بسم الله الرحمن الرحيم

 

أديب كمال الدين

Adeeb Kamal Ad-Deen

 حرف من ماء

Letter of Water A

 

قصيدة حُبّ طويلة

 

 

منشورات ضفاف، بيروت، لبنان ، ط  1،  2017

الأعمال الشعرية الكاملة المجلد الخامس ، منشورات ضفاف ، بيروت، لبنان 2019

(الترقيم حسب طبعة المجلد الخامس)

 

 

 

 

 

 

أديب كمال الدين

 

Adeeb Kamal Ad-Deen

 

أديب كمال الدين (1953 - بابل) شاعر ومترجم وصحفي من العراق مقيم حالياً في أستراليا. تخرّج من كلية الإدارة والاقتصاد- جامعة بغداد 1976، كما حصل على بكالوريوس أدب انكليزي من كلية اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى دبلوم الترجمة الفوريّة من المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا 2005.

أصدر 19 مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة، كما أصدر المجلّدات الخمسة من أعماله الشّعريّة الكاملة. تُرجمتْ أعماله إلى العديد من اللغات كالإيطاليّة والإنكليزيّة والأورديّة والإسبانيّة والفرنسيّة والفارسيّة والكرديّة. نال جائزة الشّعر الكبرى عام 1999 في العراق. واخْتِيرَتْ قصائده ضمن أفضل القصائد الأستراليّة المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و 2012 على التوالي.

صدر أحد عشر كتاباً نقديّاً عن تجربته الشّعريّة، مع عدد كبير من الدراسات النقديّة والمقالات، كما نُوقشت الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت أعماله الشّعريّة وأسلوبيته الحروفيّة الصّوفيّة في العراق والجزائر وإيران وتونس.

موقعه الشخصي      www.adeebk.com

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا.

سورة الكهف. الآية 68

 

 

  

 

حرف من ماء               239

*********

- ذات اليمين وذات الشمال          241

- يا حرفي           246

- حرف بأربعة أجنحة   248

- أيّ خطأ هذا؟       252

- تلك هي قصيدة الفجر     254

- ذكرى               258

- لم أسألْ عن كلمةِ سرّكِ   261

- حرف محذوف           266

- شَظيّة مرآة               270

- حينَ أحببتُكِ فقدتُ نصفَ ذاكرتي   273

- حوار مع الفرات     275

- ماركيز يضحك      279  

- ورقة القصيدة     283

- نعم، لا، ربّما     286

- شبح قصيدتكِ الأخيرة   292

- هذيان                    294

- سكرت الكأسُ فصحوتُ شاعراً   297

- في حبّكِ حرف        301

- كنتَ وَهْماً فأصبحتَ حرفاً   303

- الدرج الطويل      306

- الوهم المجنون   308

- بئر الفراق    310

- هدايا الشِّعْر   312

- السّؤال الأعظم   314

- بحثاً عن مقْبضِ الباب 315

- الشّبح المُتلصِّص       317

- تلك هي روحي        320

- رفرفة جناح الطائر   323

- المطر يُغرقُ سريري الموحش  326

- قصيدتي تسبح وتضحك   329

- أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء 333  

- الطفل في المرآة        336

- غداً حينَ يطلعُ الفجر   338

- قصيدة لا تنتهي      340

- قفزة خاطئة          345

- إذا أفاق البحر من نومه   349

- تيتانيك                352

- قطعة ذهب               353

- دائماً أسألُ أصابعَ يدي  355

- المقطع الأخير       359

  

 

 

 

 

ذات اليمين وذات الشمال

 

 

لكثرةِ ما أحلمُ بلقائكِ

ليلَ نهار،

نبتَ لي جناحان من ريشِ الرغبة

ونقاطِ الحروف.

*

لكثرةِ ما أفكّرُ بكِ

صارَ الحرفُ يغارُ منكِ

ويتّهمني بنسيانه

ونسيانِ نقطته الوحيدة.

*

لم أتركْ شيئاً عنكِ

إلّا كتبتُ عنه قصيدةً أو أغنيةً أو صرخة.

كتبتُ عن سريركِ الأبيضِ والأسْوَد،

وأغنياتكِ السّاذجة،

ودموعكِ التي امتزجتْ بالكحل،

ومواعيدكِ التي كانَ الحلم

يتعلّمُ منها فنونَ القُبْلَةِ كلّ ليلة،

وأزمنتكِ التي ذابتْ في الماضي والمستقبل

كما يذوبُ النّهرُ في البحر،

واشعلت النّارَ في مطلعِ القصيدة

حتّى تحوّلَ إلى رماد.

*

أتصوّركِ، مَرّةً، غيمةً، تاهتْ

فعبرت البحرَ معي

لكنّها تلاشتْ في ذاكرتي السِّحْريّة

أو ربّما أتصوّركِ لعنةً

كانتْ لي هدية الشِّعْرِ الوحيدة.

*

لكثرةِ ما كتبتُ عنكِ

بالأبيضِ الثلجيّ

والأحمرِ النّاريّ

والأزرقِ الخفيفِ أو المُوَسوِس

والأسْوَدِ الغُرابيّ

والأصفرِ الملآن بالآهاتِ والقُبُلات

والرماديّ الذي لا يكفُّ عن ملاحقةِ حروفي

ومحاصرةِ عناوين قصائدي،

ارتبكَ القُرّاء

وصاروا يقرأون قصيدتي

ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال.

*

عجيبٌ أمر هذي القصيدة

تتحدّثُ عن قصّةِ حُبّ

تبخّرتْ أو احترقتْ أو ذابتْ قبلَ نصفِ قرن.

كيفَ ستطرقُ هذه القصيدةُ الباب؟

وكيفَ ستنظرُ من الشبّاك؟

وكيفَ ستقولُ الذي عجزَ نصفُ قرنٍ عن قوله

دونَ أن تتبخّرَ أو تحترقَ أو تذوبَ مَرّةً أخرى؟

هل سترسمُ حرفَها غيمةً

أو طائرةً تسقطُ في مثلثِ الرعب

أو جبلَ ثلجٍ يذوبُ دونَ سابق إنذار؟

*

الحُبُّ نافذةٌ

لا يمكنُ أن ترى أيَّ شيء

خلفَ زجاجِها المُظلم.

هذا ما ما قالهُ

غرابُ طوفانِ نوح.

لكنَّ الحمامةَ قالت:

الحُبُّ غصنُ زيتون

ودمعةُ أملٍ للناجين من الهَول.

*

الحُبُّ أكذوبةٌ جميلة،

يتعلّمُ منها الكونُ سرَّه الوحيد.

هذا ما قالتهُ الحاء.

لكنّ الباء قالتْ:

أنا سرُّ الحاء

ولوعتها الكبرى

وبي يكتملُ لحن الوجودِ المُظلمِ المُضيء.

*

الحُبُّ ومضةُ القلب

من دونها لا ترقصُ الروح

ولا يشرقُ الفجر.

هذا ما قالهُ الصّوفيّ .

*

وقالَ الحروفيّ: الحُبُّ أبجديّة

مِن دونها ليسَ هنالك شمال أو جنوب

وليسَ هنالك شرق أو غرب

وليستْ هنالك أيّام أو سنوات

وليسَ هنالك مطر أو زلزلة أو طوفان.

*

لكنّ الشَّاعِر قال: الحُبُّ ماء

مَن لم يذقه لا يعرف القُبْلَة

ومَن لا يعرف القُبْلَةَ لا يعرف المرأة

ومَن لا يعرف المرأةَ لا يعرف المرآة

ومن لا يعرف المرآةَ لا يعرف الشِّعْر

ومن لا يعرف الشِّعْرَ لا يعرف الشَّوق

ومن لا يعرف الشَّوقَ لا يعرف الماء.

ثُمَّ بكى الشَّاعِرُ وقال:

كلّ شيء ما عدا الحُبّ فناء.

 

 

 

 

يا حرفي

 

 

يا حرفي

لا تتأمّلْ طويلاً في البحر.

كنْ أنتَ البحر.

*

كلُّ نقطةٍ هي حرف،

وكلُّ حرفٍ هو قصيدة،

وكلُّ قصيدةٍ هي وطن.

*

رسمتُ روحي طائرةً ورقيّة

لكنّ الحروب والزلازل والكوارث

سرقت الطائرةَ الورقيّة

ولم تتركْ في يدي سوى خيطها الطويل.

*

وا أسفاه

لم يتبقّ الكثيرُ من الحكاية.

فالشاعرُ ماتَ أو قُتِلَ أو ضاعَ في مدينةِ اللاأين. 

*

ثمّةَ شعراء يكتبون قصائدهم بدمائهم،

وآخرون يكتبونها بالدموع،

وآخرون يكتبونها بالخمرة.

أنا كتبتُ قصائدي بدمي

لأنّني لم أستطعْ أن أكتبها بشيء آخر.

*

يا حرفي

كلّما رأيتُكَ رأيتُ نَفْسي فأضحك.

مَن علّمكَ أن تقومَ بدورِ المرآة؟

*

هل كنتُ محظوظاً بكَ يا حرفي

أنتَ المسافر الذي لا يكفُّ عن السَّفَرِ إلى النُّقطة

ولا يتعبُ من تمزيقِ بطاقاتِ السَّفَرِ إلى النُّقطة؟

*

يا حرفي

هل سمعتَ صوتَ الناي؟

إنّه يشبهكَ في العذوبة

وأنتَ تشبههُ في الألم.

 

 

 

 

 

 

حرف بأربعة أجنحة

 

 

لأنّي لا أجيدُ شيئاً سوى الإقامة في الخيال،

لذا يُخيّلُ لي أنّي أحببتُكِ،

أحببتُكِ حدّ الجنون.

وقبلَ هذا وبعده،

يُخيّلُ لي أنّي قد رميتُ قصّةَ حُبّنا

من نافذةِ القصيدة،

أعني من نافذةِ الجنون.

*

حُبّنا أغنيةٌ هائلة

ماتَ شاعرُها المسكين

قبلَ أن يستمعَ إلى لحنِها المُذهل

وهو ينتقلُ من غيمةٍ إلى غيمة

ومن نهرٍ إلى نهر

ومن شَفةٍ إلى شَفة.

*

حُبّنا أغنيةٌ لا معنى لها

لأنّها وُلِدَتْ في زمنِ الشظايا

فتحدّثتْ كثيراً عن العواصفِ والزلازلِ والدخان

ونسيتْ أن تتحدّث عن القُبْلَة،

أعني القُبْلَة تحتَ المطر

حيث تكونُ شفتاكِ العالم

مِن أقصاه إلى أقصاه.

*

حُبّنا خرافة اخترعتُها

حتّى لا تنتحر حروفي

ولا تلقي نقاطي نَفْسها

من جبلِ المجهول.

*

سأتذكّركِ كأيّ مجنونٍ

نسي اسمَه وعنوانَ بيته

لكنّه لم ينسَ طفولتَه التي غرقتْ أمامه

في الفراتِ الغريب

ولا شبابَه الذي ذُرَّ رمادُه سرّاً

في دجلة الأعاجيب.

*

تعرّفتُ بعدكِ إلى الكثيرِ من النِّساء.

كنَّ بخفّتِكِ نَفْسها:

خفّة لاعبِ السيركِ الذي يمشي فوقَ حبلٍ من النّار،

ورعونتِكِ نَفْسها:

رعونة الطاغيةِ الذي يَهْوَى إشعالَ الحروب

وتبادلَ الأسرى

لكنْ لم يملكن، بالطبعِ، كرمَكِ الأسطوريّ،

كرمكِ الذي فتحَ عليَّ بابَ جَهنّم على مِصْراعيها.

*

حُبّنا يشبهُ فجراً

أُلْقِي عليه القبض بتهمةِ التسوّل

مع أنّ جيوبه كانتْ ملأى بليراتِ الذهب.

*

حُبّنا طائرٌ بأربعةِ أجنحة:

جناحٌ أحمر للرغبة

وجناحٌ أصفر للشوق

وجناحٌ أسْوَد للموت.

وهناكَ جناحٌ رابع

لا أتذكّرُ لونَه أو معناه.

ربّما هو  أزرق

وربّما هو للنسيان.

*

البارحة

طرقتُ بابَ الماضي

فخرجَ لي رجلٌ يشبهني تماماً

ويرتدي ملابس تشبهُ ملابسي تماماً

وقالَ لي بلَبَاقَةٍ عالية:

العنوانُ خطأ.

وحينما استدار

وجدتُ اسمي وعنواني ورقمَ هاتفي

مكتوباً على ظهره

إنّما بحروفٍ عَصيّةٍ على القراءة.

أتراها حروف الماضي؟

 

 

 

 

أيّ خطأ هذا؟

  

 

بدمعةِ طفلٍ يتيمٍ أكتبُ قصيدتي

وأقرأها لقارئ فاقدِ الذاكرة.

*

الحرفُ مبنيٌّ على المجهول

والنُّقطةُ مبنيّةٌ على الذهول.

كيفَ تستقيمُ القصيدةُ إذن؟

*

كيفَ يمكنُ لذاكرةٍ مُحترقة

أن تكشفَ سرَّ النور

وهي لا تحلمُ إلّا بما يُطفئ نارها؟

*

الرجلُ هشٌّ

والمرأةُ أكثرُ هشاشة

لكنّه يبحثُ عنها طوال العمر

ليكملَ كتابةَ قصيدةِ هشاشته الكبرى.

