.

وكانتْ أكثرها إدهاشاً للجمهور :

هاملت وكلكامش والأفعى.

هاملت في بابل يتعرّى.

هاملت والسندباد البحريّ.

هاملت الفرعونيّ.

هاملت النفطيّ يتكلّمُ السنسكريتيّة.

هاملت يلعبُ الروليت في الخيمةِ الصحراويّة.

هاملت بالقُبّعةِ المكسيكيّةِ والسيجارِ الكوبيّ.

هاملت بعيونِ القطِّ وشواربِ هتلر.

هاملت يفتتحُ متحفاً سرّيّاً في مدغشقر.

هاملت في اليوتيوب

يبكي اللاجئين الغرقى وسطَ البحر.

هاملت يطلبُ العفوَ من الطغاة. 

هاملت يشربُ العرقَ المغشوشَ ليلَ نهار.

هاملت يلقي خطابَ الفيسبوك

بدلاً من خطابِ العرش.

هاملت من دونِ هاء أو تاء.

هاملت برأسين وعينٍ واحدة.

هاملت المُتحوّلُ جنسيّاً.

هاملت مُنتَحِلاً.

هاملت مُنتَحِراً.

خالد جابر يوسف

 

 

كانَ دورُكَ جُنونيّاً:

أن تعلّقَ قلبَكَ على حبلِ الغسيل

في أوّلِ النهار

وترجعه

إلى صدرِكَ عندَ الغروب.

في آخرِ مَرّة،

قيلَ لي إنّكَ قد ذهبتَ إلى حبلِ الغسيل

فلم تجدْ حبلَ الغسيل!

هل سرقهُ الجيران؟

بل قيلَ لي إنّكَ

لم تجدْ قلبَكَ فوقَ الحبل.

فهل سرقهُ ملكُ الموت؟

ليسَ مُهمّاً أن أعرف الإجابة،

يا صديقي الذي سبقني إلى واوِ الوداع،

فأنا خبيرٌ بأدوار الجنون

حدّ الجنون.

*************

خالد جابر يوسف: شاعر عراقي غيّبه الموت فجأة إثر نوبة قلبيّة. من أهم أعماله (بحثاً عن المهبَ).

 

 

حينَ قُتِلَ الملكُ الشاب

حينَ قُتِلَ الملكُ الشاب

هجمَ الناسُ على بيته

ونهبوا سيّارتَه وملابسَه وحصانَه،

ونهبوا صورتَه الشخصيّة.

يا ليتهم ما فعلوا ذلك

إذ جاءَ من بعده طاغيةٌ

هجمَ على بيوتِهم بيتاً بيتاً

ونهبَ أعمارهم عمراً عمراً.

 

 

شوبان والبحر

 

 

عزيزي شوبان

سآخُذُ معي رقصاتِ أصابعكَ على البيانو

وأذهبُ الى البحر

وسأشربُها معَ رقصات الموج.

علَّ هذا النبيذ العجيب يشفي جراحَ القصيدة.

*

رقصاتُ أصابعكَ على البيانو

تُضِيءُ شمعةَ الروح

بشلّالِ وردٍ وعطرِ سلام.

ربّما ترسمُ الأمل؟

نعم،

ترسمُ الأملَ غيمةً من مطر

وسطَ صحراءِ هذا الزمان.

*

لغتُكَ ترقص؟

نعم،  ترقصُ، ترقصُ، ترقصُ.

إنّها رقصة الحرفِ إذا طارَ شوقاً

إلى حلمٍ فرَّ بعيداً بعيداً

خارجَ كلّ معنى ووصف وصورة.

*

ها أنذا أنامُ على شاطئ البحرِ وحيداً

 إلّا مِن فيضِ روحِكَ.

أصابعُكَ على البيانو ترقصُ قربَ أذنيّ

فتشربُها لوعةُ قلبي على مهلٍ

رشفةً رشفةً

حتّى يحين وقتُ شروقِ القصيدة

ووقتُ اكتمالِ الزمان.

 

 

البحر والحرف

 

 

استعضتُ عن البحرِ بالحرف.

فرسمتُ البحرَ بحجمِ حرفٍ واحد

وسرِّ نقطةٍ واحدة.

*

لم يتفقْ معي سوى القلّة:

أولئك الذين يعرفون أنَّ البحر

بدأَ بنقطةٍ واحدة.

أمّا الأغلبيّة فوصفتني بالجنون

وبعضُهم رماني ساخراً ضاحكاً بالحجارة.

*

كنتُ أجمعُ بصبرٍ أيّوبيّ هذه الأحجار

وأرصفُ بها شاطئ البحر.

كانَ المنظرُ خَلّاباً للقلوبِ وللعيون

رغمَ أنَّ هذه الأحجار

هي أحجار حقدٍ دفين.

 

 

زها حديد

شعر: أديب كمال الدين

 

 

بعينين أوسع من عيني زرقاء اليمامة

وأجمل من عيني زرقاء اليمامة،

ستكتبين شِعْراً عجيباً

على هَيئِة عماراتٍ وناطحاتِ سحاب

وتهبينه، في كرمٍ حاتميّ، مدنَ العالم.

وسيبتهجُ العالمُ كلّه

ويرقصُ أمامَكِ مثل طفلٍ صغير.

يرقصُ لابنةِ دجلة الحالمة

تلكَ التي كانتْ عماراتُها المُذهلة

وزقّوراتُها الهائلة

صورةً ناطقةً من حكاياتِ شهرزاد،

صورةً راقصةً من حكاياتِ ألف ليلةٍ وليلة.

*

لنْ أقولَ وداعاً لجوهرةِ دجلة،

أعني ملكة دجلة

تلكَ التي لم يُرَ مثلها في النساء.

لكنّي سأعتذرُ لكِ مَرّةً،

بل ألف مَرّة،

لأنَّ دجلة لم تغسلكِ بمائها السِّحْريّ

وأنتِ تموتين - وا حسرتاه - بعيداً بعيداً،

ولأنَّ الفراتَ - وا أسفاه- لم يقبّل الأرضَ بين يديكِ

وأنتِ تقولين للأرضِ وداعاً

بعدَ أن تركتِ عليها ألفَ بابٍ مُضيء

بالسِّحْرِ والمُستحيل.

 

 

أنجلينا جولي

شعر: أديب كمال الدين

 

 

حينَ أرادَ مَلَكُ الموتِ أن ينتزعَ روحَكِ المُعجزة،

ارتبك

وهو الذي لم يعرف الارتباكَ مِن قبل

بأيّ شكلٍ وبأيّ لونٍ وبأيّ صورة.

فقد مدَّ يدَه إليك

فمنعته دمعةُ الشيخِ الأفغانيّ الذي أعطيته

ذاتَ يومٍ جُرعةً من دواء،

ثُمَّ منعته صرخةُ الجائعِ الأفريقيّ الذي حملتِ إليه

رغيفَ خبزٍ وجرعةَ ماء،

ثُمَّ منعته لوعةُ الطفلِ السوريّ الذي صرتِ لهُ أمّاً

وقلبَ أمّ

ثُمَّ ثُمَّ ثُمَّ ...

فارتبكَ مَلَكُ الموتِ حَدّ الذهول

فهو لم يدرِ أنّكِ قدّيسة

أنبتها اللهُ في غابةٍ من وحوش،

قدّيسة تنثرُ ملايينها للفقراء

ومحبّتها للمُعذَّبين والمحرومين

وهي ترتدي أجنحةً من دموع.

 

 

 

آلن ديلون

 

 

أمِن العدلِ يا صديقي آلن

أن تُعِيرني عينيكَ في مشهدِ شَنْقٍ مُخيف،

عينين عجيبتين،

غامضتين،

مُذهلتين،

ذاهلتين،

وأنتَ تمشي بقدمين مَرعوبتين إلى المقصلة؟

أمن العدلِ أن تفعلَ بي هذا في مشهدٍ سينمائيّ

- وأنا المُمثّل المُطارَد المنفيّ-

لينتهي المشهدُ سريعاً

بعدَ أربع دقائق أو أقلّ

وينتهي الأمرُ بأن يمنحكَ المُخرج

حقيبةً ملأى بالذهب

مع حشد من الشقراواتِ يلتهمن

كلَّ قطعةٍ منك

ويأكلن شفتيكَ أكْلَ العسل؟

وأنا ينتهي الأمرُ بي

بأنْ أمُثّل المشهدَ كلّ يومٍ

لسبعين عاماً

فأمشي بقدمين مَرعوبتين إلى المقصلة

وبعينين عجيبتين،

غامضتين،

مُذهلتين،

ذاهلتين

ثُمَّ يمنحني المخرجُ حقيبةً صدئةً ملأى بالتراب

مع حشد من القرود

يتقافزون مِن حولي ويتضاحكون؟

أمِن العدلِ هذا يا صديقي آلن؟

أمِن العدلِ هذا يا صديقي الجميل؟

 

 

 

محمّد القبّانجي

 

كانَ صوتُكَ العجيبُ يُزهِرُ بغداد:

بغداد الملوكِ والطمأنينةِ والسلام

قبلَ أنْ يفترسها العسكرُ وتدهسها دبّابةُ الموت.

كانَ صوتُكَ يمتدُّ قوسَ قزحٍ ليعلنَ للناس

أنَّ بغداد مملكة الشِّعرِ والسرِّ وانبثاقِ الحروف،

أنَّ بغداد صانعة الحُبِّ والسّحرِ والجمالِ العجيب.

الآن لا أحد يذكرُكَ  بخيرٍ أو بشرّ

أنتَ الذي كانَ صوتُكَ

ما بين دجلة الحلم ودجلة الروح

طائراً من سماء لا حدَّ لأحلامِها أو لأسرارِها،

بل الآن كلّما أذكر اسمَكَ يضحك صاحبي

ويقول لي هازئاً:

مَن هو القبّناجيّ؟

ثُمَّ ما معنى المَقام؟

ولماذا  يئنُّ المُغنّي كلّ هذا الأنين؟

 

قِرَدة

 

 

ضاعت المدنُ في جحيمِ الرايات

وصارت القِرَدةُ تخطبُ على المنابرِ والمسارحِ والملاعب،

قِرَدةٌ من كلِّ الأنواع:

قِرَدةٌ عُراة،

قِرَدةٌ خرجتْ من بطونِ التاريخ،

قِرَدةٌ بشعرٍ أصفر

أو بلحى بِيض

أو بسراويل حُمْر،

قِرَدةٌ

ترطنُ بكلِّ الأكاذيبِ التي حينَ يسمعها الشيطانُ يضحك

لأنّه لا يعرفُ منها إلّا حرفاً أو حرفين.

 

 

 

صانعُ الكراسيّ الذهبيّة

 

 

صانعُ الكراسيّ الذهبيّة

للملوكِ والطغاةِ والأباطرة

لا يملكُ في بيته أيَّ كرسيّ كان،

حتّى من الهواء.

وحينَ سألتُه عن السببِ، قال:

أكرهُ الكراسيّ ومَن يجلسُ عليها

وأكرهُ أكثر

أولئك الذين يمتدحون بريقَها المُخيف.

محمد علي كلاي

 

في صِقِلِّية

رأيتُ كفَّ الفارسِ الذي طردَ القادمين عبرَ البحر

بحجمِ أكذوبةٍ ماثلة،

مثلما كانتْ كفُّ طاغيةِ العراق

أكذوبةً هائلة

صاغها الفنُّ الأجير

ذاتَ ليلٍ طويل.

كلتا الكفّين آتتْ من البهتانِ بحراً وبحراً.

لكنَّ كفّكَ كانتْ أسطورة،

أسطورة أصابعها القوّة والرقص.

وحروفها رسالة حُبٍّ ضدَ أزيز الكراهية

ودموعِ التماسيح.

قلبُكَ كانَ مستودعاً لطيورِ السلام

لا لطبولِ الحرب،

ورأسكَ شمساً للذي يقولُ للشيء كنْ فيكون.

هكذا اكتملتْ لغةُ السّحْرِ عندكَ بيضاءَ بيضاء

فكانَ عجيباً موتُكَ بكفٍّ تهتزُّ مثل سعفةٍ في الريح!

