قراءة في مجموعة (أقول الحرف وأعني أصابعي) لأديب كمال الدين

 

ضربات شعرية للطغاة

عبد الغني فوزي

 

 

 

 

     صدر مؤخرا ديوان شعري للشاعر العراقي أديب كمال الدين بعنوان " أقول الحرف وأعني أصابعي" ، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ويتكوّن من مائة وأربع وعشرين صفحة ، توزعتها أربعون قصيدة ، من العناوين الفرعية نذكر: ثمّة خطأ ، الرقصة ، إني أنا الحلّاج ، زوربا ، اليد ، النخلة ، أيتها المرآة ، سؤال مسدود، الحاء والألف ، مشاهد، حرف يحتضن نفسه... ومن الملاحظ ، أن الشاعر يسند الحروف في مسيرته الشعرية كتشكيل له خصوصيته القولية وأفقه الشعري. وفي واقع الأمر، فكل لحظة شعرية ـ ديوان تقتضي استحضار أو الإلمام بمحطاته السابقة حتى لا يتم التعامل مع التجربة بشكل مبتور.

   الشاعر العراقي أديب كمال الدين بقدر ما يخطو في الحياة كمنفى؛ يخطو على درب القصيدة الطويل. وهو ما أدى إلى تداخل بين الصور الحياتية والوجودية على أرض القصيدة . كأنّ الأمر يتعلق بحياة أخرى تسند البحث والتيه على مشارف الحياة للإعلاء من القيم الإنسانية النبيلة  في مواجهة دائمة لقوى الشر والأنساق المدجّنة .

يقول الشاعر في قصيدة " ثمّة خطأ " من الديوان ( ص 9 ) :

 

ثمّة خطأ يكبر

وآخر يتناسل

وثالث يشيخ

ورابع يبكي

وخامس يهربُ من منفى الى منفى

ومن دمعةٍ الى دمعة

ومن رمادٍ الى رماد.

 

 

     في الديوان قيد النظر ترى القصيدة تنسج صورها عن قرب وبشكل متشظّ ؛ وهو ما أدى إلى تصعيد درامي عبر خيط سفر . كل قصيدة هنا أعتبرها كوّة ترقب الأشياء الصغيرة والتفاصيل من نقطة ما مضغوطة في الذاكرة ورؤيا الشاعر. فكان  الحنين والانكسار يراوح في القصائد المركّزة والمركوزة في حروف ونقط ، غدت مراكب ومدارج ، تعلو وتتوغّل.

   الشاعر أديب كمال الدين في حوار وجدل شعري مع الحروف والنقطة . الشيء الذي أثمر حوارات مشهدية تحرك بثنائيات ضدية . من هذه الزاوية قصيدة أديب كمال الدين تتخلق ضمن المفارقات وهي تتخذ لبوسا يوميا في حياة الذات . وهو ما أدى إلى حضور عدة أنفاس في النص كالسيرـ ذاتي وماهو سردي... لكن ضمن بناء شعري يذوب الفروق النوعية .

   أزعم من خلال إضاءات عديدة في عمل الشاعر، منها ما كتب عنه ، وكذا متابعتي لمساره الشعري أن مظاهر من الذاكرة ظلت تعمل بشكل باطني في شاعريته و شعريته ،من ذلك حياته في وطنه العراق الذي لا يستقيم إلا في بعض صور الذاكرة ومعاينته للحروب  بل والتي خاضها على جلده.. كل هذا يوجّه نظر الشاعر ويجعله في خضم ومطاردة لقوى الشر والظلام وأعداء الإنسانية، أينما وجدوا ، وعلى اختلاف أقنعتهم . طبعا مطاردة بالحرف الذي تحول تحويرا إلى مسكن وسكن للشاعر وهو بذلك أداة بحث مضني على غرار الحركات الفكرية التي تعلي من شأن الألم  المطهر .

    تسعى الأنا الشعرية في الديوان إلى توحد مع الحرف والنقطة ؛ لذا تم أنسنة الحروف وتشخيصها ، فغدت منطلقة ، معبرة عن مقتضى الحال . كأنّ الذات في مقام الرائي ، فامتد الارتعاش للحمة القصيدة . هنا يمكن الحديث عن وحدة عضوية في كل قصيدة : السطر يفضي بك للآخر دون فكاك. وبالتالي فشعرية النص تتولد من كليته. وفق هذا التوصيف ، القصائد في الديوان تغدو مقامات تسكنها الحروف كمواقف ورؤى ، في تناص ضمني  مع رقصات ذوات أخرى ـ  في تاريخ وفكر الإنسانية ـ غير متصالحة مع النمط وسلطه ، أذكر هنا كما تم تصويرا في القصائد : الحلّاج ، زوربا ، يوسف... . يقول الشاعر في قصيدة بعنوان " زوربا " ( ص 20 ) من  ديوان " أقول الحرف وأعني أصابعي " :

 

سترقصُ أيّها الزوربويّ المهووس

بالفجرِ والحُبِّ والبحر.

وسترفعُ قدمَكَ الثانية

وتقفزُ قليلاً،

سترى أنّكَ قد رأيتَ فجراً

وربّما تذكّرتَ قُبْلةً من عسل

وربّما صعدتَ إلى الماضي.

 

 

    الشاعر في هذه المحطة الشعرية ـ الديوان ، في تتال متكامل مع السابقات ، يسعى إلى إحاطة الحياة شعرا أو أنسنة وشعرنة الحياة كتفاصيل ومتاهات وآهات.. طبعا تكون الذات كتجربة وتأمل في الوجود المغذي الأساس لقصيدة تتخلق عن قرب، بنفس غير متصالح مع اللغة والسلط . هنا الشاعر يضرب بيد أخرى على القفا البارز لقوى الشر من طغاة وتجار الحروب.. ضربات شعرية، تتلوّن وتتخلّق باستمرار. وتلك لذة الحرف التي لا تنتهي .

 

                                                       عبد الغني فوزي

  شاعر وكاتب من المغرب

 

 

 

نُشرت في مجلة (تراث) - الإمارات  1 ديسمبر - كانون  أول 2017

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home