*

قصيدتي شمسٌ لا تشرقُ إلّا في الليل.

أيّ خطأ هذا؟

*

القصيدةُ أنتِ.

أنتِ التي سقطتْ نونُها في بحرِ الظلمات.

*

وقفتْ غيمةٌ رماديّةٌ كبيرةٌ أمامَ نافذتي

وأخذتْ تمطرُ وترعدُ الليل كلّه.

ففتحتُ نافذتي ضاحكاً وقلتُ للغيمة:

أعرفُكِ، أنتِ واحدةٌ من قصائدي القديمة.

*

مثل الذي يرمي قطعَ الخبزِ

للبطِّ السّابحِ في البحيرة

أرمي حروفي مذهولاً على بياضِ الورقة.

وأسألُ بعدَ أن كتبتُ ألفَ قصيدة:

أهكذا تُكْتَبُ القصائد؟

 

 

 

 

 

 

تلك هي قصيدة الفجر

 

 

القصيدةُ كأسٌ

قيلَ إنّها لا تسرُّ الناظرين.

وا حسرتاه.

وهي قُبْلَة

قيل إنّ نبيذَها مُحرّمٌ أو ممنوع.

وا خيبتاه.

وهي حرفٌ

قيلَ إنّه عاجز أن يفصحَ عن نَفْسه.

فكيفَ يفصحُ عن نقطتي التي امتلأَتْ بالأنين؟

وا................. أسفاه.

*

كلّما كتبتُ قصيدةً جديدة

طلبتُ من قلبي أن يتوقّفَ قليلاً

لأمنحها الحياة

فيفعل عن طيبِ خاطر.

الآنَ وقد صرتُ أكتبُ الشِّعْر دونَ توقّف

ليلَ نهار

صرتُ أخافُ أن يذهبَ قلبي فلا يرجع،

صرتُ أخافُ أن يذهبَ ليكتبَ قصيدةَ الموت.

*

أكاذيبُ عشقنا تتجدّدُ كلّ يوم

فهي أجملُ الأكاذيبِ على الإطلاق،

أكاذيب اخترعها آدم

وفرحتْ بها حوّاء وضحكتْ بل رقصتْ.

رغمَ أنَّ هذه الأكاذيب

ضيّعتْ عليها وعلى آدم الجَنّة.

*

سأعلّمُ حرفي

كيفَ يمسح كلَّ شيء من الوجود

حتّى نَفْسه.

فهذا أسهل من الغوصِ أبدَ الدهر

في ذاكرةٍ ملأى بوميضِ السّكاكين

وعواءِ الذئاب

وصراخِ القِرَدَة.

*

سأعلّمهُ كيفَ يحتالُ على اللغة

فلا ينطق إلّا بكلامٍ يلبسُ بعضه بعضاً

قناعاً من الغموضِ والإبهام.

*

سأعلّمُ حرفي أن يحتالَ على نَفْسه

فيمسح من الوجودِ نقطتَه الوحيدة

دونَ أن تبكي له عين

بل دونَ أن يرمش له جفن.

*

سأعلّمُ حرفي أن يرقص

على إيقاعِ حروفِ شعوبٍ انقرضتْ

وبقيتْ صورُها مُعلّقةً في الكهوف.

*

سأعلّمهُ أن يكتبَ مرثيّةَ الحُبّ

على الحائطِ الذي أُزِيلَ قبلَ أن يتمّ

وضْع أحجاره الوهميّة.

*

سأعلّمُ حرفي أن ينسى اللغةَ كلّها

والنقاطَ كلّها

فيتكلّم بلغةِ الكمانِ والناي والدفّ

ويقرأ المخفيَّ والمستور

بلغةِ الطبول.

*

سأختارُ لحرفي مكاناً قصيّاً في الذاكرة

حيث دجلة تسبحُ امرأةً بشفتين من لهبٍ وشوق

وحيث الفرات قد كفَّ عن سذاجته

فلم يعدْ يُهيّئ لها قلبَه كعشاء ربانيّ.

*

أن نرقصَ معاً،

أنا والحرف،

طفلين عاريين على شاطئ البحر.

تلك هي قصيدة الفجر.

 

 

 

 

 

ذكرى

 

 

من أجلِ أن أنامَ ،

مزّقتُ قصيدتي التي كتبتُها عن ذكراكِ

ورميتُها في بئري السِّرّيّةِ، أعني ذاكرتي.

*

سقطتْ دمعتُكِ فحملتها الريحُ إلى ذاكرتي.

طارتْ ذاكرتي فحملتْ ذكراكِ إليّ.

يومها تعرّفتُ إلى شيء يُدعى الحرف الأسْوَد،

أعني السِّحْر الأسْوَد.

*

يا ليتني لم أزح الغيمةَ ليلتها عن مكانِها

ولم أخرجْ لأراكِ تفيضين وتموتين.

*

بسببِ حُبّكِ المُفاجئ،

بسببِ حُبّكِ المُزلزِل،

صارت الشّمس

تغيبُ في ذاكرتي منتصفَ النهار

لكنّها تُشرقُ الليل كلّه!

*

لغتُكِ نبعُ سلامٍ.

نعم

لكنّها حرب على الطمأنينة.

*

لا تتعجّبي من حرفي العاشقِ لكِ أبداً

ومن نقطتي التي نسيتكِ أبداً.

ففي هذه ال(أبداً)

تكمنُ روحُ الشِّعر

وأمطارُهُ التي تتساقطُ عليَّ.......... أبداً.

*

مِن أجلِ أن لا أنساكِ

سأقيمُ احتفالاً سنويّاً للذكرى.

وسيكونُ الدخول إليه مَجانيّاً بالطبع

لحروفِ العشقِ ونقاطِ المعشوق.

*

كنتُ أسمعُ أخبارَ الزلازلِ في التلفزيون

وأكتبُ قصيدةَ حُبٍّ عنكِ.

ولم أجد اختلافاً كبيراً

فقد كانَ حُبّكِ من النوعِ المُزلزِلِ للذاكرة.

*

لم استطعْ أن أعرفَ مقياسَ حُبّكِ

على مقياسِ ريختر الزلزاليّ

لكنّي أعرفُ تماماً مقياسَ حُبّكِ

على مقياسِ الحرفِ المتكوّنِ من سبعين نقطة.

*

الحياةُ مُملّةٌ حدّ اللعنة.

لا علاجَ لها إلّا بالحُبّ

حتّى لو كانَ من دونِ الحاء

أو من دونِ الباء،

أعني من دونِ نقطةِ الباء.

*

الحياةُ أُغنية

ضحكتُها الحاء

ودمعتُها الباء.

*

الحياةُ خرافة

وجدَ التاجرُ حَلّاً لها بالدولارات

والجنرالُ بالانقلابات

والرسّامُ بهذيانِ الألوان.

أمّا أنا فوجدتُ حَلّاً لها

بتمجيدِ حرفِكِ ليلَ نهار.

 

 

 

 

لم أسأل عن كلمة سرِّك

 

 

ربّما كنّا محظوظين أنّنا لم نعبر الجسرَ معاً

فالجسرُ قد انهار

وتساقطَ العابرون فوقه إلى الماء

جميعاً

ولم ينجُ إلّا أولئك الذين يعرفون كلمةَ السّرّ.

*

كانتْ كلمةُ السّرِّ مَزيجاً من الحظّ

وجمْعِ حروفٍ عجيبة،

وكانتْ أرقاماً لا معنى لها

ترسمُ صورةَ حيوانٍ برأسين.

*

لم تكنْ قصيدةً بالطبعِ أو عنوانَ قصيدة

ولم تكنْ كلمةَ شوقٍ أو حُبٍّ أبداً.

كانتْ تخفي سينَ السّمِّ لا سين السّلام

وكافَ الكذبِ لا كاف الكمال

وهاءَ الهذيانِ لا هاء الذي لا إلهَ إلّا هو.

هكذا كانتْ - وا أسفاه - كلمةُ السّرّ.

*

كلمة السّرِّ التي لم يعرفها ملوكُ النّهرين

فَقُتِلوا - وا حسرتاه -  الواحد بعدَ الآخر.

ولم يعرفها زعيمُ الفقراء

فلم تُرَ له شاهدةٌ أو قبر.

وكانَ على وشكِ أن يفكَّ طلاسمها

طاغيةُ العصر

إذ عرفَ مِن أحرفِها قافَ القتل

وراءَ الرعب

وحاءَ حروبٍ لا أوّل لها ولا آخر.

لكنْ أخطأَ في الرقمِ الثالثِ بعد الألفين

فالتفَّ على رقبته حبلٌ رثّ.

*

قرأتُ ما أعرفهُ من كلمةِ السّرِّ على شبابي

ففاضَ بي الفرات

حتّى سكرتُ من جُنونه ومُجُونه،

وكادتْ دجلة أن تلقي بي من فوقِ جسرِها

أو تذرّ رمادي كأيّ صوفيّ أو درويشٍ أو حلّاجٍ.

وقرأتُ ما أعرفهُ من كلمةِ السّرِّ على طفولتي

فضاعتْ منّي دراهمُ العيدِ السّبعة

ثُمَّ قرأتُه على جسدِ المرأة

فعلّمني أن أطيرَ في مفتتحِ الحرف

وفي خاتمةِ النُّقطة.

وقرأتُه على الريحِ فسلّمتني

إلى البحرِ الذي سلّمني إلى الغيمة.

وقرأتُه على الأصدقاءِ فبكوا أوّلاً

ثُمَّ ضحكوا ثانياً

ثُمَّ رقصوا رقصةَ الوحوش.

وقرأتُه أخيراً على الليل

فامتدَّ حتّى أكلَ الفجرَ عندَ الفطور.

*

يا لها مِن محنة!

مَن كتبَ كلمةَ السّرِّ هذه؟

مَن الذي اختارها؟

أهو الليلُ أم الفجر؟

أهو الإنسانُ أم الشّيطان؟

*

لم أسألْ عن كلمةِ سرِّك

كنتُ مشغولاً بسرِّكِ كلّه،

مَذهولاً بدهاليزه

وخرائطه التي تتبدّلُ أبدَ الدهر

كما تبدّلُ الأفعى ثوبَها.

ولم أعرفْ أنّ السّرَّ يملكُ باباً

لا يُفْتَحُ بالمفتاحِ ولا بالسِّحْرِ ولا بالشِّعْرِ ولا...  

بل بكلمةِ سرٍّ فقط.

*

يا لها مِن محنة!

قلبي لا يعرفُ كلمةَ السّرّ

إلّا التي تخفي الحاءَ والباء

وتظهرُ الحاءَ والباءَ أيضاً.

ومثل هذه الكلمة: المعجزة

لا يعرفها إلّا الذي اكتوى حتّى صارَ رماداً

وطيّرتهُ الريحُ حتّى صارَ ذكرى.

*

أن أعثرَ في زمنِ العولمة

على مِثْلِ قلبي،

أعني على القلبِ الذي يرسمُ كلمةَ السّرّ

بالحاءِ والباءِ نُطْقاً ونَبْضاً

كمِثْلِ الذي يعثرُ على البحرِ في الصّحراء

أو على الماءِ في فُوَّهةِ البُركان.

*

هكذا ضاعتْ كلمةُ السّرِّ منّي

فعوّضتُها بالطيرانِ الكثيفِ في غابةِ الشِّعْر

كلّ ليلةٍ حتّى مطلعِ الفجر.

وحينَ أتعبُ من الطيران

أذهبُ إلى حانةِ النُّقطةِ راقصاً كالدراويش

حيث كلّ شيء لحرفي مُباح.

 

 

حرف محذوف

 

 

القمرُ الذي كانَ يمشي بهدوء

في الليلِ الأسْوَد

التفتَ إليَّ بهدوء أسْوَد

ثُمَّ أضاءَ نقطةَ قلبي

بكثيرٍ من الدموع.

*

قالتْ: هل في قلبِكَ مرآة؟

قلتُ: نعم،

وقد رأيتُ اسمَكِ مكتوباً عليها

فمسحتُهُ بقليلٍ من الملح

وكثيرٍ من الرماد.

*

الشَّاعرُ الذي كتبَ كثيراً عن الحرفِ والنُّقطة

مات.

ولم يتركْ لي شيئاً

سوى كتاب قصائده الذي أقتطعُ منه

كلّ يومٍ ورقةً

ألصقُها على قلبي

ليكفَّ عن الهذيان.

*

في غابةِ حياتي المُوحشة

كلّما قطعتُ شجرةً لأشعلَ ناراً

وجدتُها مليئةً ببَيضِ الغربان

وريشِ الجِنّ

وقهقهاتِ المنفيين.

*

تعبتُ من سجنِ حرفي أبدَ الدهر

فصرتُ أطلقهُ في الليل

ليلعبَ في حديقةِ ذاكرتي.

*

رأيتُكِ عاريةً في مَطلعِ الأغنية

ولكي أُلحّنكِ

لم أكنْ مُحتاجاً إلّا إلى قُبْلةٍ واحدة.

*

مثلما أضاعَ كلكامش صديقه أنكيدو

وهو يبحثُ عن عُشبةِ الخلود،

أضعتُ حرفي

وأنا أبحثُ عن نقطتي،

أعني عن حياتي.

*

لأنَّ قلبي وتر عودٍ مقطوع

لذا سأكفُّ عن العزفِ إلى الأبد،

لأنَّ جَرّاحَ القلب

لا يعرفُ أن يصلّحَ قلباً

قد أصبحَ عوداً،

ولأنَّ مُصلّحَ العود

لا يعرفُ أن يصلّحَ عودا

قد صارَ قلباً.