 

 

 

عبيد

 

حتّى بعدَ أنْ شُنِقَ الطاغية

ظلّتْ أناشيدُهُ وأكاذيبُهُ وترّهاتُه

محلَّ تبجيلٍ من قبلِ العبيدِ

وأشباهِ العبيد.

 

في المطعمِ الفخم

 

 

 

في المطعمِ الفخم

جلسَ إلى مائدةٍ واحدة

كلبٌ وذئبٌ وقرد

فملأوا المطعمَ نباحاً وعواءً وصُراخاً

لكنَّ صاحب المطعمِ لم يفعلْ شيئاً أبداً

رغمَ احتجاج الناسِ، كلّ الناس.

لأنَّ قائمة مَن نبحَ وعوى وصرخ

كانتْ مدفوعة مُقدّماً مع البَقْشيش.

 

 

 

صوت مُبصِر

 

  

الطفلُ الأعمى

يغنّي في الشارعِ بصوتٍ مُبصِر.

كانَ الناسُ مُندهشين، مَذهولين

بالصوتِ العذبِ الآتي من أعماقِ الطفل.

أمّا أنا فقد كنتُ أغنّي مع الطفل

بقلبٍ أعمى

وأذنين مُبصِرتين.

 

 

 

فيسبوك

 

1.

فجأةً ماتَ زيد

فارتبكَ أصدقاءُ زيد.

وفي المقبرة،

بعدَ أن وُضِعَت الجثّةُ في الحفرةِ الأخيرة،

قالَ أوّلهم: سأكتبُ عنكَ روايةً خطيرة.

وفي الليلِ صمّمَ على الانتحار

لكنّه لم يكنْ شجاعاً بما يكفي لينتحر.

وكادت الدموعُ أن تهبطَ مِن عينيّ الثاني،

وقال: سأكتبُ عنكَ كتاباً كبيراً.

وفي الليلِ قرّرَ الصلاة

لكنّه تذكّر

أنّه لم يعدْ يتذكّر سورةَ الفاتحة

فنسي أمرَ الصلاة.

ونظرَ الثالثُ نظرةً لا معنى لها.

وفي الليلِ أصابهُ الأرق

فلم ينمْ إلّا قليلا.

2.

بعدَ سنين كثيرة

اجتمعَ أصدقاءُ زيد في الحانةِ القريبةِ من المقبرة،

وقرّروا أن يزوروا قبرَه المُغطّى بالثلجِ والعُشب

والتقطوا صوراً كثيرة.

3.

التقطَ الأوّلُ صورةً للأصدقاء

يرفعون نخبَ الصديقِ الراحل.

والتقطَ الثاني صورةً للقبر،

والقبر فيها دونَ شاهدةٍ أو علامة.

والتقطَ الثالثُ صورةً لامرأةٍ مُثيرة

مرّتْ صدفةً  قربَ بابِ المقبرة.

4.

بالطبعِ،

لم يفِ أصدقاءُ زيد بوعودهم.

فلم يكتب الأوّلُ روايتَه الخطيرة

ولا الثاني كتابَه الكبير.

ولم يفعل الثالثُ شيئاً مُهمّاً

سوى أنّه نشرَ في الفيسبوك

صورةَ المرأةِ المُثيرة!

 

 

 

 

ملك المنفى

 

 

اليوم التقيتُ، صدفةً، بملكِ المنفى.

كانَ رثّاً، بائساً، مفلساً

لكنّه لا يكفُّ عن إطلاقِ النكاتِ والترّهات

لأتباعه الذين يطلقون القهقهاتِ الكاذبة.

 

 

 

الملكة المجنونة

 

 

الملكةُ المجنونة

هجتني وتوعّدتني دونَما سبب

فخفتُ على أحلامي وحروفي من أظافرها الطوال.

وحينَ كرّرتْ وعيدَها كثيراً

ودون سببٍ أيضاً،

ضحكتُ كثيراً،

ضحكتُ،

حتّى خفتُ على نَفْسي

أن أموت من كثرةِ الضحك.

 

 

 

وصيّة الحلّاج

 

 

 

في الليلةِ التي صُلِبَ فيها الحلّاج

طلبَ منّي أن أكتبَ مرثيّةً عن حمامةِ نوح،

حمامة نوح دونَ سواها،

وأن أقرأها على رماده حينما يُنثَرُ في دجلة

عندَ بزوغ الفجر .

لكنْ حينَ قرأتُ المرثيّةَ عندَ بزوغ الفجر

جاءتْ حمامةٌ مذهلةُ الجمال

بجناحين من نور

ودارتْ حولَ خشبةِ الحلّاج

سبع دورات

فارتبكَ الجلّادون

وبكى الناسُ بكاءً مرّاً

حتّى غربتْ شمسُ الله.

 

 

المطربة العارية

  

نزلتْ من المسرحِ العجيب

بعدَ أن غنّتْ أغنيتَها الهائلة.

صَفّقَ الحاضرون بحماسٍ عجيب

لجسدِها الشيطانيّ العاري تماماً،

جسدها الذي تفوّقَ،

وا أسفاه،

على صوتِها الملائكيّ الذي حَفّتْ به

آلافُ الكواكبِ والنجوم.

 

 

المُمثّل الكبير

 

 

لا أعرفُ لماذا فقأَ المُمثّلُ الكبيرُ عينيه،

في تلك الليلة العجيبة،

وهو يملأُ المسرحَ بالصراخِ والعَويل،

ولماذا أحاطَ المُمثّلون

بي وبالمشاهدين

مِن كلِّ جهةٍ وهم يُغمغمون.

ربّما كانوا يهذون خلفَ لحاهم الطويلة

أو يُهَلْوِسون؟

لا أعرف

فقد كنتُ طفلاً صغيراً.

لا أعرف

بل لا أعرفُ متى كانتْ تلك الليلة العجيبة.

قبلَ عام؟

قبلَ مائة عامٍ أم ألف عام؟

لكنَّني أعرفُ أنَّني لم أنمْ ليلتها

وأنَّني لن أنام

إلى يومِ يُبعَثون!

 

 

قصيدة عن الحديقة

 

  

قامَ أبي من شلله النصفيّ

ليسقي الوردَ في الحديقة.

تساقطتْ قطعٌ من الذهبِ والحلوى

وزقزقتْ فوقَ رأسي سبعةُ طيور

بألوان بهيجةٍ جدّاً

وموسيقى بهيجةٍ جدّاً.

فرقصتُ قليلاً

وبدأتُ أجمعُ قطعَ الحلوى

فوجدتُها، وا حسرتاه، فاسدة،

وقطعَ الذهب

فوجدتُها، وا خيبتاه، مُزيَّفَة.

ونظرتُ إلى أبي فوجدتُه

جُثّةً هامدةً على الأرض.

وكأيّ طفلٍ باغتهُ مشهدُ الموت

بدأتُ أبكي عندَ جُثّته.

بكيتُ طويلاً طويلاً

حتّى تحوّلتُ بعدَ سبعة طيور،

أي بعدَ سبعة دهور،

إلى شيخٍ كبير

يسقي الوردَ في الحديقة،

الحديقة التي لم يكنْ لها وجودٌ أبداً.

 

 

 

حفلة الأقنعة

 

 

حينَ دخلتُ الحفلةَ في آخر لحظة،

وجدتُ القومَ يلبسونَ مُبتهجين

أقنعةً للقِرَدَة

وأقنعةً للفِيلَة

وأقنعةً للكلابِ وأخرى للفئران.

سألتُ عن سرِّ الحفلةِ أو مَغزاها،

فضحكَ القردُ،

أعني مَن يضعُ قناعَ القردِ على وجهه،

وقال: الفلوسُ يا مَنحوس!

وسخرَ الكلبُ وقالَ بصوتٍ مبحوح:

النسوان.

وغمزَ لامرأةٍ عاريةٍ مَرّتْ

وهي تضعُ قناعَ غزال.

وسألتُ الثعلب

فتبسّمَ وظلَّ يلتهمُ اللحمَ المشويّ

بشهيّةِ ثعلب.

حتّى قادتني قدماي إلى أسدِ الحفلة

فصاحَ بوجهي مُبتهجاً:

مُبارك لكَ جائزة الحفلة!

انتبهت الأقنعةُ جميعاً

وأجابتْ بالتصفيق،

بعاصفةٍ مِن تصفيقٍ وصُراخٍ وصَفِير.

قلتُ له:

أنا لم أضعْ قناعاً.

هذا هو وجهي!

ضحكَ وقال:

كيف؟

ممنوعٌ أن تدخلَ للحفلةِ من دونِ قناع!

قلتُ بصوتٍ مُرتبكٍ:

هذا هو وجهي من دونِ قناع.

فضحكَ ثانيةً

وصاحَ بصوتٍ عال:

مُبارك لكَ جائزة الحفلة.

فأنا منذ دهورٍ ودهور

لم أرَ وجهَ الإنسان!

 

 

صديقي صاحب الكأس

 

 

التقيتُكَ

في اللحظةِ التي تعرّتْ فيها العاصفةُ تماماً.

وكانَ لقاءً مُخيفاً حذفته العاصفة

دون سببٍ أو مناسبة،

دون ذكرى.

*

عادةً تتركُ العاصفةُ ذكرى حينَ تمرّ

لكنّها معكَ ومعي

لم تتركْ سوى موتكَ الواضح

وقصيدتي الغامضة.

*

الحذفُ مطلوبٌ أولاً وأخيراً.

أنتَ اخترتَ من العاصفة

كأسَ خمرتها المُرّة

وأنا اخترتُ من العاصفة

كأسَ قصيدتها المُرّة.

هكذا حذفتْ كأسُ العاصفةِ حياتَكَ

سريعاً

لكنّ كأس القصيدةِ تحذفُ شاعرَها

ببطء شديد:

كلمةً كلمة،

حرفاً فحرفاً،

نقطةً نقطة.

*

وداعاً

سألتقيكَ في الضفَّةِ الثانية

حينما يتمّ حذف قصيدتي كلّها

يا صديقي.

 

 

 

مراراً وتكراراً

 

يقول إليوت:

هل أورقت الجثّةُ التي زرعناها في الحديقة؟

أخافُ أن يكونَ الكلبُ قد أكلها

بعدَ أن ذابَ الثلج!

هو يقولُ كلاماً مخيفاً كهذا

فأرتبكُ

لأنني الوحيد الذي يعرفُ أنَّ الكلب

حاولَ أن يخرجَ الجثّةَ من الأرض

مراراً وتكراراً.

و لأنني الوحيد الذي يخفي

إجابتَه في قصائده،

قصائده التي يدفنُها في الأرض

مراراً وتكراراً.

 

 

كتاب الموتى

  

 

البارحة

كنتُ أقرأ في كتابِ الموتى:

الكتاب الصغير، الأسْوَد، السّحريّ.

فعجبتُ

حينَ رأيتُ أنّ أسماءَ الموتى التي تنتهي

بحرفِ الشين

قد سقطتْ نقاطُها وأسنانُها،

وأنّ أسماءَ الموتى التي تنتهي باللام

قد توقّفتْ منذُ زمنٍ طويلٍ عن الطيران.

 

 

 

دعاء

 

 

حينَ سقطتْ عليَّ سهامُ حرفِكَ الأسْوَد

ارتفعتْ كفّاي شيئاً فشيئاً

ضارعتين باكيتين

حتّى لامستا السماء.

فصرتَ بقدرةِ الكافِ والنون

تشربُ من كأسِ المنون

قطرةً كلّ يوم

وتلعقُ ملعقةَ سمٍّ صغيرةً كلّ يوم.

وحينَ يكتملُ موتُكَ الأسْوَد،

بعد عامٍ أو مائة عام،

حينها،

وحينها فقط،

ستعودُ  كفّاي إليَّ من السماء.

 

 

تناص أم تلاص؟

 

 

حينما قرّرت النقطةُ سرقةَ الحرف

أكلتْ قلبَه أولاً.

*

ببلاهةٍ شديدة

كانت النقطةُ تسرقُ قصائدَ الحرف.

وكلّما سرقتْ قصيدةً

نزعتْ ثوباً مِن ثيابها.

في اليومِ السابع

كانتْ ترتدي العُري المخيفَ تماماً.

