الوصايا التسع، وقصائد أخرى

قراءة في مجموعة الشاعر أديب كمال الدين (في مرآة الحرف)

 

 ياسر العطية

 

 

  

 احتوت مجموعة (في مرآة الحرف) للشاعر أديب كمال الدين الصادرة حديثاً عن منشورات ضفاف ببيروت على خمسين قصيدة، كتبها الشاعر في أستراليا في عاميّ 2014 و 2015 ، كما ثبت على الصفحة (5 ) من الكتاب ، أولاهن (أغنية إلى الإنسان) وآخرهن (أين أنت أيها الحرف؟) .

اعتمد الشاعر نظام قصيدة النثر في الكتابة ، نائياً بوضوح عن أوزان الشِعر العربي قديمها وجديدها، ومن - النثر - ابتكر اسلوبه الشِعري الخاص به، انطلاقا من الحرف الذي تسَيّدَ الحركة والاشتغال بين متون أغلب النصوص، ثم الكلمة، فالجملة، اذ برع الشاعر في ترميز الحرف والنقطة، بعد أنسَنَتِهما وتوظيفهما شِعريّا على امتداد قصائد المجموعة، حَدّ استِنطاقِهما كشخصيّتين محوريّتين :

(قالَ الحرفُ لشاعرهِ:

أعرفُ أنّكَ خلقتَ النقطة

كي تنقذني مِن سَأَمي، وحشةِ ساعاتي

ومِن موتي اليوميّ.

وأعرفُ أنّكَ خلقتَ النقطة

مِن ضلعي:

مِن طينِ الحُبّ

وعَسَلِ القُبلَة.)... ص 89

ابتدأ بالحرف وبالبحر كمصدرين مفعمين بالمعنى، الذي يتقفّى أثرَه، ويتصيّده بأدواته الشِعرية التي يكيّفها لاقتِناص ذلك الأثر والامساك ب(الفكرة) ليضعها في شِباك النص ، فالبحر معنى كبير، والحرف هو الغوّاص الاكبر الذي يسبر الاغوار، تلك دالّة امتدّت وتفرّعت في نصوص الشاعر عبر رحلته (الكلكامشية) الطويلة للحصول على - عشبته - الشِعرية والانسانية معاً:

(أحياناً أذهبُ إلى البحر

لأكتبَ قصيدتي عَن البحر.

وأحياناً يذهبُ البحرُ إلى نَفْسه

ليكتبَ قصيدتي.

....

لا البحر يفهمُ حُروفي

ولا أنا أفهمُ أمواجَه.) ص 63

إن الصورة الشعرية عند أديب كمال الدين ، جَلِيّة ، دالّة ، ممتِعة ، حدّ الغرابة والدهشة ، وتلك هي الصورة التي يلتقطها الشاعر لا المصوّر ، والشاعر الخبير كفلّاحِ محترف بحوزتهِ الارض والماء والشمس، بحوزتهِ الحياة برمتها منظورة مسموعة ومقروءة ، وهو - الشاعر - بتجربته التي عرك بها الحياة ، يصنع ما لا يصنعه حائر بين (النظريات) و رياح (الجدَل) تدفعه شمالا وجنوبا ، بعيدا عن (الغرسةِ) ، (الفِكرة) الغَفل القابعةِ ازاءه لا يبعده عنها سوى (القليل).

والعجب فيمن يتحرر من قيودهِ ، فيكبّل ذاته بقيودِ أغرب وأقسى ، وما دامت الكلمات تتجدد أبدا (وينعِش بعضَها بعضا ويؤثر بعضها على بعض من خلال لون من التفاعل اللفظي الداخلي ، يغدو المعنى اذن في التركيب الذي يبتكره الشاعر ، لأنّ صورة المركّب هي التي تسبِق إلى الذِهن أثناء تلقي النص - كما يرى جان كوهين):

 

(أنْ تُطلقَ النارَ على رأسِك

أهون مِن أنْ تكتبَ القصيدةَ ذاتها

ألفَ مَرّة

بحرفٍ واحد

ونقطةٍ واحدة.) ص 19

كيف يصوّر الشاعر الحرب ، ليفضحها؟ ويسخر مِن دعاتِها ، مهما تطاولوا، وتكاثروا، وكذّبوا على غريمهم (الانسان) وعقدتِهم (الانسانية) التي يدّعون الوجود والانتساب لزمنِها :

(في الحربِ التي أشعلها

طاغيتنا السعيدُ العنيد،

كنّا مُبتهجين حدّ اللعنة

ومسرورين حدّ القَرَف

وفرحين حدّ الجُنون

نرقصُ، كالأطفالِ تحتَ المطر،

تحتَ قنابلِ المدفعيةِ المُدهشة

وصواريخِ الطائراتِ التي كانتْ

تسَّاقَطُ علينا ليلَ نهار

كقطعِ الحلوى.