*

لم يعدْ لديَّ من مباهجِ الأغنية

سوى توهّم سماعها في الحلم.

*

كانَ عليَّ أن أكونَ في منتهى الجُرْأة

لأطلبَ لطيري عشّاً في شجرتِكِ القاسية

وقت أن سرقتِ بيضةَ حلمه أمامي

ورميتِ بها إلى الماضي السحيق.

*

هل سيكونُ لطلبي رائحة الجنون؟

نعم، لا، ربّما.

لكنَّ اللغات تتشابه

وكانَ للغتكِ مخالب

أنشبتْ أظافرها في عنقي منذ زمنٍ بعيد

ولم تزلْ ظاهرةً فيه إلى يومِ يُبعثون.

*

الشِّعرُ يعشقُ الترميزَ حدّ الهذيان.

لكنّ الحياة لا تعشقُ الرمزَ أو الترميز،

الحياة صريحة حدّ اللعنة.

*

اشتركتُ مُجبَرَاً في سبعين حرباً

وخسرتُها، بنجاحٍ أسطوريّ،

الواحدة بعد الأخرى بعد الأخرى.

لكنّي انتصرتُ في حربٍ واحدة

هي حرب النُّقطةِ التي توجتّني مَلِكاً

على أبجديّةِ الوهم.

*

حينَ سقطتْ قصيدتي واحترقتْ

فتحتُ، بعدَ جهدٍ جهيد، صندوقَها الأسْوَد

فلم أجدْ سوى حرفٍ واحد؛

حرفٍ محذوف.

 

 

 

 

 

شَظيّة مرآة

 

 

ركضتُ كثيراً في صحراءِ المرآة

علّي أجد المرأة

فوجدتُ أقدامي تسبقني ليلَ نهار.

*

لم أشتَقْ كثيراً إلى داري

إذ لم تكنْ فيها بئرٌ أو مرآة .

*

ستسألني امرأةٌ عابرةٌ

سؤالاً ليسَ بعابر.

أضحكُ ممّا سألتْ

وأُحدّثُها مُرتبكاً عن مرآتي،

أعني عن حرفي الوهميّ.

*

امرأةُ المرآة

شاختْ، هرمتْ.

وحينَ ماتتْ

دخلتُ إلى غرفتِها

لأجمعَ شظايا المرآة

فلم أجدْ أثراً للمرأةِ أو للمرآة.

*

اصطفَّ الموتى في ذاكرتي.

لم يُحدِّثوني أبداً عن رحلتِهم

وهم يحملون مرايا من طينٍ

أحْمَر أو أصْفَر أو أزْرَق أو أسْوَد.

والغَلَبَةُ كانتْ للأسْوَد،

وا أسفاه.

*

للطائرِ مرآة،

أجملُ مرآةٍ في العالم.

أجملُ من مرآةِ النّهر

ومن مرآةِ المرأة،

أجملُ حتّى من مرآةِ الريح.

*

لا تسرعْ يا هذا فالمرآةُ انكسرتْ

والزمنُ سالَ دموعاً ودماً.

*

كنتُ سعيداً

إذ قضيتُ حياتي وحيداً

أحملُ شَظيّةَ مرآة

وأُوهِمُ مَن حولي أنّي ملآن بمرايا الكون.

*

كنتُ سعيداً لسماعِ كلامِ شَظيّةِ مرآة

لأنَّ شَظيّة مرآةٍ لا تكذبُ أبداً

ولا تعرفُ فنَّ التّشْوِيشِ أو التّهْرِيج.

*

أكانتْ مرآتي مرآة الدرويش؟

*

شَظيّةُ مرآةٍ رسمتْ لي صوراً لملوكٍ قتلى

وطغاةٍ ما كفّوا يوماً

عن حرقِ كلِّ جميلٍ في الأرض.

ورسمتْ لي أنهاراً من دماءِ الفقراء

وذهبِ المنهوبين

ودموعِ المحرومين

وصيحاتِ الغرقى في الليل

وبكاءِ الأيتامِ عندَ الفجر.

*

شَظيّةُ مرآةٍ رسمتْ لي صُوَراً

لمجانين رموني بحجرٍ من سِجِّيل،

فقط لأنّي أملكُ شَظيّةَ مرآة.

فَبِمَ سيرمونني لو كانتْ عندي مرآة ؟

 

 

 

 

حينَ أحببتُكِ فقدتُ نصفَ ذاكرتي

 

 

حينَ أحببتُكِ فقدتُ نصفَ ذاكرتي

وحينَ خرجتُ من الحربِ فقدتُ نصفَها الآخر.

وفي المنفى

شكا الأصدقاءُ والأعداءُ من ضياعِ الذاكرة.

أمّا أنا فقد كنتُ أضحكُ من محنتهم بمرارة

لأنّني، ببساطةٍ، جئتُ إلى المنفى بلا ذاكرة.

*

قالَ المعرّيّ : خَفِّف الوطء.

وقالَ الخيّام : اشرب الكأس.

وقالَ جُبران : أعطِني الناي وَغنِّ.

أمّا أنا فقلت : الحرفُ كأسٌ والحرفُ ناي

فَخَفِّفوا من وطأةِ القولِ أيّها الشُّعَراء.

*

حينَ هبطنا من الجبل

كانَ بعضهم يحملُ كيساً من الذهب،

وكانَ بعضهم يحملُ كيساً من الأوسمة،

وكانَ بعضهم يحملُ كيساً من الأكاذيب.

أمّا أنا فقد كنتُ أحملُ كيساً فيه رماد جُثّتي.

*

لم يكن الرمادُ في ذلك الكيس أبداً

بل كانتْ جُثّتي فيه كاملة دونَ نقصان.

*

حينَ هبطتُ من الجبل

كنتُ أحملُ جُثّتي.

غير أنّها لم تكنْ مَيّتةً تماماً

إذ كانتْ تخرجُ على النَّصِّ، نَصِّ الموت،

فتكتبُ لي قصائدي أو تُدمدِمُها في الأدقّ

وأحياناً تغنّي لي

بل تغنّي وترقص!

 

 

 

 

 

 

حوار مع الفرات

 

 

سألت النُّقطةُ الحرفَ: كيفَ وصلتَ؟

أجابَ الحرف: ماشياً.

فهزّت النُّقطةُ رأسَها

واستلقتْ على فراشِها العجيب.

*

الشِّعْرُ يحتاجُ إلى الغموضِ والترميز

والقلبُ يحتاجُ إلى البكاءِ والصراخِ وشقِّ الثياب.

ما فائدةُ الشِّعْر إذن؟

*

الفراتُ يتصلُّ بي تلفونيّاً كلّما اشتدَّ به المرض،

فعلّمته الصّلاة.

قال: لا أحتاجُ إليها،

أنا أُصلّي على وسادتي المصنوعةِ من الطينِ والسَّمَك.

*

الفراتُ يحُبّني وأنا أحُبّه

لكنّي لا أستطيعُ أن أقولَ له:

إنّ حُبّه أهلكني

وألقى بي إلى الجحيم

شاعراً من حروفٍ وحُتوف.

*

بعدَ أن شكوتُ للفراتِ محنتي الأسطوريّة،

قال: لا أفهمكَ يا ولدي

أنتَ حرفٌ وأنا نهر.

*

أردتُ أن أصفَ أنيابَ الكلاب

فأفسدت القِرَدَةُ عليَّ الأمر

بصراخِها الذي لا يتوقّف أبداً.

*

المرآةُ حلمٌ

كيفَ أقودهُ إلى نَفْسه؟

*

المرأةُ كائنٌ هَشّ

أكثرُ هشاشة من الثلجِ المُتساقطِ من السّماء.

*

قلبي هشّ

مصنوعٌ من القَشّ.

ولذا أخافُ عليه من النّارِ والريحِ والآه.

*

أردتُ أن أصفَ جمالَكِ،

أن أغنّي لكِ،

أن أعزفَ موسيقى الجسد لكِ،

فقلتِ : لا، ولا، ولا.

معَ أنَّ (لا) واحدة تكفي تماماً وتزيد.

*

قلتُ للفرات: أأنتَ قلتَ لي

- حينَ كنتُ صَبيّاً وأردتُ الطيران-

لا تحزنْ يا صديقي الصغير،

أنتَ مُؤهّلٌ للطيران في سماءِ القصيدةِ فقط.

ضحكَ الفراتُ وقال:

أنا لا أفهمُ إلّا في الماء

وحديثُ السّماءِ عليَّ غريب.

*

قلتُ للبحر:

أريدُ أن أرجعَ إلى الفرات.

فتبسّمَ وقال:

مَن يصل البحرَ لا يرجع إلى النّهر.

*

المرآةُ العاريةُ رقصتْ وبيدها المرآة.

أعني أنَّ المرأةَ العاريةَ رقصتْ وبيدها المرآة.

*

أخرجتُ الثلجَ من المرآة

فبكيتُ لأنَّ النّار اتّسعتْ وأحرقتْ أصابعي.

*

أنكرَ الفراتُ علاقته بالمرآة،

وأنكرت المرآةُ علاقتها بالمرأة،

وأنكرت المرأةُ علاقتها بالحرف،

وأنكرَ الحرفُ علاقته بالنُّقطة

لكنَّ النُّقطة لم تنكرني

فبقيتُ مَذهولاً مُنتَظِراً أبدَ الدهر.

 

 

 

 

 

ماركيز يضحك

 

قالَ لي صديقي ماركيز :

حينَ بلغتُ الثمانين

صرتُ أضحكُ كلّ صباح

من أخطائي المُرّة.

أوّلها الشهرة

إذ ظهرتْ فارغةً مثل كيسٍ مثقوب،

وثانيها خيالي الأسطوريّ

إذ نبتتْ له أجنحةُ نُسور،

أمّا المرأة فلم أضحكْ منها

رغمَ أنّي كتبتُ عنها  ثمانين كتاباً.

إذ عرفتُ بعدَ أن بلغتُ الثمانين

أنّها نبع الضحكِ في ذاكرةِ الإنسان

وذاكرةِ النّسيان.

*

أعظمُ مجدٍ للشِّعْر

أنّه يخلق لكَ أصدقاء وهميين،

وأعداء مُخلصين،

وأعدقاء أكثر وهماً وإخلاصاً بالطبع.

*

في العاصفةِ الكبرى

ظهرَ النّاسُ عُراةً بثيابِ الأشباح.

*

ماتَ الطاغيةُ ففرحَ النّاس

ولم يعرفوا أنَّ الفرحَ ممنوع

والرقصَ العلنيّ ممنوع.

فرجعَ الطاغيةُ إليهم في الفجر

بسيفٍ أغْبَر

وبوجهٍ أغْبَر

وثيابٍ غُبْر.

*

السّوقُ جميلة

والبضائعُ والفواكهُ والحلوياتُ مُرتّبةٌ وأنيقة.

الكلُّ سعداء في السّوق

ماعدا العصفور الذي شبعَ مطراً مثلي

وتعبَ مثلي

من منظرِ البضائعِ خلفَ الزجاجِ الأنيق.

*

أولئك الذين يجيدون لغةَ الكراهية

قرأوا كتابَ الحُبِّ بترجمةٍ رديئة.

*

الحرفُ الذي أعلنَ نَفْسَه إلهاً للأبجديّة

ماتَ بعدَ خمس دقائق فقط

من كتابةِ نقطةٍ واحدة.

*

قلبُكَ بابٌ مفتوح.

إذا جاءكَ زائر

فتذكّرْ أن تغلقَ حرفَكَ بالمفتاح.

*

قلبُكَ أغنيةٌ

سقطتْ سرّاً وعلانيةً في النّهر.

وصارَ عليكَ أن تستخدمَ أدوات الصيّادين

لتنقذها من الغرقِ، ومن النّهرِ، ومن الأسماك.

*

قلبُكَ أغنيةٌ لم يغرقها الطوفان

بل أغرقَها الخوفُ من الطوفان.

*

ماذا لو أنَّ الزمنَ كانَ رحيماً

فلم يترككَ وحيداً

كحرفٍ سقطَ من فمِ سكّير؟

*

حاولتُ الطيرانَ كثيراً

لكنَّ سماء زماني كانتْ ملأى

بخرائط حرفٍ مسكونٍ بالغيمِ لا بالشمس.

*

ماذا لو أنّ علامات الاستفهام

كفّتْ يوماً أو بعضَ يوم

عن محاصرةِ قصيدةِ حُبٍّ عمرها آلاف الأعوام؟

*

القُبْلةُ حلمٌ والوردةُ آه.

قالَ القائلُ ثُمَّ غنّى حلماً مِن آه.

بيده كانتْ وردة؟

نعم

لكنَّ الوردة سقطتْ

حينَ دخلتْ في أعماقِ الآه.

*

صاحَ الصائحُ: مَن ينقذني مِنّي؟

ضَحِكَ النّاسُ والتفتوا نحوَ الصائح.

والتفتَ الصائحُ إلى نَفْسِه

فلم يجدْها.

ارتبكَ ثمَّ تلعثمَ

ثُمَّ ضَحِكَ معَ النّاس. 

 

 

 

 

 

ورقة القصيدة

 

أيّها الحُبّ

أعطِني حرفاً فقط

أو أعطِني نقطةً فقط

وسأعطيكَ بكرمٍ أُسطوريّ

أبجديّةَ عشقٍ كاملة.