*

في سوقِ الشعر

كانت القصائدُ المَسروقة

تثيرُ سخريةَ القرّاءِ وضحكاتهم.

لكنْ لم يشأ أحدٌ أن يخبرَ النقطةَ بسرقاتِها.

حتّى الهدهد تركَ عشّه

وحلّقَ بعيداً.

*

ما معنى أن تسرقي قصائدي في وَضَحِ النهار؟

لم يكنْ هذا سؤال هاملت إلى أوفيليا

بل كانَ سؤالُ الحرفِ إلى النقطة.

*

في سماءِ الحلمِ السابعة

جلسَ الحرفُ سنوات طويلة

مُنتظراً،

دونَ جدوى،

 

 

 

 

إلى الأعلى

 

كانَ دوري أْن تُرمى عليَّ السكاكين في المأساة،

أعني في المسرحيةِ المأساة.

ولم يكن مَن يرمي عليَّ السكاكينَ مُهرّجاً أو ساحراً

بل كانَ قردَ سيركٍ يرتدي قناعَ الساحرِ المُهرّج.

في العرضِ الذي استمرَّ حدّ الملل

رماني القردُ المُهرّجُ بالسكّينِ وأصابني

ففرحَ لمنظرِ الدمِ يتدفّقُ من جسدي،

وانسلَّ راقصاً من البوّابةِ الخلفيّة

لكنّني رفعتُ كفيّ

إلى

الأعلى،

إلى

الأعلى،

إلى

الأعلى.

 

 

 

شارع الذاكرة

 

 

يحاصرني ذلك الشارعُ الذي يمتدُّ من أسفل القلب

إلى وسطِ الخاصرة،

ومن نقطةِ الحرفِ إلى وجعِ القصيدة

ثُمَّ يتشظّى طيوراً لا أعشاشَ لها

وأشجاراً دونما اسم

وجسوراً عذبةَ الوهم.

شارعٌ يجمعُ الذاكرة

ثُمَّ يُشتّتُها سريعاً بهدوء مُريب،

يجمعُ الدمَ والطلقاتِ السريعة والصرخات.

*

هل ينبغي أن أذكرَ تفاصيله لأنجو بنفسي؟

لا أظنّ.

ولذا لن أتحدثَ عن جوامعه أو باراته

أو مطاعمه أو فنادقه.

سأقولُ فقط :

إنّه شارعٌ يمتدُّ مثل أفعى

لكنّها أفعى لا تليقُ بكلكامش

ولا يليقُ بها.

إنّهُ شارع القهقهات.

 

 

 

لكلّ حرف ...

 

قيلَ لي: إنَّ لكلِّ حرفٍ أغنيته المُفضّلة

وطائره المُفضّل

ورائحة ألمه المُفضّلة.

الذي قالَ هذا

شاعرٌ تحوّلَ إلى جُمجمةٍ

منذُ زمنٍ طويل،

وتركَ لي قصيدتَه مَرميّةً في الشارع.

ما اسمُ هذا الشاعر؟

لا أعرف.

إذ وجدتُ قصيدتَه مَرميّةً دونما اسم

تحملُها ريحٌ لا تكفُّ عن الهذيان.

إذنْ، لا خيارَ لي سوى أن أبحثَ

عن جُمجمةِ هذا الشاعر

عَلّها تشيرُ  إلى أغنيتِها المُفضّلة

أو إلى طائرِها المُفضّل

أو إلى رائحةِ ألمِها المُفضّلة.

 

 

 

أصابع

 

 

في الحلم

رأيتُ صديقي الذي مات

ناسياً أصابعه الخمسةَ على المائدة،

رأيتهُ يشربُ بهدوء القهوة المُرّة

جالساً في القطارِ الطويل.

فعجبتُ:

كيفَ لصاحبي أن يشربَ القهوةَ المُرّة

من دونِ أصابع؟

في الصباح

نظرتُ إلى المائدة

فوجدتُ أصابعَ صديقي على المائدة.

لَمَستُها واحداً واحدا:

كانَ الإصبعُ الأوّلُ يهذي

والثاني يهذي ويغنّي

والثالثُ يهذي ويغنّي ويدمدم

والرابعُ يهذي ويغنّي ويدمدمُ ويبكي

والخامسُ يهذي ويغنّي ويدمدمُ ويبكي ويُصلّي.

 

 

 

ملك الحروف غير السعيد

 

 

اجتمعَ ملوكُ الأرضِ السعداءُ في احتفالٍ عظيم.

جاءوا من الشرقِ والغرب،

من الشمالِ والجنوب،

مُتوّجين بتيجانِ الذهبِ والفضّة،

أو بتيجانِ الفواكهِ والريش.

أو بتيجانِ الجماجم والعِظام .

كانوا بِيضاً وسُوْداً،

حُمْراً وصُفْراً،

شيباً وشبّاناً.

وبعدَ أن ألقوا خطاباتهم السقيمة

صعدتُ المنصّةَ لألقي خطابي،

أعني قصيدتي الحروفيّة التي تحتجُّ على الرؤوس

إذ تتدحرجُ عبثاً في الحروب،

وعلى الحروبِ التي أجّجتْ براكينَ الحقدِ والدم،

وعلى الدمِ الذي يفيضُ في شوارعِ الفقراءِ والمُعْدَمِين،

لكنَّ ملوكَ الأرضِ السعداء

منعوني من إلقاءِ خطابي

أعني قصيدتي الحروفيّة

لأنّي لستُ ملكاً مثلهم كما يَزعُمُون

ولستُ سعيداً كما يَدّعون.

 

 

الحفلة الكبرى

 

 

في الحفلةِ التي شربَ فيها الجميع

كلَّ أنواعِ الخمور

خرجتُ ثملاً تماماً

رغمَ أنّني لم أشربْ أيَّ شيء

بل إنّني لم أحضر الحفلةَ على الإطلاق.

 

 

 

صاحب الشاهر

 

بعينين حالمتين

رأيتُكَ طفلاً وديعاً يرسمُ الحروف

أو ملاكاً يتعلّمُ فنَّ الكتابة.

وإذا اغتالت الحربُ

بالسيفِ والرمحِ والقنبلة

شبابَكَ الغضّ،

صرتُ أراكَ بعينين دامعتين

طفلاً اختطفه اللصوصُ في زحمةِ السوق

أو ملاكاً كسرتْ جناحَه الأبيضَ شظيّةٌ عابثة.

الآن،

بعدَ أربعين عاماً من الموتِ والجَلْجَلَة،

أراكَ بعينين ساخرتين من عبثِ الزمان

طفلاً نسي اسمَه وعنوانَ بيته

مَذهولاً بالملاكِ الذي يتوكّأُ ليلَ نهار

على جناحه المكسور.

********************

صاحب الشاهر (1953-1982)، لمن لا يعرفه، شاعر عراقي متميز في حضورة الإنساني وموهبته الشعرية. غيّبه الموت أثناء الحرب العراقية الإيرانية وهو  في ريعان شبابه.

 

سلسلة

 

القصّةُ البليدةُ تتكرّرُ كلّ يوم.

القطارُ يخرجُ من سِكّتِه.
المرأةُ تقولُ: “أحبّكَ
وهي تضعُ الكثيرَ من الأصباغِ المُزيّفة
على وجهها الذي أتعبهُ الزمن.
النافذةُ تنفتحُ بقوّة
لتربكَ الصورةَ العاريةَ في الهواء.
التلفونُ يرّنُ ويرّنُ ويرّن.
المطرُ يهطلُ بغزارة
لتشرقَ الشمسُ، بعدئذٍ، بصخبٍ أصفر.
الشبّانُ يصرخون في الشارع
والشابّاتُ يلبسن اللاشيء.
الزمنُ ينهمرُ من نافذةِ العمر
أو من نافذةِ الفندق
والساعاتُ تدفعُ بعضها بعضاً
في ازدحامٍ عجيب.
المدينةُ تلهو
وبرجُها ينهارُ بهدوءٍ شيئاً فشيئاً.
الطائرةُ تطيرُ على ارتفاع
ذراعٍ واحدٍ من الأرض.

والأرضُ تعبثُ كما يحلو لها
وهي تحفرُ ما لا نهاية له من القبور
لأبنائها الأوغادِ والمنفيين والسذّج!

 

 

 

عيون القطط

 

 

 

انتهى الشاعرُ المنفيُّ من قراءةِ قصيدته الحروفيّة

ولم أفهمْ- للأسفِ- ممّا قالَ شيئاً

لكنّني صفّقتُ له بقوّة

حينَ رأيتُ عيونَ الموتِ تلمعُ بقوّة

في المقطعِ الأخيرِ من قصيدته الحروفيّة.

نعم، رأيتُها تلمعُ تلمعُ

مثل عيونِ القططِ في الظلام.

 

التعساء

 

 

في ذلك العام الذي لا عام بعده،

خرجتُ إلى الشارع

في دورِ المُشرّدِ الحقيقيّ

والهاربِ الضائع.

فَتَحتّمَ عليَّ

أنا الصبيّ الباحث عن رغيفِ الخبز

أن أطرقَ البابَ الأربعين

بل أن أكسرَ البابَ الأربعين

لأُفَاجَأ بأنكيدو يصارعني،

وكلكامش يقرأ عليَّ سرَّ أفعاه،

والحلّاج يشير إلى صليبه،

والتوحيديّ يعرض عليَّ بعينين دامعتين

رمادَ كتبه،

وهاملت يهذي عن حبيبته،

والسيّاب يرثي ارتباكه العظيم.

يا لها مِن مفاجأة!

لم أكنْ سوى هاربٍ ضائع،

سوى صبيّ يبحثُ عن رغيفِ خبز

فلماذا تَحتّمَ عليَّ

أن ألتقي بكلِّ هؤلاء التعساء

وأرث كلَّ خيباتهم الكبرى؟

 

أمام تمثال جان دمّو

شعر: أديب كمال الدين

في أخبارِ الأوّل من نيسان

أنّ جمعيّةَ الكحوليين في سدني

أقامتْ تمثالاً لجان دمّو

أمامَ الأوبرا هاوس.

كانتْ جموعُ الأستراليين والصينيين والهنود

تمرُّ من أمامه

وتسألُ عن هذا الشاعر

الذي لا يملكُ في فمه سوى سِنّ واحدة

وابتسامة ساخرة وسعت السماواتِ والأرض،

وبيده قنينة خمرةٍ هائلة.

ولذا اضطررتُ أن أقفَ بجانبِ تمثاله

وأقرأ لهم كلّ يوم

قصيدةً جديدةً له.

رغمَ أنّ جان دمّو العظيم

لم يكتبْ سوى قصيدة واحدة،

قصيدة عنوانها: السُّكْرُ والشَّتْم

ومضمونها: السُّكْرُ والشَّتْمُ والعربدة!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 حرف من شمس

شعر : أديب كمال الدين

 

 قُبْلَة الحياة

يدي على كتفك

 سعادة الوهم

شمعتي

مَن الواقف خلف النافذة؟

ترقصُ عاريةً على شاطئ البحر

اللغز

ربّما

 إهداء

رقصة الدانوب الأزرق

طَرْقٌ متبادل

 الآخر الذي هو أنا

 سِوى

 أتكيت

- ذرّة من تُراب

 مُفسّر الأحلام

- ........

- شكراً أيّها البحر

- أيّ سحر هذا؟

- المحطّة الأخيرة

- اختلاف

 حوار في الوقت الضائع

 خرافة حروفيّة

- جائزة

- حيث تبدأ الحرّيّة

- اسمها الغيمة

- أغنية لا تكفّ عن الرقص

- لستُ مُتيقّنا

قُبْلَة الحياة

 

1.

لنرقص قليلاً.

ربّما ستشربينَ معي كأساً من الحاءِ والباء،

أعني أن تمنحي حُلمي قُبْلَةَ الحياة،

فأنتِ الحياة.

2.

لقد أفسدوا حياتنا بالحروبِ والحصاراتِ والترّهات.

دعينا نحلم أن نرقص

أو نغنّي

أو نسبح

أو حتّى نطير.

أعرفُ أنّ ما قلتُهُ هواء في شَبَك.

لكنْ دعينا نجرّب أن نرقص...