.....

ولذا، حينَ انتهت الحرب،

ظهرتْ لدينا هواياتٌ جديدة

مثل هواية جمع الرؤوس التي نسيها

أصحابُها

لسببٍ أو لآخر

أو هواية جمع سلاسل أرقام الجنود القتلى.

وصارَ بعضُنا مُزوّراً بارعاً

لجميعِ وثائق الحربِ والدمِ والندم.) ص 86

للشاعر أديب كمال الدين سلطة على لغتهِ و قدرة في تطويعها لبناء النص الذي يريده لاحتواء المعنى (المقصود) أي معنى المؤلف ، فالكلمات والمعاني لديه متصاهرة متجانسة و(فاعلة) في التقريب بين الشاعر ومتلقيه ، وتلك اضافة - شاعريّة - مهمة ، ففي قصيدة (تبادل أدوار) لايقف القارئ على تبادل أدوار المعاني فحسب ، بل يقف على تبادل أدوار (الكلمات) ذاتها وتداولها بين يدي الشاعر لتحويلها إلى أفكار :

(تحوّل العشُّ إلى بيضة

وتحوّلت البيضةُ إلى جناحين

وتحوّل الجناحان إلى طائر

وتحوّل الطائرُ إلى نقطة

وتحوّلت النقطةُ إلى حرف

وتحوّل الحرفُ إلى قصيدة.) ص 111

 

وفي قصيدة (جرعة زائدة من الألم) يتموضع (الجنس) بأبعاده الضاربة وظلاله ، في عرض الحياة :

(ثلاثة أرباع جسد ثلاثة أرباع قارب ثلاثة أرباع أسطورة ثلاثة أرباع سرير ثلاثة أرباع صرخة. فيما يتبقى - الربع - و - النصف ، مقاساتِ لموجوداتِ أخر ، ذات صِلَة) :

(ربعُ عاشقة،

نصفُ مجنون،

ثلاثةُ أرباع سرير؛

تلكَ قصّة حُبّ كاملة

يتداولها زوّارُ مواقعِ الإنترنيتِ بالملايين

على أنّها قصّة آدم وحوّاء.) ص 103

فيما يغدو الجنون ، الضياع ، الحزن ، الالم ، الموت ، الانتحار ، معادلات لأحلام الانسان المقموعة والمؤجلة ، وماهي (للخروج من النص) لدى الشاعر ، بل لاجتراح (الدخول) في النص وتفجيرهِ في لحظة التلقي ، للكشف عن مكوناتهِ ومكنونه:

(كانَ الحرفُ نَصّي الوحيد

وقد خرجتُ عليه فقلتُ: النقطة.

ثُمَّ خرجتُ على النقطةِ فقلتُ: الحاء

ثُمَّ خرجتُ على الحاءِ فقلتُ: الباء

ثُمَّ أحرقتُ الحاءَ والباء

ونثرتُ رمادهما في دمي.) ص 105

واللغة اداة الشِعر ، ومادته التي يتشكل بها ويكون ، الاختلاف في اللغة بين الشعراء يؤدي إلى اختلافهم في الجمال والصياغة والتضمين ، فتحقيق المعنى وانتاجه (والحق إن اختلاف المبنى والمعنى انما هو اختلاف درجةِ لا طبيعة، اختلاف زمن، هذا يأتي قبلَ ذاك، ولكن النوعية واحدة) 1

فيما ينتهي التكوين الشِعري إلى خليط متجانس مدهش وأخّاذ من الصور والافكار، يبث الشاعر من خلالها أسئلته ورؤاه بتعاقبِ سريعِ ومذهل كما يتعاقب الرعد والبرق في - نصوص المطر

(بعدَ أنْ أصبحَ مُعلّمي فيلسوفاً للأدباء

وأديباً للفلاسفة

صارَ يطلبُ منّي أنْ أهيّئ الجواب

قبلَ السؤال.

ولمّا سألتُه عن السببِ، قال:

ما مِن جوابٍ عندي لأيّ سؤال!) ص96

************************

 (1)   فلسفة اللغة - د - كمال يوسف الحاج 89

************************

  *  في مرآة الحرف : شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016

 ياسر العطية -  العراق ،  واسط

7- 3 – 2016

 

     

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home