*

لا يمكنكَ أن تكونَ عاشقاً حقيقيّاً

ما لم ترقص كالطفلِ الذي يرقصُ ليلةَ العيد

أمامَ حذائه الأحمر الجديد.

*

حتّى لا أكتئب

فإنّني أكتبُ أُسطورتي بحروفِ الأطفال

وذاكرةِ الطيورِ التي تحلّقُ عالياً في السّماء.

*

كي أروّضَ وَهْمي العظيم

فإنّني أشتري وَهْماً جديداً

كلّ يومٍ من سوقِ الأيّام

فإن لم أجدْ أقطع ورقةً أو ورقتين

من شجرةِ وَهْمي الكبرى

تلك الشّجرة التي زرعتُها سرّاً

في حديقةِ الدارِ الخلفيّة.

*

كي أروّضَ أُسطورةَ الموت

فإنّني أكتب كلّ يومٍ أُسطورةً جديدة

بحروفٍ من ماء

ثُمَّ أعرضها على الشّمسِ لتختفي

فأكتب في اليومِ التالي

أُسطورةً أخرى.

*

ورقةُ القصيدةِ كانتْ صغيرةً جدّاً

والحروفُ مكتوبة من اليمينِ إلى اليسار

ومن اليسارِ إلى اليمين

ومن الأعلى إلى الأسفل

ومن الأسفل إلى الأعلى.

فاحترتُ كيفَ أقرأها على النّاس

ثُمَّ قرّرتُ في لحظةِ شِعْرٍ ساحرة

أن أقرأها من السّرّةِ حتّى العنق.

*

الورقةُ التي أُعطِيتْ إليَّ صغيرة جدّاً

لا تتسعُ سوى كلمةٍ أو كلمتين.

فكيف أختصرُ سبعين عاماً من النفي

والهربِ دونَ جدوى من النفي

في كلمةٍ أو كلمتين؟

يا لها مِن محنة!

 

 

 

 

 

نعم، لا، ربّما

 

 

الذين يقولون: إنَّ أصلَ الحرفِ نقطة،

يفهمون في الأبجديّةِ فقط ولا يفهمون في الحُبّ.

ذلك أنّ أصلَ الحُبِّ نقطة،

أعني نقطة الباء.

*

في الكتابِ الذي أعدتُ كتابةَ مسودّته للمرّةِ الألف،

كتبتُ إهداءً قلتُ فيه الكثيرَ لكنّي نسيتُه.

النّسيانُ داءٌ عظيمٌ يصيبُ العشّاقَ والمجانين والمنفيين.

أعراضُه كتابةُ الشِّعرِ وطَرْق بابِ الحرفِ دونَ جدوى.

أحياناً،

وهذا سرّ أرجو أن لا يصدّقه أحد،

يطرقون بابَ الموت .

ليسَ مُهمّاً مَن هم الذين يطرقون بابَ الموت.

المُهمّ أنّني أسمعُ طَرْقَ البابِ الآن

لكنّني لن أفتحَ الباب

إلى أن أنتهي من كتابةِ هذه القصيدة.

*

انتقلتُ كثيراً من مدينةٍ إلى أُخرى،

أعني من قصيدةٍ إلى أُخرى.

كنتُ أنتقلُ بالباصِ أو الطائرةِ أو الحلم

بعينين تفيضان بالدمع،

وهذه عادةٌ سيئةٌ دونَ شكّ

لمَن يعاني مِن مصاعب في النومِ أو في السّرير.

مَن قال: إنَّ الحياةَ حلمٌ؟

لا أعرفُ، لكنّه لم يكنْ كذّاباً أبداً .

*

معَ أنَّ القصيدةَ غير مُرقّمة

فإنّني أحاولُ أن أضعَ الرقمَ الصحيحَ لها حتّى أتوازن

أي حتّى لا أتحوّل إلى حرفٍ طائر أو نقطةٍ تائهة.

*

ماتَ الشَّاعرُ الكُحوليّ

وكانَ يسقطُ من السّريرِ أثناءَ النوم.

أنا مثلهُ أسقطُ من السّريرِ أثناءَ النوم

معَ أنّني لا أشربُ الخمرَ أبداً.

هل في هذا ما يدعو إلى الضحك؟ ربّما.

*

بدأ الشَّاعرُ الكحوليُّ يقفزُ على السّريرِ من الفرح

وأنا أقرأُ له قصيدةً عن الجمرِ والخمر

لكنّه قالَ لي

وأنا أحاولُ عبثاً تمشيطَ شَعْري أمامَ المرآة:

ابْقَ هكذا يا صديقي، أنتَ تحاولُ والشَّعْر يرفض.

انتهى حوارُ الشِّعرِ والشَّعْرِ حينَ سقطتْ قذيفةٌ بيننا،

فذهبَ هو إلى أقصى النُّقطة ليموتَ وحيداً

وأنا ذهبتُ إلى أقصى الحرف

لأموتَ وحيداً أيضاً.

ولم يكنْ في موتنا فرْقٌ سوى فرْق التوقيت.

*

هذا كتابٌ عن الحُبّ

لكنّه غير مخصصٍ للعُشّاق.

العُشّاقُ الآن يشاهدون أفلاماً من الدرجةِ العاشرة

ليمارسوا فنَ القُبْلة.

في زمني كانَ الحرفُ هو السبيل إلى ذلك،

ولذا كانَ الحرفُ مُصاباً

بداءِ العاطفةِ المُلتهبةِ وبأغنياتِ السذاجة.

أنفقتُ أربعين عاماً

لأخلّصَ الحرفَ من العاطفةِ والسذاجة

حتّى تحوّلَ إلى صخر.

هل أنا صخرٌ؟ لا أظن.

*

الأنبياءُ كانوا عُشّاقاً أيضاً،

عُشّاقاً بعيونٍ زادها الكحلُ جمالاً.

كانوا يعشقون الحقيقةَ ويكتبون رسائلهم إلى الله

فيتقبّلها منهم بقبولٍ حَسَنٍ.

الآن أنا أعيشُ في زمنٍ لا أنبياء فيه.

إنّما فيه قِرَدة من كلِّ نوعٍ

تلوكُ الحروفَ والنقاط،

وترقصُ على المسارح،

وتلعبُ بالملايين،

وتطلقُ النّارَ بسرعةِ البرق

على كلِّ مَن يخالفها الرأي

حتّى لو كانَ على نوعِ الرقصةِ فقط.

*

الجملُ المبتورةُ، لا القصيرة، هي عمادُ القصيدة.

القصيدةُ خرجتْ عن المسارِ حتماً.

الفقراءُ يغرقون في البحرِ فيضحكُ الأثرياءُ من الأعماق

وهم يشربون الكونياكَ بالثلجِ والليمون.

وحينَ تسقطُ القنابلُ على رؤوسِ الفقراء

يسارعُ مذيعون أغبياء

ومذيعاتٌ أشدّ غباء

لنقلِ الأخبارِ السّعيدةِ في قنواتِ التلفزيون.

أنا سعيدٌ لأنّني لا أملكُ جهازَ تلفزيون

إذ بعتهُ قبلَ الحربِ بأيّام

وصرتُ أقضي الليلَ وحيداً

أتأمّلُ في بياضِ الجدارِ كأيّ فيلسوفٍ عظيم.

*

"الشّتاءُ كثيرُ الغيوم"

هذا هو عنوان قصيدةٍ كتبتُها قبلَ أربعين عاماً

ونشرتُها في مجلةِ صديقي الشَّاعر الذي هربَ سرّاً

إلى المجهول

ونسي، بالطبع، أن يردَّ على رسائلي.

ثُمَّ جاءَ مَن يكتبُ ليكتب كثيراً

عن شتائي وغيومي دونَ معنى

فقد كانَ خفيفاً أو مُؤدلَجاً حدّ اللعنة.

الآن تركَ الخفّةَ والأدلجة

بعدَ أن غرقَ بيتُهُ بالطوفان

فلم يعدْ يُميّز ما بين الحروف

بل لم يعدْ يُميّز ما بين الشّمس والغيوم.

*

كم تمنيتُ أن أرسمَ حروفي بالألوان

لكنّني أعيشُ في شقّةٍ ضيّقة

وقد منعني صاحبُ العمارة

مِن إدخالِ الألوانِ إلى الشقّة.

مع أنّه يعطفُ عليَّ

فيشتري نُسَخَاً مِن كتبي بسعرٍ رمزيّ،

ويرسلُ إليَّ كلّ إسبوع مبلغاً من المال

كي أدفعَه إليه كإيجار

أو كثمنٍ للهواءِ الذي أتنفسُّه باستمرار!

أليسَ هذا أمراً مُضحكاً؟

نعم، لا، ربّما.

 

 

  

 

شبح قصيدتكِ الأخيرة

 

 

شهيقُ البحرِ الصاخب امرأةٌ عارية

وزفيرهُ رجلٌ غريق.

*

كلّ يومٍ أغسلُ قميصَ حياتي

وأنشرهُ فوقَ حبلِ شقّتي المُطلّةِ على البحرِ الصاخب

لعلّ الريح تطيّرهُ فأنزل إلى البحرِ عارياً.

*

في داخلي مَلاكٌ وشيطان.

فَمَن منهما قد أحبّكِ؟

أهو مَلاكُ الحلمِ المصنوعُ من الرماد

أم هو شيطانُ الشِّعْرِ المُتألّقُ بالنّار؟

*

سألتني امرأةٌ عندَ شاطئ البحر:

هل البحرُ حرف غامض خَلَقَه الشُّعَراء

أم نقطة هائجة خلقها السّرير؟

*

قالَ لي: أحاولُ أن أكتبَ قصيدةً

ليسَ فيها أيّ معنى،

أيّ معنى كان.

قلتُ له: لو فعلتَ ذلك لأصبحتَ شاعراً بجناحين.

*

عدوّ الطاغيةِ وصديقُ الطاغية

التقيا فجأةً عندَ قبر الطاغية

وركعا إليه ككلبين وفيين.

*

لعمقِ محبّةِ النّاسِ لأكاذيبِكِ الجميلة

تحوّلتْ أكاذيبكِ إلى حقيقةٍ تتناقلها السّاعة

ليلَ نهار.

*

حرفي يصارعُ العمى كي يراكِ

أو يرى رمادَ ذكراكِ.

*

البارحة كتبتُ قصيدةً عنكِ

ثُمَّ نمتُ نوماً عميقاً بعمقِ البحر.

وفي اليومِ التالي لم أستطع القيامَ من الفراش

فاستعنتُ بشبحِ قصيدتكِ الأخيرة.

 

 

 

 

 

هذيان

 

البحرُ خرافةٌ قديمة

لا تؤمنُ بها سوى السُّفن والنِّساء.

*

للبحرِ لحيةٌ بيضاء

تظهرُ عندَ الفجرِ للمجانين

وتظهرُ عندَ الغروبِ للمنفيين.

*

ألبسني الحرفُ قُبّعةً

بأكثر من عشرين ريشة وريشة

لكنْ لم يشهدْ هذا التكريم الملوكيّ أحد

سوى النُّقطة.

*

ضاعتْ آنيةُ الوردِ الفضّيّة

بعدَ أن قدّمتُ لكِ فيها بيدين مُرتبكتين

قلبي مَقطوعاً،

كالزهرةِ مَقطوعاً.

وكيفَ لكِ أن تفهمي قلباً من هذا النوع

يا صاحبةَ القلبِ الحجريّ؟

*

مرَّ ألفُ شتاء.

سيأتي في العامِ القادم

شتاءٌ لا يذهبُ أبداً.

سيجلسُ في الشّرفة

ويمطرني ليلَ نهار

بألف قصيدة حُبٍّ كُتِبَتْ بلُغاتٍ لا تُقْرَأ،

كُتِبَتْ بحروفٍ لا تفهمها حتّى النّار.

*

في القاعةِ كنتُ لوحدي أقرأُ شِعْري،

إذ حضرَ رجلٌ يشبهني

وجلسَ في الصفِّ الأوّل

وأخذَ يُبدي حركاتِ الإعجابِ بشِعْري.

قلتُ له: مَن أنت؟

قال: أنا ظِلّك!

قلتُ له : لا ظِلّ لي فأنا شبحٌ!

بل أنا شبحٌ ميّت!

هل سمعتَ بظِلٍّ لشبحٍ ميّت؟

*

طلبَ المُخرِجُ منّي الطيران!

قلتُ له : كيفَ أطير؟

قال: الأمرُ سهلٌ جدّاً!

فضحكتُ بل قهقهتُ في المشهدِ الأوّل،

وبكيتُ في المشهدِ الثاني،

وفي المشهدِ الثالثِ صَمَتُّ مائة عام.

*

لماذا طلبَ المُخرِجُ منّي الطيران؟

سؤال أسألهُ بهدوء أسْوَد.

لكنْ ما مِن أحدٍ يردُّ عليَّ،

أو يؤمنُ، مثلي، بعذابِ الهذيان.

 

 

 

 

 

 

 

سكرت الكأسُ فصحوتُ شاعراً

 

 

* هل ذوتْ قصّةُ حُبّنا؟

- نعم.

* هل يبستْ؟

- نعم،

يبستْ واحترقتْ وتحوّلتْ إلى رماد.

* وماذا عن الرماد؟

- لقد تطايرَ، وا أسفاه،

وتحوّلَ إلى قصائد وحروف.