* رقصُنا مُضحكٌ!

أن نغنّي...

* أصواتنا لا تُطاق!

أن نسبح...

* سنغرقُ عندَ الساحل!

أن نطير...

* كيفَ نطيرُ؟ نحن لسنا طيوراً!

3.

لنجرّب معاً أن نروّضَ خساراتنا التي لا تنتهي،

لنجرّب ولو مرّةً واحدة.

أنا لا أريدُ أن أقول إنّهم روّضونا.

فأنا صعبٌ على الترويضِ حدّ الجنون!

يدي فوق كتفكِ

 

هل كنتُ غرّاً غريراً

حين وضعتُ يدي، فجأةً، فوقَ كتفك؟

هل كنتُ على وشكِ أنْ أطيرَ كقُبْلةِ عاشق

أم كنتُ على وشكِ أنْ أعشقَ كطائرٍ

يتعلّم الآن فنَّ القُبْلة؟

مَن أنتِ يا هذه التي تشعُّ بهجةً ولذّة؟

لماذا استسلمتِ، فجأةً، هكذا؟

هل كنتِ على وشكِ أنْ تطيري، مثلي،

إلى مملكةِ القُبْلة؟

أم كنتِ على وشكِ أنْ تكوني جناحيّ

إلى قارّتي الملأى بشفاهِ السّحرِ والنّار؟

سعادة الوهم

 

 

البحرُ سعيدٌ

البحرُ أزرق،

ملآن بالهدوءِ المُذهل

وملآن بالسفنِ الكبيرةِ والصغيرة

الحمرِ والبِيضِ والصفر،

وملآن بالنساءِ العاريات

يسبحن أو يلعبن أو يرقصن .

ثمّة كائن يُشبهني تماماً

يمشي سعيداً وسطَ هذا كلّه

لكنّه لا يستطيع دخولَ السفن

ولا يستطيع أن يلمسَ النساءَ العاريات

ولا يستطيع أن يسبحَ في البحر.

ومعَ ذلك، كانَ يمشي سعيداً

أو خُيّلَ إليه أنّهُ كانَ يمشي سعيداً!

شمعتي

 

 

 

لم أشعلْ شمعتي في مسجدٍ أو كنيسةٍ أو معبد

بل أشعلتُها في قلبي.

فقالَ الذي يقولُ للشيء كنْ فيكون:

شمعتي أنتَ يا عبدي.

 

 

 

مَن الواقف خلف النافذة؟

 

 

لا أعرفُ لماذا كانَ القدرُ

ينظرُ بعينين غامضتين

من خلفِ النافذةِ الملأى بالقضبان:

هل كانتْ لعينيه القدرة

على رسمِ مصيرِ العاشِقَين الساذِجَين؟

هل كانَ يوجههما إلى المزيدِ من القُبَل

 أم  إلى المزيدِ من الرغبة

أم كانَ يهيّئُ لهما سريرَ الموتِ الكبير؟

*

هل كانَ القدرُ معتوهاً أم مجنوناً ؟

ولماذا كانَ يستمتعُ بمشاهدِ القتلِ أكثر من الرغبة؟

ألأنّ القتل هو  أعلى مشاهد الرغبة

أم لأنّ القتل يغري بمزيدٍ من القُبَل؟

*

لماذا كانَ القدرُ يرسمُ للعاشقة

دورَ الأميرةِ الضائعة

والفتاةِ الجائعة

والطفلةِ المحرومة؟

ويرسمُ للعاشقِ دورَ المُراهقِ المهووسِ بالجسد

والطفلِ الذي ضاعَ في الزحام

والشاعرِ الذي لا يعرفُ كيفَ ينهي قصيدته

 دونَ أنْ يقعَ من النافذة؟

*

بماذا كانَ القدرُ  يدمدمُ أو يهذي من خلفِ النافذة؟

ولماذا فشلَ الجميعُ، دونَ استثناء،

في فهمِ لغته وإشاراته المضحكةِ حدّ البكاء

والمُبكيةِ حدّ الضحك؟

*

مَن يقول إنّ القدر

هو الذي كانَ ينظرُ بعينيه الغامضتين

من خلفِ النافذة؟

ربّما هو شبحٌ

أو مُهرّجٌ

 أو مُتطفّلٌ

 أو عابر سبيل.

*

لماذا كانت العاشقةُ تستخدمُ ألفاظاً ساذجة

وهي تصفُ عواطفَها؟

لماذا كانتْ تستخدمُ يدَها، مثلاً، للشوق

وساقَها للرفض؟

وبماذا كانَ العاشقُ يُمنّي نَفْسَه

وهو يقعُ من السريرِ أو النافذة

لتنكسرَ زجاجة روحه أو يتشظّى طائر دمه؟

هل كانَ جسدُه المهووسُ بالقُبَل

يقودهُ ككلبٍ صغير؟

ثُمَّ هل كانَ هناك صوت إطلاقاتٍ ناريّة

ووميض سكاكين؟

*

النافذةُ سقطتْ فانتهى كلُّ شيء بالطبع.

كانَ ذلك حتميّاً

لكنّها لم تسقطْ بالإطلاقاتِ الناريّةِ أو بالسكاكين

كما هو مُتوقّع

بل سقطتْ لكثرةِ القضبانِ التي أغلقتها

فلم يُعدْ مُمكناً مشاهدة أيّ شيء.

*

هل سقطت النافذةُ أم أُغْلِقَتْ؟

هذا هو السؤال الذي عجزَ عن إجابته الجميع

حتّى القدر،

أعني ذلك الذي كانَ يتلصَّصُ بعينيه الغامضتين،

ذلك الشبح أو المُهرّج أو المُتطفّل أو عابر السبيل.

ترقصُ عاريةً على شاطئ البحر

 

 

 

كانتْ ترقصُ عاريةً بعيداً على شاطئ البحر.

كانتْ تحاولُ من خلالِ عُريها الأُسطوريّ

ورقصها الخرافيّ

أن تتماهى مع البحر.

والبحر لا يقولُ لها لا ولا يقولُ نعم.

البحر سرّ

لا يكشفُ نَفْسَه

إلّا للحُروفيّ الذي يخبِّئُ قصائدَه في نقطةِ الروح،

إلّا للمجنونِ الذي يخبِّئُ سكاكينَه وكوابيسَه باحترازٍ شديد،

إلّا للغريقِ الذي يصعدُ جسدُهُ نازلاً إلى الأعماق.

 

اللغز

شعر:  أديب كمال الدين

 

أيمكنني أن أقول:

إنّني حينَ جلستُ تحتَ ظلِّ الشجرة

من الشروقِ إلى الغروب،

كنتُ أكتبُ حرفاً

يقبّلُ امرأةً فاتنة

أو يحلّقُ عالياً كأيّ نسرٍ عظيم

أو يلعبُ بليراتِ الذهبِ في صندوقٍ عتيق

أو يسجدُ مُبتهلاً بعينين مليئتين بالدموع

أو يصرخُ طالباً النجدةَ من رمحٍ أسْوَد بطيء؟

أيمكنني أن أقول:

إنّني كنتُ أمارسُ فعلَ الكتابةِ نائماً

فلمّا جاءَ وقتُ اكتمالِ الغروب

انتبهتُ مِن رَقْدَتي

لأجدَ أنّ حرفي قد طار

وطارتْ معه المرأةُ والنسرُ وليراتُ الذهب

والدموعُ والرمحُ الأسْوَدُ البطيء

حتّى أنّه لم يعدْ لي أيّ سببٍ

لأجلسَ تحتَ ظلِّ الشجرةِ من جديد؟

 

ربّما

 

 

في الليلةِ التي وجدتُكِ فيها

تبيعينَ للسَحَرَة

حرفي بدراهم معدودة،

هل قامَ الموتى من القبور؟

- ربّما.

هل طعنَ بعضُهم بعضاً بالسكاكين؟

- ربّما.

*

وحينَ نمتُ مُجهَداً كجبلٍ مُنهار

وأفقتُ فلم أجدكِ بجنبي أبداً،

هل تساقطتْ أذرعُ الساعاتِ على رأسي؟

- ربّما.

هل فاضَ الفراتُ حتّى غرقتُ

وطافَ جسدي؟

- ربّما.

*

وأخيراً: هل أنا حيٌّ حتّى الآن؟

- نعم، أعني.................... ربّما!

إهداء

 

 

أهديتُها قبلَ عشرين عاماً

كتابي عن العشقِ، كتابي عن النون.

فقرأتْهُ بقلبٍ لا يعرفُ النسيان

وعينين مُشرقتين بشينِ الشوقِ وحاءِ الحرمان،

تلك امرأةٌ أو ورقةٌ سقطتْ من شجرةِ السِّرّ

فتقاذفتْها الريحُ والعواصفُ والشموسُ والبلدان

حتّى انتهتْ إلى البحرِ الذي لا يرجعُ منه أحد

فأعطتهُ باكيةً كتابي

فقرأهُ بعينين قاسيتين

كأنّهما من حَجَر .

*

كم أردتُ أن أقولَ لها:

كتابي، كتابي.

لكنَّ خجلي الفسيح

أحاطَ بي وأربكَ الصيحة.

*

لم يكنْ خجلي وحده

هو الذي قد أربكَ اللوحة

بل الحرفُ الذي حلّقَ فوقَ صدري طائراً

سبعين عاماً

دونَ أن يعرفَ عشّاً

أو يرى نهايةَ اللعبة.

 

 

رقصة الدانوب الأزرق

 

 

كانَ يتخيّلُ أنّ حبيبتَهُ مَعَهُ

فيمسك يدَها ويضع يدَهُ مُبتهجاً خلفَ ظهرِها،

ويتمايل فتتمايل مَعَهُ،

ويذوب فتذوب مَعَهُ،

مع كمانات الدانوبِ الأزرق

وموسيقى الدانوبِ الأزرق.

بَقِي على هذي الحال يوماً يومَين،

سنةً سنتين،

دهراً دهرين

حتّى ماتتْ حبيبتُهُ من التعب

وجفَّ الدانوبُ الأزرق

وكماناتُ الدانوبِ الأزرق

لكنّه بَقِي يرقصُ يرقصُ يرقصُ أبدا.

طَرْقٌ متبادل

 

ليلَ نهار

كانَ الحرفُ يطرقُ الباب،

بابَ النقطة.

وفي يومٍ منفيّ أعمى

سمعَ الحرفُ النقطةَ تطرقُ الباب

من الجهةِ الأخرى،

وبدلاً من أن يرقصَ أو يبتهج

ولّى مُرتبكاً مَذعوراً كالفأر.

الآخَرُ الذي هو أنا

 

 

لم أكنْ مُحتاجاً إلى ما تقول،

كنتُ مُحتاجاً إلى شفتيكَ.

ولم أكنْ مُحتاجاً إلى شفتيكَ بل إلى لسانِك.

لا لم أكن مُحتاجاً إليه بل إلى روحِك.

لا لا لم أكنْ مُحتاجاً إليها بل إلى حائك،

أعني إلى بائك،

أعني إليك.

وأعرفُ أنّكَ لا تعرفُ نَفْسَكَ مِثْلي

فقدْني إليك.

نعم،

جميلٌ أنْ ألتقي بأعمى مِثْلي،

تائهٍ مِثْلي

يبحث عنّي

ولا يتركني أهذي في الطريق

إلى أن أموت.

سِوى

 

 

رسمَ الزمانُ العجيب

شجرتَكِ فجأةً في سريري.

كانتْ وارفة بحَمَامِها الذي لم أرَ مثله مِن قبل،

ولم أستمعْ لرفرفةِ جناحه الدافئ مِن قبل.

نعم، طارَ الحَمَام،

رفرفَ فوقَ رأسي المُرهق بومضةِ القُبْلَة

والمكتوي بحاءِ الحرمان.

ولأنّي في مُقتبلِ القصيدة

فقد ارتبكتُ لكلِّ هذا الجَمَال المُفاجئ.

ارتبكتُ؟

لا!

بل زُلزِلتُ حَدّ الجنون.

نعم،

إذ لم يكنْ لبوّابةِ دهري مِن حارسٍ

سِوى البومة يتبعُها الغراب.

