في حضرة المعنى: من الانتهاك إلى التأثيث

ـ قراءة في قصيدة "أنا وأبي والمعنى" لأديب كمال الدين ـ

 

 

أ.د. غزلان هاشمي – الجزائر

 

تهجس نصوص الشاعر العراقي أديب كمال الدين بسؤال المعنى وتوالداته، وتنشغل بالفجوة التي تشكلها حيرة الانتظار وصدمة الكمون في نقطة الاحتمال، ففي قصيدته "أنا وأبي والمعنى" تتجاور الممكنات في لعبة انتقائية مضللة وفق مسار يوهم الجمع والمثول في راهنية واحدة، إذ تقف الذات "أنا" على تخوم الاستبدال بين مواضعات تأسيسية، "أبي" تمثل سلطة الانبثاق الأولي، ومواضعات تكميلية تنشغل باستكمال النص وفق منطق التمدد والمحايثة والتعدد "المعنى":

سقطَ السّاحرُ من مائدةِ السّحرِ على الأرض.

فتمزّق صوتُ الماءِ بكفّيه، بكى، واهتزَّ كما يهتزّ الطائرُ

حينَ تمرّر سكين الذبحِ على الرقبة.

الأرضُ تكرّرُ لعبتها. ما كنتُ أكون. الغيمُ يجيء ويذهبُ

والفجرُ يطرّزُ حرفَ الدهرِ فلا معنى أبداً. أختبئُ اليوم كطفلٍ

أرنو للفجرِ أقرّرُ أنْ أبعثَ كلماتي حتّى يعتدل العالم، يذهب

سيف الظالم في الظلماتِ. فما أحلى الكلمات وما أسخفها. ...ص135

 (المجلد الأول للأعمال الشعرية الكاملة).

يتصدع المعنى المركزي/السلطة بعد أن كان يمارس تضليلاته ويفرض تعاليه وانبثاقه الأحادي على المتلقين، إذ يسقط على أرضية خطيئة الاستثناء ويفقد اصطفائيته لينفلق عبر مسارات الإيهام فاسحا المجال للاحتمالية كي تعبر إلى ضفة الاعتراف بعيدا عن يقينية الماضي وقدسية اختلاقاته، إلا أن هذا الانفصال يظل مسكونا بالوجع لاقترابه من لحظة افتداء حرية القراءة والتأويل..، ولأن الإنجازية في راهن النص/الواقع مرهونة بسؤال الاصطفاء، يظل المعنى المتولد في كل مرّة وعبر نصياته المختلفة في محاولة لاحتلال مركز المثول وإمساك سلطة اليقين مكررا لعبة الاستثناء واحتكار الحقيقة "ما كنت أكون"..، إلا أن حركية النص واعتباراته المنشغلة بالظهور والتواري تعد بإنجازية نصية أخرى، خاصة حينما تلامس زمن التملص من السكون"الفجر"، وهذه الإنجازية ملتحفة بالغموض "فلا معنى أبدا"، إذ تشي بالتشتت والانفلات من سلطة المركز/الأب..، كما أنها تتوعد المثول في زمن المستقبل "كطفل" حتى تحقق اعتدال النص من خلال انبثاقاته وحوارياته، وتحرره من استبداد المعنى المركزي "يذهب سيف الظالم في الظلمات" ومن أحكامه المضللة التي تقف على تخوم اليقين، من خلال زعزعة يقينية التصنيف وخلخلة مواضعاتها القبلية بالجمع بينها، مراعاة لمقتضيات القراءة ومزاجيتها "فما أحلى الكلمات وما أسخفها !".

سقطَ السّاحرُ. كانت امرأةُ السّاقين الفاتنتين تهدهد

لا معنى لإعادة مشهدٍ حبٍّ مكرورٍ ملتهبٍ، لا معنى.

المرأة واقفة خلف الشباك وخلف المكتب، خلف زجاج الباص

وما من شيء ينقذها. سقطَ السّاحرُ من مائدةِ الفعلِ، فعضّ

يدي قال: سأقتصّ من الظالمِ. هدّدني بعيون الجمر، تقدّم

من دائرةِ السيفِ وأطلقَ جمعَ طيورٍ ملأتْ جوّ الغرفةِ

بالهذيان.

ومع سقوط المعنى المركزي/سلطة اليقين/الساحر ينكشف التوالد النصي من خلال عملية إغواء القارئ للاقتراب من زمن المحاورة ومغامرة النبش"امرأة الساقين الفاتنتين"، إلا أن شهوة الانتظار تتوارى خلف روتينية الخواء "لا معنى"، حينما تصطدم الذات بثبوتية النص واستغلاقه، إذ يظل الإغواء ماثلا في تخوم الحيرة"خلف الشباك ـ خلف المكتب ـ خلف زجاج الباص" ، ويظل النص مستغلقا يأبى الاقتراب "المرأة واقفة خلف الشباك وخلف المكتب، خلف زجاج الباص"، ولأنّ الخلفية توجس وترقب، فإن المعنى المركزي/السلطة/الساحر وبعد تحلل فاعليته واضمحلالها يهدد زمن التمثل المنفلت من المعيارية بالإقصاء، ويهدد القارئ القلق بخلخلة مسلماته بعد أن حاول اختراق يقينياته..."سأقتصّ من الظالم"، ليطلب منه في صيغة حضور أن يبقى رهن الخوف والريبة من أجل إطلاق جميع الاحتمالات النصية المنبنية على زمن المحايثة "واطلق جمع طيور ملأت جو الغرفة بالهذيان".

اكتشفُ اللحظة أنّ السّاحرَ مسحور، أنّ السّاحر يبكي

كالطفل..

نظرَ السّاحرُ لي قال: بأنّي الطفل

فتعجّبتُ من القول

ونظرتُ إلى لغةِ الفجرِ فكانت سوداء.

قامَ السّاحرُ بالرقص، اختطَّ لنا أرضاً تكفي لكلينا قال:

هنا نرقص ـ واختطّ بجانبها أرضاً أصغرَ ـ وهنا سنموت

علينا بالرقص لأنّ المرأة شيء باطل

والطفل كذلك، والسّيف قويّ، والمعنى مكتنز في الرقص

فارقصْ

لمّا يحل زمن المكاشفة يصبح المعنى المركزي/سلطة اليقين/الساحر رهين الإغواء، إذ يتحرر من سلطة الفعل/الإغواء ليتحول إلى واحد من المفاعيل النصية المحكوم عليها بالاحتمالية والجزئية في إطار المتعدد في الزمن القادم "أكتشفُ اللحظة أنّ السّاحر مسحور"، ومن ثمة تتلاشى مركزيته وينبئ عن تقويض راهنه حتى يتشكل من جديد في حضرة حضور مشبع بالتجدد والانبثاق "نظرَ السّاحرُ لي قال: بأنّي الطفل"، إذ مع زمن الدهشة تلتحف البدايات المؤجلة بالغموض" ونظرتُ إلى لغةِ الفجرِ فكانتْ سوداء"، ليتوسّع المعنى بعد شطحات ممارسة من قبل المتلقي على هامش البوح، حيث يعيد الخوض في المسافات المعتمة والتي تحكم على كل اعتباراته القبلية بالموت والاضمحلال في سبيل نصية جديدة "وهنا سنموت"، ويقف على تخوم المشابهة والزيف ليعثر على لحظته في ثنايا الهامش/الرقص....

أخبرتُ السّاحرَ: إني أعمى لا أعرف إلاّ خيطاً من ذاكرةِ

الفجرِ وأخفي في كفّي وشماً لامرأةٍ عاريةٍ ماتتْ منذ سنين.

غضبَ السّاحرُ من كلماتي وافرنقعَ مني، قال بأنّي كذّاب

خَرِف. أخذ السّاحرُ بالرقصِ فهبّ إلى السّاحةِ مدفوعاً بسهامٍ

وأغانٍ زرقٍ وشموسٍ حمر. واهتزّتْ ذاكرةُ الغرفةِ حتى غضب

الغيم وأمطرت اللحظةُ وقتاً مدفوعاً باللاشيء. افرنقع غيمُ شتاءِ

الروح. اشتدَّ المطرُ البريّ. نظرتُ إلى ما حولي علّي أتلمّس

شيئاً: الغرفة فارغة كالموت. الساحرُ مشغول بالرقصِ. الطائرُ

في جوّ الأسطورة ينمو. هبّتْ ريح طيبة فتذكّرتُ المرأة تأتي،

تأخذني لفراش الحبّ تؤدب أوجاعي، وتذكّرتُ الطفلَ يحلّق

في النهر تذكّرتُ السيفَ رجالاً ما عرفوا إلاّ الكذب الأسود

وعوانس من سخفٍ وخيوطٍ من لحمٍ و دمٍ. فصرختُ: أبي..

تتوارى المركزية حينما تواجهها صيغة الإخبار/المثول في راهن النص، حيث تنفلت الرؤية لتواجه الذات امتدادا استرجاعيا يقف على تماس من حقيقته/في الهامش"خيطا من ذاكرة الفجر"، ويخفي في قراءاته الاحتمالية وتنبؤاته إمكانا متجرّدا من أوهام التمثل، لكنه غير متحقق في مستقبل النص، إذ يظل في مقدرته الاستيعابية بعيدا عن سلطة التشكل ملتحفا الدهشة والاستحالة" وأخفي في كفّي وشماً لامرأةٍ عاريةٍ ماتت منذ سنين"، ويحاول المعنى المركزي استرجاع سلطته من خلال إغواء المتلقي "أخذ الساحرُ بالرقص فهبّ إلى الساحةِ مدفوعاً بسهامٍ وأغانٍ زرقٍ وشموسٍ حمر"، فتتخلخل اعتباراته القبلية منتجة راهنية نصية ملتحفة بالدهشة والاستغراب والحيرة والعدم" وأمطرت اللحظةُ وقتاً مدفوعاً باللاشيء".

وتتلاشى الاعتبارات القبلية بعد أن تصل النص إمداداته القرائية "المطر البري"، فتنتج الدهشة واقعا نصيا مغايرا متجرّدا من كل زمنية نصية قبلية "الغرفة فارغة كالموت"، ومنشغلا بطقوسية التمثل الانبعاثي الملتحف بالتشفير والتعالي "في جو الأسطورة ينمو"، إذ الاسترجاعية تتأسس على فعل الانتهاك"الطفل ـ السيف.."، لتظل المغايرة تلتحف جزءا من المشابهات في مسافة البوح المؤجل حتى وإن ادعت الخرق "فصرختُ: أبي..".

يمكن القول في خاتمة هذه القراءة المختصرة أن المعنى المركزي/الأب ينفلت من حضرة الغياب وعتمة الانتظار، وليعد برسو التأويل على ساحل النصية أو بالاقتراب من تماساته والوقوف على صخرة الفرح.

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

نصّ القصيدة

أنا وأبي والمعنى

     شعر: أديب كمال الدين

  

سقطَ الساحرُ من مائدةِ السحرِ على الأرضْ.

فتمزّق صوتُ الماءِ بكفّيه. بكى، واهتزَّ كما يهتزُّ الطائر

حين تُمرّر سكين الذبحِ على الرقبة.

الأرضُ تكرّرُ لعبتَها. ما كنتُ أكون. الغيمُ يجيءُ ويذهبُ

والفجرُ يطرّزُ حرفَ الدهرِ فلا معنى أبداً. أختبئُ اليومَ كطفلٍ،

أرنو للفجرِ، أقرّرُ أنْ أبعث كلماتي حتّى يعتدل العالم، يذهب

سيف الظالمِ في الظلماتِ. فما أحلى الكلمات! وما أسخفها!

سقطَ الساحرُ. كانتْ امرأةُ الساقين الفاتنتين تهدهد...

لا معنى لإعادةِ مشهدِ حبٍّ مكرورٍ ملتهبٍ، لا معنى.

المرأةُ واقفةٌ خلف الشبّاك وخلف المكتب، خلف زجاج الباص

وما مِن شيء ينقذها. سقطَ الساحرُ من مائدةِ الفعلِ، فعضَّ

يدي، قالَ: سأقتصُّ من الظالمِ. هدّدني بعيون الجمرِ، تقدّم

من دائرةِ السيفِ وأطلقَ جمْعَ طيورٍ ملأتْ جوَّ الغرفةِ بالهذيانْ.

أكتشفُ اللحظة أنّ الساحرَ مسحورٌ، أنّ الساحر يبكي كالطفل..

نظرَ الساحرُ لي، قالَ: بأنّي الطفل. 

فتعجّبتُ من القول

ونظرتُ إلى لغةِ الفجرِ فكانتْ سوداءْ.

قامَ الساحرُ بالرقصِ، اختطَّ لنا أرضاً تكفي لكلينا، قالَ: هنا

نرقصُ- واختطَّ بجانبها أرضاً أصغر- وهنا سنموت.

علينا بالرقصِ لأنّ المرأة شيء باطل 

والطفل كذلك، والسيف قويّ، والمعنى مكتنزٌ في الرقص

فارقصْ!

أخبرتُ الساحرَ أنّي أعمى لا أعرف إلّا خيطاً من ذاكرةِ

الفجرِ وأخفي في كفّي وشماً لامرأةٍ عاريةٍ ماتتْ منذ سنين.

غضبَ الساحرُ من كلماتي وافرنقعَ منّي، قالَ بأنّي كذّابٌ

خَرِفٌ. أخذَ الساحرُ بالرقصِ، فهبَّ إلى الساحةِ مدفوعاً بسهامٍ

ورموزٍ زرق وشموسٍ حمر. واهتزّتْ ذاكرةُ الغرفةِ حتّى غضب

الغيمُ وأمطرت اللحظةُ وقتاً مدفوعاً باللاشيء. افرنقعَ غيمُ شتاءِ

الروح. اشتدَّ المطرُ البريُّ. نظرتُ إلى ما حولي علّي أتلمّسُ

شيئاً: الغرفةُ فارغةٌ كالموتِ. الساحرُ مشغولٌ بالرقصِ. الطائرُ

في جوّ الأسطورةِ ينمو. هبّتْ ريحٌ طيّبةٌ فتذكّرتُ المرأة تأتي،

تأخذني لفراشِ الحُبّ تؤدّبُ أوجاعي، وتذكّرتُ الطفلَ يحلّقُ

في النهرِ، تذكّرتُ السيفَ رجالاً ما عرفوا إلّا الكذب الأسْوَد

وعوانس من سخفٍ وخيوطٍ من لحمٍ ودمٍ. فصرختُ: أبي..

هلَّ أبي كهلالِ العيدِ بطيرِ النورسِ مؤتلقاً. واشتدَّ المطرُ البرّيُّ.

افرنقعت الغيمةُ واهتزَّ جدارُ الغرفةِ ثوباً في الريح. الساحرُ

يلعبُ، لم يتعبْ من رقصته، وخيوطُ العرقِ المصبوب على

الجسدِ العاري هبطتْ. كنتُ أحسّ بأنّي أُقْتَلُ هذا اليوم وأنّي

سأغادرُ ساحةَ رقصِ الساحرِ مُتجهاً بهدوءٍ نحو القبر المرسوم

على الأرضِ. المطرُ قويّاً يشتدُّ. الغيمةُ تعصفُ تعصفُ تعصفُ.

جاءَ أبي، هبطَ الساعة من سقفِ العالمِ. كانَ أبي يتألّقُ شمساً للفجرْ.

صرخَ الساحرُ في وجهي: ارقصْ. قلتُ بأنّي أعمى.

ضحكَ الساحرُ، قهقه ثُمَّ ارتجفَ الساحرُ حين تألّقَ وجهُ أبي في

الغرفة. أمسكَ بالعين الجرداء فأحياها. أمسكَ بالأذنِ الجرداء

فأسمعها، أمسكَ بي. اشتدَّ المطرُ فخفتُ على ثوبِ أبي الأبيض

أنْ يتّسخَ. وقالَ أبي: لا تحزنْ إنّكَ في عيني. فبكيتُ، نظرتُ،

رأيتُ الفجرَ لأوّل مَرّةْ.

ووقعتُ على كفِّ أبي لأقبّلها. والغيمةُ تعصفُ عصفاً.

وبدا أنّ الأرضَ ستغرقُ. قالَ أبي: لا تحزنْ هذا مطرُ الفقراءِ،

انظرْ. فنظرتُ العشبَ بقامةِ طفل!

 

************************************

أنا وأبي والمعنى : شعر: أديب كمال الدين، المجلد الأول من الأعمال الشعرية الكاملة، منشورات ضفاف، بيروت، ص 135

*******************************

نُشرت في جريدة الحوار الجزائرية بتاريخ 20   أيلول- سبتمبر 2020

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home