*

أنتِ حلمٌ خالصٌ ليسَ إلّا،

حلمٌ حاولتُ أن أستعيدَ فيه عينيكِ

أو شفتيكِ أو نهديكِ

فلم أستطعْ.

فتأكّدَ لي أنّكِ حلم خالص لا أكثر ولا أقل،

ولذا توقّفتُ

عن محاولةِ استعادةِ أيّ شيء يعودُ إليه

حتّى أنّني توقّفتُ

عن كتابةِ الحاءِ واللامِ والميم،

أي توقّفتُ عن إتمامِ القصيدة:

المتن والهامش والعنوان.

*

بقيتُ أشربُ من كأسِ حُبّكِ

سبعين عاماً

حتّى سكرت الكأسُ

فصحوتُ شاعراً.

*

قالتْ نقطتي :

الملوكُ على سبعةِ أنواع،

لكنّ ملك الحروفِ أكثرهم جُنوناً.

*

تحتَ غيمةِ عمري المُلوّنةِ الكبيرة

جلستُ درويشاً

يسألُ النّاسَ عمَّن رأى الله.

لكنّ النّاس كانوا سفهاء أو شعراء

يضحكون وهم يشيرون إلى أنفسهم.

*

أنا أكرّرُ نَفْسي كلّ يومٍ

حتّى لا أموت!

*

كانتْ حياتي شمعة

حينَ كانَ القصفُ مُستمرّاً على بيتي

طوالَ ثلاث حروب.

الآنَ وقد انتهت الحروبُ كلّها،

كما أعلنَ المذيعُ ذو الشوارب الكثّة في التلفزيون،

فإنّ حياتي تحوّلتْ، فجأةً، إلى دُخان.

*

في شاشةِ الحياة

كثيراً ما رأيتُ الحروف المُزيَّفة

تبتسمُ لكاميراتِ التلفزيون

أو تأخذُ لنَفْسِها صوراً شخصيّة

بلهاء تماماً.

*

كنتُ أحسبهُ حرفاً حقيقيّاً،

فبعثتُ إليه ببطاقةِ تهنئة

لكنّه رمى بطاقتي الطيّبةَ من نافذةِ الفندق،

وهو يرقصُ للدنانيرِ التي انهالتْ عليه

بعدَ أن أنهى  خطابه الأجوف

عن محاسن الزُّهْد.

*

لأنّي أعيشُ وحيداً مثل شجرةٍ في الصّحراء

لا تملكُ ثمراً ولا طيوراً

لذا قرّرتُ أن أخلقَ حروفي طيوراً مُثمرة

ونقاطي ثمراً

يطيرُ ويطيرُ ويطير.

 

 

 

 

 

 

في حُبّكِ حرف

 

 

لِمَ تبكي أيّها الحرف؟

هل ترككَ قلبي وحيداً على الورقة؟

*

الحرفُ يخلقُ قصصَ حُبٍّ خرافيّة

لكنَّ جذورها تطفو على الماء.

*

الحرفُ ضيّعَ مرآتَه في البحر

واستعاضَ عنها بالقصيدة،

القصيدة التي تقولُ كلَّ شيء

ولا تقولُ أيّ شيء.

*

أتعبني المطربُ الذي يبكي على حبيبته ليلَ نهار.

أتعبني حتّى أنّني كتبتُ عنه ألفَ مرثيّة،

كلّ مرثيّةٍ تعادلُ دمعةً

من دموعِ أغنياته الألف.

*

اليأسُ ثقافةٌ أسّسها الحُبّ

ولم يحضرْ، للأسفِ، حفلَ افتتاحِها المأساويّ.

*

اليأسُ اسمُ المرأةِ التي ترتدي

خرافةَ الحاءِ وأسطورةَ الباء.

*

في سينِ اليأس

ثمّة دمعة من الحجر.

*

في حُبّكِ حرفٌ مسكونٌ بالماضي

لا يرجعُ إلى الخلفِ ولا يلقي بنَفْسه إلى التهلكة.

*

في حُبّكِ حرفٌ مسحورٌ لا يستسلمُ أبداً

رغمَ أنَّ الطلقات النّاريّة

قد ملأتْ جُثّتَه الجميلة.

*

حرفٌ ألقى القبضَ على نَفْسه

وأودعني في سجنِكِ الفسيح.

*

في حُبّكِ حرفٌ. هل هو أنا:

أنا الألِفُ الذي لا بداية ولا نهاية لليله الأسْوَد،

ولا لقصيدته التي كلّما نجتْ من زلزالٍ

هرولتْ إلى زلزالٍ جديد؟

 

 

كنتَ وَهْماً فأصبحتَ حرفاً

 

 

رسمتْ إبرةُ عقاربِ السَّاعَةِ حظَّكَ

بقليلٍ من الأخضرِ الملآنِ بالفرح

وكثيرٍ من الأسْوَدِ المُتفحّم.

لا تحزنْ كثيراً

فربّما كانتْ إبرةُ عقاربِ السَّاعَة

أخفّ وطأة من أظافر القدر

أو أصابع الماضي.

*

السَّاعَةُ تُخيّركَ ليلَ نهار

ما بين النّهر والصّحراء.

النّهرُ أجملُ دونَ شكّ

فالغرقُ فيه أسرعُ من الموتِ عطشاً في الصّحراء.

*

لم يكنْ كلبُكَ باسطاً ذراعيه

بل كانَ يركضُ خلفَكَ منذ الطفولة.

لا ترتعبْ منهُ فهو قد عضّكَ ثُمَّ هرب،

وأنتَ الآن في دورِ النّسيانِ العظيم.

*

كنتَ تُراباً

فأحببتَ أن تُعْرَفَ فصرتَ حرفاً.

*

كنتَ وَهْماً

فأصبحتَ أسطورةَ وَهْم.

*

كنتَ وَهْماً فأصبحتَ أسطورةَ وَهْمٍ

ولم تصبحْ أغنيةَ حُبٍّ كما تمنّيت.

*

الفرحُ فاء

والحُبُّ حاء

والسعادةُ سينُ ساعةِ أفعى تفحُّ تفحُّ.

*

يقرأُ الجميعُ نقطتَك

ولا يحتارُ فيها أحدٌ سواك.

*

الشّيطانُ لا يحبُّ سوى الشّين

أو نقاط الشّين.

وقيلَ إنّه يكره الأبجديةَ كلّها.

*

هل تحاولُ النّسيان؟

إذنْ خلّصْ قلبَكَ بهدوء من القاف.

أو خلّصه من السّين

فهي كثيرة التسويف

وتدخلُ في أسماءِ السّيوفِ والسّكاكين كلّها.

*

كنتَ وَهْماً فأصبحتَ ألِفاً

ألا يكفيكَ هذا إبحاراً في سفينةِ الغرقى؟

*

كنتَ وَهْماً فأصبحتَ نقطةً.

ألا يكفيكَ هذا مَجْداً؟

*

كنتَ تُراباً وستعود تُراباً

ألا يكفيكَ هذا حرفاً؟

*

كنتَ ولم تكنْ.

تذكّرْ هذا ولا تبكِ

واعبرْ جسرَ الحياةِ القصير المؤدّي إلى الموتِ بهدوء.

 

 

 

 

 

الدرج الطويل

 

في الدرجِ الطويل

ألتقي يوميّاً بشخصٍ يشبهني تماماً.

وكلّما أردتُ أن أسأله: مَن أنت؟

ماذا تفعلُ هنا؟

لماذا تبتسمُ ابتسامةً ساخرةً حينَ تراني؟

احترتُ،

احترتُ كيفَ أبدأُ أسئلتي

فتوقّفتُ عن السّؤال

وبادلتُه ابتسامةً ساخرةً أيضاً

في الدرجِ الطويل.

*

المرأةُ ذاتُ المفتاح البلاستيكيّ

اشترتْ لها قفلاً ينفتحُ ذاتيّاً

ولم تعدْ بحاجةٍ إلى أحد.

*

النّاس الذين التقيتهم صدفةً على شاطئ البحر

كانوا يجيدون الابتسام.

وحينَ سألتُهم

إن كانَ بإمكاني أن أجلسَ معهم،

ضحكوا وقالوا:

نحن أشباح أيّها الغريب، كيفَ رأيتنا؟

*

في مسلسلِ خساراتي التي لا تُحصى

لم يعدْ يعنيني أن أجدَ حلّا لها.

صرتُ مشغولاً فقط

بإعدادِ الموسيقى التصويريّة.

*

كلّما ارتبكتُ سارعتُ لأدقَّ بابَ الشِّعِر.

وحينَ يخرجُ لي ملكُ الحروف

وهو يرتدي التاجَ المُرصّعَ بالجواهر

أكتفي بالنظرِ إلى قدميه الحافيتين.

*

على بابِ الدرجِ الطويل

كتبتُ لافتةً تقول:

هذا درجٌ لا يؤدّي لشيء

وليستْ فيه درجات للصعود

ولذا على مَن يرغب الصعود

أن يجيدَ الطيرانَ من دونِ جناحين.

 

 

 

 

الوهم المجنون

 

 

في القفصِ الذي دخلنا فيه مُرغَمَين

وخرجنا مُرغَمَين

كانَ هناكَ وَهْمٌ يطيرُ بجناحين

ويمشي على قدمين،

وَهْمٌ اسمُه الجمرة،

اسمُه القُبْلَة،

اسمُه السّرير.

كانَ ينتظرنا بشغفٍ مجنون

ليقودنا كوحشين صغيرين ساذجين

إلى القفصِ/ السّرير.

فدخلنا إليه مُسرعَين

وخرجنا مُرتبكَين ضائعَين مُسرعَين.

أنتِ تحوّلتِ إلى رمادٍ تطايرَ بعيداً

وأنا تحوّلتُ إلى غيمةٍ حلّقتْ بعيداً بعيداً.

هكذا خرجنا من القفصِ/ السّجن

بعدَ أن تركنا بابَ السّريرِ مفتوحاً،

أعني بابَ القفصِ مفتوحاً،

أعني بابَ السّجنِ مفتوحاً.

ما معنى كلّ هذا الوَهْم؟

ما معنى القفصُ/ السّجنُ/ السّرير؟

آ.... ما معنى كلّ هذا الوَهْم المجنون؟

 

 

 

 

 

 

بئر الفراق

 

 

حرفي قصيدةُ حاء وباء

نشرتُها في ديوانِ مَن لا ديوان لهم،

أعني ديوان الزاهدين والمتأمّلين وعابري السبيل.

*

بقيتُ أحفرُ في أرضِ القصيدةِ ليلَ نهار

حتّى طارَ قلبي من الألم.

*

لم يكنْ يوسف سوى دمعة

ولم يكنْ يعقوب سوى عين.

هذا هو المشهد الذي لم يستوعبه إخوةُ يوسف

أبداً.

*

المرأةُ الفاتنةُ تتعرّى بملابسها العارية

في كلِّ مكان.

أهي عقوبةٌ إضافيّة

للقلبِ الذي صرعته حاءُ الحُبِّ والحربِ والحرمان

في وَضَح النّهار؟

*

الكورسُ يصرخُ في المسرحيّةِ السّحريّةِ صرخةَ الموت.

الصراخُ مؤثّرٌ جدّاً

حدّ أنّني لا أصدّقه على الإطلاق.

*

بحرفِ المحبّةِ يأسرُ قلبي النّاس.

شكراً له

وللمحبّةِ التي جعلته يطيرُ بجناحين من نقاط.

*

حرفي قصيدةُ عشقٍ 

لا يفهمها إلّا مَن عرفَ حاءَ الحرمان

واكتوى بنونِ الهجران

فهامَ على وجهه في وادي الله.

*

أنفقتُ حياتي من الألِفِ إلى الياء

أحفرُ في أرضِ القصيدة 

حتّى ظهرتْ لي في آخر المطاف

بئرُ الفراق.

 

 

 

 

 

 

هدايا الشِّعْر

 

 

لم يزلْ حرفي سهماً مُنطَلِقاً

لكنّه لم يصلْ إلى هدفه

رغمَ أنّني أطلقتهُ قبلَ ألف عام.

*

حلّقت الطيورُ البِيضُ المُهاجرةُ فوقَ رأسي تماماً

وأنا جالسٌ على مصطبةِ الحديقةِ العامّة.

حلّقتْ بالمئات

حتّى تصوّرتُ نَفْسي أطيرُ في حلمٍ سعيد.

*

على كلِّ منفيّ أن يبتدعَ خرافته الخاصّة

وإلّا سيتحوّلُ هو إلى خرافة،

خرافة تمشي على قدمين بالطبع .

*

البارحة ماتَ صديقي

فحاولتُ أن أتذكّرَ له موقفاً حَسَناً

لم أجدْ سوى أنّه مضى دونَ رجعة.

*

حرفي الذي مزّقتْ شظايا الحربِ قلبَه

بكى أمامي وأشارَ إلى البحر.

قالَ : ما اسمه؟

قلتُ : هذا قلبكَ الجديد.

*

كلّما شعرَ المنفيّ

بالرغبةِ في الطيران من فوقِ الجسرِ الكبير

أعطوهُ ذاكرةً جديدةً مجّاناً،

ذاكرةً مليئةً بالقهقهات.

*

في آخر المطاف

وزّع الشِّعْرُ هداياه على الشُّعراء:

جاءَ بشكلِ امرأةٍ مُذهلةِ الجمال

رمتْ على الشُّعراءِ الريش،

ريشَ حمامٍ وصقورٍ وعصافير وغربان.