سِوى،

بعدَ أن طارَ سريري

ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال،

وملأَ وسادتَه برمادِ السنين،

سِوى أن أرى مِن جديد

شيئاً مثل شجرتكِ الوارفة

يمشي مُضيئاً بخطواتِ أسطورةٍ حيّة.

فاستعدتُ معكِ

كومضةِ برقٍ مُقتبلَ القصيدة،

وذهلتُ وأنا أرى حَمَامَكِ وهو يطير

أو يكادُ يطير.

وذهلتُ وأنا

مثل شحّاذٍ يُعْطَى رغيف خبزٍ حار.

وذهلتُ وأنا .......

لكنْ لم يكنْ هناك

بعدَ أن أحاطَ الغرابُ بي من كلِّ جانب،

وأحاطَ بقصيدتي من كلِّ جانب،

سِوى أن أستعين مُرتبِكاً

مثل مجنونٍ لا شفاء له

بسريرِ القصيدة.

أتكيت

 

 

الجلوسُ في الحديقةِ العامّة

يتطلّبُ الكثيرَ من فنِ الأتكيت.

إذ ينبغي أن أشمَّ الوردةَ التي أشرقتْ هذا الصباح،

وأن أرفعَ يدي لأحيّي الطائرَ في عشّهِ العالي،

وأن أردَّ على أسئلةِ العشبِ وثرثرته اللطيفة،

وأن أغضَّ البصرَ عن العُشّاق

وهم يتبادلون القُبَل،

وأن أتماسكَ وأنا أرى التماعةَ الشمسِ الساحرة

على صفحةِ البحيرة.

ذرّة من تُراب

 

 

 

قابَ قوسين من العاصفة،

صرختْ ذرّةٌ من تُراب:

ربّي ارحمني.

فقالَ لها:

كيفَ تقولينَ هذا

وقد وَسِعتْ رحْمَتي كلَّ شيء؟

كنتُ أسمعُ هذا الحوار

وأذوبُ خجلاً

ففي صرخةِ هذه الذرّة

يكمنُ بعْثي وموتي.

مُفسّر الأحلام

 

 

 

مثل حلمٍ مُتهرِّئٍ كانتْ حياتي.

وحينَ حاولتُ أن أرتّقَ ثقوبَه

أو أخفّفَ من غلواءِ رماده المُتوحّش

أو أزرقه الملآن بالشموسِ الغرقى،

لم أستطعْ.

حتّى مُفسّر الأحلام الذي لجأتُ إليه

لم يفهمْ هُدهُدَ سرّي

ولم ينتبهْ إلى بابِ حائي

ولا شبّاكِ بائي

فبقي يدمدمُ في وجهي طويلاً:

أنتَ ستكتبُ عن الوهمِ والحُلْم

كتاباً كبيراً

يحلّقُ عالياً

فيما سيبقى جسدُكَ الموشومُ بالحاءِ والباء

مَرسوماً على الطين

دونما عينين أو جناحين.

شكراً أيّها البحر

 

فتحَ لي البحرُ، ذاتَ حياة، محفظتَه السِّرّيّة

فرأيتُ السُّفنَ الغرقى،

والسُّفنَ الهلكى،

والسُّفنَ التي أكلَ الدهرُ عليها وشرب،

والسُّفنَ التي لم يزلْ يتقاذفها الموج

وهي تحملُ عظامَ اللاجئين ودموعهم وصرخاتهم.

*

لم أكنْ سعيداً أبداً

برؤيةِ هذه المحفظة السِّرّيّة

فقد أبكتني طويلاً حتّى ورمتْ عيناي.

*

كفكفتُ دموعي وهمستُ لقلبي:

أنا لا أحبُّ أسرارَ البحر

وسُفنَه الغرقى والهلكى

والملآنةَ بعظامِ الموتى.

أنا أحبُّ مباهجَ البحرِ على الساحل.

*

لكنّني اكتشفتُ أو كُشِفَ لي ذاتَ نهار

أنّ مباهج البحرِ على الساحل

هي محض هراء:

النساء وأشكالهنّ العجيبة،

النساء ورقصاتهنّ الغريبة،

النساء وأكاذيبهنّ التي لا تنتهي عندَ ساحل.

*

هكذا سقطت المباهجُ والأسرار

في ضربةِ حظٍّ واحدة.

هكذا أصبحَ البحرُ جميلاً

من دونِ أسرارٍ وسُفنٍ غرقى،

من دونِ نساء ورقصاتٍ وأكاذيب.

*

نعم

أصبحَ البحرُ وحيداً

أزرقَ كقلبي الوحيد.

*

كفكفتُ دموعَ حروفي وهمستُ لقلبي:

شكراً أيّها البحر

لأنّكَ تشبهني تماماً.

 

أيّ سحر هذا؟

 

 

 

لم أكنْ مُحتاجاً

إلى أن أسمعَ حوارَكِ من الذاكرة،

الذاكرةِ التي مزّقتْها السنين.

إذ كنتُ أضعُ الحوارَ كما أشاء

فيظهرُ كما أشتهي.

قلتُ في الذاكرةِ

لكنني أعني القصيدة.

فأنتِ مثل أيّ قصيدة غامضة

كُتِبتْ بحرفٍ غريب.

لم أكنْ مُحتاجاً

إلى أن أترجمَ ما أقرأه

بل كنتُ أتخيّلُ معناه كما أشاء

فيظهرٌ مُدهشاً وعجيباً كما أريد.

أيّ سحر هذا؟

المحطّة الأخيرة

 

 

 

من محطّةِ قطارٍ إلى أُخرى،

ومن قطارٍ  إلى آخر،

ومن عربةٍ إلى أُخرى،

كنتُ أسحبُكِ من يدكِ

مجنوناً بجمالكِ أو عطرِكِ أو شفتيكِ.

كانتْ أسماؤكِ تتغيّر

في كلِّ محطّةٍ أو قطارٍ أو عربة

لكنّكِ تبقين كما أنتِ

ساحرةً أو ضائعةً أو تائهةً

أو عابثةً أو مجنونة،

وأنا أعبرُ بكِ الأسرّةَ العارية

والأسرّةَ المُظلمة

والأسرّةَ المُضاءةَ بضوء الشموع

والأسرّةَ الطائرةَ فوقَ بحرِ الدموع.

أعبرُ بكِ محطّاتِ الشمسِ المُنهارةِ وفجرها المذهول

ومحطّاتِ الخبزِ المُبلّلِ بالأسى والليلِ والسكاكين.

في آخر مرّة

عبرتُ معكِ شيئاً لم أعرفه من قبل.

لكنّكِ لم تعبري معي

تاركةً أصابعكِ في كفّي،

فأمسكتُ بها كما يمسكُ البخيلُ بليرةِ ذهب،

أمسكتُ بها كدليلٍ أخير

على أنّني عبرتُ المحطّةَ الأخيرة،

المحطّةَ الأخيرة التي لا يُسْمَحُ لأحدٍ بعبورِها أبداً

إلّا لمَن نسي كلَّ شيء حتّى النسيان.

اختلاف

 

حياتي سطران:

سطرٌ عن البحر

وسطرٌ عن الدهر.

حينَ اختلفا أغرقَنَي البحر

وابتلعَ الدهرُ حياتي.

 *

حياتي سطران:

سطرٌ عن الحُلْم

وسطرٌ عن الحُبّ.

حينَ اختلفا جنّني الحُلْم

وَدَرْوَشَني الحُبّ.

*

حياتي سطران:

سطرٌ عن الحرف

وسطرٌ عن النقطة.

حينَ اختلفا مزّقَ الحرفُ جسدي

وأكلت النقطةُ كبدي.

 

حوار في الوقت الضائع

 

 

سألتني صحفيّةٌ ذات شفتين عذبتين

وعطرٍ لاذع:

صِفْ نفْسَكَ في كلمةٍ واحدة!

قلتُ: طائر.

قالتْ: طائر؟ أين؟

ثُمَّ ضحكت.

قلتُ: ما بين السماء والأرض.

قالتْ: جميل.

ثمَّ أشعلتْ سيكارةً ونفثتْ دخانَها بلطفٍ شديد.

قالتْ: إذن، فأنتَ شاعر؟

قلتُ: نعم، في الوقتِ الضائع.

قالتْ: لم أفهمْ. ما شكلُ الوقتِ الضائع؟

قلتُ: الوقتُ الضائعُ طائرٌ هو الآخر

لكنّه أكبر مني.

جناحاهُ أكبرُ من جناحيّ حَرْفي.

وحينَ يطيرُ أنسى الطيران

فأركضُ خلفَهُ مثلَ طفلٍ ضائع.

خرافة حروفيّة

 

 

 

على وسادةِ طفولتي وجدتُ نقطةً.

حاولتُ أن أمسحها أو أخفيها،

لم أستطعْ.

حينَ استيقظتُ صباحاً

وجدتُ النقطةَ قد أصبحتْ حرفاً.

أظنّهُ كانَ الألف.

حاولتُ أن أستبدله بحرفٍ آخر لسببٍ مجهول،

لم أفلحْ.

فنمتُ في اليومِ التالي من دونِ وسادة

لأجدَ فراشي في الصباح

قد امتلأَ بالحروف

من السرّةِ حتّى العيون.

فقرّرتُ أن أرمي الفراشَ من النافذة

وأنام على الأرض

كأيّ مجنونٍ سعيد!

 

 

جائزة

 

 

 

بعدَ أن انتهى العاشقُ الأبديّ

من ركضةِ نصفِ القرن

قرّرَ أن يمنحَ نَفْسَه جائزةً بهذا الحدثِ العجيب.

نعم،

فلقد ركضَ نصفَ قرنٍ تماماً

حالماً بوهمِ الحاء

وخرافةِ الباء

من الجنوبِ إلى الشمال،

ومن الصحراءِ إلى الجبل،

ومن البحرِ إلى الغيم.

لكنّه احتارَ في اسمِ الجائزة:

هل يُسمّيها جائزةَ العشق

حيث العين دمع

والشين شوك

والقاف قلق؟

أم يُسمّيها جائزةَ الوهم

حيث المعشوقة سَراب

والرغبات لُعاب؟

أم يُسمّيها جائزةَ العبث

حيث باطل الأباطيل باطل؟

 

 

حيث تبدأ الحرّيّة

 

 

 

الحرّيّةُ تبدأُ من البحرِ الصاخبِ حدّ الجنون.

الحرّيّةُ تبدأُ من الجنون.

الحرّيّةُ تبدأُ ولا تنتهي.

*

للحرّيّةِ موسيقى:

نعم، موسيقى العناقِ الحار

والدمعِ الحقيقيّ

والأزرقِ اللانهائيّ.

ولذا سأصرخُ حتّى الموت،

سأصرخُ في كلِّ مكان:

أيّتها الحرّيّة،

أنا طفلكِ اللانهائيّ،

أنا طفلكِ المجنون.

اسمها الغيمة

 

 

 

من شُبّاكِ الطفولةِ رأيتُكِ أيّتها الغيمة

حتّى أبهرتني ألوانُكِ الغامضة

فسمَّيتُكِ العيد.

ولمّا رأيتُ العيدَ لا يأتي أبداً

سمَّيتُكِ الحلم.

ولمّا رأيتُ الحلمَ غامضاً

سمَّيتُكِ الحبّ.

ولمّا رأيتُ الحبَّ طائراً تائهاً

بلا شجرةٍ أو عشّ

سمَّيتُكِ القُبْلَة.

ولمّا اكتشفتُ القُبْلَةَ أغنيةً

سمَّيتُكِ القصيدة.

ولمّا اكتشفتُ القصيدةَ حرفاً

سمَّيتُكِ النقطة.

لكنْ لمّا صرتُ من الموت

قابَ قوسين أو أدنى

نظرتُ من شُبّاكِ الطفولةِ ثانيةً

وضحكتُ، ضحكتُ حدّ البكاء،

وقلتُ: شكراً أيّتها الغيمة.

 

 

 

أغنية لا تكفُّ عن الرقص

 

 

إذا كنتَ في الغابة

وأحاطتْ بكَ الكلابُ والذئاب

من كلِّ جهة

فاحذرْ أن تنبحَ أو تعوي معها

بل انطلق خفيفاً كسهمٍ،

انطلق

كأغنيةٍ لا تكفُّ عن الرقص.

 

 

 

لستُ مُتيقّناً

 

 

في منتصفِ حياتي

كتبتُ قصيدةً ثُمَّ مزّقتُها.

أظنّها عن امرأةٍ علّمتني فنَّ القُبْلَة

أو فنَّ الموت

أو فنَّ الحرف.

لستُ مُتيقّناً

لأنَّ المرأةَ كانتْ

قُبْلَة حرفٍ لا يجيدُ سوى الموت

أو قُبْلَة موتٍ لا يجيدُ سوى الحرف

أو قُبْلَة حرفٍ لا يجيدُ سوى الحرف.

نعم، لستُ مُتيقّناً

فلقد مزّقتُ قصيدتي،

أعني حياتي،

دونَ أن أتيقّنَ - وا أسفاه - مِن أيّ شيءٍ كان.

 

 

 

 

 

 

 

 

حرف من رماد

 

شعر: أديب كمال الدين

  دموع كلكامش

 حياتي حياتي!

 رقصة الدرويش

  ألم 

البحث عن البوصلة

 قصيدة عن الذاكرة

 باب المنفى

عولمة من حجر

دور السكران

 استقبال

- احتجاج

- هل

- ولادة

 - مقارنة كلكامشيّة

- قطعة شمس

- في مقبرة القصائد

 الاحتراف لا يليق بالشعراء

- ارجعْ لي روحَ حرفي

- مراجعة طبّية     

- سينما

- شظايا

- فقط

- بالأبيض والأسود

- بنك الأحلام

- لقطات من فلم رعب طويل

 مَن القائل؟

- نهاية سعيدة

- كنتُ سعيداً حدّ اللعنة

- أين الذئب؟ أعني أين الليل؟

- سفينة

- الحربُ لا تنتهي أبداً

- حرف مُعلَّق

- ذاكرة الريح

- كفّي اليمنى

- الطائر المجنون

- حرف من دون نقطة

- باب النقطة

- في الأخير

- مسرح سحريّ

- ثقوب

دموع كلكامش

 

أنا شاعرٌ محظوظ

لأنّي لا أتوقّفُ عن الكتابةِ أبداً.

والسببُ بسيطٌ جدّاً

فقد مسحتُ بيديّ المُرتبكتين

دموعَ كلكامش المتدفّقةَ ليلَ نهار

وهو يبكي؛

مرّةً على أنكيدو الذي اغتالهُ الموت،

ومرّةً ثانيةً وثالثة

على عُشبةِ الخلودِ التي سرقتها الأفعى

من قلبه ذاتَ حياة.

 

 

 

 

حياتي حياتي!

 

سقطتْ ورقةٌ من الشجرة،

تلكَ كانتْ حياتي.

هبطَ الطائرُ والتقطَ بمنقاره تلكَ الورقة

وعادَ ثانيةً إلى أعلى الشجرة.

كانتْ الشجرةُ عاليةً جدّاً

وملساءَ الساقِ حدّ اللعنة.

الطائرُ لا يفتحُ فمَه لأحيا أو لأموت،

الطائرُ لا يكفُّ عن رَفْرَفهِ جناحيه،

الطائرُ لا يأبهُ لي أبداً

وأنا أبكي أو أضحكُ أو أصرخ : حياتي حياتي!

 

 

رقصة الدرويش

أتعبني الدرويشُ الذي يسكنُ أعماقي

فهو لا يكفُّ عن الرقص

آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار.

*

هو يرقصُ حيث الناس بوجوهٍ كالحةٍ

يبيعون ويشترون أشلاءَ حياتهم.

وهو يرقصُ حينَ يرفعون،

بأيدي الكراهيةِ والحقد،

سكاكينهم ليمارسوا لعبةَ الدم

بشغفٍ جنونيّ

أو حينَ يشتمون بعضهم بعضاً بألسنةِ البغال

أو حينَ يسكرون أو يهذون أو يبكون

أو حينَ يضيعون أو يغرقون.

*

لا القتلة يفهمون رقصَه العجيب

ولا السكارى

ولا الذين يهذون أو يبكون

أو يضيعون أو يغرقون.

*

لا السكاكين تفهمُ رقصَه الغريب

ولا أيدي الكراهية والحقد

ولا ألسنة البغال

ولا كؤوس السكارى

ولا طرقات الضياع

ولا مراكب الغرقى.

*

أشفقُ عليه من سوءِ الفهمِ الذي لا ينتهي

وأشفقُ عليه وهو في رقصته يدورُ ويدورُ ويدور.

وحينَ أتعبُ من شَفَقَتي البائسةِ العاجزة

حدّ أن أنهارَ أو أجنّ

أتعرّى تماماً

وأرقص معه رقصةَ الدرويش.

 

 

ألم

 

 

 

 

الألمُ شاعرُ قصيدتي

أنا حرفهُ العاطلُ عن النقطة.

الألمُ مُطربُ قصيدتي

أنا حرفهُ المُصابُ بالصَمم.

الألمُ طبيبُ قصيدتي

أنا حرفهُ المُصابُ بانفصامِ المعنى.

الألمُ قائدُ قصيدتي

أنا حرفهُ الذي عَوّقتهُ الحرب.

الألمُ مَلِكُ قصيدتي

أنا حرفهُ المَهووسُ بالتمرّدِ والعصيان.

الألمُ ساحرُ قصيدتي

أنا حرفهُ المُحترقُ مع البخور وعظام الموتى.

الألمُ جلّادُ قصيدتي

أنا حرفهُ الذي يسوطُ بهِ ظهري العاري

ليلَ نهار.

 

 

البحث عن بوصلة

حينَ شارفتُ على السبعين

تحوّلَ حرفي إلى غيمةٍ

ترحلُ من الجنوبِ إلى الشمال

ومن الشرقِ إلى الغرب.

ثُمَّ تحوّلَ حرفي إلى عينٍ حَجَريّة

تَرى ولا تُرى

ثُمَّ تحوّلَ أخيراً إلى ريحٍ

تطيرُ بسريري الليل كلّه.

كنتُ أنتظرُ الفجرَ مُرتبكاً

لأترجّلَ من السريرِ إلى الأرض

فأرى العينَ الحَجَريّةَ وقد امتلأتْ بالدمع،

وأرى الغيمةَ

تبحثُ في محلِّ الأدواتِ المُستعملة،

أعني تبحثُ في ذاكرتي،

عن بوصلةٍ حتّى لو كانتْ مُزيَّفة

تعينُها على معرفةِ الشمالِ من الجنوب

أو الشرقِ من الغرب.

قصيدة عن الذاكرة

 

 

 

 

حينَ حذفوا قصيدتَكَ التي كتبتَها عن الحرفِ القتيل

ووضعوا في مكانِها إعلاناً لإزالةِ الذاكرة،

لم يحتجّ القرّاء

ولا مُحرّرُ الصفحة

ولا حتّى أنت.

أنتَ الذي تألّمتَ قليلاً

ثُمَّ ذهبتَ لتمشي،

كما تفعلُ كلّ يوم،

في شارعِ المدينةِ الوحيد،

الشارع الذي ينتهي بحفرتين كبيرتين في الذاكرة.

 

باب المنفى

 

 

البارحة كنتُ سعيداً

إذ وجدتُ بابَ المنفى.

كانَ كبيراً بل كانَ عظيماً.

فسارعتُ لأكتبَ قصيدتي الحروفيّة عليه،

فاكتشفتُ أنّه بابٌ سِحْريّ

كلّما فتحته قادني إلى بابٍ آخر

والباب الآخر إلى بابٍ آخر

إلى بابٍ آخر

إلى بابٍ آخر،

حتّى وصلتُ إلى قعرِ الجحيم سعيداً.

 

عولمة مِن حجر

 

 

لم يعد العابرون يمشون

وهم يُحدّقون في أقدامِهم

ويغمغمون بكلماتٍ لا معنى لها

بل صاروا يمشون برؤوسٍ مرفوعة

تُحدّقُ في بعضها بعضاً

إنّما بعيونٍ مِن حجر،

وتنطقُ

إنّما بكلماتٍ مِن حجر.

 

دور السكران

 

 

 

حينَ هبطتْ شمسُ الفجر،

سألتُ أحدَهم:

أينَ الطريق إلى البيت؟

لم يضحكْ

ولم يرتبكْ

ولم يقلْ شيئاً.

فقط أشارَ إلى نهايةِ الزُّقَاق.

كانت الشمسُ قد هبطتْ

حتّى سدّتْ نهايةَ الزُّقَاق.

فتعجّبتُ:

كيفَ لي أن أزيح الشمسَ قليلاً لأمرّ

ولا تحرقني الشمسُ بضوئها الهائل؟

كيفَ لي وأنا في ذاك الفجر

أترنّحُ كالسكران

من التعبِ والوحشةِ والخُذلان؟

كيفَ لي وأنا في ذاك الفجر

أمارسُ دورَ السكران؟

 

استقبال

 

 

 

في المطار

كنتُ سعيداً جدّاً

وأنا أستقبلُ صديقي بعدَ فراق أربعين عاماً.

كنتُ أحملُ صورتَه مَسروراً كي يعرفني.

فإذا ما وصلَ صديقي،

نظرَ إليّ بهدوء قاتل

وقال: أهذا أنت؟

ومضى.

وا أسفاه

كانَ وجهُ صديقي مَرسوماً

في لوحِ زجاجٍ يحملهُ رأسٌ مجنون.

 

احتجاج

 

تعبت الأرضُ من الحروب

ولم تعدْ تستطيع الوقوف على قدميها،

الحروب التي انتشرتْ على جسدِها الجميل

وجعلت النار

تشتعلُ فيه ليلَ نهار.

ولذا قدّمت الأرضُ احتجاجاً شديدَ اللهجة

إلى جمعيّةِ الكواكبِ والنجوم.

حينَ قرأَ القمرُ الاحتجاج

بكى لما حدثَ لشقيقته الكبرى،

وغضبَ المرّيخُ وزحلُ وعطاردُ والزُهرة،

أمّا الشمسُ فقد قرّرت التوقفَ عن الضياء

إلى أجلٍ غير مَعلوم!

هل

 

لِمَن وُلِدَ مَصلوباً على خشبةِ الحرف،

هل تنفعهُ صَيحةُ الحلّاج وسطَ جلّاديه:

الله الله في دمي؟

لِمَن أبصرَ كلكامش مَقتولاً برصاصةِ قَنّاص

وأنكيدو مَطعوناً بخنجرِ غدرٍ أسْوَد،

هل تنفعهُ وصايا سيدوري؟

لِمَن كُتِبَتْ حياتُهُ برمادِ كُتبِ التوحيديّ،

هل ينفعهُ أن يحرقَ جسدَه بالنار؟

ولِمَن التقى سرّاً بديكِ الجِنّ

وقرأ عليه مَرثيتَه الكبرى،

هل تنفعهُ كتبُ الجِنّ

وعظامُ الهدهد

ومرايا بلقيس؟

 

 

ولادة

 

 

هكذا فقد أنفقتَ الرحلةَ كلّها،

تماماً كلّها،

لتكتشفَ في آخر المطاف:

أنَّ الحرف وُلِدَ من النقطة

وأنَّ النقطة وُلِدَتْ من الصرخة

وأنَّ الصرخة وُلِدَتْ من الدمعة

وأنَّ الدمعة وُلِدَتْ من الشبّاك

وأنَّ الشبّاك وُلِدَ من الحرمان

وأنَّ الحرمان وُلِدَ من الهذيان

وأنَّ الهذيان وُلِدَ من العُري

وأنَّ العُري وُلِدَ من الليل

وأنَّ الليل وُلِدَ من القمر

وأنَّ القمر وُلِدَ من الموت!

 

 

مقارنة كلكامشيّة

 

 

 

محظوظٌ أنتَ يا كلكامش

فصاحبُكَ أنكيدو ماتَ في حياتِك،

أما أنا فصاحبي أنكيدو

حيٌّ لا يموت!

وصراعي معه حيٌّ لا يموت!