ففرحَ الشُّعراءُ كلّهم دونَ استثناء

حتّى أولئكَ الذين نالوا ريشَ الغربان.

 

 

 

 

 

 

 

السّؤال الأعظم

 

الحروفُ تُحبُّني

ولذا أحببتُ كلَّ شيء حتّى أعدائي.

*

في زمنِ الحقدِ المُدَجَّجِ بالمخالبِ والأنياب

كيفَ تُوصَفُ هذه المحبّة الأسطوريّة:

أهي طيران الغُرابِ وضحكته الصفراء

أم هي طيران النَّسْرِ أعلى فأعلى فأعلى؟

*

هذا السّؤالُ الملآنُ برَفْرَفَةِ السّرّ،

برَفْرَفَةِ جناحِ الغُرابِ/ النَّسْر

لا يملكُ، وا أسفاه، أيَّ جواب.

لكنّه يلعبُ معي ليلَ نهار

لعبةَ الألِفِ بالوهنِ والوهم

أو لوعةَ الجيمِ بالصراخِ والعياط

أو دمعةَ الباء على سجّادةِ الدعاء.

 

 

 

 

 

بحثاً عن مقْبضِ الباب

 

 

في حُبِّكِ حلّقتُ بعيداً،

حلّقتُ طويلاً

حتّى عدتُ بسينِ السّرِّ وميمِ الماء.

*

إذا اجتمعتْ سينُ السّرّ بميمِ الماءِ ظهرَ السّمّ.

أهو سمُّ الحُبِّ أم سمُّ الموت؟

*

لا جدوى، بالطبعِ، من أسئلةٍ من هذا النوع

فحُبّكِ صحراء كبرى

كُتِبَ عليَّ أن أجتازَ ثعالبها ومكائدها

وعواصفها وزلازلها

بهدوء نبيّ ويقينِ إله.

*

في صحراءِ ظنونِكِ

ليسَ للعاشقِ سوى أن يحلمَ بالموتِ عطشاً

فذلكَ أهْوَن

من ذئبِ الذكرى الذي سيطاردهُ أبدَ الدهر.

*

اسمُكِ يتكرّرُ في أسماء نساء ونساء،

وفي أمطارِ شتاءاتٍ لا تُحصى ونوافذ لا تُحصى،

وفي أحداقِ غيومٍ من عبثٍ فاتن،

وفي ذاكرةِ أحلامٍ نسيتْ أن تغلقَ حقائبها

فطارتْ كرمادٍ في الريح.

*

بعدَ أن باعتني صحراءُ الحُبِّ إلى جبلِ الدّمع

وجبل الدّمع إلى بحرِ المنفى،

صرتُ أقرأُ شِعْري كلّ صباحٍ ومساء

إلى موجِ البحر

وسفنِ البحر

وشمسِ البحر.

*

قهقهة الدهر أسمعُها صاخبةً في حُبِّكِ.

قهقهة الدهر هي حُبّك.

*

حُبّكِ أسطورة

كُتِبَ عليَّ أن أقرأ حروفها حرفاً حرفاً

أنا الأعمى الذي يتلمّسُ جدرانَ البيت

بحثاً عن مقْبضِ الباب.

 

 

 

الشّبح المُتلصِّص

 

 

على الشّاعرِ أن يُهيّئ نَفْسَه دائماً

لكتابةِ قصيدةِ المطر

حتّى لو كانَ في الصّحراء.

*

في زمنِ العولمة،

يمكنُ لأولئكَ الذين يبنون قصوراً في الهواء

أن يضعوا لها أُسساً حقيقيّة

بقليلٍ من الأسمنتِ الوهميّ.

*

الجلّادُ الذي أصرَّ على تشريدي

أصبحَ مُشرّداً هو الآخر،

إنّما في العالمِ الآخر.

*

على بابِ التأريخِ لا باب الأكاذيب:

كتبَ أحدُ العابرين:

ما أسهلَ أن تبدّلَ جِلْدَكَ أيّها الجلّاد

لتكونَ نبيّاً أو رسولاً أو ضحيّة!

*

لا تثقْ بالقصيدةِ التي تغيّرُ عنوانَها

كلّما صدرتْ في طبعةٍ جديدة

أو في أكذوبةٍ جديدة.

*

اختفت المرآةُ وامرأةُ المرآةِ منذ نصف قرن،

لكنَّ الشّبح الذي كانَ يتلصَّصُ من خلفِ النافذة

لم يزلْ في مكانه واقفاً.

*

سألتُ الشّبحَ المُتلصِّصَ من خلفِ النافذة:

أكانَ المشهدُ يستحقُ كلّ هذا الوقوف الأسطوريّ؟

فأجابني بحديثٍ طويلٍ وغريبٍ وعجيب

لم أفقه منه شيئاً، للأسف،

لأنّه كانَ بلُغَةِ الأشباح.

*

أعرف أنَّ للأشباحِ لُغَة

لكنْ هل للأشباحِ أبجديّة؟

وهل في حروفهم نقاط؟

*

الحياةُ ضحكةٌ مُدوّية،

قليلٌ من الشّعراء

مَن يتحمّلُ قهقهاتها التي لا تنقطعُ ليلَ نهار.

وبعضُ هذا القليل يحوّلُ القهقهات،

بعدَ طول عناء،

إلى قصائد ذات حروفٍ ونقاط.

*

احترقَ بيتُ امرأةِ المطر

وقيلَ بل أُزِيلَ من مكانه.

لكنّني أُصبتُ بمسٍّ من الجنونِ دونَ شكّ

حينَ طلبتُ من امرأةِ المطرِ قُبْلَةً عابرة

حينَ رأيتها عابرةً،

عاريةً، حافيةً في الشّارعِ الطويل.

 

 

 

 

 

 

تلك هي روحي

 

 

سألني سائلٌ: متى تَتَلفّت القصيدة؟

قلتُ: حينَ تبحثُ عن حرفٍ

ينقذُها ممّا هي فيه.

*

قالَ: متى ينبغي على الملوكِ أن ينتحروا؟

قلتُ: إذا صاروا شُعَراء.

ضحكَ وسألني ثانيةً:

هل القصيدةُ ملكةٌ قتيلة؟

قلتُ: نعم، والقاتلُ مجهول.

*

قالَ: مِن أيّ بابٍ دخلتَ إلى الشِّعْر؟

قلتُ: من بابِ الاضطرار.

قالَ: هذا بابٌ هائلٌ، صفْهُ لي أرجوك.

قلتُ: هو مِن هَوْله لا يُوصَفُ أبداً.

*

قالَ: البارحة قرأتُ لكَ مَرثيّةً لروحٍ لم تمتْ بعد.

قلتُ: نعم، تلكَ هي روحي.

 *

قالَ: بأيِّ ملعقةٍ ينبغي قياس الشِّعْر؟

قلتُ: بملعقةِ الألم.

*

قالَ: مَن علّمكَ كتابةَ الشِّعْر؟

قلتُ : الموت.

قالَ: لكنّكَ حيّ!

قلتُ: نعم، أنا الميّت الحيّ.

*

قالَ: هل تستطيعُ المرأةُ كتابةَ الشِّعْر؟

قلتُ: نعم، إذا كانتْ لا تُحْسِنُ فَنَّ القُبْلَة.

*

قالَ: هل البحرُ شاعرٌ؟

قلتُ: نعم، كلُّ بحرٍ هو شاعر.

قالَ: والأنهار؟

قلتُ: لا، ما عدا الفرات فهو شاعرٌ خطير.

قالَ: ودجلة؟

قلتُ: تلكَ مُطربةٌ وممثّلةٌ من طرازٍ فريد.

*

قالَ: هل سمعتَ بسوقِ الشِّعْر؟

قلتُ: هو أسوأ الأسواق.

*

قالَ: مَن يسرقُ القصائد؟

قلتُ: الأغبياءُ والمُهرّجون.

قالَ: واللصوص؟

قلتُ: اللصوصُ لا يسرقون الشِّعْر

لأنّهم يكرهون الأبجديّة.

*

قالَ: متى تستطيعُ القصيدةُ الطيران؟

قلتُ: حينَ تكونُ أجنحتُها مِن دموع.

 

 

 

 

 

 

رفرفة جناح الطائر

 

 

بسببِ طبيعتي الزلزاليّة

فأنا لا ألمعُ إلّا بين الأنقاض.

*

أرضي خصبةٌ

والأشجارُ كثيرة

لكنْ لا أسماء لها ولا أحداق.

*

يوميّاً أجلسُ عندَ النبع

من الفجرِ حتّى المغرب.

حتّى أنَّ النبعَ تنبّهَ لي

وَأخذَ يسألني أسئلةً مِن ماء.

*

قالَ صديقي: كيفَ أكتبُ شِعْراً؟

قلتُ: الأمرُ بسيط

لا تكتبْ عن الشّجرة

ولا عن الثمرة،

اكتبْ عن الجذرِ فقط.

قال: هذا صعبٌ جِدّاً!

قلتُ: اذنْ، اكتبْ عن عشِّ الطائرِ فوقَ الشّجرة

فهو دليلكَ نحوَ الثمرة

ورفيقكَ في كشفِ روحِ الشّجرة.

ضحكَ صديقي وقال:

أنا لا أحبُّ العشَّ ولا الطائر.

قلت: اذنْ، أنتَ لا تصلح للشِعْر

فالشِعْر هو الطائر.

بل هو، في تفصيلٍ أكثر،

رَفْرَفَةُ جناحِ الطائر.

*

قالَ: هل ترى الشَّاعرَ كاتبَ نصوص؟

قلتُ: الشَّاعرُ مُطلِقُ راء الروح

إلى فاءِ الفجرِ أو ميمِ الموت،

وهو مكتشفُ حاء الحُبِّ وساحرُ باء البُعْد.

*

الشَّاعرُ قمرٌ في أرضٍ لا يسكنها بشرٌ

أو شمسٌ لقومٍ لا أحداق لهم.

*

الشِّعْرُ هَلْوَسَةُ الألِفِ وأنينُ النُّونِ: الروح.

*

الشِّعْرُ دمدمةُ الموت،

هذيانُ البحر،

ضياعُ الصّحراء،

كوابيسُ المنفى،

ولمعانُ الماء.

*

الشِّعْرُ هو الفصلُ الأعظمُ في سرِّ الكون.

*

الشِّعْرُ حرفٌ يحتجُّ على نَفْسه

فيتظاهرُ ليلَ نهار

ضدّ فساد المعنى

ورياء الكون.

 

 

 

 

 

 

المطر يُغرقُ سريري الموحش

 

 

قالَ لي: الحياةُ قصيرةٌ فلا تقلقْ.

إنّها تشبهُ جلسةَ عابرِ سبيلٍ تحتَ ظلِّ شجرة.

قلتُ له : أرجوكَ دلّني على هذه الشّجرة.

*

البارحة، أعني اليوم، أقصدُ غداً

التقيتُ صدفةً بحرفي في الطريق

ورأيتهُ يحملُ أكثرَ مِن نقطةٍ مُحطَّمَة.

*

في غرفةٍ تشبهُ الكهف

جلستُ وكتبتُ تحتَ ضوءِ شمعةٍ كبيرة

أربعين كتاباً في العشقِ والموتِ والجنون.

كنتُ سعيداً لأنّني كنتُ أعلّقُ فوقَ رأسي

صورةً نادرةً لكلكامش وأنكيدو

يضحكان منّي ومِن كتبي:

كتب العشقِ والموتِ والجنون.

*

أفضلُ قصائدي كانتْ عن المطر

لأنَّ المطرَ كانَ يبلّلُ شُبّاكَ غرفتي،

وأحياناً يدخلُ منه ليبلّلَ فراشي المُوحش

بكثيرٍ من الحياة.

*

الحُبُّ مرآةُ المطر

فالمطرُ يحبُّ الجميع:

الملوك والشّعراء والعصافير والكلاب.

*

كلّما رأيتُ وردةً جميلةً شهيّةً تفتّحتْ للتوّ

تذكّرتُ كيفَ غرقتُ في النّهر،

غرقتُ حدّ أن أصبحتُ حرفاً دونَ ذاكرة.

*

في مدينةِ القططِ والفئرانِ والكلاب،

قرأتْ عليَّ نقطتي قصيدةً عن الغزال،

قرأتها حتّى دمعتْ عيناي.

*

على شاطئ الفرات

يتناوبُ القتَلَةُ على دورِ الجلّادِ ودورِ الضحيّة.

ولم يكن الفراتُ يأبه كثيراً لما يحصل

لأنَّ مجرى الدمِ فيه

كانَ يسيرُ إلى جانبِ مجرى الماء

منذ الأزل.

*

ملّلتُ من مشاهدةِ قصصِ الحُبِّ البائسة

على شاشةِ السّينما

وصرتُ أفضّلُ مشاهدةَ قصصِ الضائعين في الصّحراء،

معَ أنَّ الصّحراء في قلبي بحجمِ الجحيم.

*

أينَ هو المطر؟

ولماذا اكتفى بإغراقِ فِراشي المُوحشِ هذه الليلة

مع أنَّ الاتفاق معه كانَ صريحاً:

أن يغرقني حدّ أن أنسى كلَّ شيء عدا النّسيان؟

 

 

 

 

 

 

 

قصيدتي تسبح وتضحك

 

سأشعلُ حرفاً من حرفٍ

حتّى أبقى مُبصراً طوالَ حياتي.