ومحظوظٌ أنتَ

لأنَّ أفعاكَ ابتلعتْ عُشبةَ الخلود

وتركتكَ، على الأقلِّ، طليقاً.

أما أنا فأفعاي تراقبني ليلَ نهار

لتبتلعني.

نعم لتبتلعني،

بعد أن وجدتْ

أن لا عُشبة خلودٍ عندي

ولا هم يحزنون!

 

قطعة شمس

 

 

قربَ حافّةِ النهر

قرأتُ قصائدي بعينين دامعتين

لفتيةٍ يحترفون هرطقةَ الشِّعْر

أو يحترفون، ربّما، هرطقةَ التأويل.

كانَ لساني، فقط، يقرأُ حرفي بهدوء مُمَنهَج

وهم يُصفّقون أو يبتسمون في هدوء غريب.

أمّا قلبي فقد قفزَ إلى النهر

يبحثُ عن قطعةِ شمسٍ

سقطتْ ذاتَ حياة

وسطَ أمواجه العجيبة،

يبحثُ ويبحثُ ويبحثُ

وهو يعرفُ أنّه لن يجدها

ولن يجدَ سرَّها : سرَّ صباه البعيد

ولو أنفقَ في بحثه عمرَ نوح.

 

 

في مقبرة القصائد

 

 

1.

هذه مقبرةٌ لقصائدي التي مَزّقتُها.

لا أستطيعُ أن أقول كم عددها

لأنّها لم تكنْ مَيّتَة تماماً.

كانتْ تتحرّكُ في نومِها الطويل

لتغنّي أغنياتٍ لا معنى لها عن الفرات

أو ترقص رقصةَ الغرقى

أو تطلق النارَ على نَفْسِها

بعدَ أن يُشظّيها الصُراخ.

وهناكَ زائرٌ يتجوّلُ في ميدانِها

تائهاً بالطبع.

أشكُّ كثيراً بأنَّ هذا الزائر هو أنا

رغمَ أنّه يشبهني كثيراً

وأنَّ اسمَه مثل اسمي تماماً!

2.

بعضُ القصائدِ يصفُ قِرداً

يرقصُ على الأشجار

ليلَ نهار.

وبعضُها يصفُ ثعلباً

يصرخُ في الأسواق

ويبيعُ الشتائمَ المُجَفَّفة

على أنّها فواكه مُجَفَّفة.

بعضُها يُومضُ كالسمك

وينزلقُ بين يديّ كالسمك.

ربّما ليهذي في الشوارع

مثل مجنونٍ يشربُ الخمرة

النهار كلّه

ويصلّي الليل كلّه.

بعضُها مُزهرٌ

بزهورٍ حُمرٍ رائعة

رسمتها الطبيعةُ الساحرة

أو المرأةُ الجُلَّنَار.

وبعضُها يصفُ القُبْلَةَ بعُمقٍ

ويُلِحُّ بقوّةٍ على مشاهد الحُبّ

مُكرّراً دونَ جدوى:

أحبّكِ، أحبّكِ، أحبّك.

بعضها ، وهو الأهمّ،

يستحقُّ أن أحرقهُ  بالنار.

وقد بدأتُ بذلكَ فعلاً.

فالحرقُ أكثرُ شاعريّة مِن الدفن

كما يُشاعُ كثيراً هذه الأيّام.

الاحتراف لا يليق بالشعراء

 

 

في هذه الأبجديةِ التي لا أوّلَ لها ولا آخِر،

أنا مجردُ حرفٍ هاوٍ.

نعم، فالاحترافُ لا يليقُ بنقطتي.

*

أنا حرفٌ أضاعَ نقطتَه

في هذا الليل الذي لا أوّلَ له ولا آخِر،

فاحتجَّ على نَفْسهِ وعلى نقطته

ثُمَّ احتجَّ على الليل

ثُمَّ احتجَّ على الاحتجاج.

*

بينَ الهلْوَسَةِ والشِّعر

خيطٌ رفيعٌ من البكاء.

*

في المقبرةِ

رأيتُ الموتى ينامون هادئين جميلين

مثل مجانين فقدوا ذاكرتَهم وعناوينهم.

*

على شاطئ البحر،

كلّما ازدادَ عُري النساء

طالتْ لحيةُ البحر.

*

جلسَ الملكُ المجنونُ على شاطئ البحر

ومدَّ قدميه في الماء

فشعرَ ببرودةٍ مُنعشة.

التفتَ إلى وزيره

وأمره بتكريمِ البحر!

*

الحرفُ رسالةٌ هائلة

عادتْ إلى مرسلِها لعدمِ الاستلام

بعدَ أن بقيتْ في صندوقِ بريدِ الكون

عمراً تجاوزَ عمرَ نوح.

*

وحشتي اتّسعتْ حدّ الألم

فاضطررتُ إلى اختصارِ صحرائي الشاسعة

إلى حبّةِ رملٍ واحدة.

*

هكذا فأنا مجرّدُ هاوٍ في هذه الحياةِ العجيبة.

نعم، الاحترافُ لا يليقُ بالشعراء.

ارجعْ لي روحَ حرفي

 

1.

حينَ استلَّ ملاكُ الموتِ روحَ الحرف،

سَمِعَ صراخَ شاعرِه:

يا ملاكَ الموتِ،

ارجعْ لي روحَ حرفي

أو أرجعْ لي أحلامَه التي سرقها الدهر.

ليسَ عدلاً  أن تأخذ روحَ حرفي

ويأخذ الدهرُ أحلامَه.

ماذا سأكتبُ هذا المساء؟

يا ملاكَ الموتِ، يا ملاكَ السماء.

2.

ارتبكَ ملاكُ الموتِ وهو يلملمُ شظايا الحرف،

ارتبكَ وهو الذي لم يعرف الارتباكَ من قبل،

ارتبكَ فقد آذاهُ صراخُ الشاعرِ حدّ الذهول،

حدّ أنّه تركَ شظايا الحرفِ مُلقاةً في العراء

وتركَ صيحةَ شاعره وهي تنتقلُ

من سماءٍ إلى سماء.

مراجعة طبّية

 

 

 

أخذتُ البحرَ ومضيتُ إلى الطبيب.

قلتُ له:

ها هو البحرُ معي ويسمعُ قولي،

البحرُ الذي تعبَ من شكواي كلّ يوم

وأنيني الذي جاوزَ الموجَ طُولاً وعرضاً.

ضحكَ الطبيبُ وقال:

أنا أعشقُ البحر

وأملكُ قبالته قصراً كبيراً

وأملكُ يختاً أسافرُ فيه أنّى أشاء.

عرفتُ أنَّ طبيبي لا يفقهُ من البحرِ شيئاً

ولا يفقهُ من القلبِ شيئاً،

فقمتُ

وقامَ البحرُ خلفي ضاحكاً

مثل طفلٍ صغير.

سينما

 

 

في الفلمِ الملآنِ بالعرباتِ والخيول

وحاملي المسدسات الأسرع من ومضةِ العين،

كنّا نجلسُ لنرى الفلمَ ونضحك،

كنّا جَمْعاً من صبيان وشبابٍ سُذّجٍ وقرويين فقراء.

وكانَ الظلامُ قويّاً

فلا ترى فيه سوى دخانِ القرويين

وصراخ وضحكات الشبابِ والصبيان.

لكنَّ المسدسات الأسرع من ومضةِ العين،

قرّرتْ، لسببٍ مجهولٍ أو معلوم،

أن توقفَ هذا العالَم

من السذاجةِ والدخانِ والضحكات.

وبدأتْ تخرجُ من شاشةِ السينما

لترمينا برصاصٍ حيّ،

وكنّا نضحكُ والدمُ يخرجُ من رؤوسِنا وصدورِنا

مُمتلئاً بالدخانِ والصرخاتِ والضحكات.

شظايا

 

 

 

قلّةٌ مِن البشر

مَن تملكُ روحاً قد أحاطَ بها الزّجاج،

أعني شظايا الزّجاج.

هكذا قالَ الطبيب،

وهو يكسّرُ في هدوء عجيب

شظايا الزّجاجَ التي أحاطَتْ بروحي،

وهو يزيلُ للمرّةِ العاشرة

أو للمرّةِ العشرين

أو للمرّةِ الألف

شظايا الزّجاجِ التي أدمنتْ روحي.

ثُمَّ أضاف،

وهو يضحكُ أو يقهقهُ في الأدقّ،

ربّما في المرّةِ القادمة

سأضطرُ إلى إزالةِ روحِكَ

إن عادَتْ شظايا الزّجاج

إلى روحِكَ الفانية!

فقط

 

 

 

حينَ تكتب قصيدتَك الجديدة

لا تقلْ: إنَّني حزين

بل قُلْ: إنَّني حاء،

وسأفهمُكَ تماماً.

ولا تقُلْ: إنَّني سعيد

(رغمَ أنَّني أشكُّ بأنّكَ تعرفُ معنى السعادة)

بل قُلْ: إنَّني سين،

وسأعرفُ ذلك بسرعةِ البرق.

قلتُ له: وماذا عن الآخَر؟

كيفَ سَيفكُّ هذه الشفرة العجيبة؟

قال: مَن الآخَر؟

هل تقصدُ الساذجَ أم المجنون؟

أم الدعيّ؟

أم الحاقد؟

أم الواهمَ والموهوم؟

مَن؟

تذكّرْ حاءً وسيناً فقط.

تذكّرْ أنّكَ تكتبُ بدمِ نقطتِكَ لحرفِكَ فقط،

تكتبُ لي فقط.

بالأبيض والأسود

 

 

كتبَ لي من كهفه البعيد:

اعملْ بحياتِكَ شيئاً!

لا تنفق العمرَ وأنتَ تتأمّلها فقط!

مَن كتبَ هذا؟

أظنّه ناقد السذاجةِ والطيبةِ المُفرطة:

ذاك الذي يقرأُ الحرف

فلا يتأمّله لحظةً واحدة.

لم يكنْ يعرف ذلك الساذج

أنّ حياتي تشبهُ مُلاكماً

خرجَ للتوّ من الحلبة

مُثخناً بمئاتِ اللكماتِ والكدمات

خرجَ لينهارَ في الممر

فيما يعبرُ الجمهور

جسدَه المُلقى على الأرض

دونَ أن يلقي عليه نظرةً واحدة!

بنك الأحلام

 

 

حينما أسَّستُ بنكاً للأحلام

نشرتُ إعلاناً في الصحفِ كلّها

بطلبِ الأحلامِ من الحالمين

والمُشرّدين والمجانين.

لم يتقدّمْ أحدٌ بأيّ حلمٍ كان

سوى رجل واحد

كانَ يقدّم لي بكرمٍ حاتميّ

مائةَ حلمٍ وحلمٍ كلّ يوم.

وحينَ قابلتُ الرجلَ فرحتُ

إذ كانَ يشبهني كثيراً

ويرتدي بدلةً مثل بدلتي

ونظّارةً مثل نظّارتي

وربطةَ عنقٍ مثل ربطة عنقي.

وحينَ مددتُ يدي لأصافحه

اكتشفتُ أنّه ....................... أنا!

لقطات من فلم رعب طويل

 

 

حينَ رفضتُ دورَ العينِ العمياء

في فلمِ الرعبِ الطويل،

أُعْطِيتُ

دور الرأسِ الذي يتدحرجُ طويلاً من المقصلة.

*

كنتُ ذكيّاً بما يكفي لأتوقّعَ دوراً كهذا

فالفلمُ شهيّ،

فيه نساءٌ وطلقاتٌ وأفاعٍ وطغاة

وسجونٌ من كلِّ نوع.

وكلٌّ شيء فيه مُبهجٌ

حتّى السياط التي أدمنت الظهور

هي وموسيقاها التصويريّة.

*

بعينين مليئتين بالدمع

تهتُ طويلاً في شارعه المُغبّر.

كانَ دوري هو التائه الأبديّ

برأسٍ مُتدحرجٍ من البدءِ إلى المنتهى.

لكنّني عدتُ بعدَ سبعين أسطورة كلكامشيّة

طفلاً بعينين سَمَكيّتين

إلى دوري القديمِ في الفلم.

*

في الفلمِ فراشة،

فراشةُ حبٍّ مُزيّفةٌ للأسف.

والصيّادون رائعون

رغمَ أنّهم من جنسِ السفهاء.

*

أصابعي المُرتبكة

أمسكتْ جناحي الفراشة.

حاولتُ أن أقبّلَها

فتساقطتْ أصابعي الواحد بعد الآخر.

*

معَ أنَّ صوت صفّاراتِ الإنذارِ لا ينقطعُ أبداً

في هذا الفلم،

فقد كنتُ محظوظاً

لأنّي مُنِحْتُ فرصة أن أوقفَ الفلمَ قليلاً

لأبكي أو أشقَّ ثيابي

أو لأكتبَ قصيدةَ حُبٍّ

عن جُثّةِ امرأةٍ جميلة

أو لأكتبَ قصيدةَ هجاءٍ

عن طاغيةٍ أرعبني بوجهين،

وجه لا يكفُّ عن اشعالِ الحروب

ووجه لا يكفُّ عن تهديدي

كي أغيّرَ عنوانَ كتابي

أو صورةَ الغلاف.

*

أحياناً كنتُ أرفعُ صوتَ الفلم

أو أجعلهُ صامتاً تماماً

أو حتّى أعيده

لأستمتع بلحظاتِ الرعبِ الباذخة

بعيداً عن كلِّ شيء.

*

الفلمُ الطويلُ مُستمر.

ما مِن شيء يستطيعُ تغييرَ السيناريو

أو منعَ المُمثلين من الكذبِ أو القهقهةِ أو الصراخ

أو طعنِ بعضهم بعضاً بالسكاكين.

*

الفلمُ مُستمر

لكنْ بدأتْ صفاراتُ الإنذار

تنادي عليَّ نداءً غيرَ مفهوم:

اخرج الآن!

ارفعْ يديكَ إلى الأعلى، إلى الأعلى، إلى الأعلى!

ارفعْ رأسَك!

نحنُ نصوّرُك:

انظرْ إلى الأمامِ ثُمّ ابتسمْ!

مَن القائل؟

 

 

لا أتذكّرُ هل أنا الذي قالَ للحرف

أم الحرف قد قالَ لي؟

لكنّي أتذكّرُ الصوتَ جليّاً يدمدم:

إن أنكرتني مَرّةً فلنْ تعرفني ثانيةً.

إن أنكرتَ أنّي رأيتُكَ

تتقلّبُ على الجمرِ حتّى مَطْلعِ الفجر،

تتقلّبُ في غرفِ الدخانِ والأرقِ حتّى صياحِ الديك،

تضيعُ في شوارعِ الظلمةِ والظلامِ حتّى وميضِ السكين،

تغرقُ في ثقوبِ الجسدِ حتّى احتراقِ الذاكرة،

ترتبكُ في غرفةِ الكلامِ حتّى بابِ المَلام،

ترتجفُ في مَوقفِ العُري حتّى سريرِ الموت.

إن أنكرتَ هذا كلّه أو بعضه

فلنْ تعرفني.

*

آهٍ أنا لم أنكرْ شيئاً، أيَّ شيء.

لكنْ: هل أنا الذي قالَ للحرفِ هذا

أم الحرف قد قالَ لي كلَّ هذا الكلام؟

نهاية سعيدة

 

 

سقطتْ ورقةٌ من أعلى الشجرة

لتستقرَّ تحتَ صخرةٍ سوداء هائلة.

استمرَّ سقوطُها زمناً طويلاً.

*

هي الآن سعيدة

لأنّها توقّفتْ عن الاخضرارِ ثُمَّ الاصفرار،

ولأنّها لم تعدْ تستمع

إلى لغو رفيقاتها اللواتي لا يتوقّفن

عن الأكاذيبِ والثرثرة،

ولأنّها، قبلَ ذلك،

نسيتْ اسمَ الريح.

*

هي الآن سعيدةٌ تماماً

فالصخرةُ التي استقرّتْ تحتها هائلة؛

لا ريح تزعزعُها

ولا بشر يستطيعُ تحريكَها.

كنتُ سعيداً حدّ اللعنة

 

ماتَ صديقي السِّكِّير

في تقاطعِ الكأس.

كانَ سعيداً لأنّه لم يرَ أصابع الموت

فقد كانَ يشخرُ مُمَدَّداً على الرصيف

وبيده قنّينة الخمرة.

وماتَ صديقي المؤرّخ

في تقاطعِ بغداد.

كانَ سعيداً لأنّه لم يستمع إلى نحيبِ بغداد

وإلى صراخِها في آخر الليل

على ملوكها القتلى الواحد بعد الآخر

وعلى فقرائها السابحين في بحيرة الدم.

أما أنا فمتُّ في تقاطعِ القصيدة.

كنتُ سعيداً حَدّ اللعنة

لأنّ تقاطع القصيدة

لا يعرفهُ سوى حرفي الذي احترق

حتّى صارَ رماداً

وسوى نقطتي التي تحوّلتْ، ذاتَ فجرٍ،

إلى دمعةٍ كبيرة.

أين الذئب؟ أعني أين الليل؟

 

 

 

قالَ الليلُ: خذ الناي واعزفْ.

قلتُ له: ماذا أعزف؟

قال: روحك!

*

هذا حلمٌ أو كابوسٌ تكرّرَ لثلاث ليال.

في الحلمِ أو الكابوسِ الأوّل،

قلتُ للّيل: لا أعرفُ أن أعزف.

وفي الثاني قلتُ له:

لا أعرفُ أن أعزفَ أبداً.
وفي الثالث صحتُ:

أغربْ عن وجهي.

فعضّني الليلُ من رقبتي

تماماً كما يفعلُ الذئب

وسَحَلَ جسدي وخيط الدمِ النازف منه

مسافة أوطانٍ من رعبٍ ودخان وشظايا

حتّى ألقاه مسروراً في البحر.

*

حينَ غرقتُ وطافَ جسدي فوقَ البحر،

عجبتُ كيفَ ظهرتْ كلُّ حروفِ الأرض

راقصةً من كلِّ بقعةٍ من جسدي،

نعم، بزغتْ وهي تغنّي أغنيةَ الناي.

*

صرتُ أنتظرُ الليلَ لأعزفَ له

كلّ ليلةٍ كالمجنون

أغنيةَ الناي، أعني أغنيةَ الروح.

وألحّنها بلحنٍ جديد،

لحنٍ دمعِيّ أزرق

أو مهووسٍ أحمر

أو لاهٍ أصفر.

وأضيف إليها أزهاراً من أقفالٍ

أو أقفالاً من أزهارٍ.

وحينَ يتأخرُ قليلاً أسألُ الشمس:

أينَ الذئب؟

أعني أينَ الليل؟

ولماذا تأخّرَ عن موعده هذا اليوم؟

سفينة

 

 

اشترى إطاراً رائعاً

وعلّقه على جدارِ حياته.

وضعَ في الإطارِ صورةَ بحر

ثُمَّ وضعَ صورةَ سفينةٍ وسطَ البحر.

لكنَّ السفينة تحرّكتْ ذاتَ يوم!

نعم تحرّكتْ!

ليسَ مهمّاً كيفَ أو لماذا تحرّكت السفينة.

المهمّ أنّها تحرّكتْ، وثقبت الجدار

فتدفّقَ ماءُ البحرِ بعنفٍ

حتّى سقطَ كلُّ شيء.

الحرب لا تنتهي أبداً

 

 

"الحربُ لا تنتهي أبداً".

هذا هو عنوانُ الفلمِ الجديدِ الذي يُعْرَض

على كوكبنا المنكوبِ بنجاحٍ ساحق.

فلمٌ يموتُ فيه الفقراءُ مراراً وتكراراً

ويغرقُ فيه الأطفالُ في بحيراتِ الدم

حدّ أن يبكي عليهم القَتَلَةُ والجلّادون.

حرف مُعَلَّق

 

 

بعدَ أن ضاعَ كلُّ شيء
أصبحتُ حرفاً مُعَلَّقاً في سقفِ الضياع،
وصارَ همّي فقط
أن أنزلَ من سقفِ الضياع
وأمشي على أرضهِ أو أطير في شقّتهِ الضيّقة .


كفّي اليمنى

 

حينَ قطعَ الدهرُ كفّي اليمنى

دفعتها العاصفةُ بعيداً إلى الماء

حتّى صارتْ تنتقلُ من نهرٍ إلى آخر

ومن بحرٍ إلى آخر.

وفي المحيطِ العظيم

رآها البحّارةُ وهي تستغيث

فحاولوا إنقاذها

لكنّهم ضحكوا بل قهقهوا

حينَ اكتشفوا أنّها مُجرّد كفّ،

ولم يعرفوا أنّها كفّي اليمنى

التي ما أن قطعها الدهر

حتّى تحوّلتْ حياتي اليتيمة

إلى جحيمٍ بحجمِ المحيط.

 الطائر المجنون

 

 

حينَ رأيتُ الفجرَ هذا اليوم

خرجتُ إلى الشرفة

وصرختُ ببراءةِ طفل

ولوعةِ عاشق

ودهشةِ مجنون:

مرحباً أيّها الفجر،

مرحباً أيّها الطائر المجنون.

ونظرتُ،

ونظرتُ طويلاً،

ونظرتُ حتّى متُّ

فلم أجد الفجرَ ولا  الطائرَ المجنون.

حرف من دون نقطة

 

في وصفٍ لما تقدّمَّ وتأخّر
أو لما تأخّرَ وتقدّم،
أصبحتُ حرفاً من دونِ نقطة.
لكنْ مِن أينَ لي بالنقطة؟
أنا الألِف
 
وُلِدتُ من دونِ نقطة
وعشتُ من دونِ نقطة
وسأطيرُ إلى العالمِ الآخر
من دونِ نقطة!

باب النقطة

في زنزانةِ ذاكرتي

ثمّة نافذة

سمّيتُها نافذةَ الحرف.

أطلُّ منها على العالم

بقصائد ورؤى وطلاسم.

وثمّة باب

سمّيتُهُ بابَ النقطة.

أفتحُهُ فيدخلُ عَليَّ البحرُ سريعاً.

أهوَ بحرُ الظلمات؟

أم بحرُ السُّفنِ الغرقى؟

أم بحرُ الضحكِ الأسْوَد؟

لا أعرف.

لكنّي أعرفهُ بحراً

يدخلُ عَليَّ سريعاً وعنيفاً

كالطلقة!

في الأخير

 

 

في الأخير

أعتذرُ عن الحوارِ مع كلِّ شيء.

وبخاصّةٍ معَ القمر والذئب،

ومعَ الفرات

وجسر الفراتِ الذي حاولتُ، ذاتَ حياة،

أن أنقذَ جثّتي السعيدةَ الطافية

التي مرّتْ مُسرعةً من تحته

إلى مقرِّها الأخير.




مسرح سِحْريّ

 

 

 

على المسرحِ السِّحْريّ

تظهرُ المرأةُ طفلةً وشابّةً وعجوزاً

ترقصُ ثُمَّ تغنّي ثُمَّ تبكي.

أمّا السَّاحرُ فلا يظهرُ منهُ شيء

سوى صوته الملآن بالبرقِ والرعد

وأصابعه التي يتساقطُ منها التفّاح.

*

مللتُ من المشهدِ السِّحْريّ

فهو يُذكّرني بهشاشتي وارتباكي وعماي.

فحلمتُ أنّني رميتُ السَّاحرَ بالحجارة.

ومعَ أنَّ الأمرَ لم يكنْ سوى حلمٍ

- حلم يقظةٍ على الأكثر -

فإنّ السَّاحرَ استشاطَ غضباً

وأحرقَ قصائدي جميعاً

حتّى صارتْ رماداً.

فلم يعدْ يفهم حروفَها أحدٌ

سوى الدراويش والمجانين.

ثقوب

 

 

سيشعلونَ المزيدَ من الحروب

ليزدادوا ثراءً ووحشيّة.

ولذا لا يهمّ إذا فقدتَ عينَكَ

أو يدَكَ

أو طفلَكَ

أو وطنَكَ

أو حياتَك.

لا يهمّ،

المهم أن تكبرَ ثقوبُ شهواتِهم السّود،

ثقوبُ شهواتِهم التي تؤرّقهم أبداً.

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home