*

سأشعلُ ليلاً من ليلٍ

حتّى أجد الفجر.

*

سأشعلُ حلماً من حلمٍ

حتّى أبني لروحي صَرْحاً من نور.

*

البحرُ قريبٌ جدّاً

بل هو ممتدٌّ كالحلمِ أمامي

لكنّي في القصيدةِ أسمعُ أمواجَه بوضوحٍ أزرق

وألمسُ زرقتَه رملاً يتساقطُ من بين أصابع كفّي.

*

حينَ تنقرضُ شمسُ حياتي

ستمرُّ الريحُ بذاكرتي

فلا تجدُ حرفاً يستقبلها

أو يتأمّلها أو يهبّ معها كما اعتادتْ.

فهل ستحزنُ للحال

أم تمرُّ مرورَ العابر الذي لا يأبهُ بأيّ كان؟

*

حرفٌ تحدّثَ كثيراً عن القنبلةِ العانس.

فلما كبرَ تزوجَها

وأنجبَ حرباً شعواء.

*

في ذاكرةِ الحرفِ الأخضر أنَّ الحاءَ هي الحرّيّة،

وفي ذاكرةِ الحرفِ الأزرقِ هي الحقد،

وفي ذاكرةِ الأسْوَدِ هي الحرب،

وفي ذاكرةِ الأبيضِ هي الحُبّ

بعيداً عن كلِّ أكاذيبِ التأويل.

*

حرفٌ علّمني الشِّعْرَ حتّى أفقدني ذاكرتي

فلما ذهبتُ إليه أعاتبه لم يعرفني أبداً.

*

قصيدتُه دلّتني على بئرِ الموت

بدلاً من بئرِ الحُبِّ أو بئرِ الحكمة.

*

آبارُ الرحلةِ لا تُحصى:

أوّلُها بئرُ الوحشة

ثُمَّ بئرُ الخوف

وبئرُ الجوع

وبئرُ اللذّة

وبئرُ الحرمان

وبئرُ الأنين

وبئرُ المنفى.

لكنْ أن تجدَ بئراً للماء

فذلك يعني أنّكَ وجدتَ المصباحَ السّحريّ.

*

الحروفُ تنظرُ إلى الورقة

وتقولُ لي ببراءةِ طفل:

لماذا تكتب؟

أرتبكُ من السّؤالِ فأردُّ بسرعة:

أنا لا أجيبُ على مثلِ هذه الأسئلة!

*

باعتباري مَلِكاً للبحر

قرّرتُ أن أرسمَ لوحةً للبحر

بحجمِ البحر.

ذلك هو المستحيل

ولذا رسمتُ البحرَ بحجمِ سبعين عاماً

من المستحيل.

*

سأشعلُ ذاكرتي بقليلٍ من الحروفِ والورق

فهي ذاكرة تشتعلُ أبدَ الدهر

ولا تعرفُ الطمأنينة

إلّا كما يعرفُ الشّحّاذُ رغيفَ الخبز.

*

هل كانتْ ذاكرتي طائراً تائهاً

يرفرفُ فوقَ رأسي

طوالَ العمر؟

أم نهراً يتصارعُ أبداً

معَ سدٍّ ضخم

أُقِيمَ بمكانٍ سرِّيّ مجهول؟

*

وضعتُ البحرَ في قصيدتي

ففاضَ قلبي وبكى.

وظلَّتْ قصيدتي تسبحُ وتضحك.

 

 

 

 

 

أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء

 

حينَ انتهت الحرب

أرسلتُ ذاكرتي للتصليح

كي تتخلّصَ من الشظايا والدخان.

كانت النتيجةُ مُذهلةً حقّاً

فلا ذاكرتي عادتْ إليّ

ولا بيان انتهاءِ الحربِ كانَ صحيحاً.

*

المنفى خُدْعةٌ إضافيّة

من خُدَعِ الوطنِ التي لا تنتهي.

*

نقطتي الخرساء

اختفتْ بعدَ أن تعبتْ من رمي الحجارة

على بابِ الحروف.

*

على ورقةِ حياتي

كتبتُ حرفاً وحلمتُ بكِ.

فاخضرَّ الحرفُ

ثُمَّ اصفرَّ

ثُمَّ ازرقَّ

ثُمَّ اسودَّ

ثُمَّ اختفى.

*

أحلى قصص الحُبّ

هي التي تبدأُ بالقُبَلِ وتنتهي بالكوابيس.

*

في المنفى ليسَ هناك مِن مرآةٍ لترى نَفْسَك

ولذا صارَ الشَّاعرُ يَتَمرأى في حرفه ليلَ نهار.

*

حينَ تنكسرُ المرآة

تتحوّلُ المرأةُ - لا المرآة - إلى شظايا لا تنفعُ بشيء.

*

كلّما تذكّرتُكِ

صعدَ حرفي إلى الغيمة

ثُمَّ ألقى نَفْسَه في البحر.

*

في السِّجن

كانَ الشّرطيُّ يُغرقُ رأسَ السّجينِ في الماء

ليعترف.

أمّا أنا،

ففي كلِّ قصيدةٍ كتبتُها،

كنتُ أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء

لتتوقّفَ عن الاعتراف.

 

الطفل في المرآة

 

 

مثل طفلٍ نظرَ في المرآة

فوجدَ رأسه دونَ شَعر

فقرّرَ أن يضيفَ على صورته في المرآةِ شَعْراً،

هكذا نظرتُ في مرآةِ روحي

فوجدتُ حرفي دونَ نقطة

فوضعتُ عليه نقطة.

لماذا؟

أمِن أجلِ أن أستعيدَ غيمةَ طفولتي؟ 

أم لكي لا أُصاب بِمَسٍّ مِن الجنون؟

*

الوردةُ أعني القصيدة

أشرقتْ هذا الصباح دونَ معنى واضح أو سببٍ مفهوم.

مَن قال:

إنّ القصيدةَ تحتاجُ إلى معنى واضح أو سببٍ مفهوم

لتشرقَ

أو

لتنتحر؟

*

تعلّمتُ كتابةَ الشِّعر في غرفةٍ ضيّقة.

ولم أزلْ أتنقّل

بين عشراتِ البلدان من غرفةٍ ضيّقة

إلى أخرى أكثر ضيقاً

لكنّني كنتُ أوسّعُ حلمي

وأدفعُ به جدرانَ غرفتي شيئاً فشيئاً

حتّى أصبحتْ غرفتي بحجمِ بحرٍ عظيم.

*

أولئك الذين يُحبّون الحرف

والحرف يُحبّهم

مُصابون بلعنةِ الموهبة

أعني لعنة الطيران على ارتفاعِ ذراعٍ واحدٍ من الأرض.

 

 

 

 

غداً حينَ يطلعُ الفجر

 

 

بعدَ أن حوّلتْكِ صرخةُ الروحِ إلى أُسطورةٍ حروفيّة

تساءلتُ:

مَن مِنّا سَيُكتبُ له الخلود أو أكذوبة الخلود

أنا أم أنتِ؟

*

بعدَ أن كتبتُ عنكِ كتاباً كاملاً

أصبتُ بداءِ النّسيانِ العظيم

ففرحتُ

فقد كانَ هذا هدف كتابي الذي لا هدفَ له.

*

خُلِقَ الكونُ من الماءِ والترابِ والهواءِ والنّار

أمّا أنتِ

فقد خُلقتِ من الرمادِ والدمِ والملحِ والدموع.

*

صارت الكتابةُ عنكِ تمريناً يوميّاً

لإزالةِ التراب عن فراشتِكِ المطليّةِ بالذهب

وسطَ ركامِ الذاكرةِ السّوداء.

*

قُبْلتُكِ عبرتْ معي القارّاتِ والسّنين

لذا توجّبَ عليَّ أن أمتدحها

أي أن اخترعَ لها حرفاً جديداً.

*

غداً حينَ يطلعُ الفجر

سأكتبُ آخرَ قصيدة حُبٍّ عنكِ

وبعدها أجرّب أن أطيرَ إلى المجهول

بجناحين من حروف.

 

 

 

 

 

 

 

 

قصيدة لا تنتهي

 

 

في القصيدةِ الأربعين

ينبغي كسر الباب الأربعين

والسقوط الحرّ في ثقبِ الذاكرة.

*

الحبُّ خدعةٌ عظيمة

اكتشفها آدم بالصدفةِ السّعيدة

وتوجّبَ علينا - نحنُ أحفاده - أن ندفعَ ثمنَ اكتشافه

 بهدوء ولا نتكلّم كلمةً واحدة.

*

إذا كنتَ نباتيّاً فلا تكنْ أسدَ الغابة.

مَن قالَ هذا؟

أظنّه فيلسوف الطغاة

أو طاغية الفلاسفة.

*

البارحةَ سقطَ دينارٌ من الذهبِ وسطَ يدي.

ارتبكتْ عيناي وارتجفتْ أصابعي،

سارعتُ فأعطيتُه إلى عابرِ سبيلٍ ضَلَّ السبيل،

ففرحتْ عيناي واستراحتْ أصابعي.

*

ليسَ هناك من مطرٍ في الشّارعِ أو في الحديقة.

هناك مطرٌ في قلبي

أحياناً يجعلني أرقص،

وأحياناً يجعلني ألصقُ عينيّ بالنافذة

مُتأمّلاً في الشّارعِ والحديقة

إلى أن تغرقَ عيناي بالدموع.

*

سألني سائلٌ: أين النّهر؟

أعني النّهر الذي تغرفُ منه كلَّ هذه الحروف؟

فأشرتُ بيدي إلى اليمين

ثُمَّ إلى اليسار

ثُمَّ إلى الجنوب

ثُمَّ إلى الشمال

ثمَّ إلى اليمين ......

فتعبَ السائلُ من حركةِ يدي

ومضى وهو يهزُّ يده ممّا رأى.

*

في زمنِ العولمة

يتداخلُ السيركُ مع الجمهور

فلا تستطيع أن تعرفَ على الإطلاق

مَن هو المُهرِّجُ ومَن هو المُشاهد!

مَن هو المُروِّضُ ومَن هو القرد!

*

كتبتُ عدّةَ أسطرٍ من قصيدتي عنكِ

وأرسلتُها إلى الحلم

فتكفّلَ الحلمُ بتكملتِها بكثيرٍ من القُبُلات.

*

كم كانتْ قصّةُ حُبّنا جميلة

بل كم كانتْ قصّةُ حُبّنا مُدهشة

لو أنّني استطعتُ أن أقلّمَ الصورَ المُرّة فيها

مثلما أقلّم أظافر يدي.

*

قلتُ للحرفِ وسماءُ القصيدةِ امتلأتْ بالبريق:

ما هذا؟

قالَ: إنّهُ الرعد.

قلتُ: أعرفُ الرعدَ إشارةً للمطر.

قالَ الحرفُ: والمطرُ إشارةٌ لي

أنا الشّوق الذي يملأُ الروحَ بالمطر.

*

سأتوقّفُ عن الكتابةِ فقط

حينَ يتحوّلُ حرفي إلى طائرٍ حقيقيّ

أو حينَ أطيرُ حرفاً من الحقيقة.

*

قصيدتي لا يفهمها مَن لم يمسكْ بحاءِ الحرمان

ويضعها جمرةً على نقطةِ باءِ الحبّ.

*

القُبلةُ مَلِكَةٌ

والموعدُ لاجِئٌ بجوازِ سفرٍ سقطَ في البحر.

*

نقطتي لا يستطيعُ أن يبوحَ بها حتّى الحرف.

*

أنا سعيدٌ حدّ أنّني نسيتُ السّينَ والسّمَّ والسّكّين.

*

حرفي حلمُ حُبٍّ عارٍ إلّا مِن نبضةِ القلب. 

*

صرتُ شاعراً

لأنَّ حرفي لا يعرفُ أن يمشي إلّا على الجمر.

*

صرتُ قصيدةً حروفيّة

حتّى أحافظ على ما تبقّى من ذاكرةِ الطفلِ في أعماقي.

*

اشتريتُ مرآةً هائلة

لكنّها انكسرتْ وأنا لم أزلْ قربَ محلِّ المرايا.

رجعتُ إلى البائع

وطلبتُ بعينين دامعتين مُرتبكتين مرآةً جديدة.

فاعتذرَ البائعُ بكلامٍ عجيبٍ غريب،

كلام لم أفهمْ منه سوى أنّه لا يبيع الإنسان

أكثرَ من مرآةٍ واحدة!

 

 

 

 

 

قفزة خاطئة

 

 

المدنُ التي تجيدُ سحقَ كلّ شيء

هي مدنُ الشّحّاذين المُزيَّفين

على بابِ الأسواقِ أو بابِ الجسور،

والشُّعَراءِ الشّحّاذين

على بابِ الحاناتِ أو بابِ الملوك.

*

في النّهرِ الصغيرِ كخنجرٍ بدويّ

كانَ طيراني الأوّل معكِ.

طرتُ ولم أزلْ أتذكّر،

بعدَ نصف قرنٍ من الأهوال،

الغيمةَ التي لقيتُها في الطريق.

مثلما أتذكّر أنّني عدتُ مُتعَباً

أجرُّ أقدامي جرّاً

وأجرُّ أجنحتي أيضاً.

*

في ميمِ الماءِ سرٌّ

أعظمُ من سرِّ ميمِ الموت

رغمَ أنّ سرّ الموتِ أعظم.

*

في ميمِ الماءِ لوعةٌ عجيبة

ولذا كانَ الطيرانُ في النّهرِ عجيباً.

*

حُبُّكِ أكذوبةٌ سعيدة

لحياةٍ هي، في الأصلِ، سلّة أكاذيب.

*

لا يصلحُ العطّارُ ما أفسدَ الدهر.

لكنَّ الشَّاعر يحاول،

وكلّما ازدادَ جنوناً أو ازدادَ حكمةً

فإنّه يستبسلُ في المحاولة.

*

حينَ يقفزُ البيتُ الشِّعْريُّ بالخطأ

أتذكّرُ، دونَ أن أبكي أو أضحك،

أنّ الحياةَ قفزةٌ خاطئة.

*

الحياةُ قفزةٌ خاطئة.

لكنَّ مليارات العدّائين والعدّاءات تركض

ككلابِ السباقِ ليلَ نهار.

في حين أنَّ المطلوب،

باختصارٍ شديد،

هو القفز لا الركض.

*

حُبّكِ رجلٌ مريض

أُطْلِقَ توّاً من السّجن

فانهمرتْ دموعُه الحرّى

وكادتْ تفسد عليه هواءَ الحُرّيّة.

*

لا بأسَ أن أقولَ لكِ وداعاً،

مع أنَّ الأمرَ كلّفني حياةً بأكملها.

*

لا بأسَ أن أقول لكِ وداعاً

لأجرّبَ إطلاقَ النّارِ السَّعيد

على رأسي السَّعيد

كلّ ليلةٍ سعيدة.

*

تكرّرَ المشهدُ كثيراً حدّ اللعنة،

ولذا أشفقَ الدهرُ عليّ

فعلّمني أن أكتبَ قصيدةً جديدة

كلّما نفدت الإطلاقات

أو كلّما فشلتْ في إصابةِ الهدف.

*

الحياةُ قفزةٌ خاطئة

لكنّها قفزة سعيدة،

سعيدة لأنَّ الشّمسَ تشرقُ كلّ صباح

لتزيلَ آثارَ الإطلاقاتِ على الأرض

وآثارَ الصرخاتِ على جسدِ الليل

وجسدِ القصيدة.

 

 

 

 

 

 

إذا أفاق البحر من نومه

 

 

الذكرياتُ تشبهُ جبلاً مُغطّى بالثلج.

المشهدُ هائلُ الجمالِ دونَ شكّ،

لكنْ إذا جاءَ الصيف

وبدأَ الثلجُ يذوبُ شيئاً فشيئاً

فإنّكَ لا تستطيع إيقافَ الذكرياتِ من الذوبان

سواءً أرقصتَ مذبوحاً من الألم

أو رقصتَ مذبوحاً من الملل

أو رقصتَ مذبوحاً من الجنون.

*

قالَ لي البحرُ ذاتَ مَرّة:

أنا عاشقٌ.

وحينَ أردتُ أن أسأله عن السببِ بكيت.

*

كنتُ أخاف أن أذهبَ إليه لأسأله

فقد مرَّ نصفُ قرنٍ على فراقنا.

وقلبُ البحرِ كبير

لكنّه لا يحبّ الأسئلةَ الغريبة

ولا أسئلةَ الغرباء.

*

صرتُ، الآنَ، مثل البحر

أنظرُ إلى النّاسِ فقط.

لا أتبسّمُ ولا أضحك

ولا أتكلّمُ بأيّ كلامٍ أو إشارة

ولا أسألُ، بالطبعِ، أيَّ سؤال.

*

لم أشأْ أن أرمي الحجارةَ على السّفينة:

سفينة القبطانِ السكران

والمرأةِ العارية

والكلبِ الذي لا يكفُّ عن النباح،

 لولا أنّ القدرَ رماني مثل الحجارة

على شاطئ الجحيم.

*

البحرُ يكرهُ الشطرنج

وهوايتهُ المُفضّلةُ هي النوم، النوم العميق.

لكنّه إذا أفاقَ من نومه مَرعوباً

فإنّه يبدأ بخنقِ الجنودِ والوزراءِ والملوك

والفيَلَةِ والخيول

الواحد بعد الآخر.

ولا يرتاح باله أبداً

إلا إذا انتهى من خنقِهم وإغراقِهم جميعاً.

 

تيتانيك

 

 

قصّةُ حُبّنا تشبهُ قصّةَ الباخرةِ تيتانيك

التي غرقتْ قبلَ أن تعرف البحر

بقليل.

*

حُبّنا يشبهُ آخر الناجين في الباخرةِ تيتانيك

إذ كانَ قابَ قوسين أو أدنى من الموت

جالساً واقفاً كفأرٍ مذعور

في المكانِ الأخير،

في مركبِ النجاةِ الأخير.

*

قصّةُ حُبّنا تشبهُ الباخرةَ تيتانيك

التي فوجِئتْ بأنَّ البحرَ لا يعرف إلّا الاغتصابَ الوحشيّ

هي التي جاءتْ إليه عروساً تحملُ جمالَها الأسطوريّ

وشفتيها العارمتين بالحياة

ونهديها اللذين يصيبان كلَّ مَن رآهما بصعقةِ الهيام.

 

 

 

قطعة ذهب

 

 

حينَ ماتَ حُبّي أَمامي،

دونَ سببٍ مفهوم،

صرختُ

فامتدَّتْ صرختي عبرَ السّاعات

والأيّام والسّنين

حتّى أيقظتْ حرفي من نومه

فجلسَ في منتصفِ الليلِ عارياً أمامَ المرآة

وبدأَ يكتبُ مرثيّتي عبرَ السّاعات

والأيّام والسّنين.

*

كانَ حبُّكِ قطعة ذهبٍ وجدتُها في الطين

فركضتُ إلى النّهرِ لأغسلها

لكنّها سقطتْ من يدي

فرميتُ جسدي خلفها.

ولأنَّ النّهر كانَ بعمقِ سبعة آلافِ عام

لذا غرقتُ

وكانَ غرقي ضروريّاً

كما يبدو من سياقِ الكلام.

*

لكتابةِ كابوسٍ رائع

ينبغي على الشَّاعرِ أن ينتحر

أكثر مِن مرّة.

*

في طفولتي ضعتُ في السّوق،

ضعتُ ألف عام

حتّى أعادني كلكامش إلى نقطتي وحرفي،

وربّما أعادني أنكيدو.

لكنَّ أنكيدو مات

فماتَ كلكامش حزناً عليه.

ولذا ضعتُ مرّةً أخرى،

وكانَ الضياعُ - وا أسفاه - أبديّاً.

 

 

 

 

 

 

دائماً أسألُ أصابعَ يدي

 

 

وا أسفاه

كانَ حُبّكِ من النوعِ المُزلزِلِ للذاكرة.

*

دائماً أسألُ أصابعَ يدي التي طَرَقَتْ بابَكِ

قبلَ أربعين عاماً:

إن كانَ قد عَلِقَ بها شيءٌ مِن سحرِكِ وأُسطورتِك

فكَتَبَتْ أربعين ديوان حُبٍّ عنكِ

ولم تزلْ تكتب المزيد.

*

لم تكنْ حبيبة الشَّاعر

بل خرافته المُقدَّسة.

*

لم تكنْ حبيبته بل لعنته،

لعنته التي تختارُ لنَفْسِها

اسماً جديداً كلّ يوم.

*

كانتْ زلزاله الذي لا يكفُّ عن الرقص

ورقصه الذي لا يكفُّ عن الدوران

ودورانه الذي لا يتوقّفُ أبداً.

*

كانتْ أُكذوبة حرفه الجميلة.

*

كانتْ دُمْيَته التي يخفيها في قلبه

إذ لم يكنْ معه ما يكفي مِن المكان أو الزمان.

*

كانتْ جسر طفولته الخشبيّ

وصُرَّة ملابسه التي حملَها وهربَ باتجاه الشّمس.

*

كانتْ كتابه العجيب الذي امتلأَ بحروفِ الوهم

ووهمِ النقاط.

*

كانَ يُعلّمها الرقص

ويطلبُ منها الصّلاة.

*

 كانَ يُعلّمها البحر

ويطلبُ منها الصّحراء.

*

كانَ يُعلّمها الغرق

ويطلبُ منها النجاة.

*

كانَ يُعلّمها النّجم

ويطلبُ منها الإقامةَ في الرمل.

*

كانَ يُعلّمها الكتابة

ويطلبُ منها الصمت.

*

كانَ يُعلّمها العشق

ويطلبُ منها النّسيان.

*

كانَ يُعلّمها العطش

ويطلبُ منها الماء.

*

كانَ يعلّمها الزحف

ويطلبُ منها الطيران.

*

بعدَ أن قطعوا لسانَ الشَّاعرِ الرائي

صارَ على الجلّادين

أن يمحوا حرفَه من الأبجديّة.

*

القصيدةُ تتلفّتُ إلى الماضي

ثُمَّ إلى المستقبل

وتقولُ: هل مِن معنى ينقذني مِمّا أنا فيه؟

*

في قصيدةِ العولمة

تلعبُ الحاءُ معَ نَفْسها فقط

فيما تركبُ الباءُ درّاجةً هوائيّةً مسروقة.

 

 

 

 

 

 

 

المقطع الأخير

 

 

اليوم سمعتُ أُغنيةً مُؤثّرةً حقّاً؛

كانَ المستمعون يُصفّقون مُبتهجين

والموسيقيّون يعزفون وهم يبكون

فيما كانَ المطربُ المسكين

يموتُ ببطءٍ شديدٍ على المسرح.

*

الشّعراءُ الحقيقيّون لا يموتون أبداً

لأنّ الموتَ أسطوريّ

والأسطورة تكرهُ الموتَ من الأعماق.

*

على شاطئ النّهر

كانَ العشّاقُ يُقبّلون حبيباتِهم بحرارة

فيما كنتُ أختلسُ النظرَ إليهم

وأنا أرمي قطعَ الخبزِ إلى البطِّ وأضحك،

وكانَ البطُّ يأكلُ قطعَ الخبز

وهو يضحكُ مثلي.

*

حرفي قصيدة

وقصيدتي نقطة؛

نقطةٌ واحدةٌ فقط.

*

البارحة لم تمطرْ غيمةُ القصيدةِ في رأسي

فاضطررتُ إلى النومِ في التابوت،

التابوت الذي استعرته من الذاكرة

لليلةٍ واحدةٍ فقط.

*

في الغابةِ الكونيّة،

لم يستطع الغرابُ أن يتعلّمَ الصّلاةَ أبداً

إذ كانَ يُعاني مِن عُقدةِ خيانته الأزليّة

لنوح وللناسِ وللسفينة.

*

الغرابُ علّمني بحقده الأعمى سرَّ الحُبّ؛

علّمني أن أرفعَ يدي

عبرَ الغيمِ إلى خالقِ الحاء

فيستجيب لدمعتي الحرّى،

وأن أضعَ يدي على قلبي

فتهبط الباءُ قصيدةَ حُبٍّ صوفيّة الأسرار،

عذبةً كقطرةِ المطر.

*

في أرضِ الملح،

كيفَ لأشجارِ العسلِ أن تنمو؟

*

لكثرةِ ما فتّشتُ عن روحي

ضحكَ منّي حتّى المجانين.

*

الروحُ ماء

والماءُ ريح

والريحُ وهم

والوهمُ هاء.

مِن أين، إذن، جاء

كلُّ هذا الهباء؟

*

البارحة نسيتُ أن أغلقَ الباب

فدخلتْ عليَّ الريح

وخلعتْ نافذتي الوحيدة.

ولذا أغلقتُ اليومَ الريح

فدخلتْ عليَّ الباب

ونامتْ بجانبي على السّرير.

*

لم تكنْ حياتي سوى هروبٍ مُتواصل

ولذا لم أشعرْ بالمللِ أبداً

إلّا في اللحظاتِ التي التقطتُ فيها أنفاسي.

*

بحرفٍ واحدٍ فقط

حاربتُ سبعين عاماً

اليُتمَ والوحشةَ والحقدَ والظلام

حتّى نلتُ، بعدَ عذابٍ أسطوريّ،

وشاحَ النُّون

ووسامَ النُّقطة

وصولجان الكلمة

وتاجَ الحُلْم

وعرشَ الحروف.

 

 

 

 

Adeeb Kamal Ad-Deen

 

Adeeb Kamal Ad-Deen (Babylon, 1953) is a poet, journalist and translator who has degrees in Economics 1976 and English Literature from the University of Baghdad 1999 plus a Diploma of Interpreting (Arabic-English) from Adelaide Institute of TAFE, South Australia 2005.

He has published 19 poetry collections in English and Arabic and won the major prize of Iraqi poetry in 1999. His poetry has been translated into many languages such as: Italian, French, Spanish and Urdu. A huge number of articles and books have been written about his poetry style, and many researchers have earned doctorates and masters degrees in the Universities of Iraq, Algeria, Iran and Tunisia by writing critiques of his works.

As a translator, he has translated into Arabic short stories and poems from Australia, Japan, New Zealand, China and the USA.

Adeeb Kamal Ad-Deen now lives in Australia as an Australian citizen. His poetry has been published in The Best Australian Poems 2007 (edited by Peter Rose) and The Best Australian Poems 2012 (edited by John Tranter), on many Australian websites and in magazines and books, such as Southerly, Meanjin and Friendly Street Poets.

www.adeebk.com

 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة