تَجلّيات الجَمَال والعِشْق

عند أديب كمال الدين

د. أسماء غريب

 

منشورات ضفاف – بيروت، لبنان 2013

 

 

 

 

 

 

المحتويات

 

تقديم

        ـ الدكتور فاضل عبود التميمي

مقدمة

        1.1 ـ البَوْصَلة الكَوْنيّة

          1.2 ـ بسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ

 

الفصلُ الأوّل: الطّريق إلى الجَمَال

        1.1 ـ عَنِ الجَمَالِ

          1.2 ـ صُوَرُ النّقطة والحَرْفِ

          1.3 ـ صُورَةُ الألِفِ

 

الفصلُ الثاني: بنْيَة الصّور الوَصْفيّة وَظَاهرَة التّواصُل الحِسّي

        1.1 ـ صُورَةُ المَرْأة

          1.2 ـ المَرْأةُ والحَرْفُ

          1.3 ـ المرأةُ النّقطةُ وظَاهِرَةُ التّواصُل الحِسّي

 

الفصلُ الثالث: دَلالَة الألمِ والصّليبِ والمَوْت

        1.1 ـ دَلالة الألمِ

          1.2 ـ دَلالة الصّليب

          1.3 ـ دَلالة المَوتِ

 

الفصلُ الرّابع: الصّوْتُ الحُروفِيّ عند الشّاعر أديب كمال الدّين

قصيدة "مُحاولة فِي المُوسيقى" نَمُوذجاً

        1.1 ـ النّغمُ الحُروفِيّ

          1.2 ـ عَذابُ الهَجْرِ ولَذّةُ الوِصَال فِي مُوسِيقى الحُرُوف

          1.3 ـ التّكرارُ سُلطَة كْرُومَاتيكيّة أمْ رَجْع صدى لُغويّ؟

 

الفصلُ الخامس: إشارات الألوان عند أديب كمال الدّين

        1.1 ـ دُولابُ ألوان الشّاعر

          1.2 ـ مَاذا بَعْدَ اللّونينِ الأبْيَض وَالأسْوَد؟

          1.3 ـ أديب كمال الدّين الرّسام النُّقْطي

 

الخاتمة

السّيَر الذّاتيّة

       

 

 

 

 

 

 

 

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

 

"قلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ

أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً"

سُورة الكهْف آية ﴿109﴾

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تقديم

د. فاضل عبود التميمي

جامعة ديالى :العراق

 

يأخذك كتاب د.أسماء غريب :(تجلّيات الجَمَال والعِشْق عند أديب كمال الدين) من الكلمة الأولى فيه إلى عالم التصوّف بكل ما فيه من زهد، ونقاء جوهر، وتأمّل للذات الإلهيّة المتفردة في كلّ شيء، أي إلى أبهى صورة رسمتها القراءة الدقيقة لمتن الشاعر المقترب بحذر من فضاء الحياة وهي تمتد متّسقة بين زمان غير محدّد ومكان .

صاغت الناقدة بلغة أقلّ ما يقال في سياقها النقديّ أنّه ينتمي إلى الاختيار الصّعب الذي مارسته وهي تنحت عبارات تستقري صلب الإشكاليّة الشعريّة عند الشاعر ممثّلة في انطلاقته الشعريّة من وحدة (التفكير) التي ينتمي إليها، تلك التي جعلت قصائده تتشظى بكلّ الاتجاهات مشكّلة نسقاً دائريّاً تزداد دوائره كلّما اتجهنا نحو حافّات الأرض.

والناقدة في مسعاها النقديّ الشفيف يهمّها أن تقف عند العتبات، والمنحنيات، والزوايا قبل أن تدخل إلى العمق الزئبقي الموهم، والمفتوح على أقصى درجات التحليل، والتعليل، والتأويل فقد قُدّر لها أن تمسك بمرموزات الشاعر، وصوره، وشخصيّاته، وطلاسمه، وعباراته، وأن تمرّ عليها مرور من يريد أن يكتشف لا مرور كريم فحسب؛ ولهذا خرجت بنتائج تؤكد أنّ المعنى المتمركز في قلب الشاعر لم يعد سرّاً من أسرار صنعته، إنّما هو بالإحالة على قصائده بوحٌ يتجلى على لسان سلطة النقد، والتلقي أيضاً.

لقد قرأتُ كتاب :( تجلّيات الجَمَال والعِشْق عند أديب كمال الدين) فوجدت الناقدة قريبة جدّا من الشاعر، ونصوصه، ويخيّل لي أنّ قربها (الحضوري) كان سبباً في فهم الشاعر، وإشكالات تجربته الشعريّة، فضلا عن التحام نقدها بمقومات جذره البعيد، ليدقق قارئ الكتاب في (الخُطاطة) المهمّة التي رسمتها أنامل الناقدة وهي تتأمل عناصر التدفق، والسيلان، والجريان التي التقطتها من قصائد الشاعر حتى يكتشف مقدار المهارة النقديّة التي وسمت تفكيرها، وهو يوزّع بعلميّة ممنهجة نظره السديد فيما وراء اللغة، وداخل شكلها المهيب.

إنّ سبر أغوار الصور، والشخصيّات، والسرود، والأصوات اللائذة في الحروف وأنساقها، وجوهرالكلمات وتشكّلاتها، والألوان السابحة في تحوّلات القصائد وامتداداتها هو استكمال نصيّ لما فيها من جماليّات تتوخى تمثيل الحاجات الإنسانيّة الجديدة لإنسان اليوم الذي بدا غريباً في بيئة كأنها صنعت لغيره، أي أنّ سبر أغوار الناقدة هو في النتيجة قراءة تتيح للقراءات الآتية الوقوف عند منجز الاثنين: الشاعر وهو يتملّى بفرح طفوليّ وقع قصائده في عالم يعجّ بالصخب، وعدم الحياء، والناقدة وهي تكشف عن أساليب تلك القصائد ،وطرائق ارتباطها بالآخر.

لقد قرأتِ الناقدةُ قصائد الشاعر (أديب كمال الدين) بإعجاب ينتمي إلى مجالها الجمالي، والمعرفي، وليس هذا بغريب على ناقدة ثبت أنها شغوف بالشعر قراءة، وكتابة، وها أنذا أقرأ كتابها بإعجاب ينتمي إلى الشعر، والنقد معا، فالقراءتان تنتميان إلى حيّز بهيج يتشاكل فيه الشعر والنقد في حاضنة لمّا يزل القول فيها بحاجة إلى فهم، وتجديد قول ليس في مستوى المقولات، والاجراءات، وإنّما في كلّ المستويات التي تنظر إلى الإبداع بوصفه وجوداً مرهوناً بشرط الحريّة التي تعمل على تلوين مفاصله.

كتاب:(تجلّيات الجَمَال والعِشْق عند أديب كمال الدين) للناقدة (أسماء غريب) بمقدمته، وفصوله الخمسة، وخاتمته رحلة ممتعة في شعر واحد من أهمّ الأصوات الشعريّة في خارطة الشعر العربيّ المعاصر أوقفت فيها الناقدة جهدها للحديث عن الجمال، والكمال الإلهيين عبرالتجربة الحروفيّة المواقفيّة للشاعر التي ترى في الحرف وجودا يمتّ إلى الإنسانيّة بأكثر من صلة، ولم تكن الناقدة في تلك الرحلة ملغية جمال الموجودات الأخرى التي تجاور حياة الشاعر، وشعره، فهي تدرك عن قرب أنّ الموجود الحقيقي صاحب الجمال المطلق البهيّ الذي يجب التعلّق في جماليّاته، والنهل من مصادرها هو أبعد ما يكون عن وسائل تقوقعنا المعتادة، ولكنّه في الآن نفسه قريب جدا من نزعتنا الحياتيّة المتأمّلة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

          1.1   البَوْصَلَة الكَوْنيّة

إنّ فكرة الكتابةِ عن التّجربة الإبداعيّة للشّاعر أديب كمال الدّين لمْ تكن وليدة صُدفةٍ أو اندهاشٍ بسيطٍ أو عابرٍ بخطّه الأدبيّ الجديد أو بحروفيّاته ومواقفهِ الألِفيّة، ولكنّها كانت بذرة نَمَتْ داخل رحمٍ ثلاثيّ الظّلُمات ومحيطٍ أبيضَ صافي الأعْمَاق وإنْ بدَا مُضطربَ السّطح وعاتيَ المَوج. أقولُ رحماً ذا ظلماتٍ ثلاثٍ، لأنّ العملَ المُستمرّ والقراءة المُتجدّدة لأعمال الشّاعر وتتبُّع إصداراته القديمِ منْها والجديدِ كان منْ بين أهمّ الأسباب التي خصّبتْ بُويْضَة التّفكير في القيام بدراسة تحليليّة ونقدية تجْعلُ قصائد الشّاعر في مُتناول يدِ القارئ والمتلقّي وتُزيح عنْها قداسة التّعالي وتجعلها بالتّالي قريبة من كلّ مُستويات التلقّي وإنِ اختلفتْ أو تنوّعت. وأقولُ: محيطاً عاتي المَوج وصافيَ الأعماقِ، لأنّني اكتشفتُ أنّ التّحدّي الأكبَرَ الذي كانَ عليّ تجاوزه، ليس هو فكرة كتابة هذا العمل ذاتها بقدر ما كان كيفيّة صياغته ونوعيّة المنهج الواجب اختياره والسّير على أثره، الأمر الّذي جَعلني أشْعرُ وكأنّني ربّان لهُ بوْصلة موزّعة الاتّجاه بيْن الشّرقِ والغرْب، وبين الظّلمات والنّور، وبيْنَ عَوالم يذوبُ فيها الإنسانُ وتحيا المادّة، وأخرى يحيا فيها الإنسان وتفنى المادّة. بل ربّان سفينة ليس أمامه سوى أن يُشمّر عنْ ساعِدِ الجدّ ويتمَنْطقَ بِحزامِ عُلوّ الهمّة وقوّة الإرادة حتّى يَصلَ إلى شاطئ الأمان وبين يديه شباكٌ تتكاثرُ فيها خيراتُ العنبِ والقمحِ والسّمك إلى أبد الآبدين. هذا من جهةٍ، أما من جهةٍ أخرى فإنّ السّؤالَ الرّئيسَ الذي يُمكن لقارئ هذا الاستهلال طرحُه هو: ما السرّ في توزّع بوْصلة هذا الربّان بين اتجاهين مُتنافرين فيما بينهما وإنْ ظاهرياً؟

إنّ الجواب عن هذا السّؤال يكمنُ في سؤال آخر يرْغبُ في معرفة ما الذي يجْعلُ الغرْبَ يبحثُ عن الشّرق، والشّرقَ يسعى نحْوَ الغرْب؟ وما الذي يجْعلُ الحرْفَ العربيّ يتّجه من اليمين إلى اليَسار واللاتيني من اليسار إلى اليمين؟ أيّ روح توجّه هذه الحركة؟ بل أيّ فكر يسْعى إلى هذا الترابط وهذا التّكامل بين الفِكر البشري كافة وعلى كلّ بقعة منْ بقاع الأرض؟

إنّها قضيّة لها علاقة وشيجة بوحدة الفكر العربي الإسلامي، ووحدة الثقافات والحضارات الأخرى على الرّغم من بعض الفوارق والاختلافات في العديد من الأخلاقيات الواضحة فيها. والإيمانُ بهذه الوحدة على مستوى الثقافة الواحدة وعلى صعيد الثقافات المتعددة لا شكّ يُفضي إلى الإقرار بوجود رؤية كونية تسيّر تراث الإنسانية برمّته بغضّ النظر عمّا فيه من تبايُنات. إذ لا يمكن إنكار ذاك الخيط الرّفيع الرّابط بين الثقافات الشرقية القديمة وتلك العوامل المشتركة التي تجمع بين الثقافات الأوروبية والعربية الإسلامية على امتداد مراحلها. ولا يُمْكنُ أبداً تجاهُل تلكَ الرّؤية الشاملة التي تنْصهر داخلها أديان التوحيد جميعها. وإن كانت هناك مِللٌ وفلسفاتٌ لا علاقة لها بالتوحيد وبأنبيائه الكرام مادامت قائمة على الوثنية والوساطة والخرافة، لكنّها لا تستطيعُ أن تلغي النّظرة الشّاملة إلى الخالق الواحد في تصوّر الأقوام والأديان التي تعتمد التوحيد وتصوّر الكوْن والإنسان بشكل عام.

إنّه الفكْر الكوْني الإلهي إذن هذا الذي أنْت الآن بصدده أيها القارئ، الفكْر الذي خلقَ البشرَ ولم يجعل ميزة للتفرقة بينهم سوى تقوى القلوب. فهل بعد هذا كله يتعيّن على ربّان سفينة هذه الدراسة أن يتوقّف ويُكبّل يديه بالحُدود الجغرافية والتاريخية كي يقولَ إنّ المنهج المُختار سيكون إمّا غربياً وإمّا شرقياً؟ وهل عليه أن يتجاهل عالمية فكر أوائل العلماء المسلمين وسعيهم نحو الكونيّة في كلّ اتجاهاتها أو أن يُنكر عالمية الفكر الغربي وسعيه نحو الضّفة الأخرى بكُتب وأعمال ومجلدات عن الإسلام وعن العرب بشكل يفوق أيّ تصوّر وخيال؟ هذا لا يجوز في مقام هذا البحث أبداً وذلك لسبب واحد: الجنس الأدبي للتجربة الشعرية التي بين يديّ ويديك هو ليس من النوع الذي تحدّه جغرافيا أو تاريخ أو أيّ انتماء عرقي أو إيديولوجي كيفما كان نوعُه، لأنّه موجّه للإنسان فقط، وهذا نابع أساساً من طابعه الإسلامي الصّوفي الذي يُخاطبُ روحَ الإنسان من يمينها إلى يسارها ومن فوقها إلى تحتها. لذا تجدُ مُعظم قصائد الشاعر أديب كمال الدّين زاخرة بأسماء تتوزّع في تنوّعها واختلافها بين كلّ اتجاهات الأرض، فهذا موسى (ع) وذاك عيسى (ع)، وهذا مُحمّد (ص)، وهذا "طاغور" بلحيَته البيْضاء، وذاك "زوربا" برقصته الشّهيرة وهذا "شارلي شابلن" وتلك "آنا كارينينا" وصاحبُها "تولستوي"، وهذه أم كلثوم أو كما سمّاها الشاعر نفسه بـ "المطربة الكونية"، وذاك البيّاتي وغيرُهم كثيرون. كلّ هذا الثراء والغنى الرّوحي لم يزدني إلا قناعة بأنّه ليْس لي في كتابي هذا سوى أن أكسّر عقاربَ بوْصلة سفينتي وساعتها كيْ أصْبح رُبّاناً له أنْ يُبحر في كلّ الاتجاهات وفي كلّ زمن ووقت، وبمُختلف اللغات، وكي أجْمع بين الشّرق والغرب وأزَاوِج بين مُختلف المَناهج النّقدية بما فيها النّقلية والعقلية والصوفيّة والتفكيكية والسيميائية وغيرها.

          فهل من سبيل إذن إلى مواجهة هذا التحدّي؟ هلْ يُمكن حقاً التحليق بتجربة الشّاعر إلى حيث ما من حدٍّ أو مدّ أو أمدٍ؟ نعم هو الجواب الذي يعقبه قلق آخر يخرُج من بطن نصّ أعتبُره القشّة التي قصمت ظهر البعير، وأقصد به قصيدة: (إشارة أولئك)[1] التي وضع فيها الشاعر إصبعه على دمّل لطالما أوجعه وقضّ مضجعه، محاولاً بذلك تشخيص داء ليّ عُنق نصوصه الشّعرية أو داء القراءة الإسقاطية في تفسير وتحليل قصائده المتنوّعة والمختلفة. والحقّ يُقال إنّ ما أشار إليه الشاعر في نصّه هذا، لا يُمْكن اعتباره مسألة تهمّه والمتلقّي فقط، فالأمر أكبر وأعظم من حصْره بين مبدع واحد وعدد من المتلقّين، ذلك أنّ الإشكاليّة قديمة قدم الإبداع الأدبي والفني بشكل عام، وقد أسماها منظّرو النقد والأدب بنظرية التلقي وجمالياته وأضيف قائلة: وأسلوبياته وأخلاقياته. ولا مجال للإنكار بأن أيّ أثر أدبي مهما بدا للقارئ أو للباحث والناقد غامضاً فإنه ينطوي على دلالات بعينها يتقيّد بها تأويله ويُحدّ بها فهمه، واللغة تُعدّ أول هذه الحدود التي يظهر فيها هذا الأثر، لأنّ ما تحويه هذه اللغة من علاقات هي التي تحيل القارئ على ثقافة وحضارة مجتمع ما، الشّيء الذي يُلزمه بتحرّي نوع من الموضوعية التي لا يُمكن تجاوزها أو التخلّي عنها. أما الحدّ الثاني الذي يتقيّدُ به تفسير النّص وتحليله فهو بناء النّص ذاته بكلّ ما قد يحويه من غموض وفراغات قد يضعها الكاتب مُنتظراً أن يملأها القارئ: اللغة إذن والبناء هما اللذان يلزمان القارئ بقدر من الوفاء لمقصد الشاعر ولطبيعة العصر والزمن الذي ألفَ فيه مجاميعه أو نصوصه الشعرية. لذا فإنّ الأثر الأدبيّ وبالتالي نصّ الشّاعر أديب كمال الدّين الذي هو شأن هذه الدراسة لن يحمل بين طياته معنى واحداً فقط تقتصر القراءة على اكتشافه كما أنّه لنْ يكون في الوقت ذاته منفتحاً على قراءات شتى تجعل منه نصّا قابلا لأيّ تأويل يُوضع له.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1.2   بِسْمِ اللَّهِ مجرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

          قد يعتقد الدارس لأوّل وهلة أن تشخيص الطّابع الكونيّ للتجربة الأدبية والفنية للشاعر أديب كمال الدّين قد تجعل من مهمّة تحديد المنهج أمراً سهلاً مادام قد تمّ الحسم فيه من خلال التصريح بأهمّية المُزاوجة بين مناهج متنوّعة تتفاوتُ بين النّقلية والعقليّة والصّوفية وغيرها، لكن الغوص في عوالم الدواوين المختلفة للشاعر يجعلُ الباحث يكتشفُ بأنّ هذا وحده لا يكفي، إذ ثمّة حجابٌ آخر يجبُ رفعه كي يتمكّن من تحديد أرضية تابثة وقارة تتحمّل قسوة معاول التنقيب والبحث عن المعنى الكونيّ أو عمّا يُقارب هذا المعنى داخل نصوص الشّاعر، لذا يبدو من الأهمية بمكان القولُ أخيراً بأنّ المنهجَ التفكِيكي الجمالي هو الصّراط الذي سيتمّ المشي والرقص في ذات الوقت على حباله. وذلك لأنّ هذا المنهجَ يمكّن الباحث أكثر من غيره من التركيز على البنية الجمالية في نظرتها الشمولية وفي ما تحويه من علاقة بين الفكر والواقع، وبين الواقع والعالم، وبين العالم والكون، وبين الكون وخالقه مادام هو وحده المتفرّد بالجمال المطلق. لذا فإن تتبع آثار الجمال ومختلف بنياته سيكون هو ضالة هذه الدراسة سواءً كانت هذه البنيات متعلّقة بالصّورة الشعرية ومصادرها المختلفة أو بالبناءات الفنية وأنواعها العديدة بما فيها الدرامية وغيرها، دون التغافل عن البنية الإيقاعية وخاصة منها المتعلّقة بالموسيقى الداخلية للنّصوص مع التطرّق أيضاً للبنية الفنية التشكيلية المتجلية سواء من خلال ألوان النّص الخارجية أو ألوانه الداخلية، وهذا كله بهدف الوصول إلى الذهنية الجمالية لدى الشاعر أديب كمال الدّين وكيف حاول من خلالها ولم يزل يحاول تقديم علاقة جديدة بين ظواهر الأشياء وكوامنها مرتكزاً في ذلك على ما في الفكر والأدب الإسلامي الصوفي من كنوز تنهل كلّها من معين الجمال الكوني ومبدعه الجميل البهي الذي لا يتفوّق على بهائه وجماله مبدع. لذا فلا عجب في أن يكون العشق هو خرقة الشاعر أديب كمال الدّين وتكون الرمزية الجمالية عصاه، خرقة وعصا جعلتا من مجاميعه الشعرية شكلاً جديداً من أشكال التعبير الجمالي لم يحققه أحد من شعراء عصره[2]. لذا فإن تجربته الشعرية الحروفية المواقفية لا يمكن اعتبارها أسلوباً أدبياً فنياً فحسب بقدر ما يمكن القول عنها إنّها موقف جمالي روحي من العالم والكون وخالقهما معاً.

د. أسماء غريب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصلُ الأوّل

الطريقُ إلى الجـَمَــال

1.1         عن الجَمَال

لِـمَاذا كُلّما رأى الإنسان منظراً جميلاً تحرّكت بداخِله في مُعظم الحالات مشاعر جيّاشة من الدّهشة والرّقة، وفِي حالات أخرى انتابَه شعور بالغُموض والجُمود والدّخول في مدارات الغيبة والتطلسم والسّؤال؟ ربّما لأنّ المَوْضُوع الذي يُصبحُ محطّ تأمّله وتفكيره لهُ من الشّكل واللون، أو الطّعم والرّائحة، أو الصّوت واللاشكل، أو اللالون واللارائحة، أو اللاطعم واللاحركة ما يُثير كلّ أنواع رُدودِ الفعل الوجدانيّة بشكل يترتبُ عليه مُحاولة الإنسان التعبير عن كلّ هذا الكمّ الضّخم من الأحاسيس المتناغمة والمتناقضة فيما بينها، فإمّا ينجح عبر الكلمة أو عبر الصمت، وإمّا عبر السّكون أو الحزن، وإمّا عبر الموت احتراقا بنور الجمال. لكلّ هذه الأسباب تظلّ التجربة الجمالية من أقوى أنواع التجارب وأشدّها وطأة على عقل وقلب وفؤاد الإنسان، إذ من خلالها يتمّ التعبير عن وعْي المُدركات الجمالية بكافة أشكالها وألوانها من خلال الوظيفة البصرية والسّمعية الظّاهرة والباطنة.

ووعيُ الجمال يَمُرُّ بمرحلتين أولاهما الشّعور به وثانيهما استيعابه والاستمتاع به، وهما معا مرحلتان متداخلتان ولا يوجد بينهما فاصل زمني، فما إن يُشعر بالجمال يُستمتع به مباشرة[3]. وهذا الوعي يكون في كلّ الحالات متأثراً بعوامل عدّة أهمّها العامل النفسي، ناهيك عن عوامل أخرى شديدة الارتباط بالمجتمع أو بالحقبة التي يعيشها الإنسان أو بمختلف معتقداته بما فيها الدّينية والرّوحانية. ويُعدّ الإنسان الفنان بكلّ انتماءاته الفنّية والإبداعية، أكثر النّاس مسئولية عن التعبير العميق والخلاق عن التجربة الجماليّة بشكل عام، لذا فهو معني أكثر من غيره بالقدرة على تحقيق التوازن بين الضروريات النفسيّة وضرورات المجتمع وممارسة هذه الأخيرة بشكل إنساني قادر على تتبّع الفكرة والتقاط الإشارة الإبداعية مع امتلاك القدرة على التحليل والتركيب والتقويم والتأليف والتقييم لإيصال ما استوعبه من مظاهر جمال الكون وإظهاره لغيره من النّاس في شكل إبداعيّ باهر وبارع. وإذا كان الفنان المستوعبُ للجمال والمنتجُ له في شكل آخر من أشكال الجمال مبدعاً، فإنّ المتلقّي يكون مبدعاً هو الآخر. إذ لا قيمة لما يقدّمه المُبدع في غياب المتلقّي.

وتجدُر الإشارة إلى أنّه على الرّغم من كون العديد من المدارس التي تهتمّ بعلم الجمال قد حاولت التقليص من دور الخيال والإلهام في عملية خلق الجمال الفنيّ، إلا أنّه لا يُمكن بأيّ شكل من الأشكال شطبُه من العمليّة الإبداعية، كما لا يُمكن نفي العقل وحُضوره القويّ بكل ميكانيزماته التفكيرية والعقلانية الثابتة في كل خطوة من خطوات عمليّة الخلق الإبداعي لكلّ ما هو جميل.

والجمال جزء من الفلسفة، والإنتاجُ في إطاره كفنّ خلاق هو ليس فقط صورة للإبداع الخيالي ولكن للإنتاج العقلي الذي يتمّ عبر أربع عمليّات يُمكن تلخيصها في الاستعداد والإفراخ والتـبلور والنـسج، الشيء الـذي يـؤكد ما للإرادة من دور فعّال في عملية إنتاج العمل الإبداعي من خلال الوعي الإنساني بظاهرة الجمال وكنهها العميق ولا أدلّ على ذلك من التجربة الشعرية الجمالية الروحية الفنية الأدبية التي من أجلها كُرّس هذا الكتاب والخاصة بأديب كمال الدّين، الشاعر الصوفي الذي وهب نفسه وعقله وقلمه وقريحته وكل جوارحه لأسمى علم في الوجود: علم الجمال المطلق أو علم الجمال الإلهي.

 

 

 

    إن الله جميلٌ يحبُّ الجَمَال

لا شكّ أن معرفة الله سبحانه وتعالى بالجمال والعشق كانت ولا تزال وستبقى من أرفع وأعظم أنواع المعارف منزلة وقيمة عند الخالق وذلك لأنها وُهِبَتْ وبدون منازع للمُخلصين من عباده، إذ عندما يَرْفـَعُ البارئ برحمته الإلهية الحُجُب الجثمانية يحصلُ لمن يـخْتَصُّ بهذا النوع من العلوم ما يسمّى بالسّلب والجذب والخطف فيقعُ الاصطفاءُ ويُصبح العبْدُ العالـِمُ خِلا للحضرة الإلهية فيعشقُ صانعه ومُبدعه ويفنى في بحار بهائه ثم يصحُو ليتحقق له البقاء في حدائق الكمال والحُسن والوداد بفضل سرّ قوله تعالى؛ ما وسعتني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن، الذي إذا تقرّب مني شبراً تقرّبتُ منه ذراعاً وإذا تقرّب مني ذراعاً تقرّبت منه باعاً وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة. هكذا هو العالِمُ بالجمال والعارفُ بالعشق الرباني فإما هو مِن زمرة مَن صاح "أنا الحق" أو مِن مَجمع مَن هتف: "جنّنني بي فمتُّ ثم جنّنني بي فعشتُ ثم جنّنني عنّي وعنه فغبتُ ثم أوقعني في درجة الصّحو وسألني أحوالي فقلتُ الجنون بي فناء والجنون بك بقاء والجنون عني وعنك ضياء وأنت في كل الأحوال أولى بنا"[4] أو من فتية كهف "اجتمعتِ الحاءُ بالباء فكان الكون"[5]. ولا غرابة في كون الجميل يُعدُّ من بين أسماء الصفات الأكثر محبة وتأثيرا في قلوب العارفين وقد صدق خير الأنام حينما قال: ((إن الله جميل يحبُّ الجمال))[6] سبحانه لا جميل يضاهيه في الجمال بل لو كان جمال الخلق كلّهم على رجل واحد منهم وكانوا جميعهم بذلك الجمال لما كان لجمالهم قط نسبة إلى جمال الله بل لكانت النّسبة أقل من نسبة سراج ضعيف إلى حذاء جُرم الشّمس (ولله المثل الأعلى)[7]

ومن صفة واسم الجميل تنبع بقيّة أسماء الصفات الإلهية الدائرة في فلك النور والجلالة والظهور والكمال والبهاء، إذ لجمال الحقّ سبحات من النور من عاينها احترقت عين سرّه وإلا ما كان قال عليه أفضل صلاة وسلام (( لله سبحات من النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصر خلقه))[8] وكشفُ الجميل لجماله هو مقام للشوق والعشق، فيه تلوحُ أنوار الحق وتتزاحمُ داخل قلب العارف غابات من المعارف الشعشعانية كي تدل على الوحدانية من عالم الملك والملكوت، فيصيرُ بهذا صدر العارف مشكاة، وقلبه زجاجة، وعقله مصباحاً لا ينطق إلا بكلمة التوحيد التي تورق بداخله شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، شُبّهت في سورة إبراهيم بالنّخلة التي أورقت وأينعت واخضرّت حينما قال البارئ ساعة الكشف والظهور لأحبابه: ((كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أعرَف)) فغرَف بعد ذلك من بحار الكاف والنون ومحيطات الحاء والباء غرفتين وصبّهما في إناء القدرة واستوقد تحته نار العشق والمحبّة فالتهب الإناء وتأجّج حوله زبدُ الحدوثية فصار هُوَ هُوَ المُضيء بنفسه ((وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ))[9] . هذا النّور بل هذا الجمال والعشق الذي فتن كلّ أهل العرفان والمحبّة لا يُمكنه سوى أن يثير الفضول داخل فكْر كل باحث اطّلع على التّجربة الجماليّة الخاصّة بالشّاعر أديب كمال الدّين كي ينتهي به الأمر إلى الرّغبة في معرفة كيف فعل جمالُ الله بالشّاعرِ كلّ هذا لدرجة أنه أبدع للقارئ 15 ديوانا لا يُتحدّث فيها سوى عن الله واسم الله وجمال الله؟ هذا ما سيُطّلع عليه عبر القادم من صفحات هذا الكتاب.

 

 

 

1.2   صور النّقطة والحرف

          قيل الكثير والكثير عن الصّورة في الأدب العربي والعالميّ على السّواء، ويبدو أنّ أوائل فطاحلة نقاد الغرب لم يبدأوا في الاهتمام الفعليّ والحقيقيّ بمفهوم الصّورة إلا عند العقد الثالث من القرن العشرين هادفين في ذلك إلى السّعي نحو تأكيد الجانب الرّمزي للصّورة في النّص الأدبي شعرياً كان أم نثرياً، والجانب اللغوي المجازي بوصفه عنصراً جوهرياً في النّص وعاملاً رئيساً في المعنى والبنية.

وتُعدّ الناقدة الإنجليزية "كارولاين سبيرجن" (Caroline Spurgeon) من بين أهمّ مَنْ أبدع من النقاد في الاعتناء بالصورة الفنية حينما وهبت كل طاقتها الفكريّة والإبداعيّة لدراسة الصُّور الشعرية عند "شكسبير"[10] بإخلاص مُنْقطع النّظير ممّا أسفر عن نتائج مُذهلة فتحتْ للقارئ أبواباً جديدة جعلته يطّلع من خلالها على عُمق التجربة الفنية والأدبية الفذة لهذا الأديب الإنجليزي وعلى عقليته الجمالية ورُوحه الإبداعية[11].

أمّا فيما يتعلقُ بالدّراسات الأدبية في النقد العربي الحديث للصّورة فهي لم تتخلف زمنياً عن قرينتها في الأدب الغربي إلى حدّ كبير، وإن اختلف البعضُ عنها من حيث العناوين التقليدية التي يغلبُ عليها الطّابع التراثي والمنظُور البلاغي والبياني، بشكل يتمّ فيه ربط الصّورة بصفتها" البلاغية" أو "البيانية" وأحياناً أخرى بعُنصر مُفرد من عناصرها، فتجدُ العناوين تدلّ على دراسة التشبيه أو الاستعارة أو المجاز، ويُجاوز عدد منها ذلك إلى "الصّورة الفنية" حيثُ الاتساع بدلالة الصورة إلى ما رواء اللغة المجازية من أنماط ونماذج ورموز أو صور ذهنية ، وفي أحيان أخرى يتمّ ربط الصّورة بالنوع الأدبي للنّص.

والصّورة عند أديب كمال الدّين، هي تجسيد لشعوره المتدفّق من حنايا تجربته الشعرية التي تفاعلت في نفسه عبر سنين طويلة من الخبرات والمكتسبات الشعورية والحياتية بشكل جعل منه بوثقة نار ونور انصهر بداخلها كلّ ما اعتراه ولم يزل من مشاعر محوّلا إيّاها إلى كلمات تصويرية ناطقة حيّة تتشكل في إطار التجربة بواسطة "التدفق الثرّ لكلّ ملذات اللغة"[12] تدفقاً أصبحت معه صور الشّاعر حمضاً نووياً يُخَزّنُ فيه كلّ المعلومات الخاصّة بقصيدته بما فيها التراثية والتاريخية والسياسية والدّينية والصوفية والأسطورية والطلسمية والنفسية والروحية، ولا أدلّ على ذلك من قصيدته (الكثير من الصور)[13] التي تُعدّ مفتاحاً لبابٍ لابدّ من دخوله لكشف أغوار العديد من القضايا الجمالية والفنية الخاصّة بمُختلف التقنيات والأدوات التي تقوم عليْها الصّورة الشعرية عندَ أديب كمال الدّين، وذلك لأنّ هذه القصيدة بالذات تطرحُ إشكالية تعامُل الشاعر مع الصّورة كمفهوم عام وكيفية اعتباره لهذه الأخيرة قناعا يخفي وراءه الحقيقة التي طالما تمنّى أن يُعبّر عنها بدون أيّ لون أو غطاء. وكون هذه القصيدة ستكون مدخلاً فهذا يعني أنها ستُمهّدُ لما سيتمّ وضعُ اليد عليه عبرها من الخيوط الأولى الموصلة لماهية الصّورة عند الشّاعر لا بمفهومها الصّوفي فقط ولكن بمفهومها الأدبي والإبداعي. لذا فإنّه سيُحاول في البداية فهم ما يعنيه أديب كمال الدّين بالصور المسطورة داخل أحرف هذه القصيدة ثم بعد ذلك تسليط الضوء على مختلف مستويات الصورة الأدبية والفنية للشاعر وهو يمخُر عباب محيطات الحرف والنقطة.

يقول الشاعر:

"التقطنا معاً،

يا صديقي الحرف،

الكثيرَ من الصورِ التذكاريّة

قرب الجسر

وقرب باب المدرسة

وقرب محطة القطارِ النازلِ إلى الجحيم.

وعلى مائدةِ النقطة

وكأسها المترعِ بالشوق

التقطنا صوراً عاريةً

إلا من الألم،

صوراً عاريةً إلا من صرخاتِ الليل،

صوراً عاريةً إلا من قميصِ الله.

نعم،

التقطنا صوراً ملوّنةً

بلونِ الغروبِ عند البحر

أو بلونِ الأمطارِ الأستوائية

أو ملوّنةً بغيومِ الشتاءِ البعيد

أو بظلالِ النساء

أو بنورِ الشمس

وهي تتعرّى على امتدادِ المحيطِ العظيم.

هذه الصور تسمّيها أنت،

وأنتَ على حقّ،

تسمّيها قصائد.

وأنتَ فرحٌ بها

لأنكَ ابتكرتها

وكنتَ فيها الظاهِر والباطِن.

أما أنا فسأموتُ دون أنْ أكتب

قصيدتي التي أقولُ فيها الحقيقةَ عاريةً

دون صور،

دون صورٍ من أيِّ نوعٍ كان!"

تبدو القصيدة في ظاهرها بريئة حدّ الموت، وخالية من أيّ فخ يكون قد نصَبه الشاعر عن قصد أو غير قصد للقارئ، وبراءتُها هذه هي التي تجعل منها نصّا في حاجة إلى قراءة مضادّة تقوم على التشكيك المعرفي وتكون المحلول الذي ستُنقع بداخله بيتا بيتا كي يتم الكشفُ عمّا بين ثناياها من رُموز وصُور جمالية.

يقول الشاعر في مطلع القصيدة: "التقطنا معاً،/ يا صديقي الحرف،/ الكثيرَ من الصورِ التذكاريّة / قرب الجسر / وقرب باب المدرسة" وهي مقاطع يبدو فيها الشاعر وكأنه يخاطب صديقاً ما أعطاه اسما ربّما يكون وهميا كي يغطّي به اسمه الحقيقي. صديقا يُحتملُ أن يكون قد عرفه منذ سنين الطفولة وشاركه اللعب والذكريات البعيدة عند الجسر وعند باب المدرسة. لكنّ الأبيات التي تلي مباشرة هذا الجزء تجعل المتلقّي يشعرُ وكأن كلّ ما قدّمه لهُ الشّاعر من أفكار ومعلومات هي الآن على وشك أن تُنسف الواحدة تلو الأخرى أو كأنه أمام سلك كهربائي عارٍ ما إن تمسكُ به يدُه المبللة بماء البحث حتى تُصعق بتيار حارق يولّد بداخله سيلا عارما من الأسئلة:

ـ عن أيّ قطار يتحدّث الشاعر؟ بل كيف لهذا القطار أن يسافر بطفلين صديقين مازالا على عتبات المدرسة إلى الجحيم؟

ـ كيف تكون للنقطة مائدة ومَن أو ما تكونه هذه النقطة؟

ـ بل كيف يُمكن لهذين الصّديقين أن يلتقطا صوراً مع هذه النقطة وهم حول أو فوق مائدتها؟

ـ هل هذا الصّديق هو شاعر أيضاً، مادام قد سمّى الصّور التي التقطها مع صديقه بالقصائد؟

ـ وهل النّص يحملُ بين ثناياه هوية شاعرين أحدهما يكتب القصائد والثاني مازال لم يكتب قصيدته العارية إلى اليوم؟

يؤسفني أن أقول لك أيّها القارئ أن كلّ علاماتِ الاستفهام هذه لا فائدة منْها تُرجى، لأنّها تبدو وهماً أو سراباً بعيداً ما دُمنا أنت وأنا لم نضعْ يدنا على أهمّ صورة التقطها لاوعي الشاعر وقدّمها لك مفتاحا على طبق من فضّة كي تتمكّن من حلّ لغز قصيدته هذه بل قصائده جميعا: وهي الصّورة التي يسمّيها أهل البلاغة والنقد بالتشخيص أو الأنسنة، وذلك لأنه مشى على نهج تقنية نقل الكائنات الحيّة والجمادات التي تدرَكُ بالحواسّ المختلفة من عالمها الحسّي إلى عالم حسّي جديد تكتسبُ فيه صفات البشر، فتصبح شخوصاً ناطقة بالضّبط كما أصبحه "الحرف" هنا في قصيدة الشاعر، فهو شخص يتبادل الحديث والذكريات مع الشاعر عن قصائده العديدة أو صوره التي التقطها والشاعر في مواقف ومراحل حياتية مختلفة ومتنوعة.

فمن يكون هذا "الحرف"؟ وما جوهر هذه "الصور" التي التقطها مع الشاعر؟

يقول الناقد أ . د. عبد الإله الصائغ في كتاب (الحروفي):

"استطاع الشاعر أديب كمال الدّين خلق شعريته الخاصة من جهة التعامل الدؤوب مع الحرف والنقطة حتّى أنسن الحرف وأنسن النقطة! فأنت لا تقرأ حرفاً خالصاً كما تراه أنت أو أنا! وإنما تقرأ الحرف كما يراه الشاعر! وليس ثمة سوى التشفير أحياناً والتماهي مع الحرف أخرى وتمجيز الحرف ثالثة في فضاء لانهائي تتوحد فيه الأصوات والمرئيات والمشمومات والمجرات والحبيبات حتّى يعسر وضع حدود بين المحدودات! إذن (الحرفنقطة) باختصار واتساع شديدين عالم القصيدة والقصيدة أيضاً عالم الحرفنقطة! الحرف كلّ شيء وكلّ شيء الحرف! السماء حرف والأرض كذلك! القتلة حروف والمقتولون حروف! الحبيبة الطاهرة حرف واللعوب الغادرة كذلك! الثنائيات حروف الليل والنهار الموت والحياة الإبداع والأتباع حرف! ليس ثمة مشكلة على مستوى الرؤية! ولكن كلّ المشكلة في مشغل القصيدة! أن تحوِّل المحسوس مجرداً والمجرد محسوساً! أن تؤنسن مفردات الطبيعة أو تعيد مفردات الإنسان إلى الطبيعة!"[14]

نعم، لقد صدق د. عبد الإله الصائغ حينما قال إنّ المُعضلة الكبرى هي مشغل نصوص أديب كمال الدّين ذاتها باعتبارها جسداً يضمّ وحدات تصويرية بعضها كلّي وبعضها جزئيّ يصوغها الشاعر بالاستدعاء الوجداني فتصبح أحياناً وكأنّها وحدات تعبيرية صغيرة تمثل لقطة فنية تصويرية خاطفة وأحياناً أخرى تصبح جزءاً من تصوير مركّب أكثر شمولية تتشكل بداخله صور مركّبة وشديدة التعقيد وبعيدة الأثر كما هو الحال في الصور التي ضمّها هذا النّص.

ما الذي دفع الشاعر بأنسنة "الحرف" أولاً و"النقطة" ثانياً؟

للجواب عن هذا السؤال سيتمُّ تحليل اللقطات الفنية التصويرية الخاطفة أولاً ثم بعد ذلك الصور الأكثر تركيباً وتعقيداً:

يقول الشاعر في بداية النّص:

" التقطنا معاً،

يا صديقي الحرف،

الكثيرَ من الصورِ التذكاريّة"

·        التقط + نا + معا

من البديهي ألا تكونَ هناك بين الفعل ونون الجماعة أيّة مسافة أو فاصل، فالعلاقة حميمية ومتماهية لدرجة الذوبان، وإضافة الشّاعر ل "معا" ماهي إلا بدافع التأكيد على درجة الحميميّة الكُبرى بينه وبين الحرف، هذه الحميمية التي تصبح أكثر وضوحا وتجليّاً حينما يُضيف عبارة "يا صديقي".

والنتيجة المتحصل عليها يمكن تشكيلها إذن كما يلي:

 

التقط + نا

الفعل هنا يدلّ على السّرعة في تخزين الصور، لكن (الشاعر لم يتحدث عن "العنصر المُصوِّر") هل هو عدسة آلة تصوير حقيقية أم هو عدسة العين المجرّدة؟

وفي هذه الحالة منْ كان يُصوّر منْ؟ هل الشاعر هو الذي كان يصوّرُ الحرف، أم العكس؟ أم أنهما معاً (مادامت "نا" هنا تدلّ على المعيّة والجماعية في القيام بالفعل ذاته) كانا يصورّان صورا كلٌّ بعينه أو كلّ بآلته التصويرية.

معا

يبدو أن هذه ال "معا" مشكلة حقيقية هنا، فهي وإن كانت من الناحية الإعرابية حالاً مؤوّلاً بمشتقّ «مجتمعين» منصوباً وعلامة نصبه الفتحة لفظاً والثانية للتنوين، فمِنَ المُحْتمل أنْ تكونَ حالاً كاذباً لهُ بزيفه هذا أن ينْسف علاقة الحميميّة التي سبقت الإشارة إليها قبل قليل:

ولو افتُرض أن كلّ طرف من أطراف الفعْل قد التقط لوحده صورا، فمن الممكن جداً أن تكون صُور كلّ واحد من الاثنين مختلفة عن صُور الآخر ومن الجَائز أيْضاً أن تكون المَعية هنا مَعية رفقة أو صُحبة في القيام بذات الفِعْل فتُصبح بذلك عبارةُ "يا صديقي الحرف".حمّالة أوجه وتفسيراتٍ مُختلفة. فإلى أي حدّ يُمْكن اعتبار هذا الأمر صحيحاً؟

يُكمل الشّاعر ويقول:

·        "الكثير من الصور التذكارية"

يعني أن الصّور كثيرة ومتنوعة، وبالتالي فإن العلاقة الجامعة بين الطّرفين استمرّت على طُول وامتداد فعل التقاط الصّور.

حتى عبارة "التذكارية" هنا لها من طابع الحميمية والقرابة ما يجعلُ القارئ يتساءلُ عن نوعيّة ودرجة هذه الصّداقة التي راكمَ الشاعرُ وصديقه الحرف بداخلها وعلى طولها كلّ هذه الصّور أو هذه الذّكريات.

ما الذي يقصدُه الشاعر بهذه الصّور؟

يجيبُ الشاعر سريعاً عن هذا السّؤال القلق فيسردُ لائحة من الصّور ويحددّ مَكانها ويرْمي كرة تحديد زمانها في ملعب المُتلقّي: إذن فالصّور مأخوذة قرْبَ الجِسر / قرب باب المدرسة / قرب محطة القطار النازل إلى الجحيم / على مائدة النقطة وكأسها المترع بالشوق.

لكن ليس هذا فقط فهو يمُدّ المتلقّي بعُنصر آخر ومعلومات أخرى عن هذه الصّور: فهي جميعُها عارية (إلاّ) من الألم / من صرخات الليل / من قميص الله. ولكنها في الوقت نفسه ملوّنة بلون الغروب عند البحر (أو) بلون الأمطار الأستوائية / بغيوم الشتاء البعيد / بظلال النساء / بنور الشمس وهي تتعرّى على امتداد المحيط العظيم.

كلُّ هذا يعني أنّه حَانَ الوقتُ للتوقف عند كلّ عنصر على حدة، وسيـُبدأ أولاً بعنصر المكان كدالّ على عُنصر الزّمان، ثم سيتمُّ الختمُ بالتوقف عند عنْصُري العُري واللون عبْر سؤال آخر يُحاول معْرفة كيْف يُمْكن الجمْع بين هذين العُنصرين المُتناقضين، أيْ كيْفَ يُمكن للصّور أنْ تكُون عارية وفي الوقت نفسه مُلوّنة؟

 

 

 

 

 

 

 

 

·        عنصر المكان

            

              الجسر

 

           باب المدرسة

قرب

          محطة القطار

          النازل

          إلى الجحيم

 

يبدُو أنّ تعبيرَ "باب المدرسة" هو مفتاح هذه المعادلة المكوّنة من ثلاث صور مختلفة الشّكل والمضمون. فالمدرسة كدالّ لغوي وثقافي تحيل على فترة التعليم الأوليّ الذي يبدأ من سنوات الطفولة وحتى سنوات المُراهقة بكلّ مراحلها وصعوباتها النفسية والفكرية والروحية. إذن فمن الدالّ المكاني أصبح الآن بالإمكان التحدث عن الدالّ الزماني. وهو الأمر الذي سيُسهب في معالجته في الجزء المتعلق بالعنصر الزماني.

 

على        مائدة النقطة وكأسها المترع بالشوق.

 

هل هذه النقطة امرأة؟ هل مائدتها مائدة خمرة؟ إذا كان الأمر كذلك فمن هم ندماؤها؟

إنّ الجَواب عن هذه الأسئلة ومحاولة وضع اليد على مفاتيح مكنونات هذه الصورة في معزل عن بقية أبيات النّص يُعدّ محاولة لا تُحْمدُ عقباها ومحكوم عليها بالفشل منذ البداية، ذلك لأنّ الاكتفاء بصورة أنسنة النّقطة في هذا المقطع لن يمدّ المتلقّي بأيّ تفصيلٍ ولا تأويلٍ ولن يقوده بأيّ شكلٍ من الأشكال إلى استخراج عُنصر الزّمان حتى وإن كان الأمرُ يوحي منذ الوهلة الأولى بمرحلة أخرى من حياة الشاعر تلت مباشرة سنوات قسوة الشباب والحرب ومقابلة الموت وجها لوجه لأكثر من مرّة وبشكل متكرّر.

يُكْمل الشّاعر أبياته ويقول:

" التقطنا صوراً عاريةً

إلاّ من الألم،

صوراً عاريةً إلا من صرخاتِ الليل،

صوراً عاريةً إلا من قميصِ الله."

قراءة هذه الأبيات تمدّ القارئ بعناصر جديدة يتوجب التوقف عندها عنصراً عنصراً:

ـ عُنصر العُري: وهو يتمفصل إلى ثلاث درجات تصاعدية تتجاوز بداية عتبة اللباس (الغطاء) ثمّ عتبة الجِلد (ما تحت الغطاء) وبعد ذلك عتبة الجسد الداخلي كي تتوقف عند درجة (داخل الدّاخل) أي قلب وروح الصّور حيث يوجد: الألم/الصراخ/ قميص الله.

 الوصول بالأبيات إلى هذه النافذة يعني أنه تم العثور على عنصر الزّمن والذي منه سيتمُّ الانطلاق نحو البحْث عن هويّة "النقطة" و"الحرف" اللذين أنسنهُما وشخّصهُما الشاعر بهذا الشكل العجيب.

·        عنصر الزمان

لقد تمّ تحديد زَمَن بداية التقاط الصّور وهي مرحلة الطّفولة أو قرب "باب المدرسة" حيث بدأت أسفار الشاعر وصديقه الحرف. لكن ماذا عن "الجسر"؟

الجسر ما هو إلا ذاك البرزخ الفاصل بين سنوات حياة الشاعر الأولى والسابقة عن زمن مرحلة التعليم المدرسي، ولعلّها إشارة لبداية علاقة الشاعر بالحرف داخل البيت الذي رأى فيه النور على يد مُعلمه "الحرف الأكبر" أو والده الذي كان ولم يزل البئر التي شرب منها أول كأس حروفية.

أصبح من الجائز الآن بعد هذا التصريح الحديث عن زمنين: زمن البيت وزمن المدرسة. وهما معا يشيران إلى الطفولة وبداية سنوات المراهقة.

ماذا عن القطار النازل إلى الجحيم؟ إنه يشير إلى سنوات الشباب بكل ما سبقها من ثقل تجارب الطفولة القاسية:{موت الأب بين يدي الشاعر الطفل المراهق آنذاك (طالع المزيد من التفاصيل عن هذا الحدث  في باب حوارات وعلى وجه الخصوص في نصّ الحوار الذي أجراه معه الأستاذ عبد الغني فوزي) وتجربة أولّ حبّ فَشِلَ وطارتْ فراشاته بدون عودة. (انظر قصيدة "حب" بديوان تفاصيل)}. وبكلّ ما حدثَ خلالها من تجارب أخرى أشدّها قسوة على قلب الشاعر، تجربة الحرب الإيرانية ـ العراقية، ولا أدلّ على ذلك من الكلمات التالية التي صرّح بها في نفس الحوار المشار إليه قبل هنيهات:"وفي شبابي التقيتُ بقتلى الحرب: الحرب العراقية الإيرانية. وكان مشهد القتلى القادمين بالعشرات بل بالمئات بل بالألوف- حين يشتدّ أوراها- يقلقني بل يمزّقني من الأعماق. كان الموت نشطاً جداً في حصد الرؤوس، رؤوس الشباب من الجنود العراقيين ومن الإيرانيين أيضاً. لماذا؟ كانت الأبواق الإعلامية العراقية تصوّر الحرب نزهةً! وتصورها انتصاراً تاريخياً! وكان عليّ أن أصف الموت وأتعايش معه- فأنا جندي أيضاً- وأخْفي ملامحه في قصائدي لتستطيع القصيدة أن ترى النور في زمن البروباكندا الإعلامية الشريرة التي استمرّت شديدة الصّخب في حرب عبثية ما بين (1980- 1988) لتنتهي الحرب بصيغة لا غالب ولا مغلوب. والحقيقة الصارخة كانت تقول بخسارة البلدين خسارة هائلة إذ مات الملايين من الجنود وأهدرت المليارات من الدولارات لشراء الأسلحة الفتاكة. وإذ خرجتُ من الحرب سليمَ الجسد لكن شيئاً ما قد مات في داخلي! لقد مات شبابي، إذ أنفقت عشر سنوات من أجمل سنوات عمري في مؤسسة الجيش الغبية وحرب العبث الأغبى هذه!"

بقي الآن الحديث عن عنصر آخر من عناصر اللحظات التي التقط فيها الشاعر وصديقه الحرف صورهما، إنه الليل، (انظر عبارة "صرخات الليل")، فالنقطة إذن تستضيف ندماءها ليلاً وتسقيهم كأس الشوق في حضرة الألم والصراخ وتحت عين الله وقميصه. ما معنى هذا كلّه ومتى تعرّف الشاعر وصديقه الحرف إلى هذه النقطة؟ هذا ماستتمّ محاولة التوصّل إليه عبر الآتي من الصفحات.

          الليل إذن هو رحم النفحات الربانية ومهبط الأسرار النورانية ومجمع الأخلاء، لكن ليس أيّ أخلاّء ولا أيّ ندامى، إنهم ندامى رموا كلّ ثوب وكل عالق أو حاجز وراء ظهورهم ودخلوا محراب النقطة عارين من كلّ شيء إلا من الله والألم والآه. وفي كلّ هذا إشارة إلى المرحلة الثالثة من حياة الشاعر، أي المرحلة التي لبس فيها خرقة العرفان أو كما سمّاها هو بنفسه "سنوات الثمانينات" في أكثر من حوار[15]. والليل إذا جاء واقفاً بين يدي العارف، وقف هذا الأخير بين يدي ربّه وقد رمى وراء ظهره كل علم وصورة، وصرف عنه كلّ شيء حتى يتمكن من رؤية النزول الرباني. أي أنّ العارف حينما يقف الليلُ بين يديه، عليه أن يلبس خرقة الجهل (قميص الله). لذا فلا معلوم في هذه الوقفة إلا الجهل الذي هو الحجاب الأدنى لله متى تجلّى في حضرة الليل أو حضرة السكون الذي يصبح فيه العارف طوع الشهود الوحداني غير ملتفت إلى علم أو إلى صورة حتى لا يأخذه البلاء الذي هو حرمان العارف من الله ومن مجلسه ورتبته ونوره.

إن السّؤال الذي تضرب مطارقه الآن هو: كيف احترق الشاعر أديب كمال الدّين بنار ونور النّقطة بل كيف تعرّف إلى جمال الخالق من خلالها وكيف عانقته النقطة وأدخلته إلى حدائق بهجتها؟

يقول الشاعر في مقطع آخر من قصيدة أخرى خاصة بالنقطة:

"مددتُ يدي إلى الله

إلى ما شاء الله

وإذ نظرَ إليّ برحمته التي وسعتْ كلّ شيء

لم يضع في كفّي المتوسلة ذهباً

ولا دنانير فضّة

لم يضعْ فيها سوى حرف صغير

كان يلتمع أملاً كعيدِ طفلٍ يتيم.

وإذ نظر الله إلى دمعتي الحرّى

وقلبي المحطّم

سارع ليضع وسط الحرف نقطة

فامتلأ قلبي ذهباً ودنانير فضّة

حكمةً وبهجةً ومحبّة.

هكذا كنتُ صحراء فكانَ الحرفُ جَمَلاً

هكذا كنتُ ضياعاً فكانت النقطةُ معنى

هكذا كنتُ حتّى امتلأتُ

هكذا طرتُ أنا وجَمَلي

طرتُ كغيمةٍ من نور.[16]"

هنا يبدو جليا أن شرط التعرّف إلى النقطة يقتضي التقرّب من صاحب النقطة وهو التقرّب الذي عبّر عنه الشاعر من خلال هذا المقطع: " مددتُ يدي إلى الله / إلى ما شاء الله"، مقطع بليغ يبدو فيه الشاعر عابداً ملحاحاً لا يكلّ ولا يملّ، فهو لم يشرط تقرّبه هذا لا بمكان ولا بزمان، لذا تراه حصل على العناية الربّانية عبر عين الرّحمة التي وسعت كل شيء، فكافأ صبره ووضع في يده أو في صحرائه الحرفَ، والجمل السفينة، ثم وضع وسط الحرف أو فوق ظهر الجمل النقطة التي صـارت معنى وغيمة من نور فكيف تكون إذن النقطة هي المعنى وما كُنه هذا المعنى؟

في ديوان (أخبار المعنى) يمدّ الشاعر أديب كمال الدّين القارئ بالجواب عن هذا السؤال فيقول: "ووصلتُ إليك أخيراً يا معناي، تعرّفتُ إلى أشكالكِ ذات الوقعِ اللّغزي: مربّع أطيافكِ، خطّ الحسراتِ الممتدّ إلى دائرةِ المنفى، ومثلثِ رغبتك الحيّ كما الأفعى، ومعين الضحكِ الأعمى، وزوايا فجركِ، ليلكِ، نومكِ وقت صراخ الشمس. تعرّفتُ إلى أشجاركِ: أشجارالجوعِ، الموتِ، الغضبِ الأسودِ حتّى أمسكتُ بأنهارك مستتراً من عريي الأزليّ: فرات الأطفالِ يطيرُ بعيداً عنّي، أغرقُ فيه، أضيعُ وأجلو عن لغتي ألماً يعصرها، قيظاً يوقدها تنمو، أتباركُ فيها، أدخلها فتنامُ بساقٍ غامضةٍ نحوالأعلى فأدوخُ وأبكي، يهبطُ فجر من قلبي وأدندنُ: جاءَ الطيرُ أخيراً من منفاه إلى كفّي، استتري فيّ ولا تنهمري. صاحَ فراتُ الأجدادِ المكتهلين بموتِ اللامعنى: انتبهِ اليوم لسرِّ الحرفِ بموضعها وتموضعْ فيها واثمرْ فالعمرُ حديثٌ خَرِفٌ يهذي..."[17]

معنى الشاعر هو معنى أمة لغة الضّاد والوحْي بأسرها، هو نقطته وهو فجر يهبط من قلبه فيجعله يدندنُ قائلا: "جاءَ الطيرُ أخيراً من منفاه إلى كفّي، استتري فيّ ولا تنهمري" ليعود بهذا يهتف ويؤكّد من جديد ما قاله سابقاً عن الكفّ المتوسّلة التي يضع فيها الله حرفاً ثم نقطة في وسطه فتصير بذلك نوناً، فما علاقة النقطة إذن بالمعنى وبالجمال وبالحرف وبالجمل وبالصحراء وبالغيمة ؟

يبدو ألا معنى فيما ليس بمعنى يدلّ على المعنى، فالمعنى كعنوان لشيء يدلّ على شيء آخر له معنى غير ظاهر في معناه، وذلك لأنّ له معنى آخر غيبياً أعطى له معنى كونه شيئاً يُعنى به شيء، فذاك هو المَعنى الذي يسعى إلى مَعرفة أسباب الكوْن والخالق والاتصال به ومعه، لذا فهُو معنى فوق كلّ فلسفة أو تفلسف، وهو ما يسمّى عند أهل العرفان بالعلوم اللّدُنيّة أو الفهوم الإرثية. والنقطة هي حقيقة المعاني كلها بل حقيقة حقائق الحرُوف ونسبتها للحرف هي كنسبة الذات الإلهية إلى الصّفات لذا فهي تظهر في كلّ حرف بما يقتضيه حُكم الحرف والذي هو أولا وأخيرا نقطة بإزاء نقطة إذ ما الحرف إلا مجموع نقاط ولولا النقطة ما ظهر الحرْف كما لولا الذات ما ظهرت الصّفات. ومعرفة الحرف فرع من معرفة النقطة ومعرفة الكلمة فرع من معرفة الحرف ومعرفة معاني الكلام فرع من معرفة الكلمة (وما قدروا الله حق قدره).

أما عن تجلّي الجمال من خلال النقطة ففيه بحر من الكلام لا ينتهي مداده ولا يحدُّ أشجار أقلامه حدّ، لأنّ الأمر يتعلق بالتجلّي الذاتي الإلهي الذي هو الذات في الذات بشكل لمْ تقو الموجودات على حمل سرّ هذه الذات ليس لأن الله استأثر بذاته ضنّا على المخلوقات، ولكن لقصور هذه الأخيرة عن علمها، إذ لو فُرض جدلاً أن ظهر الله للوجود بلمحة بارق من بوارق التجلّيات لانعدمت الدّنيا والآخرة في أسرع من رمشة عين، وبهذا يمكن التعرّف إلى مدى رحمة الله بعباده ورغبته في بقاء وجودهم، وكما أن الذات الإلهية لا تُدرك، كذلك النقطة لا تُدرك، إذ ليس في مقدور أحد أن يتوصّل إلى ما في النقطة من كمالات وأسرار، وليس في طاقة أحد أو شيء من الموجودات أن يتّسع لها، أما صورة النقطة في عالم القدس عند الله عز وعلا فهي الحقيقة المحمدية، أو الصورة التي أشار إليها الحروفي أديب كمال الدّين بصاحب الصحراء أو السفينة الجمل أو الرّجُل الذي صار غيمة من نور. فهو إذن النقطة المتّصفة بحقيقة سائر الموصوفات وهو الحاوي لما حوته النقطة بل هو الحقيقة النُّقطية، فهل ثمة في الوجود من يضاهي محمداً في الجمال والبهاء والكمال من البشر وغير البشر؟ (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). محمّد مهبط الوحي ومنزل الملائكة ومظهر الصفات الإلهية، محمد الذي تنتسب نقطة ميمه البيضاء إلى النقطة المطلقة كما ينتسب العرش من الاستواء، إذ كما أن العرش محل الاستواء الرحماني فكذلك الميم المحمدية هي محل النقطة وظهورها، وكما أن هيكل نبي الرحمة ظاهر في الوجود بالصفات الإلهية الكمالية فكذلك باطنه الموصوف، لذا فالنقطة وإن تعدّدت حروفها فهي حقيقة واحدة كما يتعدد الأشخاص مـن النوع الإنـساني.

لكن مهلاً، مادامت هذه هي النقطة وسليلها الحرف فما سرّ بعض التصريحات التي باح بها الشاعر لأكثر من ناقد، نشرت في أكثر من حوار وعلى أكثر من موقع وصحيفة؟ ما سرّ قوله للدكتور شاكر نوري:"إنّ العالم ممثل كله في القرآن، والقرآن كله في الفاتحة، والفاتحة في البسملة، والبسملة في الباء، والباء في النقطة، وأنا النقطة."[18] وللأستاذ علي الإسكندري: "أنا النقطة وأنا الحرف حامل السرّ الإلهي دون شك"[19]

هذا هو ديدن أديب كمال الدّين، إذ ما إنْ يُسهب في توضيحِه لمفهومٍ ما داخل مقطع ما من مقاطع قصيدته، حتى يُسارع مباشرة إلى نسفه، تاركاً القارئ والنّاقد غارقيْن في بحار من الذّهول والارتباك، كيف لا وهو القائل:     "حبّكِ ناطحةُ سحاب / حلمتُ بها / وخططتُ لها وبنيتها طابوقةً طابوقة / وحين اكتمل البناءُ العظيم / نسفتـُها من الأعماق."![20]

كون النقطة حسب تعريفات التراث الصوفي الإسلامي هي مركز الكون وكونها كامنة في الصورة المحمدية والباء العلوية فكيف لها أن تصبح هكذا فجأة وبدون مقدّمات أديب كمال الدّين نفسه؟ إنّ هذه التصريحات على قدر ما تبدو خطيرة إلا أنّ لها علاقة حميمة بما يسمّى في علوم العرفان بمفهوم التّماهي مع الشيء، وهو في حالة الشاعر له مستويان من القراءة، الأوّل يخُصّ التّوظيف الشعري للنقطة والحرف كرمز يستمدّ طاقته من التراث العربي الإسلامي بكل منابعه الأسطورية والتاريخية والدّينية واللغوية، والثاني يهُمّ التوظيف الصّوفي الخاصّ برحلة الشّاعر الشّخصية في عوالم العرفان وطريق خرقة العشق وعصا الجمال، الشيئ الذي يعني أنّ الشّاعر من كثرة جُلوسه ليلاً على مائدة النقطة وشُربه من كأسها المُترع بالشوق وبالحروف العاشقة انْصبغ بها وصار هو نفسه نقطة وحرفا سرى في كل حرف من حروف الأبجدية، وهذا ما يفسّر كون أديب كمال الدّين يبدو للقارئ تارة ألفا وتارة نونا وتارة باء وتارات أخرى ياء وهكذا دواليك. وذلك لأن الحروف سرت فيه حتّى استولت عليه وهو أمر يُرى جليّاً في هذا النّص المُستلّ من ديوان (أقول الحرف وأعني أصابعي):

"قالت حروفُ الحقّ

وهي تناقشُ في الألفِ الشاب:

هل سَيُكْتَب له أن يعيش؟

بل هل ينبغي أن يعيش

أو ينبغي- ربّما- أن يموت!

قالت حروفُ الحقِّ كلاماً كبيراً

وكلاماً كثيراً.

نصفه غامضٌ ولا تذكره الذاكرة،

ونصفه لا يُفسّره إلا العارفون.

وحدهُ الحاء

قال: اتركوه فهو شمسي.

هو مَن سيذكرني كلّما هلَّ اسمي.

وسيكتبُ عن رأسي وقد تناهبه الغبار

وحُمِلَ فوق الرماح

من بلدٍ الى بلد

ومن عطشٍ إلى عطش

ومن واقعةٍ إلى واقعة.

بل إنّ رأسي سيكون قصته

ودمي لوعته

وأنيني نبض قلبه.

قال: اتركوه.

هل ستناقشون أخطاءَه؟

نعم، سيقعُ في الخطأ

لينجو إلى خطأ آخر

وسيقعُ في الظلام

ليرتحل الى ظلامٍ جديد.

لكنّه مثلي

سيموتُ غريباً

في البلدِ الغريب.

وستطفرُ دمعته

كلّما غابت الشمس

حزناً عليَّ وعلى آلِ سرّي.

قال: اتركوه فأنا منه وهو منّي! "[21]

لكن هناك شيء آخر أكبر من كلّ فهم وتفسير في هذا النّص، فهو لا يريدُ القولَ فقط بأنّ الشاعر قد اصْطبغ بالحرف وصَار حرفاً ولكنّه حرف تناقشت أمره الحروف الأخرى طويلا إلى أن قرّرت حاء أحمد ومحمد، وحاء الحُبّ والفرح أن يخرُج عنها أو عنْ نفسه كيْ يكتب عن محمد وآل سرّ محمد وعن قصة الرأس وغربة أهل الرأس المقطوعة . ومن هذه الحقيقة تلمع بارقة أخرى تسأل في إلحاح وتقول: "هل يحقُّ للحرف أن يخرج عن الحروف الأخرى؟" والجواب نعم، يُمكن لهذا الأمر أن يحدث وفي هذه الحالة يُسمّى العارفُ الخارج عن نفسه خارجاً عن الحرف بفعل تجلّ إلهي وهو لذات السّبب يُعتبر من أهلِ الحضرة، وهو في الوقت نفسه من أهل موقف السّؤال المعنوي، أي أنّ العبْد بعد التجلّي يصبح قابلاً لتلقّي العلم اللّدني، فيسأله الله ويعلّمُه ويبدأ العارِفُ رحْلة الجواب بعد حُدوث التعرّف ثم ينتقل بعد ذلك إلى رحلة الإخبار عن الله وهذا المسار هو الركيزة التي يقوم عليها ديوان (مواقف الألف)[22] الذي هو مجموعة من مواقف تنتمي كلها إلى السّؤال الذي يليه الجواب مباشرة. وكلّ هذا هو مدعاة لما يسمى بفرح الحرف، ذلك أن أولى ظهورات الحرف تدخل في حركة الزمن الرّاقص المؤشّر عن ظهور حركيّة متناغمة خارج ما يسمّى بعوالم الفوضى.

وبالعودة إلى النّص الأول الذي تمّ الانطلاق منه، يبدو جليّاً بعد هذه الرّحلة التحليلية، أن من كان كلّ هذا العمر يلتقط الصور العارية هو أديب كمال الدّين نفسه ولا أحد غيره، فهو الشاعر وهو الحرف الصديق في الوقت ذاته وهو النقطة أيضاً، وما بين كلّ هذا كانت هناك رحلة شعرية طويلة ومختلفة ومتنوعة في الإفصاح عن كمّ العذاب الهائل الذي عاناه وهو في العراق من الحروب والحصار والاستبداد والطغيان وتكميم الأفواه والاستخاف العجيب بمصيره وبأهله، فصار لزاماً أن يُفصح ويشير، وينطق ويبوح بما لا ينبغي أن يُباح به سيما وأنه هو نفسه مادة هذه المعاناة والمركز الذي ناء بها[23].

الصّور إذن التي التقطها الشاعر كانت عارية إلا من كل ّهذا الألم وصراخ الليل وحرف الله ونقطته، لكنّ أديب كمال الدّين يقول إنّ هذه الصور تجمع إلى عنصر العري عنصر اللون أيضاً:

"نعم،

التقطنا صوراً ملوّنةً

بلونِ الغروبِ عند البحر

أو بلونِ الأمطارِ الأستوائية

أو ملوّنةً بغيومِ الشتاءِ البعيد

أو بظلالِ النساء

أو بنورِ الشمس

وهي تتعرّى على امتدادِ المحيطِ العظيم.

هذه الصور تسمّيها أنت،

وأنتَ على حقّ،

تسمّيها قصائد.

وأنتَ فرحٌ بها

لأنكَ ابتكرتها

وكنتَ فيها الظاهِر والباطِن."

كما توضح الأبيات، فالألوان في هذا النّص خمسة:

ـ لون الغروب عند البحر

ـ لون الأمطار الأستوائية

ـ لون غيوم الشتاء البعيد

ـ لون ظلال النساء

ـ لون نور الشمس

وهي كلّها ألوان تدلّ على سفر الشاعر الطويل مع الحرف والنقطة، لذا فمن الجدير التوقف مليا عند كلّ لون:

1)    لون الغروب عند البحر

هذه صورة تشكيلية تتكوّن من لونين أساسين: لون الغروب ولون البحر. ويوجد بداخلها عنصران مهمّان مستتران: الشمس والسماء. وبعبارات أكثر وضوحا يمكن تفكيك الصورة بهذا الشكل:

ـ الألوان = أحمر+أزرق

ـ الشمس = النقطة / السماء= المائدة     

ـ الغروب / وجميع عناصرالصورة تقود كلّها إلى بداية النّص الشعري الذي تحدّث فيه الشاعر عن (النقطة وكأسها المترع بالشوق)

فالنقطة إذن هي الشمس المكتملة، وهذا دالّ يجد صداه في المعادلة التي تمّت الإشارة إليها قبل لحظات:

"الشمس = النقطة / السماء= المائدة"   

لكن على الرّغم من هذه المحاولة التفكيكية البسيطة إلا أنّ المعنى مازال يكتنفه الغموض، والصّورة لا تزال تغوص وسط كتل من الضبابية والإبهام، لذا يتوجب التوغّل أكثر وأكثر في نصّ الشّاعر بل في بقية المجاميع الأخرى علّ صنّارة الدّارس تعثرُ على سمكة تحمل في بطْنها جوابا على الأسئلة التي تحُوم حول صورة الغروب هذه، وعندي اليقين بأنك لن تخيب أيها القارئ الصيّاد المتلحّف بخرقة الصّبر، فالحرف العربي وشجرته لهما من الكرم والجود ما يفوق أيّ تصور وخيال ودليلي على ذلك هذه الليرة الذهبية التي أحملها لك الآن بين يدي وأقصد بها قصيدة (غروب النقطة)[24] ففيها الجواب الوافي عن كلّ ما يكتنف صورة لون الغروب من غموض، وهي التي سيتمّ التوقف عند أجزائها ومقاطعها مقطعا مقطعا:

يقول أديب كمال الدّين:

"أنا النقطة،

أنا الشمسُ المكتملة،"

هذان البيتان يحلاّن لغز من يكون البحر؟: إنه الحرف. والحرف كما تمّ إيضاحه سابقا هو الشاعر: "التقطنا معا / ياصديقي الحرف / الكثير من الصور التذكارية".

والشمس أو النقطة هي مكتملة والبحر لانهائي كالسماء التي يستمد منها لونه، السماء التي هي في الوقت ذاته المائدة والكأس المترعة بالشوق، والشوق لونه أحمر، لون النقطة الهابطة الذائبة في البحر.

وأنتَ البحر اللانهائي،

أيّها الحرف،

أهبطُ فيكَ شيئاً فشيئاً

حتّى أختفي تماماً

هذا المقطع مليئ بالحركة والإيقاع:

الهبوط هو نزول، والنزول كان من الممكن أن يكون له دويّ قويّ لولا أن تدخّل الشّاعر واستخدم عبارة "شيئا فشيئا" التي توحي بحركة ولوجية هادئة عبر باب الرّحمة واللطف، وإلا لكان نزول النقطة في الحرف قد أودى بحياته أو بحياة الشاعر نفسه. الحركة إذن أو الدّوي المتوقع يتحوّل إلى صمت كامل عبر عملية الاختفاء التام الذي هو مرادف للذوبان أي لفناء الشيء في الشيء، وانصباغ الشيء بالشيء مادام الحديث هنا يدور عن الألوان. (انظر الجزء الذي سبق فيه الحديث عن انصباغ الشاعر بالحرف وبالنقطة).

لا تفوتني الإشارة إلى طبيعة اتجاه الحركة والتي يمكن تقسيمها إلى نوعين: حركة ظاهرة (من فوق إلى تحت/ من الخارج إلى الداخل) وحركة مستترة تتم في كل الاتجاهات (شرقا وغربا / شمالا وجنوبا / داخلا وخارجا / وخارجا وداخلا) وهذا يتطابق من فكرة الامتزاج والتمازج بين الألوان.

أما عن فكرة الصّمت فإنه لا يقصد بها الصّمت المتعارف عليه ولكن الصّمت الذي يحمل في داخله صوت الصّخب الذي تنقله الموجات "المافوق صوتية"، فنزول الأحمر في الأزرق يستمد صوته الصاخب من حركة النور والظل الذي يحمله كلّ لون من هذه الألوان، ناهيك عن الصّوت الذي يُحدثه الجسمُ المُنصهر في المادّة السائلة (الماء)، وعمّا قد ينشأ عن الانصهار بفعل الحَرارة والتمازج بين جسم حارّ وآخر بارد من أفعال تخليقية وتخلّقية لها أصواتُ كلّ حرف من حروف الأبجدية وخاصّة منها ذات الطبيعة النارية الحارّة.

يستمر الشاعر في الإلقاء ويقول:

لتصبح أحمرَ بدمي، 

بمحبّتي،

بطيورِ طفولتي.

لون النقطة (الشمس) إذن أحمر، ولون الحرف (البحر) أزرق وذوبان الأحمر في الأزرق وفقا لنظرية الألوان وتقنية المزج لابدّ وأن تعطي لونا ثالثاً هو (البنفسجي). لكن ريشة الشاعر تتحدث عن البحر الذي أصبح لونه أحمرَ. هذا يعني أن البحر انصبغ بالنقطة، مع العلم أن البحر لم يكن أبداً أزرق اللون، وإنما له لون الماء، أي لون الحياة المتخلقة من الماء أو لون القصيدة التي يخطّها لنا الحرف ويلقيها الشاعر على مسامع المتلقّي سواءً عبر الكتابة أو عبر الصوت:."أيها الحرف/ يا من تقرأ لوح حياتي، أعني قصيدتي/ هكذا أختفي فيك وبك ومعك، لأكون لانهائية فيك وبك ومعك" (انظر المقطع الثاني من القصيدة نفسها)

هذا من جهة أما من جهة أخرى فإن كل هذا الحدث الكوني والتخلّقي عبر ذوبان النقطة في البحر أو دم الشمس والجَمال في ماء الخليقة لا يمكن إلا أن يكون حدثا سعيداً تشدو له عَصافير الطّفولة الملونة بالمحبّة الحمراء التي يصفُها الشاعر في المقطع الثالث من قصيدة (نوم)[25]

" المرّة الوحيدة التي أفقتُ فيها من النومِ سعيداً

كانَ الوقتُ عيداً

وكانَ حذاءُ الطفولةِ الأحمر قرب مخدّتي

يحرسُ سعادتي!"

 

2)    لون الأمطار الأستوائية

ربّما تكون أوّل بادرة تخطر بذهن القارئ ساعة وقوع عينه على هذه الصّورة، هي ربط فحواها اللغوي بالمنطقة التي يعيش فيها حتى اليوم الشاعر أديب كمال الدّين، باعتبار أن المناخ الأستوائي هو السائد في نحو ثلث مساحة أستراليا بأسرها، لكن ثمة سؤال تقضم دابّته في صمت منسأة البحث ويقول:"إذا كان الأمر كذلك، فما علاقة أستراليا ومناخها الأستوائي بلون غروب النقطة في البحر؟"، الحق أقول، أن السؤال قد يبدو غريباً أو غير ذي فائدة، لكن على غرابته وربّما عدم جدواه، فإنه يحمل عناصر قيّمة تستندُ على عصا التفكيك الدلالي علّها تمكّن من الوصول إلى ما قد يكون المَعنى الحقيقي الكامن وراء هذه الصّورة الغارقة في الماء. ويبدو أنّ كلمة "الأستوائية" هي المفتاح الأول لفتح باب المعنى على مصراعيه، مادامت كل كتب الجغرافيا تقول بأنّ المناخ الأستوائي يتميز بالحرارة المرتفعة والأمطار الغزيرة التي تسقط طوال العام. وسبب هذه الأمطار الغزيرة يرجعُ إلى استواء أشعة الشمس على مناطقه في فترات معينة من السّنة؛ والمؤدي بالتالي إلى ارتفاع نسبة التبخّر.

إن العنصر الأقوى في هذا التعريف المبسّط لأهمّ خصائص المناخ الأستوائي هو عبارتا "الحرارة المُرتفعة" و"ارتفاع نسبة التبخر" لأنهما تقودان مباشرة إلى البيتين اللذين سبق الوقوف عندهما (أهبط فيك شيئا فشيئا/ حتى اختفي فيك تماما) وإلى ما حُكي بصددهما عن مفهوم الهُبوط الصّامت مجازاً، مادام هذا الصّمت يحملُ بداخله صخب الانصهار والتخلّق. الانصِهار الذي يعْني وُجود حرارة مرتفعة جداً وهذا بدورِه يعني وُجود عملية تبخّر والتبخّر يؤدّي إلى تراكُم كيميائي للسّحاب والضّباب الأحمر، مادام هو صَاعدٌ من البحْر الذي ذابت فيه النقطة وأعطته لون دمها، والسّحب المتراكمة تعني سقوط أمطار غزيزة حمراء وربما أيضاً سوداء أو صفراء ناتجة عن استواء أشعة الشمس أو النقطة.

فالأمطار الأستوائية إذن لها لون دم الجمال كما قال الشاعر في إحدى قصائده:

 

"كانت النقطةُ دمَ الجمال

 دمَ المراهقة

 دمَ اللذة

 دمَ السكاكين

 دمَ الدموع

 دمَ الخرافة

 دمَ الطائر المذبوح.

كانت النقطةُ دمي

أنا تمثال الشمع." [26]

النقطة إذن هي الدّم الذي سال نوراً من الله المطلق الديمومي الأزلي الجمال، وهي جوهر النور الذي اهتزت له الظلمة وتزلزلت فخرج منها أول شكل في الخلق دالا على جمال الذات الإلهية الشريفة المتمثلة بالرقم الواحد (1) رمز الأحدية وبالحرف الملك (ألف) تصديقا لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} فوقع الاحتراق ومنه تولد عنصر النار وعنه تبخّرت الغازات الطيّارة فكوّنت دائرة أصبحت النقطة مركزها وتشكل حرْف النون وأقسم الله عز علاه بهذا الحدث وقال:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} فسالت النقطة وصارت ألفاً وصار الألف قلماً يُسطّر كلمات الله الأزلية ومن أبخرة دائرة النقطة والنون تكوّنَ الماءُ والهواءُ أو ما يسمّيه أهل الفيزياء بعُنصر الخلق والتخلق. وتلتهُ بعد ذلك النّار ثم التراب فاكتملت لهذا كله دائرة الرمز السرّي للخلق والجمال الإلهي، فتعرّف الله إلى حقيقة نفسه واحتفظ بحقيقة معرفتِه لهُ وحده لا يشاركه فيها أحد.

 

3)    لون غيوم الشتاء البعيد

 

الشّتاء هو ربيع[27] والرّبيع إذا بعُد صَار لهُ طعمُ الذكرى والذكرى إذا كانت نديّة بالغيم الحابل بالمطر وخضراء بلون المَحبّة وحمراء بلون العشق والحياة صارت دالة على الطفولة[28] طفولة الشاعر وطفولة الكون باعتباره جزءاً من قلب الشّاعر العَارف. وليستْ هذه هي المرّة الأولى التي يتحدّث فيها أديب كمال الدّين عن لوْن الشتاء البعيد بل ثمّة قصيدة مغرقة في البعد أيضاً كتبها في أوّل ديوان صدر له وسمّاها (النبي الصغير) وهي التي سيمكن الوصول من خلالها إلى ما يقصده حقا الشاعر بهذا اللون وهذه الصورة. يقول أديب إذن في مقطع منها:

" الشتاءُ نبيّ صغير،

ملعبٌ للزمانِ القديمْ،

لحظةٌ للفراشِ المغطّى بلونِ القصائد[29] عند اللقاء الأخيرْ.

الشتاءُ نبيّ صغير

أطفأ الضوءَ لكنه عادَ وقت المساء الوحيد

مثل أرجوحة بللتْها الظهيرة.

///

الشتاءُ نبيّ صغيرٌ فلمّي التي صوتها

غابة من زئير البنفسج

صوتها النوم في بركةٍ للطفولة

والتي غادرتْ ليلها مرّةً

فاشترتْ دفتراً سجّلتْ فيه أشجارها

سجّلت فيه شيئاً ونامتْ

مثلما الطفل عند اشتهاء البكاء الأخير."[30]

المقطع كلّه موزع بين قاموسين رئيسين: قاموس الشتاء بمائه ومطرِه وربيعه (البركة / الضوء / الفراش / غابة / البنفسج / الأشجار)، وقاموس الطفولة (صغير / ملعب / الزمان القديم / أرجوحة / للطفولة / الطفل عند اشتهاء البكاء الأخير) وهذا مايمكن تسجيده عبر التخطيط التالي:

 

البحر

تمّ الانطلاق من عنصر البحر باعتباره المكان

الذي انصهرت فيه النقطة وصعدت منه الأبخرة التي

         صارت غيوما وأمطارا أستوائية ثم شتاء بلون الربيع والطفولة

 

الغيمة                                         +                                    المطر

 

غابة+أشجار+بنفسج

+

الأرض

(لم يتم ذكر اسم الأرض لكنه

عنصر موجود وإن كان مستترا

فلكي توجد الغابة والشجر والبنفسج لابد لهم

من الأرض التي هي جسد الكون

وجسد القصيدة وجسد الشاعر)

=

الطفولة

 

لا شكّ في أن المشيَ على هذا الحبل الشائك والخاصّ بالطّفولة الكونية وبمراحل التّخليق والخلق الكوني سيؤدي إلى الوصول إلى أخطر المواقف وأشدها وطأة على الشاعر إنه موقف المطر والماء وما يتبعه من غرق بل من أمل في النجاة من هذا الغرق.

يقول أديب كمال الدّين في ديوان (مواقف الألف)[31]:

"أوقَفَني في موقفِ الماء

وقال: قِفْ على الماء.

فقد جعلتُ من الماءِ كلَّ شيءٍ حَيّ.

فَوقفتُ."

هذا المقطع قائم على سورة قرآنية هي المفتاح الأكبر لآية الخلق والتخليق برمّته، وهي لها صلة وطيدة بما سبق شرحه عن لون غروب الشمس وسط البحر وما تلاها بعد ذلك من تفاعلات كيميائية أدت إلى حدوث المطر الأستوائي. فأديب كمال الدّين منذ بداية قصيدة "الكثير من الصور" ومرورا بقصائد أخرى تصبّ في القصيدة نفسها محطّ الدرس وصولاً إلى نصّ "موقف الماء"، يريد إيصال فكرة علمية عظيمة مفادها أن أولّ الخلق جميعاً هو المَاء تصديقا لقوله تعالى في سورة هود (آية 7): " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ".

لكن يبدو أن صُورة الوقوف على المَاء في هذه الأبيات، لهَا وقع أكبر وأعظم على نفس المتلقّي من الفكرة العلمية ذاتها، إذ أنها تُؤذن بوقوع خطب خطير وهو "الغرق"، فالمتكلّم هنا يبدو وكأنه في مرحلة الحبْو، فهو يتلقى الأمر التعليمي الإرشادي من اليدِ التي توقفه على المَاء ثم تحيطه بالعناية الكاملة حتى نهاية السّفر المائي. قد يتبادر إلى ذهن المتلقّي بأنّ في الأمْر مبالغة أو محاولة للتشبه أو التماهي مع من وقفوا أو مشوا على المَاء من الأنبياء والقديسين، كالنبي عيسى (ع)، إلا أنّ أديب كمال الدّين أظهر في أكثر من نصّ بأنه غير مشغول بالتشبه بأحد ولا بالتماهي مع أحد فقد أقفل باب النفس عن كلّ مظهر من مظاهر الغرور والتفاخر، والدليل على ذلك المقطع الشعري نفسه، فهو قال: "أوقفني" أي أنه لم يقف لوحده على الماء.

ويكمل ويقول في قصيدته:

"ثُمَّ قال: امشِ. فمشيتُ.

مشيتُ حتّى الخطوة الثانية

وفي الثالثةِ غرقتُ.

فمدَّ لي يداً من نور"

الموقفُ في ظاهره موقف ماء، لكنه في باطنه موقف جنيني يُفصّل مراحلَ التكوين بدءاً من التّلقيح إلى التخصيب داخل رحم الكون، وصولاً إلى الغرق وسط ماء الكون، هذا الغرق الذي حدث لأن العارف اكتفى في بداية الطريق بالسلوك والعبادة والمجاهدة كلوح تُرجى من وراء ركوبه السّلامة، لكن هذا لا يعني أنّ من شروط النّجاة ترك العبادة، بل المُراد هو أن يُترك اعتبارها من القلب، لأن في ذكرها منّة على الله تعالى، ولأن المُعوّل عليه يجبُ أن يكون المُسبّب (يدا من نور) لا السّبب.

ثم يقول:

"فقال: انجُ. فنجوتُ.

وفي الخطوةِ الأربعين زُلزِلتُ

حتّى عبرَ جسدي بحرَ الظلمات

قِطَعاً قِطَعاً.

وصارتْ كلُّ واحدةٍ فوق جزيرة

فدعاهنّ فجئن

على هيئةِ طائر

ثُمَّ على هيئةِ طفل

ثُمَّ على هيئةِ إنسان.

ثُمَّ فتحَ لي باباً وسط الماء

وقال هذا باب النجاة."

في هذا المقطع يبدو وكأنّ المتلقّي أمام خليل الله إبراهيم (ع). أو بتعبير أصح أمام تجربة إحياء الموتى بعد واقعة الغرق. ويبدو الشاعر وكأنه أحد تلك الطيور الأربعة التي صرّها إبراهيم إليه ثم أرسلها إلى الجبل ثم دعاها إليه فعادت حية تُرزق، فتحقّق له كما تحقّق للشاعر فعل الإحياء وفعل التّخليق بكل مراحله من الطفولة حتى الوُصول إلى صورة الإنسان الكامل.

ثم يختم القصيدة ويقول:

"فانزعْ عنكَ كلَّ حرفٍ إلا حرفي

وكلَّ نقطةٍ إلا نقطة نوني.

واخرجْ فإنّكَ عريان

خُلِق الساعةَ كي يمشي فوق الماء.

لن تغرق بعد الآن.

فافرحْ لأنّي جعلتُ الماء

يتبعُ خطواتكَ أنت

ويمشي بإشارةِ قلبِكَ أنت،

قلبك الذي هو قلب الماء."

لا حرفَ إذن إلا الألف ولا نقطة إلا النّقطة المحمدية، ولا ماءَ إلا حليب الكاف والنون، ولا لونَ إلا لون نور الشمس الذي هو قلبُ الشّاعر العارف بل قلب الماء (وهو اللون الذي أشار إليه الشاعر حينما حدّد مختلف ألوان صوره، لذا فسيُتجنّبُ التطرق إليه فيما سيأتي من التحليل تفاديا للتكرار والإطناب في القول). لكن ما للشعر والماء في قصائد أديب كمال الدّين؟

يتعلق الأمر بمفهوم "العارف الطفل"، الذي يعشق الكون (الأمّ)، قبل أن يعرفهُ ويراه، لذا تجد الشاعر يصفُ بحماس هذا الكون ويُظهر تجاهه فضولاً دائم التجدّد، وهو شعور لا يمْكنُ أن يوصف إلاّ "بالبَنَويّ"[32] وهذا هو السّبب الرئيس الكامن وراء كون قصائد الشّاعر هي قصائد سائلة بامتياز، تنطلق في سيلانها هذا من قوة إسقاط الخيَال أو من القوّة التي تستولي على كلّ الصّور التي اختارها الشّاعر كي تضعها في المنظور البشري الأكثر نقاء: منظور الأمومة، ولعلّ هذا فيه تعويضٌ لغيابٍ أليمٍ عن طريق إعطاء صفة اللاّمحدودية لصُور البحْر حتّى يجْعل منهُ استعارةً جديدة للحُبّ القديم الذي يحمله كلّ إنسان في قلبه: الحُبّ الأمُومي[33].

إذن كلّ ماهو سائل في نصوص أديب كمال الدّين هُو في الأصل ماء وإن كان ثلجاً، أو موجاً، أو كان بلوْن الدّم أو العسل الأسْود، ولعلّ هذا ما يُعطي للنّص هذه القوّة الخارقة القادرة على التجدّد والتخلّق باستمرار.

وهذا ما يبدُو جلياً من خلال الرسم الكرافيكي التالي، والذي يُحاولُ أن يسلّط الضوءَ على عُنصر السيلان الذي تعوم فيه قصائد أديب كمال الدّين[34]:

 

الصورة رقم 1

النتيجة تفوق كلّ تصور وخيال: لقد تساوى الماء والمطر (248) والبحر (248) في نصوص الشاعر وتبعه تدفق الدّم (219) ثم الدّمع (188)، وهذه حقيقة تقودُ مباشرة إلى أوّل لون تحدث عنه أديب كمال الدّين في قصيدته "الكثير من الصور": لون الغروب عند البحر. إذن فالشاعر يُقدّم صورة البحر الكوني ليس فقط بشكل شاعري وأدبي وإنما بشكل فيزيائي أيضاً، ولا يحرمُه أبداً من عنصر الضّوء والنّور وذلك حتى يمكّن المتلقّي من رؤية ما لا يُرى بالعين المجرّدة أو من رؤية المُكوّنات التي يتمظْهرُ الخيالُ الماديّ منْ خلالها، لذا فإنّ صورة الماء والشّمس الحاضرة التي تذوب وتصيرُ دماً وسط البحْر في كلّ الدواوين هي صورة مادة صافية تحتضنُ كل عناصر الخلق والتخليق بشكل يجعلُ منك ومني ـ أيها القارئ الكريم ـ مُشاهداً يستحمُّ وسط النّورِ بانتشاء فيزيائي، لأن هذا يُذكّرك ويذكرني بقديم رغد العيش وبعذوبة الغذاء الأوّل حينما كُنّا أنت وأنا مجرّدَ ذرات دسمة تفتح فمها كي تمتصّ في كسل نسغ الحياة وسط مشيمة الكون الأكبر.

4)    لون ظلال النساء

 

الماء المتدفق نهراً أو موجاً، دماً أو دمعاً، عسلاً أو خمراً بكلّ هذا الإحساس البَنويّ الهائل كان لابدّ له كي يصبح أكثر جمالا وعذوبة وسحرا من حضور عُنصر "المرأة" أو "الأنثى"، فحضور "لون النساء" إذن وإن كان مجرّد ظلّ، هو ضروري، وإلا لكانت كل الألوان قد غرقت في مللها الفيزيائي والفلسفي والوجودي. فالمرأة هي نقطة الروح وهي كأس الحبّ المقدّسة ولولاها لكان ماءُ الكون هذا مليئاً بالضجر بدلا من السّعادة والمسرّة، ولولاها "لضاع المعلم والمعلّم وضاع السرّ وحامل السرّ وكاشف السرّ."[35]. هي وحدها عبارة "ظلال النساء"، أضْفت الحياة على هذا البحْر العظيم الذي غرقت فيه أو سقطت وذابت فيه النقطة أو الشمس، فالنساء حينما سكنّه حوّلنه إلى كون مليئ بالحياة والرغبة والجمال والحُلم وبالموت أيضاً. لكن لماذا كلمة "ظلال"؟ إنها مسافة تفصلُ الشاعر وتبعدُه عن المرأة مادام الظلّ شيئاً بعيداً في الذاكرة، أو حضوراً استدعائياً لشيء مُغرق في الغياب عبر الظل وليس عبر المادّة الجسدية نفسها. الجوابُ عن هذا السؤال قد يكون هنا، في هذه الكلمات:  "المرأة لوحدها هي التي تستطيع أن تكسر حاجز الملل، لكنّها عند الشاعر تستطيع أيضاً أن تكسر حاجز الصّوت أيضاً! وهي تستطيع أن تصبّ في روحه الفرحَ صبّاً مثلما تستطيع أن تكسر له زجاج روحه ليبقى ملتاعاً حتى النفس الأخير. هذه هي الأنثى: جسد ورماد، قصور وخرائب، حياة وفناء.

أما عن الانسجام بيني وبين الأنثى، فأنا آخر مَن يحق له الحديث عن هذا الانسجام! لأنه انسجام لا وجود له من قريب ولا من بعيد! ربما يكون الحديث عن علاقة الارتباك مع الأنثى أو التضاد هو الأدق. وسترى أن قصائدي تكافحُ من أجل أن يسود بيني وبين الأنثى، بأشكالها المعقدة وبأسمائها المختلفة، نوع من السّلام الداخلي، حتى وإن كان سلاماً بالاسم فقط" [36]

يبدو أن رحلة الشاعر مع الصور والذكريات الكونية في نص "الكثير من الصور" قد وصلت إلى محطتها الأخيرة لذا تراه يختمها بهذا المقطع الموجز في الدقة ويقول:

"أما أنا فسأموتُ دون أنْ أكتب

قصيدتي التي أقولُ فيها الحقيقةَ عاريةً

دون صور،

دون صورٍ من أيِّ نوعٍ كان!"

إنّ ما قاله الشاعر هنا هو عين الصدق، فهو لم يكتب أي نصّ يقول فيه الحقيقة عارية من الصور أو الألوان، ولربّما لن يفعل ذلك أبداً، ولو فعل فإن كلامه لن يكون لا فنّاً ولا أدباً. وهذا أمر قد انتبه إليه منذ أوّل ديوان له، فهو أكثر العارفين بما تتوق إليه النفس الإنسانية بشكل عام ونفس المتلقّي بشكل خاص، باعتبارها تنفُر بطبيعتها من الصّور التقريرية الفجّة والقاسية، وتميلُ إلى الصّور المجازية المزخرفة بشتى ألوان الإبداع. ولربّما هذا ما يجعلها لا تنتظر من شاعرها سوى أن يُعيد لها بقصائده ونصوصه خلق الواقع من جديد وبصور جديدة تفوق الواقع نفسه جمالاً وتأثيراً. لذا تجدُ أديب كمال الدّين قد بلغ في التعبير عن جمالية محبّته للمتلقّي مبلغاً عظيماً لدرجة أنه صاغ له، إضافة إلى تجربته الفذة في التقاط الصور، طريقةً جديدةً في عرض نوع خاص من صور أخرى اعتمد فيه أسلوبَ التعري من كلّ أثر صوري أو لوني: ويقصدُ بهذا النوع من الصور، صورة حرف خاصّ وشريف، سيتم التعرف عليه في الآتي من الأسطر.

 

          1.3   صورة الألف

 

ظلّ الاهتمام الصوفي منصبّاً وبشكل خاصّ على حرف الألف لأنه يمثل بلا منازع الحرفَ الإلهي، ومعرفته تعني معرفة الله وأحديته، وهناك من الصوفيين من يقول بأن الله تعالى حينما خلق اللوح والقلم قال له اكتب قال وما أكتب فنظر إليه بعين الهيبة فقطرت من رأسه قطرة فنظر إليها بعين الكبرياء فصارت همزة ثم نظر إليها بعين العظمة فامتدّت وطالت وصارت ألفاً فقال الله عز وجل لأجعلنّ هذا الحرف أوّل الحروف ومبدأ الاسم الأعظم. أما النفّري فكان يرى بأن الحروف دون الألف مريضة، وفريد الدّين العطار يقول في (أشترنامة) بالصفحة الخامسة والتسعين بأن الأعداد المختلفة نشأت من حرف الألف بقيمته العددية المتمثلة في رقم واحد وعندما انحنى الألف نشأت الدّال وبانحناءة أخرى نشأت الرّاء وعندما انثنى طرفاه نشأت البَاء وعندما أخذ طرفاه شكلا سنبكيا نشأت النون، وهكذا دواليك بالنسبة لكلّ الأشكال المخلوقة على اختلافها من الوحْدة الإلهية. هذا بشكل مُوجز جدّاً ما قاله بعض كبار متصوفة الإسلام عن الألف وكيف وصفوه، فماذا عن أديب كمال الدّين الحروفي المعاصر محطّ بحث ودراسة هذا الكتاب؟ كيف ينظُر إلى الألف وكيف يراه وماذا قال عنه؟ وما علاقة هذا الحرف الشريف بطريق الجمَال والعشق الذي سلكه الشاعر عبر معارج الكلمة والشعر؟

ما من أحد وما من مادة يمكنها أن تزود القارئ والدارس معا بالجواب الشافي سوى ديوان الشاعر الأخير (مواقف الألف).

 

          ـ مواقف الألف

 

لماذا الألف ولماذا المواقف؟ أديب كمال الدّين يجيب القارئ بسرعة الوَمْضة عن هذا السّؤال ويقول منذ مفتتح الديوان ما يلي:

"اقتَبسَتُ مِن النفّري جُملةَ البَدء

ومِن دمي جُملةَ المُنتهى.

وما بين الجُملتين

بعينين دامعتين

وقلبٍ يشبهُ شجرةَ الأمل

كتبتُ كتاباً في مدحِ ملكِ الملوك،

ذاك الذي يقولُ للشيء كُنْ فيكون،

سَمّيتُه: لوعة عابرِ سبيل.

ثمَّ عُدتُ فَسمّيتُه:

نقطة شوقٍ وحرف أنين.

ثمَّ تأمّلتُ سبعين مَرّة

في سنّارةِ السنين،

تأمّلتُ مثل صيّاد

اصطادَ سمكةً في بطنِها ليرة ذهب،

لأُسمّيه: مواقف الألف

في اقتفاءِ أثرِ التائبين والتائهين والعاشقين.[37]"

هذا المفتتح كما وصفَهُ صاحبُه هو حقّاً بابٌ ومفتاح في الوقت ذاته لكلّ مسار تجربة أديب كمال الدّين وهو مفتتح يتكون من عناصر غنيّة يمكن تجسيدُها عبر المخطوط الآتي:

الصورة رقم 2

 

من هذا الرسم التخطيطي المبسط يظهر جليّاً المِعْراج الحروفيّ الذي مرّ به الشاعر، فهو خرج من الباب عابرَ سبيل ووصل إليه تائباً عاشقاً، أو بتعبير آخر خرج منه أديبياً حروفياً، وصار فيه صياداً فخبر البحرَ والسنارة والسّمكة والليرة، وحينمَا وصل إلى شاطئ المنتهى أصبح مواقفياً نفّرياً بعد أن مرّ بحجاب نقطة الشوق وحرف الأنين. ما معنى كلّ هذا؟ ما معنى أن يصير الحروفي نفّرياً وأيهما أسبق، أن يكون العارفُ حروفياً أولاً ثم يصير نفرياً مواقفياً أم أنّه عليه أن يكونهمَا معا منذ البداية وحتى النهاية؟

عنوان الديوان أي (مواقف الألف) يجيبُ عن هذا السّؤال جامعاً بين الموقف والحرف وبين النفّري والألف، وهذا يعني أن أديب كمال الدّين هو موقفي ألِفي ونفّري حروفي في الوقت ذاته وليس ثمة برزخ يفصلُ بين الصّفتين أو الطريقين. لكنْ ما معنى هذا؟ وما المَقصود من هذا الدّيوان الإشكالية؟

 

ـ محمد بن عبد الجبار النفّري وأديب كمال الدّين

 

من هاجس السّؤال إلى هاجس المعنى وبينهما نار حارقة لا برد فيها ولا سلام؛ من لقاء مع أبي حيّان التوحيدي أسفر عن ديوان أسماه أديب كمال الدّين (جيم) وأشعل فيه فتيل اللماذا، إلى لقاء مع عبد الجبّار النفّري كانت ثمرته (مواقف الألف) وجواب عن ماهية المعنى وسريالية الللامعنى. إنه معراج ثقافيّ كبير دام أكثرَ من ثلاثٍ وعشرين سنة قضاها الشاعر أديب كمال الدّين موزعاً بين الشرق والغرب، بين الأسطورة والواقع واللاواقع، وبين عدميةِ وعبثيةِ الحرب واللاحرب حيث ما من سلم ولا سلام وحيث ما من نهار ولا ليل. إنه المعْراج الثقافي الذي أنتج لنا هاجساً آخر لا يقلّ أهميّة عن هاجس السّؤال والمعنى، هو هاجس اللغة والبديلُ الخطابي سيما وأن المثقفَ العربي وصل إلى واقع من التشظي انفصلتْ فيه علاقتُه بالواقع فكانَ لابدّ من صحوة تزحزح الذات المريضة والمسكونة بالفواجع والآلام، وتزلزلُ لغتها النخرة الغارقة في صدأها وقيحها وتصلُ بها إلى مرحلة التأسيس لخطابٍ جديدٍ وعلاقة أجدّ بالعالم انطلاقاً من لغة تسمو بالإنسان وتنقذه من براثن الضياع والعدمِ السعيد ببؤسه وخوائه العظيم.

لا أحد يعرفُ متى وُلد محمد بن عبد الجبّار لكن معظم الدّارسين اتفقوا على أن مسقط رأسه كان بنفرّ البلد المحاذي لبابل أو المدينة التي وُلد بها الشاعر أديب كمال الدّين. طبعاً لا يقصد من هذه الإشارة القول فقط بتأثير مسقط الرأس على المسيرة الأدبية والعرفانية لكلّ من الشاعرين ولكن لفت الانتباه إلى فارق اللحظة التاريخية بينهُما والتساؤل عن كيفَ يُمكنُ لأرضٍ أن تحبل وتلد عبر حقبتين تاريخيتين مختلفتين، رمزين كان همّ الأولُ منهما زلزلة اللغة وهو وسط عين الغيبة ، وهمّ الثاني إكمال ما بدأه النفّري من حفر ثقافي خطير دفع بصاحبه إلى الاختفاء عن العيون، خاصة وأن محنة الحلاج آنذاك كانت بالنسبة للعديد من الصوفيين بمن فيهم النفّري درساً قاسياً دامت آثاره لقرون عدة، بل مازالت إلى يومنا هذا، إذ لا عجب في تشابه الأسباب وتجددها، فالجمجمة التي تحوي الفكر الفاسد تبدو وكأنها مفْرَخة تُجدد باستمرار بيضها الفاسد وعلى مرّ العصور، بيض لا يتوانى عن تفقيس فراخ الجهل الذي يترصد لكل فعل تجديدي يحاول زحزحة أخطبوط التكلس الذي يجثم بممصّاته القوية على زجاجة روح الإنسانية. فمنذ قرون مضت كان قد ظهر النفّري بالعراق وطرح سؤال المعنى كفعل عميق يرمي إلى الكشف عن مختلف الأشكال المعرفية للإنسان منطلقاً في هذا الطّرح الجديد القديم من منهاج يعتمد على طريق الوصول إلى الله عبر الوقفة والمخاطبة وعبرالولاية والرؤية كي يتمّ للإنسان المُسلم أو المُؤمن بشكل عام استجلاء شكل خطابي جديد يُحقق له الانسجام الفعلي مع ذاته والتواصُل الفعّال مع جوهره، فيتجسّد بذلك إحياء ما يسمّى بالنّص الشعري الفكري المبني على الفعلِ والمفاعلةِ بين مُتكلّمٍ ومُخاطبٍ يتبادلان الموقعَ من أجل بناء معنى جديد على ومن أنقاض معنى قديمٍ سبق هدمُه. فهل هذا ما حققه الشاعر أديب كمال الدّين في نصوصه ومواقفه الألِفية؟

قد يتوهّمُ الدارس ويتخيل أن الجواب سيكون متحيزا للفكرة القائلة بتشابه مساري الشاعرين وأسلوبيهما في طرح سؤال المعنى، لكن الاطّلاع على تجربة أديب كمال الدّين يُوصل إلى نتيجة مخالفة تفنّد تماماً ما يكونُ قد توقعهُ القارئُ عبر إيحاءات العنوان الذي اختاره أديب كمال الدّين لديوان (مواقف الألف) إذ أنّ وقفة هذا الأخير هي مُخالفة تماماً لوقفة النفّري وسؤالُ أديب عن المعنى هو كذلك مخالفٌ لسؤال النفّري، فإذا كان سؤال النفّري مبني على القطيعة مع ماضي بعض متصوفة الإسلام الذين كان هدفهم الأساسي هو تحديد معاني خاصة بأدبيات وسلوكيات العارف بما في ذلك أساليب المجاهدة وتربية النفس، فإن سؤال أديب كمال الدّين مبني على وَصل خطاب زمنه وحاضره بالخطاب الذي بقي معلّقاً حتى زمن النفّري ونسيه أو تناساه الجميع بدعوى تحديث وحداثة الشعر العربي، ولكن مع إضافة جديدة؛ إذا كانت مواقف النفّري قد تغاضت عن أسلوب المخاطبات والحواريات القرآنية فإنّ أديب كمال الدّين لا يتحرّك في ديوان (مواقف الألف) إلا داخل ووسط مخاطبات وأسلوب القرآن الكريم:

"نعم، فمن القرآن الكريم نهلتُ معارفي في مختلف الأصعدة. فالقرآن الكريم بحر عظيم وفيه علم ما كان وسيكون، أي علم الأسئلة الكبرى التي واجهت البشرية منذ خلق آدم إلى يومنا هذا عبر أخبار الأنبياء والمرسلين، وتفاصيل عذاباتهم ومعاناتهم وصبرهم وغربتهم وأحزانهم وهم يبلّغون في مختلف الأزمنة والأمكنة رسالةَ التوحيد والمحبة والسلام واحترام الآخر وعدم تحقيره أو الاعتداء عليه بأيّ شكل كان وبأيّة صورة كانت. وهو لكلّ كاتب وشاعر وأديب كنز لا يفنى من المعارف اللغوية والروحية والفكرية، والأسرار الإلهية، والقصص المعتبرة، والمواقف الأخلاقية ذات المضامين العميقة، والحوارات الفلسفية واليومية ما بين الخالق ورسله وما بين رسله وأناسهم.[38]"

عند النفّري تبدأ القطيعة مع الذات ببلوغ درجة الولاية والتي من خلالها يبدأ التواصل الحقيقي مع الله، وتبدو الحقيقة كفعل غير مواكب لعملية النزوع ولكنّها تتحقق بحصُول الأثر حين يُرفع الحِجاب ويؤذن للعارف بالولاية التي هي ليست خاطراً أو صورةً يتمثل فيها الصّوفي قربه من الله ولكنها موقف نهائي نتيجة بلوغ العارف نهاية الطريق. والنفّري يُعبّر عن هذا الوصول بشكل في غاية الخطورة والإرباك، وهذه لمعة تلوح الآن، فهو بقدر عُمق وقوّة خطابه وفعله الثقافي يبدو ساخراً من المتلقّي، وكأنه يقول له وهو واقف أمام حجاب اخضرار العين والعمامة، واخضرار الجبة وابتسامة الفيه بمكر عجيب: "لن أعْطيك الأمان، ولن أناولك الكُوز، ولن تشرب من بحر عرفاني إلا لتزداد عطشاً، وحتى وإن بدوتُ لك قد أوصلتك إلى فعل وخطاب جديد فإنني مازلتُ هنا وكلّ ما قلته فهو غيرُ قارّ وقابل للنسف والهدم على الدوام."

أما عند أديب كمال الدّين ففعله الثقافي قارّ ولغتُه وخطابُه الجديد ثابت ولا شيء يُزحزحه ويهدُمه لأنّه إعادةُ صياغة جديدة لأسلوب الوَحي بشكلٍ سلس يكون في متناول جميع الناس بمختلف أعمارهم ومستوياتهم الفكرية والثقافية، وثباتُ أسلوبه وفعله الجديد هذا نابعٌ من تباث الأرض التي ينطلقُ منها، أي كلمة القرآن الكريم لذا تجده يقول في موقف الكتابة:

"أوقَفَني في موقفِ الكتابة

وقال: يا عبدي

كلُّ كتابةٍ لا تَتَبسملُ باسمي،

ولا تُشيرُ إلى جَنّتي وجَهنّمي،

ولا تَحضُّ على مَحبّتي،

وعلى شُرْبِ كأسِ مَحبّتي،

إنّما هي كتابة العابثين.[39]"

ما معنى إذن أن يكون فعل الكتابة الذي يتمُّ خارج إطار اسم الله، كتابة عابثة أو فعلاً ثقافياً عابثاً؟

يقولُ النفّري في موقف المراتب: " وقال لي منْ عرفني فلا عيشَ له إلا في معْرفتي ومن رآني فلا قوّة له إلا في رؤيتِي. وقال إذا جاءَكَ التأويلُ فقد جاءكَ حجابي الذي لا أنظرُ إليه ومقتي الذي لا أعطفُ عليه. وقال لي من فارقه العلمُ لزمه الجهلُ وقاده إلى المهالكِ ومن لزمه العلمُ فتح له أبوابَ المزيد منه"[40] . ويقول أديب كمال الدّين في موقف الحاجب ما يلي:

"أوقَفَني في موقفِ الحاجب

وقال: ما أسعدكَ اليومَ يا عبدي،

لا حاجب اليومَ لك

عن نوري وظلِّي.

دمعتُكَ ستقودكَ إليّ

وهي تغسلُ غربتَكَ وَيُتمَك

وتطلقُ طيورَ سعْدِك.

دمعتُكَ ستكشفُ لكَ عن لوعتِك

وتطهّرُكَ من عنكبوتِ ذنبِك

وأبابيل خوفِكَ وطلاسم دهرك.

دمعتُكَ ستكتبُ لك

شِعْراً بابه لي،

وممرّه لي،

وعنوانه لي،

ومدائنه لي،

ومواقفه لي،

وخلاصته: أنّكَ قد عَرفت،

ولم تعدْ جاهلاً أو ضائعاً

حتّى صارَ اسمُكَ العارف بي:

أنا عنوان سرّك.[41]"

كلا الشاعرين وإن بأسلوبٍ مختلفٍ يُشير إلى موقفٍ في غاية الحساسيّة، وهُوَ موقفُ الوصول إلى درجة العرفان والحصول على صفة العارف، ويبدو أديب كمال الدّين في قصيدته وكأنّه يشرحُ ما ورد في نص النفّري، ويؤكّدُ على مفهومٍ مُهمّ مفادُه أنّ الإنسان إذا وصلَ إلى مقامِ المَعرفة فإنّ ذلك يقتضِي التحكمّ في جميع القوى إذ لا يُمكنُه بعدَ هذا المقام أن يعيش بعيداً عن المعْرفة أو يؤسّس لفعلٍ كتابي خارج عنها أو بعيدٍ عن اسم الله أو عن ذات الله وصفاتِه. وقوّة المعْرفة تنبعُ من قوة الرّؤية باعتبار الأولى جزء من كُلّ الثانية ولا مفرّ فيها من المكر الإلهي سواء ذاك الذي يهمّ المكر الذي يحرم فيها العبد من عطايا الله وهذا غير وارد أبداً بالنسبة لمن تحققت له درجة العرفانية، أو المكْر الذي من خلاله يتعرف الحقّ إلى عبده من وراء حجاب وهو النوع الذي أشار إليه أديب كمال الدّين في قصيدته (موقف الحجاب):

"أوقَفَني في موقفِ الحجاب

وقال: يا عبدي

أعملتَ لتنالَ مطرَ رحمتي حجاباً

وأنتَ الذي تمزجُ شمسَ الغروب

بشمسِ الفجرِ في كهيعص نوري

وحم كتابي

وطسم عرشي وجلالتي وحضوري؟

كيف يحدثُ هذا؟

ألا يكفيكَ أن يكونَ قلبك

هو قلب السؤال:

بابه الحمد،

وعلامته أن لا شريك لي،

ونبضته دعاء وجواب؟" [42]

وهو نوع من التعرّف الإلهي لا يعرفه إلا من تمّ اصطفاؤه. لذا فإن السّالك في طريق الجمال نحو ربّ البهاء إذا كانت خطاه قائمة على أصل ثابت وسلّم نفسَه إلى ربّه تعالى فإنه لا يجوزُ له بعد ذلك أن يتأوّل فيما نفع، لأن الله هو الذي يصبح مخلّصه من كل شيء لا التأويل، ويصبُح الله هو عقله وعلمه وقلبُه.

وموقف الحجاب عند أديب كمال الدّين، لا يعني أبداً أنه محجوب أثناء الوقوف في الحجاب بل على العكس من ذلك، فهو في هذه الحالة مشاهد لحقيقةِ الحجاب وإن كانَ يبدو في الأسطُر الأخيرة من نصه طامعاً في المزيد، وكأنّه يرغبُ في تجاوز حقيقة الحجاب وحقيقة السؤال لولا عتاب الله له: "ألا يكفيكَ أن يكونَ قلبك / هو قلب السؤال:/ بابه الحمد،/ وعلامته أن لا شريك لي،/ ونبضته دعاء وجواب؟" وهو عتاب في باطنه إرشاد من خلاله يراد للشاعر أن يهتدي لدرجة الحجاب الذي هو واقف فيه، أحجاب بالخلق أم حجاب بالخالق؟ وقد سبق للنفّري أن أجاب عن هذا السّؤال حينما قال: "من حجبته بخلقي برزت له، ومن حجبته بنفسي لم أبرز له ولم يرني" ولعلّ أديب كمال الدّين من الطائفة الثانية، أي ممن احتجب الخالق عنهم بنفسه لأن الحجاب الحق هو حجاب من حُجب بالخلق، لأن ذلك يعني أنه حينما ترد على هذا المحجوب الأنوار فإنها لن تمحو سوى حجب الخلق باعتبارها ظلم تتجلّى بالنور أما الحَجب بالخالق فهو ليس بحجْب حقيقي لأن النور لا يمحي النور أبداً.

والعودة إلى الصيغة التي جاء بها العتاب الإلهي في نص أديب كمال الدّين، تمكّن الدارس من استجلاء ما يلي من الإشارات: الله هو السائل وليس العارف وهو أمر أرادته اليد الكاتبة للنّص والفكر الملقي بالحرف المكتوب، وذلك انطلاقاً من المبدأ القائل بأن للعارف أن يسأل الله كل شيء إلا شيئاً واحداً: السؤال عن الله ذاته. أي على العارف أن يعتبر كل شيء يجده علامة دالة على الله وإذا تحققت الرؤية فهذا يضمن بقاء الرائي.

والرؤية هي غاية الروح بالنسبة للشاعرين معاً، النفّري وأديب كمال الدّين، وهي تعني خروج الإنسان من عذابه وشقائه وحيرته وإن كان يبدو في نصوص النفّري بعض ما يقلق من القيد الناتج عن صراع الأضداد والمتنافيات التي تضجّ بها صفحات مواقفه ومخاطباته، ولربما هذا مقصود، وكأن النفّري يريد للمتلقّي أن يستشف عالم ماورائيات هذه الأضداد والمتنافيات بهدف الوصول إلى فضاء لا قيد فيه ولا حد. إنها الحرية التي يسعى إليها أيضاً أديب كمال الدّين باعتبار هذه الأخيرة هي ماهية الرؤية فلا شيء يوجد في كتاباته سوى الحضرة المطلقة التي لا تبدأ ولا تنتهي، إذ هو تجاوز كل مظهر من مظاهر الواقع وارتفع إلى البارئ ناشدا السمو الذي هو منظر الأولياء ومسكن وبلسم روحهم.

 

ـ الموقف والواقف

 

يقول أديب كمال الدّين في ديوانه (أقول الحرف وأعني أصابعي):

"أحببتُكَ وأنا داخل النّص

وأحببتُكَ وأنا خارج النّص

وأحببتُكَ وأنا أكتبُ في نقطةِ النّص،

فكنْ بي رحيماً

- أنتَ الذي اسمكَ الرحمة-

فالنّص لا يعرفُ مَن يتنفسه

في كلّ لحظة

ويتألقُ به وسط الظلام

في كلّ لحظة

وينبضُ به في كلّ لحظة.

أنتَ،

وأنتَ فقط،

يعرفُ مَن يقرأ النّص

دون أن يسبر غوره

ويعرفُ، كذلك، مَن يتنفسه

حتّى يكاد ينبضهُ نبضةً نبضة

داخل القلب.

فكنْ بي رحيماً

وأنا داخل النّص

وأنا خارج النّص

فالظلامُ الذي يشتدُّ حولي

ليس كأيّ ظلام

والعطشُ الذي شققَ لساني

جعل كلماتي جريحة

مثل غزال أكل قلبه النمر.[43]"

يشيرُ أديب كمال الدّين هنا إلى إشكالية محنة النّص، وهي ذاتها التي قادته إلى ختم كلّ ماكتبه بالوقفة وبطلب النجاة في محراب الألف.

أن يوجد النّص، فهذا لا يعني شيئاً، لكن أن تكون له مقومات الوجود والحياة فهذا هو لبّ القضية. فالنّص عليه أن يكافح ويصارع كي يكون ويصل للمتلقّي. أما في حالة عجز القارئ عن قطف ثمار النّص، فهذا يعني أن النّص أصبح في محنة وقد تتحوّل المحنة إلى كارثة، إذا ما تجاوزت المحنة شكل النّص وضربت عمق بنية خطابه، عندئذ ينقصم ظهره و تنطمس ملامحه وتصبح نقاطه وأحرفه مجرد قلق وانفعال واضطراب. فهل هذا ما يتحدث عنه أديب كمال الدّين في قصيدته؟ الجواب يوجد في عبارة:"غزال أكل قلبه النمر". إنّ النّص الذي يقصده أديب كمال الدّين، هو النّص الذي لا يكْتبُ إلا عن الله وبالله ولله. فالشاعر هنا مرشد للمتلقّي، وكأنه يريد أن يقول له: إياك وأن ترتكب خطأ الدّخول القاطع أوالخروج القاطع من النّص، فإن أنت دخلته فلا تقم فيه أبد الدّهر وإن خرجت منه فلا تخرج منه إلى الأبد، وكن فيه وبه مجرّد عابر أو زائر خفيف الظل والحضور، ولا يضيرك أن يأكل قلبك النمر، فهذا هو ثمن صدق الكلمة التي تكتبها، إذ كلما كنت صادقاً، كلما كانت كلماتك بلون الدم، والدم لون الجرح والجرح حياة ينبض قلبها بالألم والفرح، ولا تطمع أبداً في أكثر من هذا، إذ الطمع في المزيد، طمع في الخروج من الجهل والخروج من الجهل علْم يغطيه حجاب، والعلم المحجوب نص محجوب أو حرف محجوب لا يلج الحضرة.

كل هذا يعني أن كل عارف هو "نص" يحتاج في قراءته إلى مايحتاجه أي نص آخر، وكل شاعر هو "نص" يختلف في مضمونه عن أي شاعر آخر، لكن حينما يكون الشاعر عارفاً أو العارف شاعراً، فإنّ نصه يصبح أكثر تعرياً وتحدياً لأنه لا يحتاج فقط لمجرد قراءة أو تحليل ولكنه يحتاج إلى تشخيص ربما يقود إلى تشخيص لاوعي شعب بكامله أو أمة برُمّتها، مادام نصه يرقى إلى العمق والديمومة لفترات أطول من الزمن وهذا نابع من قدرة هذا النوع من النّصوص على تجديد نفسها باستمرار ومخاطبة أكثر من مستوى من وعي المتلقّي.

ووقفة أديب كمال الدّين ختامية حرقت كل ماسبقها من كلام في حضرة النقطة أو في حضرة الحروف باستثناء حرف الألف، الذي لبسه الشاعر جوشناً، فصار منه وفيه بل صار هو نفسه الألف الشريف، قيوم الحروف كلها، فوقف وفوض أمره لله عاثرا فيه على ذاته مستندا عليها ومعتمدا على عصاها غير طالب أي شيء من الحق، إذ لا دعاء في الوقفة لأنه ليس فيها غير الله، والدعاء كما هو معروف يكون من العبد إلى خالقه، لذا فلا يعقل أن يكون داخل الوقفة العبد وربه ولكن الله وحده ولا أحد سواه. لذا يُقال إنّ الواقف لا يحدّه بيت ولا مقام، لأن البيوت والمقامات هي حضرات الأسماء والوقفة هي خاصة بالحق عز وعلا، ومن هنا تصدير أديب كمال الدّين لمجموعته بالآية الخامسة والثلاثين من سورة النّور، وذكره في المفتتح للعبارة التالية:"كتبتُ كتاباً في مدحِ ملكِ الملوك". ومن هذا المنطلق سوف لن يشار إلى الشاعر فيما سيأتي من التحليل والكتابة إلا باسمه أو بالواقف وسيلغى من معجم القادم من الأسطر مصطلح "العارف"، إذ لا يجوز للواقف أن يسمى عارفا، لأن هذا الأخير فيه بقية من أثر يقتضي التثنية أو الازدواج أما الواقف فهو واحد تقوم به الحقيقة المطلقة وهو يحيط بكل المقامات ويعرف الأشياء وهو في نفسه لا يعرف، ذلك لأن كل معرفة تحترق في الوقفة والعارف يخبر عن المعرفة أما الواقف فيخبر عن الله.

ومواقف أديب كمال الدّين لا يطيقها إلا المؤمنون وهي منهاج يرقى بالروح إلى عرش ملك الملوك حيث لا انشطار ولا انقسام، وهي أيضاً تدشين لمشروع حرية الذات البشرية عبر تذكير القارئ بسلسلة من المواقف التي يتحدث فيها عن قصص العديد من الأنبياء ومحنهم المختلفة بغرض التخلص من ثقل المادة وحفظ شفافية الروح حتى تصبح مرآة صقيلة صالحة لاستقبال الأنوار العلوية، لذا فديوان (مواقف الألف) رؤية لا تناقض فيها ولا تضاد ولا غموض قد يثبطّ عزيمة القارئ فتدفعه إلى الانصراف عنه، وهو أي الديوان، بكل نصوصه الخمسة والخمسين، سعادة وفرح بل جمال مطلق يكرم بها الشّاعر الواقف قارءه عبر مشروع يهدف من ورائه إلى تخليص اللغة من قيودها والاتجاه بها نحو البساطة والاختزال والدّقة.

وأديب كمال الدّين في نصوصه الواقفة يخرق إحدى أهم قواعد الخطاب والمخاطبة، أي المشاركة وذلك من خلال تبرّئه من خطابه باستعماله لعبارتي "أوقفني...وقال" ثم "يا عبدي" وهذا لثقته بالمتلقّي وبقدرته على تأويل يبرر له هذا الخرق الحاصل، باعتبار أن هذه النّصوص لها من الحمولة الإخبارية ما لا يُستطاع معها نفي حقيقتها ومعانيها لأنها مستنبطة من معاني القرآن الكريم. لأجل هذا يمكن القول بأن نصوص الشاعر الواقف قد وفّقت في تقديم الخطاب الشعري كحركة مزدوجة لها ظاهر وباطن، باطن لا يلغي أبداً ظاهره بل يدعّمه ويكشف فيه عن عمق التجلّيات الإلهية بشكل يهدف إلى تجاوز الموجودات نحو علاقة فنية تهدف إلى تذوّق الجمال المطلق للخالق والخلق. فظاهر النّص إذن ثابت وباطنه متحرك باعتباره يشير إلى الحقيقة التي لا تُدرك إلا بالبصيرة والتي تقتضي حركة اختراق من أجل استبطان البنية الرمزية للعالم حتى يتمكن المتلقّي من اختصار المسافة بين البارئ والمخلوق، والخروج من التجزؤ إلى الوحدة والانسجام الموصل إلى السعادة.

 

 

الفصْلُ الثاني

 

بنية الصّورالوصفيّة وظاهرة التّواصل الحسّي

 

1.1         صورة المرأة

 

صورة المرأة داخل نصوص أديب كمال الدّين هي نوع من أنواع العودة إلى الجوهر الأنثوي للكون، فهي ليست مُشتهاة بالمعنى الحسّي للكلمة ولكنّها بالدّرجة الأولى الصّورة المُثلى التي يُحَبّ فيها الله ويُدرَكُ بها وعبرها جماله بشكل يجعل من القارئ يعيش مع الشاعر تجربة النشوة والانخطاف، نشوة تصبح فيها المرأة رمز معرفة لا رمز هوية ووجود، إذ بالصورة يتصوّر الإنسان المعرفي نفسه متجسّداً، وهذا التجسّد يسهّل عليه التعبير عن المعنى لقوة حصوله في الخيال. الشيء الذي يؤدي إلى حدوث امتزاج أو انصهار هذا الأخير وسط الصورة كي يتحقق الستر والإخفاء للطافة المعنى ذاته، لأن الستر الذي يقابله الرمز والإشارة هو النقطة التي يلتقي فيها الشكل والمضمون. لذا فإن التعرّف إلى الجمال الإلهي عبر العنصر الأنثوي، فيه اكتشاف لأرقى درجات التكوين والخلق، مما يجعل من المرأة عند البعض ثمرة معرفة وعند البعض الآخر سبيلاً إليها، سبيلاً غالبا ما تكون مغرقة في السواد والتيه والبحث عبر الألم والبكاء والاحتراق عن الوجه المشرق للحقيقة الأنثوية والحقيقة المعرفية، ولعلّ هذا ما يفسّر كون المرأة عند أديب كمال الدّين تظهر لنا بوجهين، واحد مغرق في الشهوانية وآخر عائم في بحار الأنوار والجذب الإلهي اللطيف، كيف لا والأنثى في داخلها كوامن لا يعرفها إلا خالقها: تجدها ناعمة تارة وشرسة تارات، شهوانية مثيرة حيناً وباردة كالموت أحياناً، فلا الأساطير أنصفتها ولا الأديان حوت عظمتها وأسرارها. فهي الكاملة وهي الناقصة وهي المُدمرة وهي البانية. إنها ببساطة شديدة نقطة حمأ الكون وسرّ الله الأبدي.

 

ـ المرأة الريح عند أديب كمال الدّين

 

يقول أديب كمال الدّين في نصه "امرأة بشعر أخضر":

"(1)

لخمسين عاماً

كان يرسمُ اللوحةَ ذاتها: لوحة الموت:

امرأة دون عمر محدد

تسوق سيّارة سوداء،

سيّارة مسرعة

تسوقها امرأة عارية.

عبر نافذة السيّارة

ترى ثديي المرأةِ عاريين

وترى شعرها أخضرَ منثوراً

وترى ملامحها الساذجة.

خلفها توابيت

توابيت من؟

السيّارة مسرعة

والرسّامُ مرتبك

لأنّ المرأة ذات الشعرالأخضر

بثدييها العاريين

بعينيها الكبيرتين

بملامحها الساذجة

تحدّق فيه طوال الوقت.

هل كانتْ تدعوه؟

لأيّ شيء؟

 (2)

مرّ خمسون عاماً

ولم يكمل اللوحةَ بعد.

لكنّه في صباحٍ عجيب

رأى عبر شبّاكه ما رأى:

آه، إنها شجرة الليمون مثمرة، يا إلهي!

بسكينٍ حادة

قطع ليمونتين من الشجرة

وبسرعة

قطعهما إلى أربع شرائح

وبسرعة

أخذ أنبوبةَ الصمغ

ليضع الصمغ

على الجانبِ الرطبِ من الليمونتين

ثم لصقهما كعجلاتٍ لسيّارة الموت.

الآن اكتملتْ لوحته

لم يعد ينقص سيّارة الموتِ أيّ شيء!

(3)

كان فرحاً كطفل

كطفلٍ حقيقي

لكنّ وجهه يشحبُ بسرعة

ليصبح بلونِ الليمون.

فيما كانت المرأة

بشعرها الأخضر المتطاير

بثدييها العاريين

بعينيها الكبيرتين

بملامحها الساذجة

تسوق السيّارة بسرعة

لتطلق قهقهاتها الفارغة من أيّ شيء!"[44]

 

 

 

 

 

 

 

 

ـ الشفرة الزمنية للنّص

 

تقوم هذه الشفرة على دلالات مصطلحية تتوزع بين زمن قارّ ثابت وآخر سريع برقي وثالث لانهائي:

ـ الزمن القار: (خمسون عاما /// ذكِر هذا التعبير لمرّتين على طول أجزاء النّص الثلاثة)

هذا بالنسبة للتعبير الدال على هذا الزمن، لكن هناك أفعال وظروف زمانية لها نفس وظيفة الإيضاح الدّلالي يمكن جردها كما يلي:

(كان (2)[45] + مرّ+ رأى (2) +قطع+ قطعهما+ أخذ+ لصقهما+ كانت /+ بعدُ+ الآن)

ـ الزمن السريع: (سيّارة مسرعة // ذكرت هذه العبارة ثلاث مرات على طول النّص + قطع ليمونتين من الشجرة وبسرعة + وبسرعة أخذ أنبوبة الصمغ + لكنّ وجهه يشحب بسرعة)

أما عن الأفعال الدالة على سرعة الحركة داخل هذا الجزء فإنها كالآتي: (تسوق(3) + ترى (3) + تحدّق + يكمل + يصبح + تطلق)

ـ الزمن اللانهائي: (امرأة دون عمر محدد + طوال الوقت + الموت)

من هذا التبسيط للصفة الزمانية داخل النّص، يمكن الوصول إلى طبيعة الحركة بداخل المعنى وإلى ما يكون قد نتج عنها من تطوّرات أو تمفصلات، وهذا لن يتمّ إلا عبر استدعاء شخصيات النّص واستنطاق أفعالهم داخله وخارجه.

في النّص توجد أربع شخصيات وسيتمّ الغوص في دواخلها عبر التفكيك التالي:

          الشخصيات                                   حركتها وأفعالها داخل النّص

الرسام                               يرسم لوحة الموت

                                                مرتبك 

                                                مازال لم يكمل اللوحة

                                                في صباح عجيب رأى

                                                قطع بسكين حادّة ليمونتين إلى أربعة شرائح

                                                أخذ أنبوبة الصمغ

                                                ألصق بها الليمونتين كعجلات للسيّارة

                                                يشحب وجهه بسرعة   

 

المرأة ذات الشعر الأخضر                           تسوق سيّارة سوداء

                                                          عارية

                                                          تحدّق في الرسام طيلة الوقت    

                                                          تطلق قهقهاتها الفارغة من أيّ شيء               

 

ـ الشاهد المستتر                                               يرى ثديي المرأة عاريين

    (ربما يكون القارئ)                                     يرى شعرها الأخضر المنثور

                                                                 يرى ملامحها الساذجة

 

 

ـ الرائي المتبصّر المحيط بكل شيء                يصف كل شيء

                   (ربما الشاعر)                      يقول : لخمسين عاماً

كان يرسمُ اللوحةَ ذاتها: لوحة الموت

آه، إنها شجرة الليمون مثمرة، يا إلهي!

الآن اكتملتْ لوحته

لم يعد ينقص سيّارة الموتِ أيّ شيء!

 

كل هذا يعني أن هناك تطور وتمفصل داخلي في مسار فكر الرسّام، فهو من الجمود (الماضي) ينتقل إلى الحركة (الحاضر) ومن الحركة ينتقل إلى التحوّل ومن التحوّل ينتقل إلى القرار ومنه إلى تقرير المصير، مصيره ومصير الشاعر والمتلقّي معا (المستقبل). الوحيدة التي حافظت على تباث حالتها هي المرأة ذات الشعر الأخضر، فهي منذ ظهرت في النّص وهي تسوق مسرعة سيارتها السوداء ولا تنتظر أحدا.

ـ الشفرة الطلسمية

لوحة الموت التي يقدمها أديب كمال الدّين للقارئ تبدو سوداء في ظاهرها بل مربكة ومقلقة، وكأنّها كابوس ليلي مخيف، لكن القراءة المتمعّنة لها ولألوانها من خلال ما سبق جرده في الشفرة الخاصة بالزمن الداخلي والخارجي للنّص تفتح نوافذ جديدة يمكن الاطلاع عبرها على ما يخفيه النّص في صحرائه الخاصّة باللاوعي وباللاشعور الإبداعي، وهذا ما يمكن إيجازه وفقاً لما يلي من الإيضاحات:

ـ السيّارة السوداء :

هي في حقيقة الأمر ليست بسيّارة موت وإنما سيّارة حياة. والدليل على ذلك سرعة حركتها ونوافذها المشرعة. وهذه الحركة تعني رغبة في التغيير والتقدم نحو الأمام والتخلص من رتابة الماضي.

ـ المرأة ذات الشعر الأخضر:

هي شجرة الليمون وفي أثدائها أو ثمارها خير كثير وعميم، ولو أنها كانت بدون شعر طويل أو بدون لون أخضر، لكانت في النّص دليل شؤم وفقر ومرض. أما كونها عارية فهذا يعني أنها حبلى بسرّ عظيم يخصّ الرسام فقط أو الشاعر أو متلقّيا من نوع خاص له استعداد لتلقّي مفتاح المعرفة والجمال.

السكّين القاطعة:

هي فحولة وولوج ونكاح وانصهار وامتلاك لحقيقة رمز المرأة الخضراء والسيّارة السوداء، وبالتالي حركة فاصلة بين فترة ما قبل الخمسين سنة التي قضاها الرسام في الارتباك والتذبذب وما بعد هذه الفترة، أي حركة فاصلة بين الماضي والحاضر.

ـ الشفرة الأسطورية

في محاولة لمحاذاة مكنونات الشفرة الأسطورية سيتمّ في البداية التساؤل عن الكينونات التالية:

مّن يكون الرسّام؟ ومن تكون المرأة ذات الشعر الأخضر؟

للجواب عن هذين السؤالين ربما يقتضي الأمر التساؤل عن الكيفية التي صاغ بها أديب كمال الدّين هذه الصور وعن الأسس التي انطلق منها لحظة تنفيذ فعل الكتابة بل عن الميكانيزمات والآليات التي كانت تتحرك داخل ذهن الشاعر نفسه؟

في النّص كلّه ثمّة عنصر واحد يحمل بداخله مفتاح هذا السؤال، ولعلّه يكون عنصر الريح وإن كان غير واضح في أبيات النّص، إلا أنه ثمّة مصطلحات ستسمح له بالانبثاق والتجلّي عبر حركة توليدية تستكنه البنية اللفظية لما يلي من العبارات:

ـ تسوق سيّارة سوداء + سيّارة مسرعة /// لا يمكن للمرء أن يتصور سيّارة مسرعة دون أن يستحضر حركة الريح أو الهواء خارجها وهي الفكرة التي تجد ما يؤكّدها في العبارة التالية:

ـ شعرها أخضر منثورا + بشعرها الأخضر المتطاير /// لا يمكن للشعر أن يتطاير إذا لم تكن هناك ريح. الشيء الذي يعني أن نوافذ السيّارة كانت مفتوحة ومشرعة وهذا دالّ على أن السيّارة ولون شعر سائقتها وعريها، هي سيّارة حياة لا موت، وتقدم لا تقهقر.

لكن مهلا، ما لعملية التفكيك هذه وعنصر الريح؟ هذا سؤال يجد له جوابا في سؤال آخر: من تكون امرأة الريح هذه؟ وهذا سؤال آخر يجد الجواب عنه في الأساطير السومرية التي تغذّى منها لاشعور الشاعر في سنوات الشباب الأولى وربّما الصبا، وخاصة أساطير جلجامش التي لا تخلو مجموعة شعرية من اسمه. لكن ما لجلجامش وامرأة الريح؟

إنها المرأة التي ارتبط اسمها منذ حوالي 3000 سنة قبل الميلاد بالرياح والعواصف فعُرفت ب "ليليتو" في سومر، وب "لي ـ ليتو"عند الأكاديين أو(سيدة الهواء) أو الربّة "نينليل"، ربّة الرياح الجنوبية وزوجة "إنليل". وقديما عثر الأركيولوجيون على اسم "ليليتو" في قرص طيني سومري من مدينة (أور) يعود إلى 2000 سنة قبل الميلاد وفيه يحكى عن إله السماء الذي أمر بإنبات شجرة الصفصاف على ضفاف نهر دجلة في مدينة أورك وبعد أن كبرت الشجرة اتّخذ تنين من جذورها بيتاً له بينما اتخذ طائر مخيف من أغصانها عشاً له، لكن في جذع الشجرة نفسها كانت تعيش المرأة العفريتة "ليليث"، وعندما سمع (جلجامش) عن تلك الشجرة حمل درعه وسيفه وقتل التنين واقتلع الشجرة من جذورها فهربت "ليليث" إلى البرية.

ربّما تكون هذه هي الأسطورة التي استخرج منها الشاعر نسغ نصه لكن ليس ليعبّر عن الجانب المظلم للأنثى أو جانبها الشهواني كما صوّرته الأسطورة نفسها، ولكن ليصوغ للمتلقّي شكلا جديدا من أشكال الخلق والتكوين معتبراً الأنثى فيه عنصر صراع يتحقق من خلاله تنوّع الحياة ونظامها، فالعالم جاء إلى الوجود نتيجة فعل خلق إلهي، أما بنياته وإيقاعاته فهي نتيجة لحوادث جرت ولم تزل تجري في الزمان، لذا تجد الشاعر وظّف صيغة "السيّارة" كتعبير عن معاصرته لرموز الزمن الذي يعيش فيه، أما قيادتها فأعطاها للمرأة لتجسيد قدرتها الفاعلة والفعّالة في النظّام العام للحياة. وهكذا يُصبح جلجامش هو الرسّام أو الإنسان بشكل عام وفأس جلجامش التي قضى بها على القوى الشريرة التي استوطنت شجرة الصفصاف هي السكّين التي قطع بها الرسّام ليمونتين من شجرة الليمون، وهذا كلّه للدلالة على تمجيد العمل الإنساني الذي هو ليس فقط الجوهر الفعلي للإنسان وإنما كذلك سبب وجوده، أي حياته لا موته أو دماره. وليس هذا فحسب، فحركة السكّين داخل النّص أعطت للمعنى نفسه بُعدا شبقياً مرتبطاً بحركة التواصل مع الأنثى، أي حركة عودة الجسد المنفصم إلى وحدته الأصلية البدائية، وهي حركة تعبّر عن اغتراب الجزء أي المرأة ـ عن الكلّ (آدم/الرجل)، وهذا ماعبّر عنه أديب كمال الدّين في النّص بالمرأة ذات الشعر الأخضر التي تحدّق طويلا في الرسّام وتنتظر منه حركة (هل كانتْ تدعوه؟ لأيّ شيء؟)، أي تواصلاً أو نكاحاً كونيا باعتبار الأنثى تطابق الأنوثة السارية في العالم، لذا فإن حركة السكّين داخل الليمونتين أو ثديي المرأة هو اتصال معرفي وليس وجودي ولهذا حدث الانفصال (قطع الليمونتين إلى أربع شرائح) وتقيّدت الرغبة بالموت الذي هو حياة وبالألم واللذة وبكشف وهتك الحُجب.

 

 

 

 

 

 

 

 

1.2         المرأة والحرف

 

          لابدّ لكلّ متتبع لنصوص الشاعر أديب كمال الدّين، أن يعثر فيها وإن يطُل أمد البحث والدرس على ذاك البرزخ العجيب الذي يقف متهادياً بين كل ما هو حرفي ومجازي، برزخ لا يمكن أن يُسمى أو يوسم إلا بـ "الرمز" الذي ينضح دائماً بالحقيقة التي يمثلها، لكن ليس هذا وحده ما قد يكون الاكتشاف الأكبر للمتلقّي بقدر ما يُتوجب الالتفات إلى أمر آخر في غاية الأهمية والدقة، ويقصد به التساؤل عن ماهية السبب الذي يجعل من نصوص الشاعر نصوصاً رمزيّة بامتياز؟ أو ما هي طبيعة هذا الكنز الذي تنطوي عليه رؤية الشاعر للحقيقة بشكل تجعله قادراً على رؤية حياة ما من نوع ما داخل الإنسان وخارجه، ليؤكّد بالتالي للمتلقّي بأن حقيقة ما سواء أكانت مادية أو روحية هي مرتبطة أساساً بكل الحقائق الأخرى، وأن الإنسان يعيش في عالم من الرموز وبالتالي من المعرفة الرمزية؟

الجواب عن هذا التساؤل واحد لا غير: كل السرّ يتجلّى في ما يمكن أن يُسمّى بمبدأ وحدة جوهر الوجود. ولعلّ هذا هو السبب الذي يجعل من أديب كمال الدّين شاعراً يزجّ بنفس كل قارئ ودارس في دائرة العمل والحفر عبر إخضاع معظم قدرات هذه النفس لما يتبقى منها من قدرات أخرى و ذلك بهدف أن يبثّ بداخلها عند نهاية الرحلة طابع الوحدانية الإلهية وروحها بفعل قوة الصورة الرمزية، فتكون النتيجة أن يكشف الرمز عن نفسه بانكشاف الخاص في الفردي والعام في الخصوصي والكوني في العالمي. وهذا المعنى هو ما ستتمّ محاولة مقاربته عبر القصيدة التالية:

          يقول أديب كمال الدّين في نص "غزل حروفي":

"(1)

هذي المرّة

لن تكوني مثل كلّ مرّة

امرأة من لحم ودم.

فلقد تعبتُ من دمكِ العاري وجحودكِ الأسطوري،

من خيانتكِ التي تشبه مشنقةً دون حبل.

وتعبتُ أكثر

من انتقالاتكِ المرّة الحامضة بين البراءة والذنب

ومن أغنيتك: أغنية الكأس والسكّين.

ولذا

هذي المرّة

ستكونين امرأةً من حرف

أخرجكِ متى أشاء

أمام جمع الوحوش

بيضاء من غير سوء

بيضاء لذة للناظرين.

(2)

عسى -

حين تكونين حرفاً -

أن أمسك طير الفرح بقلبي

بعد أربعين قرناً من الطيران الأعمى.

عسى

أن ألتقي نقطتي فألتقط منها

طلسماً للحبّ والطمأنينة

وألتقي هلالي فأراهُ يركض نحو العيد

بدشداشة العيد.

وعسى

أن ألتقي دمي

فلا أجده أسود

ككفّ قُطِعَ منها الابهام.

(3)

هذه آخر محاولات جغرافيتي الممزّقة

وتاريخي الذي يشبه معناي الذي لا معنى له.

هذه آخر محاولات الطفل فيّ

وآخر محاولات الساحر فيّ

والمجنون والشاعر

والوليّ

والزاهد والراكض من بحرٍ لبحر.

هذه آخر محاولات دمي:

أنتِ الآن امرأة من حرف

لا دم عندك ولا لحم

لا مؤامرات، لا مكائد، لا دسائس

لا هرطقات،

لا نزوات

لا ولا.

(4)

أنتِ الآن امرأتي

وشمعة داري!"[46]

 

يمكن تقسيم هذا النّص إلى مرحلتين مهمّتين في حياة الإنسان ككل وليس الشاعر فقط باعتبار هذا الأخير هو صوت يحكي لنا عبر قصائده عن رحلة الإنسان وسفره المضني داخل ظلمة هذا الكون الشاسع المهول: مرحلة ماقبلية وهي التي تبدأ من البيت الأول وحتى البيت الثامن، ومرحلة مابعدية تبدأ من البيت التاسع إلى نهاية النّص. إلا أنّ ما يشدّ الانتباه هو هذه الطريقة الغريبة في التعبير عن مفهوم "المرأة" هنا: ففي المرحلة الأولى نجد الشاعر يطلق عليها كلّ الصفات السلبية فهي:

ـ امرأة من لحم ودم

ـ عارية الدم

ـ جاحدة

ـ خائنة

ـ حامضة ومتقلبة بين البراءة والذنب

ـ ولا تجيد الحديث سوى عن الكأس والسكّين.

أما في المرحلة الثانية فهو يتحدث عنها وكأنها دمية مسلوبة الإرادة وهو الوحيد القائم على أمرها يتصرف فيها وبها كما يشاء ويحلو له:

ـ فهو يضعها في "جيبه" متى يشاء

ـ ويخرجها منه كي يعرضها أمام الغير ويتباهى بها متى يشاء

فهل هكذا يتعامل العارفون مع "المرأة"؟ طبعا لا، خاصة وأنه سبقت الإشارة إلى أن الأنثى بالنسبة للعارف وللواقف هي تجلّ إلهي وأن هناك العديد من المتصوفة ممن حاول ولم يزل تصحيح أخطاء السابقين في الكتابة عن المرأة والأنثى بشكل عام، وبالتالي معالجة ما ارتكبته الأساطير والخرافات سواء منها ذات الطابع الدّيني أو الفلسفي من ظلم وإسفاف في حقها، الشيء الذي يجيز القول بأن ما يتحدث عنه أديب كمال الدّين وبهذه الطريقة في نص "غزل حروفي" ربما قد لا يكون له أيّة علاقة بمفهوم المرأة العام المتعارف عليه لدى الجميع، كيف ذلك؟ هذا ما سيُحاوَل إيضاحه فيما يلي من القول:

يقول أديب كمال الدّين:

"ولذا

هذي المرّة

ستكونين امرأةً من حرف

أخرجكِ متى أشاء

أمام جمع الوحوش

بيضاء من غير سوء

بيضاء لذة للناظرين."

يوجد في هذا المقطع أثر للتجربة الموسوية أمام فرعون مصر وكهنته وسحرته، أي أن الأبيات تذكّر بالآيات القرآنية التي قال فيها عزّ وعلا:" وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ"[47] ثم "وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ"[48]، و"يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ. بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ. لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ "[49] وبناء على هذه الملاحظة يمكن إجراء مقارنة تناصيّة بين ما ذكر في هذه الآيات من ألفاظ وبين العبارات التي ذكرت في مقطع الشاعر:

 

الألفاظ الواردة في الآيات                            العبارات الواردة في المقطع الشعري

 

ـ وأدخل يدك في جيبك                               ـ أخرجك متى أشاء

ـ تخرج بيضاء من غير سوء                        ـ بيضاء من غير سوء

ـ فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين            ـ أمام جمع الوحوش

ـ بيضاء لذّة للشاربين                                 ـ بيضاء لذّة للناظرين

 

من هذه المقارنة يمكن استنتاج ما يلي:

هناك من الألفاظ ماهو غائب في مقطع الشاعر لكنه يوجد في المقاطع القرآنية، فمثلا حينما قال الشاعر: "أخرجك متى أشاء" هذا يعني أن "الشيء" محطّ الحديث كان داخل الجيب وهذا يقود مباشرة إلى التعبير القرآني"وأدخلْ يدَك في جيْبك"، لكن هناك في المقابل ألفاظ أخرى تمّ اقتباسها أولاً من آية قرآنية معينة وإضافتها ثانياً إلى ألفاظ قرآنية مستقاة من آية أخرى مختلفة عن الأولى وذلك بغرض الجمع بينها ثالثاً في تعبير شعري واحد، ويقصد بهذا الجمع قول الشاعر: "بيضاء لذّة للنّاظرين"، بالرغم من أن المتعارف عليه عند دارسي القرآن الكريم أن لفظ "لذة"، ذُكر في القرآن مقرونا بعبارة "الشّاربين" ولم يذكر أبداً مقترنا بكلمة "الناظرين"، لذا وجب طرح السؤال التالي:

ما السبب الذي دفع أديب كمال الدّين إلى اختيار هذا المنحى اللغوي الغريب؟

للجواب عن هذه الإشكالية سيتم الاشتغال على التعبيرين معا، القرآني والشعري:

 

 

 

 

ـ بيضاء لذّة للشاربين                                          ـ بيضاء لذّة للناظرين

 

في هذا التعبير إشارة لخـمـر الجنة                           يتلذذ الشارب بما يشرب ويسكر

ولبياض لونها ولذيذ مذاقها، إلا أن                           والنـاظر أيضاً يتلذذ بما ينظرإليه

الأمر قد يبدو غير كذلك إذا مـا تمّ                            وقد يُسحر به ويذهب لبّه.

الـتساؤل عن الـكأس الـتي تـوجـد

بها هذه الخمر، فلربما تكون هـي

البيضاء اللون وليست الخمر ذاتها.

 

بعد هذا التفكيك يظهر عنصر جديد، ويقصد به "الكأس" التي ذكرت في الآية القرآنية لكنها لم تذكر في عبارة "لذة للناظرين"، وهذا الظهور هو نداء ضمني مستتر لعبارة "الكأس" التي وردت في بداية النّص حينما قال الشاعر:

"وتعبتُ أكثر

من انتقالاتكِ المرّة الحامضة بين البراءة والذنب

ومن أغنيتك: أغنية الكأس والسكّين."

فما الفرق إذن بين كأس الآية وكأس هذا المقطع؟

كل كأس في القرآن هي خمر، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر كأس، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا إناءً وقدحاً. فهل هذا يعني أن الكأس التي ذكرها أديب كمال الدّين هي كأس خمر حقاً أم ماذا؟ هذا السؤال لم يكن من الممكن طرحه لو لم تكن عبارة "أغنية الكأس" متبوعة بلفظة "السكّين". وهذا يقود إلى تساؤل آخر يتغيأ البحث عن العلاقة بين الكأس والمرأة وبينهما معا و"السكّين".

قديماً كان العرب يرمزون للكأس بالمرأة الحامل أما السكّين فغالباً ما تكون بين طياتها إشارة لعنصر النكاح وهو قد ورد هنا في البيت الشعري بمعناه المادي وليس الوصالي الاتحادي بدليل أن البيت مسبوق بعبارتي "الحامضة" و"الذنب"، لكن لماذا "المرأة" هنا في هذه الصورة تبدو من جديد وكأنها غانية أو فتاة ليل؟ ولماذا بعد ذلك "المرأة" ذاتها ستتحول إلى "حرف" وتصبح بيضاء لذة للناظرين؟ هل يعقل هذا؟ لا شك وأن الأمر فيه شفرة لابد من فكّ رموزها.

نص "غزل حروفي" كما سبقت الإشارة مقسم إلى جزئين أو مرحلتين ولفظ "لذا" الذي أتى مسبوقاً بالبيت الذي قال فيه الشاعر"ومن أغنيتك: أغنية الكأس والسكّين" يبدو وكأنه حقاً سكّيناً أخرى غير (سكّين الكأس) قطعت بين زمنين وموقفين وتجربتين. لكن إذا كان الحديث عن الكأس قد أوصل إلى الحديث عن "المرأة"، وإذا كان الكلام عن السكّين قد قاد إلى ذكر الحديث عن النكاح وعن لفظ "لذا" القاطع بين مرحلتين، فإلى أي درب سيوصلك ويوصلني أيها القارئ الحديث عن "جمع الوحوش" وعن "سحرة فرعون"؟

سبق الحديث عن يد موسى البيضاء من غير سوء وعن المرأة الحرف التي أراد لها أديب كمال الدّين أن تكون بيضاء هي الأخرى لذّة للناظرين، لكن بقي عنصر لم يتم ذكره وإن كان حاضراً بشكل قوي التخفي والتستر، إنها "العصا"، عصا موسى أولاً وعصا أديب كمال الدّين ثانياً:

 

عصا موسى

                                                         

في الآيات التي سبق ذكرها تمّ الحديث عن موسى (ع) الذي طلب منه الله عز وعلا أن يخرج يده من جيبه بيضاء من غير سوء، وهي نفسها اليد التي ستمسك بالعصا التي سيلقيها وستتحوّل إلى أفعى كبرى تلقف ما صنعه السّحرة من إفك، بمعنى تفضح من غير التهام وتظهر أفاعي الدجالين على حقيقتها الأصلية، أي كونها حبالاً وعصياًّ ليس إلاّ. وليس هذا فحسب فبالعصا فلق موسى البحر وبها ضرب الحجر.

هذا يعني أن من هذه العناصر يمكن استخراج المفاتيح التالية:

ـ الجيب

ـ اليد

ـ العصا

ـ البحر والحجر

 

عصا أديب كمال الدّين

 

منذ البداية والشاعر يشير إلى "امرأة" أصبحت في نهاية الرحلة شمعة داره، وكما يعلم الجميع فما من حرف يشبه العصا والشمعة في اللغة العربية سوى الألف، وهذا يعني أنه ما من امرأة أو أنثى في هذا النّص، ما من شيء هنا سوى الألف وما من أنثى سوى النفس البشرية التي في طريقها إلى الكمال تركض من بحر إلى آخر وتتنقل بين الذنب والبراءة وبين الكأس والسكّين، وعليه فإن المفاتيح التي يمكن استنتاجها في هذا الجزء هي الآتي ذكرها:

ـ الكأس

ـ السكّين

ـ الشمعة

وعملية جمع بين مفاتيح المقطع الخاص بعصا موسى (ع) وعصا أديب كمال الدّين توصل إلى العلاقة الآتية:

جيب + كأس= غمد

غمد لأي شيء؟

غمد لـ: السكّين وللعصا وللشمعة كما الأنثى غمد للذكر وكما الجسد غمد للنفس التي تحولت سكينها إلى عصا وعصاها إلى شمعة وشمعتها إلى قيّوم الحروف كلّها: الألف أو المرأة التي سمّاها الشاعر بـ"امرأة من حرف"، والتي يحمل هذا المقطع من قصيدة "محاولة في العزلة" وصفا دقيقا لها:

"هكذا فأنا أجلس في نفسي

لأحرس نفسي.

ولكي لا أنسى ما صُنِعَ بي

وضعتُ رمحاً على بابي

خضّبته بدمي

وصنعتُ من الطين

رأساً كرأسي

وضعتهُ على الرمح

وبكيت..

بكيتُ حتّى سالتْ روحي

فرددتها إليه... إلى الرأس.

***

كلّ صباحٍ أركعُ أمامه في خشوع

لأقول له:

"صباح الخير

أيها الرأس المثقل بالأسى والحروف".

فيردّ عليّ في هدوءٍ عظيم:

"صباح الخير

يا صاحبَ العزلةِ السعيدة!"[50]

 

 

1.3   المرأة النّقطة وظاهرة التّواصل الحسّي

 

يقول أديب كمال الدّين في نصّه "رسالة الحَرْفِ إلى حَبيبته النّقطة"[51]

 

"حبيبتي:

أيتها النقطة،

أيتها الحمامة،

أيتها الصّخرة الملقاة على حافةِ النهر،

أيتها الوردة الطيّبة،

أيتها الابتسامة اللذيذة كقيمرِ الصباح،

أيتها الدمعة: اللؤلؤة،

كيف أجدكِ الليلة؟"

 

ليس ثمة من شكّ في أنّ هذا المقطع من نّص "رسالة الحَرْفِ إلى حَبيبته النّقطة" يحبل بالكثير من الصّور والانزياحات المُتنوّعة والمُختلفة، لكنّ الذي يشدّ الانتباه بشكل أكثر عمقاً من غيره، هو هذه الطاقة الهائلة التي يزخرُ بها المُعجمُ الحسّي للقصيدة بشكل تتحوّل فيه المشمُومات إلى ألوان، والمسمُوعات إلى عطور والمرئيات إلى أنغام تتفاعل وترقصُ فيها وبها ومعها جميع حواسِّ المُتلقّي كي تتفجّر عند نهاية الرّحلة وتتدفّق مع الشّاعر متّخذة أشكالا جديدةً من الصّور الطّازجة والخارجَة عن عالم المُدرَكات الحسيّة مُخالفة في هذا كلّ الأعراف اللغوية والتصْويرية العادية، لذا وَجب التوقف في هذا المقطع عنْد كلّ حاسة على حدة:

ـ حاسّة البصر:

 

إنّ أوّل ما قدْ يصلُ إلى عين القارئ من الصور هنا هي صورة عاشق يشبه ساحر سيرك بين يديه قبعة سوداء طويلة يدخل فيها بخفة يد ورشاقة حركة "النقطة" ثم يخرجها وقد صارت "حمامة" أو "صخرة" أو "وردة" أو "صحنا من القيمر" أو "دمعة" أو "لؤلؤة". كذلك يوجد داخل الصّورة نفسها عنصرٌ آخر يصل إلى العين مباشرةً وهو عنصرُ اللون: فالنقطة لونها أبيض والدليل على ذلك عبارتَي: "أيتها الابتسامة اللذيذة كقيمر الصباح" و"أيتها الدمعة: اللؤلؤة"، إذ ما من شك في أنّ لون القيمر والصباح واللؤلؤ هو أبيض، ولذا جاز القول ووفقاً لقاعدة الاستنتاج الضمني، بأنّ الحمامة والصخرة والوردة لا يمكنهنّ أن يكنّ جميعهن سوى بيضاوات اللون بامتياز.

ـ حاسة الشم والتذوق

 

لو لم يكن عنصر الماء هنا حاضرا عبر ذكر مصطلحي "النهر" و"الدمعة"، لكان من الصعب جدا الحديث عن نوع الرائحة الكامنة داخل أبيات هذا المقطع، التي هي بدون شك رائحة عطرة وطيبة، مادامت تنبع من الوردة ومن القيمر، لكن هذا لا يكفي، على المتلقّي أن يتوغّل أكثر وأكثر كي يحدّد طبيعة هذه الرّائحة هل هي نابعة من عنصر الملوحة أو عنصر الحموضة أو عنصر الحلاوة أو عنصر المرارة، ويحدّد أكثر وبشكل أدق درجة الرطوبة والسيلان الساكنة داخل كل هذه العناصر، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال استخدام حاسة التذوق عبر الأنف وليس عبر اللسان مادامت هناك من الروائح والعطور القوية ما تصل إلى الحلق مباشرة من الأنف.

إذن لدينا عنصران أساسيان للقيام بهذه التجربة: الدمعة والقيمر.

الدّمعة كلها ماء، إذن فهي رطبة ومتدفقة ودائرية الشكل، لها طعم مالح. أما بالنسبة للقيمر فكله حليب ومصل، وفي الإشارة لهذين المقطعين علاقة وطيدة بعناصر أخرى تمّ ذكرها في هذا المقطع من القصيدة ويُقصد بها: الوردة واللؤلؤة، باعتبار أن هذه الأخيرة لا تتكون علميا وكيميائيا داخل المحارة إلا إذا تسربت إلى محارتها حصاة من الرمل أو الصخر فيتهيج الحيوان الرخو بداخلها ويتألم بشدّة ويبدأ دفاعا عن نفسه في إفراز مادة من الخلايا الظهارية وفي بناء طبقات متعددة ومتماسكة من الأرجونيت أو من كاربونات الكالسيوم التي تصبح بعد ذلك لؤلؤاً كاملاً. وعنصر التهيّج والألم الداخلي الحاصل داخل المحارة فيه نداء لتهيّج آخر له علاقة وطيدة بالدمعة المالحة المذاق كملوحة ماء اللؤلؤة، فهي غالبا ما لا تتكون إلا إذا حدث ألم داخلي بقلب الإنسان. إذن فالأجسام التي تتخلق فيها السوائل عبر عُنصر الألم في هذا المقطع ثلاثة وهي كالآتي:

ـ المحارة = اللؤلؤة

ـ العين= الدمعة

ـ القلب = الدم

أما السّوائل فهي أربعة: ماء المحارة + ماء العين + مصل القيمر + دم القلب

وكلّها سوائل مغذّية ترمز إلى عنصر تخليق الحياة في محارة الكون، أو وسط وردته الصوفية التي احتضنتْ منذ الأزل حليب التخليق ونقطته البيضاء اللؤلؤية المنطوية على الحقيقة المحمدية والتي لا شكّ يتمنى كل عاشق أن يقضي في حضرتها ولو جزءاً من الثانية كما سبق وقال الشاعر في مقطع من (خطاب الألف):

" المغنّي يتمنّى الصفاء

ويريد أن يقضّي العمر مع حبيبته

وأنا أريد أن أقضّي معك

ساعة صفاء واحدة

أو دقيقة حبّ واحدة

أو لحظة اطمئنان واحدة

أو ثانية مسرّة واحدة."[52]

مرّة أخرى ما من امرأة أو حبيبة بالمفهوم المُتعارف عليه في هذا النّص، لا حضور هنا سوى للنّقطة التي لولاها ما غنّى لها هذا الألف الشاعر الواقف العاشق المتيّم كل هذه القصائد المغرقة في الشوق والوله والصبابة عبر كتابة  15 ديوانا ، فهي هو، عبارتان لذات واحدة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصلُ الثالث

دَلالة الألم والصّليبِ والمَوْتِ

 

1.1         دلالة الألم

 

ـ    أديب كمال الدّين سيزيف السعيد بصخرة الألم

يعتبر الروائي الفرنسي "ألبير كامو"، أوّل من استخدم عبارة (سيزيف السعيد)، في بحث فلسفي من مائة وعشرين صفحة عنونه ب (أسطورة سيزيف) ونشره سنة 1942[53] . فهو يعتقد أن كلّ ما في الوجود عبث لا طائل منه، وأنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة، وأنّ كلّ ما يقوم به الإنسان ويكتسبه من خبرات مهما بالغ في فلسفة جدواها وقيمتها ما هي إلا تسلية لا نفع يُرجى من ورائها وفائدتها الوحيدة هي قتل الملل في انتظار خلاص لا يأتي. ما الهدف من الحياة إذن؟ وهل لهذه الأخيرة معنى؟ هكذا يظهر بقوّة السؤالان الوجوديان العظيمان اللّذان شغلا فكر "ألبير" مثلما شغلا أديب كمال الدّين. لكنّ "ألبير" في محاولة منه لإيجاد حلّ لهذه الإشكالية يتحدّث عن ظاهرة "الانتحار" باعتبارها نتيجة حتمية لتضخّم الفراغ وقوّته بل سيطرته على الإنسان بشكل يجعله يشعر بقسوة المحاصرة والعزلة وكأنّه في سجن حقيقيّ كبير اسمه "الحياة"، حقيقة توصّل إليها الكاتب الفرنسي وغيره من أدباء الضّفة الأخرى وآمن بها بشكل جعله يُلغي مصطلح الأمل من قاموسه اليومي، وكلّ خيط يمكنهُ أن يربطه بالإيمان والعلم والدّين.

الإنسان العدمي إذن لا يُؤمن بالغيبيّات، لا يؤمن بالله، لا يؤمن بالغد ولا يؤمن بأيّ شيء سوى العدم واللاجدوى ذاتهما. "ألبير كامو" يتحدث - كمفكر لا يؤمن بالله- عن الإنسان الذي يحبُّ الحياة ويتشبث بها كما يتشبث الغريق بقشّة تبن وسط بحر هائج بالرغم من شقائه بها وبعبثيتها ولاجدواها، بالضبط كسيزيف الأسطورة الإغريقية الذي يحبُّ صخرته العجيبة ويستمتع بتكرار حملها إلى قمة الجبل على الرغم من علمه بأنه كلّما وصل بها إلى القمة كلما تَحتّم عليه أن يعود إلى السفح كيْ يجلُبها منه من جديد ويحملها على كتفيه في صعود ونزول أبديين، وقد يكون هذا ما دفع بالكاتب الفرنسي إلى الحديث عن مفهوم جديد أسماه ب "الحرية العبثية" أي حرّية أن يقنع الإنسان بالحياة ويعيشها ويستمتع بها كما هي وبلامبلاة لا ترجو من الحياة شيئا سوى الحياة نفسها، أي ما يمكن تسميته بنوع من حرق الحياة حتى آخر رمق على حسب تعبيره في روايته (الموت السعيد)[54]. إنّه نوع من الدونجوانية، أومن الانسلاخ عن القيم الروحية بشكل يجعل الإنسان يتقدّم نحو التدمير القهري للذات بدون أدنى ذرّة ندم أوشعور بالذنب، فكل شيء جميل كما هو، وكل شيء مفرح وسعيد، وما على الإنسان كي يعيش سوى أن يتخيّل نفسه السيزيف السعيد، فهل هذه هي ذاتها السعادة السيزيفية التي يتحدّث عنها أديب كمال الدّين؟ هل هي السعادة الدونجوانية والعبثية؟ أم أن سعادة هذا الشاعر بصخرة الحياة لها طعم ونكهة أخرى؟

يقول د. ضياء نجم الأسدي في مقالته (المشروع الشعري لأديب كمال الدّين/ تشابيه لواقعة الخلق): "يحاول أديب كمال الدّين في منهجه الشعري أن يصنع عالمين: أحدهما افتراضي يلعب فيه الحرف دور البطولة المطلقة ويمارس القوة الإنجازية بما أودعه الشاعر فيه من قدرة على الخلق. فهو في عالم القوة والفعل معا.(وهوبهذا يمارس)[55] لعبة خطيرة ويحاول أن يحاكي قصة الخلق والتكوين. إنها تشابيه لواقعة الخلق. يريد الشاعر أن يجسدها أمام الخليقة (في عالمه الواقعي) ليريهم المدى الذي بلغته خطيئاتهم الكبرى والحد الذي وصلوه في التمرد على بارئهم وجحود لطفه "[56].

لذا فإن السّعادة السيزيفية الدّونجوانية وفق ما صورها العديد من العدميين واللّاجدوانيين لا يمكن اعتبارها سوى شكل من أشكال هذا التمرد على الخالق الواحد الصمد، هذا التمرّد الذي بموجبه تمّ التصريح بصورةٍ علنية أو ضمنيّة بمشروعية كلّ فعل يُمكن للإنسان أن يَقوم به مهما كان شاذّاً أو مخالفاً للفطرة البشرية . وهذا النوع من التمرّد بالذات هو ما أراد أديب كمال الدّين أن يسلّط الضوء عليه، عبر قصائد تشبه السيرة الذاتية يحكي فيها عن تجاربه مع حروف أخرى لم ينل منها إلا القسوة والألم والعذاب، لكن القول بهذا فقط يظلّ أمراً غير كاف ومشحوناً بالعديد من الفجوات المُقلقة، خاصّة وأنّ قراءة مجاميع أديب كمال الدّين الشعرية وقصائدها المتنوعة تجعلُ الباحثَ يشعرُ بقوّة ضاغطةٍ مستمرة ذات اتجاهين متعاكسين ومتضادّين فيما بينهما، فمِنْ أين للدارس أن يتحدّث عن فضح الشاعر، بنوع من اللّوعة والحسرة والألم، لمختلف مظاهر جحود الإنسان وجبروته وحمقه وظلمه، ومِن أيْن له بعد ذلك ترك كل هذا ليتحدّث عن شاعر تتحوّل بين يديه كلّ أشكال القسوة إلى سعادة وشمس بل إلى نقطة فرح عظيم لا يعرف كنهها إلا العارفون؟

للحديث إذن عن هذه الجبروت وعن قلب الإنسان الصّخرة التي تتحول قسوتها إلى سعادة وشمس عبر معارج يتم فيها الرقص والمشي في آن واحد على حبال الحرف والكلمة سيتمّ اختيار قصائد معينة من دواوين مختلفة للشاعر والعمل عليها بالتالي كنموذج للبحث عن مظاهر هذا التحول الإسرائي داخل الروح الإنسانية وهي في طريقها نحو ما لا عين رأت ونحو ما لا خطر على قلب بشر.

 

ـ         جدلية التجاور والجمع في قصائد أديب كمال الدّين أو سيزيف السعيد بصخرته

 

إنّ أهمّ ما يُميّز قصائد أديب كمال الدّين الواردة في مختلف المجاميع الشعرية حديثها أو قديمها هو هذه العلاقة المتواشجة فيما بينها وإن باعدت بينها سنوات الإصدار أو أمكنته، وهي في هذه العلاقة التكاملية لا تريد أن تؤسس لأيّ مظهر من مظاهر التكرار أوالرتابة للطريقة التي يتمّ من خلالها التطرق لمعنى معين أو موضوع ما، بل على العكس من ذلك، فالغاية هي وضع اللبنات الأولى لبناء معماري تحْتكِمُ هندسته إلى وشائج صامتة تختلف ملامحها باختلاف درجات وعي الشاعر بها أثناء ممارسته لفعله الكتابي. إذ غالباً ما تطرح قصيدة ما سؤالاً معرفياً ما في ديوان أول كي يُكتشف فيما بعد أن الجواب عنه قد يكون في الديوان الذي يليه أوالثالث أوالرابع، كما أنه غالباً ما يطرح الشاعر قضية ما أو يحكي قصة ما لا يجد الدارس لعقدتها حلاًّ إلا فيما يلحقها من الدواوين الأخرى، فما الذي يربطُ إذن قصيدة تنتمي إلى ديوان معين بقصيدة أخرى توجد في ديوان لاحق؟ ما دواعي هذا التجاور الذي تقيمه الذات الكاتبة بين قصائد تنتمي لمجاميع مختلفة؟ هل يتعلّق الأمر بتقارب في زمن الإنتاج أم أن الزمن الشعري لا يتقيد بمواضعات الزمن المقيس؟ أم هل تتعلّق المسألة بتطوّر في النسق الفكري والمنهج التركيبي التفكيكي الذي اختاره الشاعر للتعبير عن تجربته الشعرية الفريدة؟ أليس الجمع بمختلف معانيه هو أسّ الممارسة الكتابية؟ لا يُرام الغوص هنا في مفهوم التأليف بقدر ما يُراد تسليط الضوء على إشكالية التجاور الذي أقامه الشاعر أديب كمال الدّين بين قصائد متفرقة من دواوين متباعدة في سنوات النشر والكتابة سيُختار منها قصيدة (ملل) باعتبارها نصّا من بين نصوص أخرى تهمُّ موضوع سيزيف السعيد بصخرته أو سيزيف الذي تتحول صخرته إلى شمس تزداد جمالا وعظمة بسرّ قوله تعالى:} اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَولَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}[57]

 

* قصيدة (ملل)

 

النّص هوالخامس من مجموع أربعين قصيدة تنتمي كلّها إلى ديوان (حاء) الصادر بعمّان سنة 2002 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ويتكوّن من 55 بيتا، وهو بالإضافة إلى ذلك مقسم إلى خمسة أجزاء. حسب هذه المعطيات الأولية يمكن ملاحظة مايلي:

ـ ورود الأعداد التالية:

 55: عدد الأبيات

8: هو المقابل الرقمي لحرف الحاء حسب علم الأعداد والحروف.

هذه القصيدة لوحدها تحمل في طياّتها البذرة التي خرج منها ديوان (مواقف الألف) المكون من 55 موقفا، ولا علاقة للصدفة في وجود هذا الرقم أوغيره من الأرقام في التجربة الأديبة. والدليل على كون القصيدة لها امتداد وجذور بديوان (مواقف الألف) نصّ (موقف الباب) الذي يتحدّث بشكل واضح في جزئه الأخير عن (السأم) كمرادف من مرادفات (الملل) حسبما ورد في (لسان العرب) لابن منظور بالجزء الخاص بكلتي المفردتين[58]

وللكشف عن رمزية الرقم 55 في قصيدة (ملل) كما في ديوان (مواقف الألف)، لن يحتاج الدارس إلى البحث عنها في كتب المنجّمين وغيرهم ممّن يهتمُّ بهذا النّوع من العلوم، بقدر ما هو في حاجة حقيقية للبحث عنها في نصوص الشّاعر، كي يتسنّى له تتبّع مراحل التطور والتصاعد الحركي لروح وفكر الشاعر، وبالتالي اكتشاف مختلف المعارج التي مرّ بها، بعضُها مأساوي وبعضها الآخر مغرق في الاستحالة والسريالية العجيبة لارتباطها بمشاهد الدم القاسية، ومشاهد الموت وبخيانات الأصدقاء أوالأعدقاء (كما سمّاهم الشاعر نفسه) نساءً أو رجالاً.

قصيدة (ملل) إذن خطوة نحو خلاص لن يتحقق إلا بختم 55 معراجا عبر مرحلة من التشرنق وبالتالي الولادة من بين رمل وطين، وفرث ودم، وحديد وحجر داخل رحم شديد الاتصال بديوان (حاء) الذي يرمز في رقميته الحرفية إلى التوازن الكوني والطهارة بعد الخروج من سجون أهل حاء الحرب وحاء الحقد وحاء الحمق للركون والسكون إلى أهل حاء الحُلم والحُبّ والحكمة والحق الأكبر وهي كلها معان تجد لها صدى وأثرا في قصيدة (ملل) بدءا من العنوان وحتى آخر جزء فيها.

 

ـ الجهاز العنواني في قصيدة (ملل)

 

ما ورد مصطلح "عنوان" في المعاجم العربية إلا وكان مرتبطا بمصطلح "الكتاب" ولم يسبق له أبداً أن كان مرتبطاً بكلمة "القصيدة" أوبعبارة "النّص الشعري" وسبب هذه الظاهرة شديد الالتصاق بتاريخ القصيدة العربية نفسها، فالنّصوص الشعرية منذ العصر الجاهلي لم تكن ترد مصحوبة بعنوان لأن اسمها غالباً ما كان يولد معها في المطلع أوعبر القافية، وقد سار العرب على هذه السنّة حتى عصر النهضة الحديثة حين بدأت تهبّ نفحات التجديد من الضفة الأخرى من خلال أقلام شعراء أقاموا في المهجر، وآخرين زاروه وآخرين قرأوا لرواد تحديث القصيدة والشعر بشكل عام فكان من آثار هذا التحديث ظهور العنوان كمُحدّد لفحوى القصيدة وصيرورته جزءاً من مهمة الشاعر بعد أن كان جزءا من مهمة القارئ أوالسّامع.

وعلى هذا الأساس أصبح النّص الشعري الحديث معادلة مهمّة سقفها العنوان وأرضيتها النّص، وأصبح العنوان اليوم أكثر من أيّ زمن مضى جديراً بالدراسة والتحليل من منطلق أنّه حمولة مكثّفة للمضامين الأساسية النّص، ونص مصغّر داخل نص كبير، أو بصيغة أخرى نظام سيميائي ذو أبعاد دلالية، وأخرى رمزية تدفع الدارس إلى السعي نحو استقراء رموزه والوصول إلى مفاهيمه النّصية المتراكمة داخل الحيّز النّصي. [59]

لذا لم يكن اهتمام السيمياء بالعنوان أمراً نابعاً من فراغ أو من صدفة،  بل لكونه أصبح ضرورة كتابية جعلتْ منه حقلاً لغوياً ناجحاً في مقاربة النّص الأدبي وكذا لكونه أولى عتبات النّص التي لا يجوز تخطّيها بهدف تحرّي الدّقة العلمية في التحليل وفي المقاربات التأويلية للنّص جسداً وروحاً، أو شكلاً ومضموناً[60]

لكنّ هذا لا ينفِي وجودَ وجهة نظر أخرى ذهب إليها باحثون آخرون لا يُعَوّلون كثيراً على العنوان ولا يعطونه كل هذه الأهمية باعتبار أنّ القصيدة بشكل عام ليست تلك التي تتولّد من عنوانها، إنّما العنوان هو الذي يتولّد منها، وما من شاعر حق إلاّ ويكون العنوان لديه آخر همّ يفكر فيه[61] وهذه المسألة هي إلى حدّ ما صحيحة لكن الغاية المتوخّاة هنا، هي البحث في مدى أهمية الجهاز العنواني بالنسبة للقارئ لا الشاعر باعتبار أن العنوان أولى العتبات التي يلج منها المتلقّي إلى النّص. ومهما تكن الحالات والإشارات العنوانية، فهذا لا يمنع من القول بأن مظهر العنوان بشكل عام قد اختلف عبر تاريخ القصيدة العربية باختلاف اتجاهات الشعراء ومدارسهم. فثمّة مَن كان يختار لقصائده عنوانا يشير إلى فحواها بشكل صريح وثمّة مَن كان يختار عناوين للإيهام والإشارة الرمزية وثمّة مَن كان يجتزأ العنوان من القصيدة ذاتها فهل هذا هو شأن أديب كمال الدّين أيضاً في قصيدته هذه؟

عنوان قصيدة الشاعر كما سبقت الإشارة هي (ملل) وهو عنوان حمّال لأوجه تفسيرية عديدة: فكما هو مجتزأ من نص القصيدة أو بتعبير أدقّ من فحواها، فهو في الوقت ذاته عنوان وهمي أو مأزقي، بمعنى أنه يضع القارئ بين فكّي سؤال التشكيك في حالة ملل الشاعر والرغبة في السير قدما من أجل البحث عن الشعور الحقيقي الذي يخفيه عنوان هذه القصيدة، هل هو حقاً (مَلل) بالمعنى المتعارف عليه أم هو شيء آخر لابد من كشفه؟

من الناحية اللغوية والنحوية (مـَلَل) هو مصدر مشتق من فعل ثلاثي (ملّ/ من ملِلْتُ، يملّ/ ملّ/ مللاً وملالة وملالا، فهو مَلّ) وقد أدرجه الشاعر مستخلصاً إياه من الصيغة الماضية للفعل ذاته والمتصلة بتاء المتكلّم (مَللْتُ) والمتكررة في القصيدة لما يزيد عن ستّ مرّات.

أما من الناحية الشعرية فعنوان (ملَل) إذا وُضع في ميزان أهل المدرسة الرومانسية فإنه يصبح دون شك عنواناً له علاقة وطيدة بالحالة النفسية الخاصة بالشاعر باعتباره يُعبّر عن شعور داخلي وذاتي يحاول إيصاله إلى القارئ.

أما إذا وُضع في ميزان أهل أدب الضفة الأخرى فالعنوان يغدو شديد العلاقة بصرح فكري عظيم خصّه شعراء الغرب وأدباؤهم وفلاسفتهم لمناقشة وتحليل إشكالية الملل من مختلف جوانبها النفسية والفكرية والاجتماعية. ولعلّ أول وأقدم من خاض غمار وبحار هذه القضية هو الفيلسوف والشاعر الإيطالي الأبيقوري "تيتوس لوكريتيوس كاروس" (96 ق.م ـ 55 ق.م) وذلك عبر الأبيات الأخيرة من ديوانه الشهير «في طبيعة الأشياء» (De Rerum Natura) والتي يتحدث فيها عن حالة نفسية غريبة تنقضّ على الإنسان فجأة فتجعله يشعر بالتعب من الحياة (taedium vitae)، تعب لا ينبع وفق تصور الشاعر إلا عن عدم القدرة على معرفة الأسباب الحقيقية لتعاسة الإنسان، هذا الكائن الذي أثبت في كل مرة فشله الذريع في استيعاب فكرة الموت وتقبُّلها بروح رضية. الشيء الذي يدفعه وبشكل أبدي إلى الجري وراء سراب الحياة وبالتالي السقوط بين مخالب السأم، فيصبح كحيوان مريض منهك القوى لا قدرة له على فعل أي شيء. وفكرة المرض الروحي هذه هي ذاتها التي أشار إليها الشاعر الإيطالي الوسيطي "فرانشيسكو بيتراركا" (1304 ـ 1374) في يومياته التي جمعها في كتاب أرسله إلى صديقه الفيلسوف "القديس أوغسطينوس" يعترف فيه بإصابته بمرض لا يستطيع تحديد هويته أو وصفه سوى بعبارات (عدم الرضا) والشعور (بالخوف من الغد) و(عدم الرغبة) في الحياة، لكن الشاعر الفرنسي "شارل بودلير" يبقى أهم شاعر قلب كل الموازين فيما يمكن تسميته بأدبيات (الملل) لأنه أول من ارتقى به إلى عالم الشعرية والفنية الجمالية، فلم يعد الملل مجرد علّة تصيب النفس البشرية ولكنه أصبح حالة من السأم والحزن العميق الذي يصيب مجتمعا بأسره، أو أهل حقبة معينة من الناس وخاصة المنتمين منهم إلى الطبقة البورجوازية، وهذا ما يعلل ظهور مجموعة قصائده النثرية (سأم باريس) التي يقول فيها مقترحا على الإنسان حلا قد يكون ناجعاً لألمه الروحي وبؤسه العظيم: "لابد للمرء من أن يكون  في سُكْر دائم. تلك هي الخلاصة: تلك هي القضية الوحيدة. فلكي لا تشعروا بعبء الزمن الفادح الذي يحطم كواهلكم ويحنيكم إلى التراب، لابد لكم من أن تسكروا بلا هوادة. ولكن بماذا؟ بالخمر أو بالشعر أو بالفضيلة، بحسب ما تهوون ولكن اسكروا." [62] إنه نوع من الهروب من عالم القبح إلى عالم الجمال الذي عبّر عنه في مواطن عديدة من قصائده سواء المنتمية إلى مجموعة (سأم باريس) أو إلى (أزهار الشر) أو إلى (الجنان الاصطناعية)، التي لا شيء فيها سوى تلك الواحة الوهمية التي يركن إليها الشاعر هرباً من صحراء ملله القاحلة. لا شيء سوى السراب والوهم، أو خدر السُكْر الذي سرعان ما ينقشع بمجرد لحظة صحو مهما كانت قصيرة أو عابرة، فهل هذا هو الحلُّ الذي يقدمه الشاعر أديب كمال الدّين للإنسان بهدف إنقاذه من داء الملل؟

دون الخروج عن الجهاز العنواني للنّص يُلاحظ أن الصيغة الاسمية للعنوان (ملل) تتجه مباشرة نحو تعيين مرجعية النّص ذاته وذلك من خلال إحالة القارئ بشكل مباشر على موضوع الرسالة التي يرمي النّص إيصالها وبالتالي اختزال الفرق التأسيسي بين دلالية اللغة الشعرية ومعنى الخطاب نفسه، لذا يمكن القول بأن العنوان الذي اختاره الشاعر أديب كمال الدّين له هنا ثلاث وظائف: الأولى تعيينيّة (Fonction de désignation) والثانية وصفية (Fonction descriptive) والثالثة دلالية ضمنية (Fonction sémantique et implicite). أما التعيينيّة فقد استخدمها الشاعر من أجل إعطاء اسم لقصيدته وتحديد هوية النّص. أما الوظيفة الوصفية فهي متصلة بالمعنى المعجمي لكلمة (ملل) وقد استخدمها الشاعر من بابها النفعي المحض بشكل سيجعل منها حقلاً لغوياً تستهدفه قراءات نقدية مختلفة ومتباينة فيما بينها، بين مُستحسِن للصيغة المختزلة للعنوان أو غير متقبِّل لها، وهذا ما خطط له الشاعر مع سبق الإصرار، إذ تجده قد لعب على وتر حريته كمُرسِل في أن يجعل من عنوانه هذا أمرا مختلطاً ومبهماً بشكل يجعل من القارئ والدارس معا فكرين مقيّدين دائما بفرضية الاحتمال في تأويل الدلالة الضمنية لعنوان (ملل) دون الجزم بأي شيء، إذ ما مِن أحد يمكنه القول بأنه وصل إلى مح بيضة الشاعر في هذا النّص كما في غيره من النّصوص القادمة، وعليه فإن كل قراءة تبقى قراءة افتراضية لا مجال للمطلقية فيها. هذا عن الوظيفتين التعيينية والوصفية للعنوان فماذا عن الوظيفة الدلالية الضمنية؟

عادة ما تأتي الوظيفة الدّلالية مصاحبة للوظيفة الوصفية وتحمل بعضاً من توجهات المبدع بشكل عام في نصه، وأديب كمال الدّين في أسلوب اختياره لعنوان قصيدته هذه اعتمد على الاختزالية والبساطة والزهد في استخدام الألفاظ والمصطلحات، فكانت النتيجة أن أصبح للنّص قدرة إيحائية وتلميحية منقطعة النظير[63]، إذ ما من قارئ يقرأ هذا العنوان المتكون من كلمة واحدة لا غير (ملل)، إلاّ وسيصل إلى ذهنه وبسرعة البرق بأن الشاعر هنا هو بصدد معالجة آفة الإنسان القديمة الجديدة الأزلية، فيتحقق بذلك هدف اختراق العمق الدلالي الداخلي لكلمة (ملل) نفسها كنعت لصيق بالصفة البشرية العقلانية للإنسان، وذلك لأن هذا الأخير يستوعب حتى الصميم قضية كونه مخلوقاً في حالة احتياج دائم، وهذا الاحتياج أو الحاجة الأبدية هي المسؤول الأول عن إحساسه الدائم بالألم. فالإنسان يَعرفُ أنه "يريد" وأنه "يحتاج" من أجل إرضاء كل رغباته، بل يَعرفُ أيضاً ألا حدّ لهذه الرغبات التي تتوالد باستمرار لا يُوقف. لذا فإنه لا يجد المتعة في أي شيء مادام إرضاء الرغبات نفسه يُولّد الألمَ، والألمُ يولّد المللَ، والمللُ في غياب القناعات الإيمانية غالبا ما يقودُ الإنسان  إلى الانتحار.

 

 

 

 

 

ـ    من العنوان إلى النّص: بين التواصل الآلي والتواصل التفاعلي

 

سبق وأن تمت الإشارة إلى أن قصيدة (ملل) مقسمة إلى خمسة أجزاء، لكن الذي لم تسبق الإشارة إليه هو أن كل جزء من هذه الأجزاء الخمسة يمكن تقسيمه إلى أجزاء أخرى وفقاً لمنهاج معين سيسمح بالتوقف بشكل أكثر تركيزا عند الجزء الأول من النّص، وذلك بغية تفكيكه والوصول إلى قراءة شفراته ووضع اليد على العلاقة الكامنة فيه بين الشاعر وبين ما يريد إيصاله إلى المتلقّي، ناهيك عن الرغبة في دراسة ما قد يكون من صلة بينه وبين نصوص أخرى تحتويها دواوين صدرت في فترات وأماكن مختلفة ومتباعدة، وذلك بهدف تأكيد ما قيل سابقا عن فكرة التجاور والجمع بين قصائد أديب كمال الدّين في معظم مجاميعه الشّعرية.

 

الجزء الأول من قصيدة (ملل):

(1)

مللتُ من النظرِ إلى الدببة

وهي تأكلُ بشراهة

من عطايا دبّها الكبير،

ومن القردة

وهي تتسلّقُ، كلّ يوم، الأشجار

لترمي الثمار

وتملأ الهواء صراخاً وزعيقاً.

مللتُ من الكلاب

وهي تتشمّمُ الجثث،

ومن الببغاوات

وهي تدهسُ الكلمات،

ومن الحمامة

وهي تتركنا، كلّ يوم، لنموت

وسط سفينة الحروف

بحثا ًعن نوح وطوفانه العظيم.

تكرار فعل (مللتُ) هو إشارة "تفصيلية" ترسل إلى الدارس نصاّ أو رسالة تفكيكية يمكن العمل عليها بالشكل التالي:

 

مللتُ من النظرِ إلى الدببة

وهي تأكلُ بشراهة

                                            من عطايا دبّها الكبير

 

ومن القردة

وهي تتسلّقُ، كلّ يوم، الأشجار

لترمي الثمار

وتملأ الهواء صراخاً وزعيقاً.

 

 

                                                مللتُ من الكلاب                            

وهي تتشمّمُ الجثث،

 

ومن الببغاوات

وهي تدهسُ الكلمات،

 

ومن الحمامة

وهي تتركنا، كلّ يوم، لنموت

وسط سفينة الحروف

بحثا ًعن نوح وطوفانه العظيم.

 

عبر هذا التقسيم لهذا الجزء من القصيدة يتضح ما يلي:

التدرُّجية في الإلقاء وفي إيصال الفكرة عبر مراحل وكأنها تخرج من أقماع ترشيحية تقطر منها رسائل الشاعر قطرة تلو الأخرى، وهذه المراحل يمكن تقسيمها إلى ما يلي:

مراحل خاصة بعنصري الفعل والحركة داخل الأبيات، وأخرى خاصة بالعنصر الطبيعي بمختلف مكوناته الحيوانية بشكل خاص.

عنصر الفعل والحركة: ويُقصد به كل الأفعال التي استخدمها الشاعر في هذا الجزء الصغير الكبير والتي يمكن تقسيمها بدورها إلى حقلين، الأول خاص فقط بفعل (ملّ) وبصيغته الماضية، والثاني خاص ببقية الأفعال.

الحقل الخاص بفعل (ملّ)

وقد تكرر بصيغة ظاهرة لمرتين (مللتُ) وبصيغة ضمنية مرتبطة بواو العطف ثلاث مرّات (انظر العبارات المخطوطة باللون الأسود الغامق).

كون الفعل قد ورد في صيغة الماضي مرتبطاً بتاء المتكلم فهذا يعني أن خطاب الشاعر يحمل رسالة موجَّهة، لها أكثر من شفرة، ولها أكثر من متلقٍّ. فصيغة الفعل الماضي هنا هي من النوع الدّال على الحاضر والمستقبل أيضاً، وذلك لتمام وكمال حالة "الملل" وسيطرتها على المتكلم بحكم هذا التكرار المستمرّ لذات الفعل على طول القصيدة وليس فقط في هذا الجزء الأول. أما عن تعدّد وحدة المُرسَل إليه، فيقصد بها أن رسالة الشاعر موجهة أولاً إلى نفسه، وثانياً إلى القارئ العادي، وثالثاً إلى متلقٍّ آخر هو الدارس والباحث الناقد. وكل هذه الصور يمكن تجسيدها كما يلي:

الباث        الرسالة           المتلقّي رقم 1

أنا            الرسالة           أنا

 

أما الدّال على هذا التمازج الحاصل بين الشاعر وذاته المتلقّية فإنه يوجد في الجملة الأخيرة من القصيدة كاملة:

"ومللتُ منّي: أنا الملولُ العظيم!"

أي أنّ الشاعر بعد أن استعرض كلّ المظاهر التي جلبت له داء الملل قفل دائرة الشكوى بتوجيه الخطاب إلى نفسه باعتباره العين الراصدة لكل ما يحيط به من آفات ومظاهر لا تبعث في النفس سوى التعب من الحياة والسأم منها. وهذه الطريقة في ختم القصيدة يسميها أهل المسرح ب "النهاية المفاجئة" أي (A plot twist)، إذ أنّ القارئ لا يتوقع أبداً من الشاعر بعد كل هذا الصّبر والنفس الطويل في سرد كل دواعي (الملل) أن يوجه الرصاصة إلى نفسه، ثم يضم نفسه إلى لائحة الأشياء الباعثة على الملل فيصبح هو أيضاً سبباً من أسباب السأم، وهذا ما يجعل الدارس يتساءل عن سبب هذا التحوّل المفاجئ وهذه الرصاصة غير المتوقعة. وهو أمر سيُلقى عليه الضوء في الأسطر القادمة من التحليل والتفكيك.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإنه تمكن الإشارة إلى تقنية إيصال الرسالة إلى المتلقّي الثاني وفقا للطريقة التالية:

 

 

 

 

الباث        الرسالة                    المتلقّي رقم 2

الشاعر      الرسالة                    القارئ

 

إنّ التفاعل المقصود هنا بين الشاعر والمتلقّي (رقم 2 ) هو تفاعل كامن وضمني، وهو قائم أساساً على عملية استحضار المتلقّي (المرسل إليه) من طرف الشاعر (الباث) لحظة كتابته القصيدة، وهذه العلاقة التفاعلية هنا هي من نوع الأنظمة التي تشتغل من ذاتها (systèmes autoréglès). أي أنّ الشاعر يُخبر المتلقّي من خلال نصّه فيُثير لديه مجموعة من ردود الأفعال التي تعمل على انبثاق معطيات جديدة تتوالد إلى ما لانهاية، ذلك لأنّ هذه الأخيرة كامنةٌ سواء داخل النّص أو خارجه. لكن حصر النّص في هذا النوع من التفاعل وحده يظل أمراً غير ذي وزن لأنه سيشلُّ عملية القراءة ويحصرها في مجرد تأويلات يمكن أن يعطيها القارئ إلى "آفة الملل" حسب وجهة نظره على ضوء ما يحمل من تقاليد فنية وقيم تاريخية وأخرى دينية وما إلى ذلك من الاعتقادات أيّاً كان نوعها. لذا وجب طرح السؤال التالي: هل من تفاعل متنوع ومتعاقب وممتد عبر التاريخ يسمح للقارئ ألا يكتفي فقط بتفاعل يضمن له الاستجابة البديهية للنّص ولمكوناته بل تعدّيها إلى خلق طاقة تفاعلية تُعطي للقصيدة من جهة قيمتـَها الفنية وتُبلوِرُ من جهة أخرى أجهزةً جديدة ترمي إلى تفسير الأبيات وتأويلها؟

هذا النوع من التفاعل لا يمكن تحقيقه إلا عبر القارئ الدارس أو الناقد كما توضحه المخطوطة التالية:

الباث        الرسالة                    المتلقّي رقم 3

الشاعر      الرسالة                    الناقد

هذا النوع من المتلقّي سوف لن يكتفي بهذا النّص فقط ولكنه سوف يسعى إلى دراسة التجربة الشعرية والأدبية للشاعر حتى يتقصّى معاني إشكالية (الملل) لدى أديب كمال الدّين، ويبحث عن أثرها في نصوص ودوواين أخرى علّها تُعطيه مفاتيحَ تُمكّنه من التقرب إلى الجوهر، أو على الأقل محاذاته، فمنْ يدري ربما يكتشفُ أنّ الشاعرَ قد ملّ حتى من القارئ أو من الدّارس والناقد نفسه، أليس هو من قال في الجزء الأخير من هذه القصيدة: " مللتُ منكَ أيّاً تكون/ وأينما تكون"!

هذا ما تمّ حصادُه بعد ضربات عديدة من معاول ومناجل التمحيص والتفكيك في حقل البنية الخاصة باستخدام الشاعر لفعل (ملّ) وتكراره على مرّ أجزاء القصيدة. ماذا الآن عن المجالات الخاصة بالأفعال الأخرى؟

 

الحقل الخاص بالأفعال الأخرى

سيتمّ التركيز على الأفعال الخاصة بحركة الدببة والقردة كمثال لتقنية استخدام الصورة الحيوانية في الكثير من نصوص أديب كمال الدّين:

ـ (تأكل):

" مللتُ من النظر إلى الدببة

وهي تأكل بشراهة

من عطايا دبّها الكبير"

قرن الشاعر فعل الأكل بالدببة وبصورة الشراهة. والمقطع الخاص بهذا الفعل على الرغم من قصره والاختزال الشديد لعباراته وتركيباته فهو يشكل لقطة أو صورة كاملة ومكتملة العناصر التي يمكن إدراج أهمها حسب ترتيب ظهورها في هذا المقطع كما يلي:

ـ الشاعر الملول

ـ الدببة الشرهة

ـ الدب الكبير

لكن قبل الاستمرار في تفكيك بنية هذه الصورة، هناك سؤال مهم لابدّ من طرحه:

ما للشاعر والدببة؟

على الرغم من أنّ تاريخ الأدب العربي حافل بالقصص والأشعار التي تمّ فيها استخدام تقنية الحكي على لسان الحيوانات وأسلوب استعارة الصورة الحيوانية بغرض تمرير العديد من الأفكار والخطابات ذات الطبيعة التاريخية أو السياسية بأقل الخسائر الممكنة، إلا أنه لم يتمّ الاعتناء كثيرا بصورة "الدب" في العديد من نصوص الشعراء والأدباء قدماءَ كانوا أو محدثين، ولربما هذا مردّه إلى ارتباط الصورة الرمزية لهذا الحيوان بالبيئة الغربية أكثر منه بالبيئة العربية، لذا فورود اسم "الدب" في هذا المقطع قد تكون له دلالة رمزية خاصة يمكن استكناه فحواها دون الابتعاد عن النّص وذلك عبر الاشتغال على صور المقطع ذاته ودراسة المسافات الفاصلة بين شخصياته:

الصورة رقم 3

كما يوضح هذا المثلث، الذي يبدو أنه مثلث سلطة سيتم الإفصاح عن طبيعتها في الأسطر القادمة، فإن الشاعر في الوسط يقوم بدور الشاهد الذي ملّ من "الدب" الرئيس ودببته النهمة التي لا همّ لها سوى انتظار عطاياه مقابل خدمتها وولائها ومبايعتها المتجددة له.

القراءات المتعددة لرمزية "الدب" في النّصوص الغربية وخاصة منها المرتبطة بالأساطير البريطانية والهولندية تؤكد بأن لهذا الحيوان أكثر من دلالة مرتبطة خاصة بالطبيعة الذئبية والظلماتية للنفس البشرية، لكن بالإضافة إلى معنى الذئبية، هناك دلالة أخرى لا يمكن التغاضي عنها ولربما هي الأكثر توافقاً مع ما ورد في هذا المقطع باعتبار علاقتها الوطيدة بمفهوم السلطة العسكرية التي غالبا ما تكون في صراع وتطاحن قاتل مع رجال علوم اللاهوت وفلاسفتهم وشعرائهم[64] وهذه الأطروحة تجد صداها في ديواني (جيم)[65] و(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)[66]، إذ تكفي قراءة قصيدة (مطر أسود.. مطر أحمر)[67]، كي يُصدم القارئ بهول ما ارتكبه "صاحب الجند"، أو "الدب الكبير" الذي كان يقود العديد من الجنود بما فيهم "الشيوخ"[68] والشعراء إلى الحرب ويدعوهم إلى القتل والنهب وسفك دماء الجيران "النائمين في العسل". فالصورة إذن هي صورة حرب، فيها الموت والدم والغنائم التي تصبح "عطايا" يوزعها "الدب الكبير" على "دببته الشرهة".

ويعود رمز (صاحب الجند) للظهورفي نص آخر هو (شعراء الحرب) الذين فرّوا إلى مشارق الأرض ومغاربها حين ألقى البحّارةُ أصحابُ العيونِ الزرق القبض على صاحب الجند هذا، حيث فرّ كبير شعراء الحرب إلى بلادِ الظلام وفرّ صغيرهم إلى بلادِ الضباب، والثالثُ إلى بلادِ الواق واق، والرابعُ إلى بلادِ الأسكيمو، والخامسُ إلى بلادِ الراياتِ السود، والسادسُ إلى بلادِ الراياتِ الصفر والسابعُ إلى بلادِ الفلافل، والثامنُ إلى بلادِ القلاقل، والتاسعُ إلى بلادِ العماليق والعاشرُ إلى بلادِ المنجنيق. وهكذا انتشرت جرثومةُ الحرب في أرضِ اللهِ كلها!"[69]

توضّحت الرؤيا الآن وخرج الشاعر هنا في مقطع (الدببة الشرهة وصاحبها الدب الكبير) بزي الرجل العسكري الذي ملّ من كل هذا الظلم والطغيان، ومن هذه الألوان المُغرقة في السريالية العجيبة داخل مثلث السلطة المجنون بكل تشكلاته وتمظهراته سواء تلك التي لها علاقة بالرغبة الذئبية النارية الدموية أو تلك التي تدور في فلك القوة البطشية الحديدية، ولا أدلّ على ذلك ما ورد في نص الشاعر الجديد الموسوم (مثلثات) والذي يقول فيه مشيرا إلى داء السأم والملل مرّة أخرى:

"على مائدةِ الخوف

أرى مثلثَ السُلْطة:

رأسه إلى الأعلى،

ومثلثَ الرغبة:

رأسه إلى الأسفل،

ومثلثَ القوّة:

رأسه إلى اليمين،

ومثلثَ العبثِ والسأم:

رأسه إلى اليسار."[70]

 

ـ ( تتسلق/ ترمي/ تملأ)

 

"ومن القردة

وهي تتسلّق، كلّ يوم، الأشجار

لترمي الثمار

وتملأ الهواء صراخاً وزعيقاً"

في فعل التسلق إذن نوع من الوصولية ومن الطموح التملّقي الخبيث، وفي ربط هذا الفعل ب"القردة"، محاولة للمزاوجة بين صورة القرد وبين الصورة الباطنة للظل القاتم الساكن في اللاوعي البشري، هذا الظل الذي يتحرك وسط ظلمة النفس متحرراً من كل قيد وسلطة روحية وعقلية، ولا أدلّ على ذلك من "القردة" التي باعت نفسها بأبخس الأثمان في سوق السلطة حينما ظنّت بأن في قربها من "الملك" وحصولها على هداياه، قرب من المجد والجاه، دون أن تدري بأن الانسلاخ عن الأصل، أو عن الصّحراء كرمز لصفاء النفس هو انعدام أصل وتسلّق لا شيء فيه سوى فقدان دم الوجه ومجلبة للمهانة والعار: "ساخرةً/ من قردِ الملكِ الذي يشعر،/ وقتئذٍ،/ بالخزي من نفسه".

أما عن فعلي "ترمي" و"تملأ" ففيهما إشارة للمظاهر البدائية غير المتحضرة لمساحة اللاشعور الخاص بالأفراد الذين اختاروا لأنفسهم الصورة الظلية القردية، لذا تجدهم ممن يغلب عليهم طابع الدهاء المصحوب بالانفعالية غير الخاضعة لرقابة الوعي والشعور، وطابع العنف الشهواني.

كما ترى فكلّ الصور الخاصة بالمقطع الأول من قصيدة "ملل" بدءاً من صورة الدببة والقردة وصولاً إلى صورة الكلاب والببغاوات، ما هي إلا صور خاصة بنوع معين من الأشخاص الذين يدورون في فلك أهل السلطة والسياسة بكل هياكلها وأجهزتها الرسمية وغير الرسمية، قدمها الشاعر بشكل رمزي جديد مستفيداً في هذا من خبرة من سبقه من أدباء العرب والهند وفارس في مجال استخدام الحيوان كرمز أدبي من أجل تسليط الضوء على بعض من الآفات التي تنخر جسد المجتمع البشري بدون هوادة ولا رأفة أو رحمة.

ولربما هذا هو السبب الذي يجعل من أديب كمال الدّين في استخدامه للرمز الحيواني (ليس في نص "ملل" أو "قرد الصحراء" فقط وإنما في نصوص كثيرة أخرى) يبدو وكأنه يحدد مسبقا قرّاءه دون أن ينسى أن يقيّدهم بمستويات معينة من القراءة التأويلية بشكل يجعلهم يتوزعون بين رتب مختلفة وفئات معينة يمكن حصرها فيما يلي:

ـ الفئة التي تبحث عن النادرة والمستملحات في سلوكيات وحيل الحيوانات التي وظّفها أديب كمال الدّين كصورة رمزية في العديد من قصائده كما هو الحال بالنسبة لصورة القردة والدببة والكلاب.

ـ الفئة الثانية وهي الخاصّة ببعض من القرّاء المثقفين وبعض من أهل السلطة والحكم التي تبحث في نصوص الشّاعر عن أشكال جديدة من التعبير الشعري المعاصر بغرض التنزه في الصور التخيلية للحيوانات غير معتنية بالفكرة العامة للنّص الشعري ذاته.

ـ والفئة الثالثة والأخيرة وهي الخاصة بالنقاد والفلاسفة والحكماء وبعض من رجال السلطة ممن عُرفوا بالعلم والثقافة والفكر، وممن أثارتهم تجربة أديب كمال الدّين الشعرية ففضّلوا قراءة رموزها وفكّ شفراتها بمفاتيح الحكمة والتصوف والفلسفة والعرفان.

 

          ـ الألم ومعارجه

 

نص "خسارات"[71] يعدّ من أكثر القصائد التي لخّص فيها أديب كمال الدّين حكايته وتاريخه مع الألم. إذ تكفي عملية مقارنة بسيطة بينه وبين باقي نصوص المجاميع الشعرية كي يمكن القول بأن هذا النّص بالذات لا يحتاج لا إلى فكّ شفرات ولا إلى قراءات تأويلية أو تخمينية، لأنه واضح وضوح الشمس في عمق النهار، فصاحب الخسارات بامتياز، هو الشاعر نفسه، أما عن إشارات الخسارات فيه، فهي حقيقية ولها صلة وثيقة بما عاشه الشاعر في فترات مختلفة من حياته، وهي طبعاً كلّها أحداث قد تركت من الألم في قلبه ما يفوق كل تصور، لكن السؤال الذي يحاول أن يجد لنفسه مشروعية الوقوف بين أحرف كل بيت من هذا النّص فهو كالتالي: ما الدافع الكامن وراء تطرّق الشاعر إلى مظاهر شتى من معاناته الشخصية داخل العديد من نصوصه بشكل جعلها تبدو وكأنها نوع من كتابات السيرة الذاتية؟

لاشكّ أن في هذا النوع من الإخبار والتوثيق لمختلف مراحل الألم والعذاب في حياة الشاعر، بدءاً من ألم اليتم عند الطفولة، وسطوة جثمان شبح الخوف والقمع والموت على عين الروح في فترة حالكة من تاريخ العراق السياسي والعسكري، وصولاً إلى عذابات "المنافى" وما سبقها ولحقها من أحداث مغرقة في السريالية، رسالةٌ ملحّة أراد ولم يزل الشاعر يريد إيصالها إلى المتلقّي، لدرجة جعلت منه صورةً وحضوراً أشبه بصوت النبي داخل حكايات الألم والعذاب التي لا تخلو منها صفحة من كتاب مقدس قرآناً كان أو إنجيلاً أو توراةً أو زبوراً. ولعلّ هذا الشبه هو ما يجعل كل دواوين الشاعر كتاباً كبيراً يصوّر مختلف مظاهر الألم البشري وخاصّة منه المعنوي والروحي. لذا تجد في معظم قصائد هذا الكتاب وصفاً وتأريخاً لهذا الألمِ المُرتبط بمفهوم بل بمُعضلة الشرّ[72]، إذ كلّ ماهو شرّ لابد تكونُ نتيجتُه الآلية الألم والعذاب والمعاناة الروحية الشديدة التي لا شك تنعكس بعد ذلك على الجسد البشري: فتفشي العديد من الآفات وخاصة منها خيانة الأصدقاء التي يبدو أنها من أكثر الآلام التي تركت في قلب الشاعر ندوباً وشروخاً عميقة، ونكران الأحبّة والأهل الجميل، وانتشار سلوكيات مرضية غريبة بين الناس الذين أصبحوا لا يجدون لأنفسهم متعة ولا رضا، إلا في تعذيب وتحقير بعضهم بعضا، كلّ هذا لابدّ أن يقود إلى سؤال فلسفي كبير ربما تصعب الإجابة عليه: لماذا الألم وما سرّ هذه العلاقة التوأمية بينه وبين الشرّ؟

في نص "خسارات"، مفتاح ربّما يقرب القارئ من الجواب عن هذا السؤال، وهو مفتاح له علاقة وطيدة بالألم العيسوي (فارتبكتُ لأنني لم أهيىءْ نفْسي لدور الفادي/ ولم أكنْ أتصوّر أنّ دورَ يهوذا/ سَيُعاد عرضه في كلِّ مكانٍ بنجاحٍ ساحق)، ولكن قبل التوقف عند هذا المفتاح تجب محاولة تفكيك النّص بمختلف صوره الشكلية والمعنوية:

يقول أديب كمال الدّين في الجزء الأول من نصّه (خسارات):

"خساراتي لم تعدْ تُحْـتَمل

فأنا أخرجُ من خسارةٍ لأقع في أخرى.

فأنا – على سبيلِ المثال – متّ،

متُّ منذ زمن طويل

وشبعتُ موتاً.

وحين قررتُ أن أقوم من موتي

لابساً الأخضرَ بدل الأسود

وراكباً الغيمة بدل الدراجة الهوائية،

صدمتُ بفسادِ الغيمة

وتمزّقِ ثيابها الداخلية."

يمكن تقسيم هذا المقطع إلى ثلاث مراحل: مرحلة ما قبل الوعي، مرحلة الوعي، ومرحلة ما بعد الوعي بالواقع الحاضر.

مرحلة ما قبل الوعي

وهي مرحلة عُرفت بالموت والجمود (متُّ منذ زمن طويل/ وشبعتُ موتاً) وبطغيان اللون الأسود، وبقضاء الشاعر فترة ليست باليسيرة وهو يركب دراجة السعي الحثيث في الحياة معتمداً على مجهوده الشخصي وقدراته الذاتية وتحمّله لوحده أعباء العيش اليومي بصبر أيّوبي عجيب.

مرحلة الوعي

وهي التي تنبّه فيها الشاعر إلى أن دراجته الهوائية ليست بالوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تقوده إلى برّ النجاة فقرر أن يركب بدلها الغيمة علّها تحمله ببركتها الغيثية إلى حيث مملكة وعرش الماء، وتحقيق أمنية تحوّل الموت إلى حياة والسواد إلى خضرة.

ومرحلة ما بعد الوعي بالواقع الحاضر

الخروج من مرحلة الحلم والرجاء والتمنّي إلى مرحلة الاصطدام بالواقع كما هو بما فيه من مرارة "فساد الغيمة وتمزّق ثيابها" وهذه هي أولى الخسارات التي سردها الشاعر على سبيل المثال لا الحصر وسلّط الضوء عليها بشكل تجعل القارئ يتساءل عن كيف يمكن للغيمة أن تنعت بالفساد والتمزّق، بالرغم من أن كل القواميس العربية تشير إلى الرمزية الإيجابية للغيمة لارتباطها بالسحاب وارتباط السحاب بالمطر وارتباط هذا الأخير بالغيث الإلهي، فهل يعقل أن يكون الغيث الإلهي فاسداً؟

للجواب عن هذا السؤال لابدّ من التوقف عند طبيعة وماهية هذه الغيمة بالذات، والقول بأنّ في مصطلح الغيمة نفسه حركة وسير بل طيران وهذه الحركة تـُذكّر بحركة أخرى ارتبطت بمفهوم الدّراجة الهوائية التي ذُكرت في المرحلة الأولى، وهذا يعني أن هناك مستويان من الحركة: الأول مقترن بحركة الدّوس، والثاني بحركة الطيران، وفي كلّ هذا تعبير عن الرغبة في التغيير والقيام من الموت والتحول من المشي والدوس إلى الطيران، هذا الأخير الذي يجد له صدى في قصيدة أخرى شديدة الارتباط والتجاور بهذا المقطع من قصيدة "خسارات" ويُقصد بها قصيدة "أعماق" التي يقول فيها الشاعر:

"في أعماقي

طائرٌ أبيض

يسقطُ مذبوحاً في أعماقِ المسرح.

وفي أعماقِ المسرح

صراخٌ وأنين وثيابٌ ممزَّقة

وفي أعماقِ الثيابِ الممزَّقةِ حلم

وفي أعماقِ الحلمِ نهر

وفي أعماقِ النهرِ صَبيّ

وفي أعماقِ الصَبيّ قلب

وفي أعماقِ القلبِ قصيدة

وفي أعماقِ القصيدةِ حرف

وفي أعماقِ الحرفِ نقطة

وفي أعماقِ النقطةِ متصوّف

وفي أعماقِ المتصوّفِ إله،

إله ينظرُ إلى طائري المذبوح بعينين دامعتين."[73]

الغيمة إذن هي الطائر الأبيض المذبوح في أعماق الشاعر، ولذا قال عنها أن ثيابها ممزقة (صدمتُ بفسادِ الغيمة/ وتمزّقِ ثيابها الداخلية (نص خسارات) // وفي أعماق الثياب الممزقة حلم (نص أعماق)).

إذن فالشاعر صُدِمَ حينما اكتشف أن غيمته قد أُصُيبت بداء الفساد من كثرة ما نالها من المصائب، بل أن طائره الأبيض مذبوح داخل قلبه المتصوّف الذي ينظر إليه الإله بعين باكية، إذ كلّ ألم يصيب أحبّة الله هو ألم يلحق بروح الله المُحبّة الرؤوفة بعبادها باعتبار أن الله يكره لهم الظلم بكل أشكاله وصوره، أليس هو القائل عز وعلا في حديثه القدسي: " من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"؟

يكمل أديب كمال الدّين سرد خسائره ويقول:

"خساراتي لم تعدْ تُحْـتَمل.

دخلتُ في النارِ واحترقتُ كما ينبغي.

وحين قمتُ من رمادي

وجمعتُ رمادي

وذرّيته في دمي كي لا أموت من جديد،

صدمتُ حين عرفت

أنّ مَنْ ألقاني في النار:

أصدقائي الذين أعطيتهم نورَ الأخضر

وأحبّتي الذين منحتُهم شمسَ الغيمة"

ها هو الشاعر يخرج من خسارة الطائر أو الحلم الجريح المسفوح دمه على مسرح الحياة كي يدخل دوّامة خسارة أخرى أشدّ إيلاماً، وهي صدمته الكبرى في كلّ من منحهم شمس قلبه ومحبته تحت مظلّة الصداقة، فما كان جزاؤه على صنيعه مع الأصدقاء سوى خيانة هؤلاء له وطعنهم إياه في العلن والخفاء[74].

ويبدو أن هذه الخيانات المتكررة كان لها وقع شديد على قلب الشاعر بشكل يفوق كلّ احتمال لدرجة أن الصّورة نفسها تكررت بأشكال مختلفة في قصائد متنوعة كما هو واضح في هذا المقطع من قصيدة "الموكّل بفضاء الله"[75]:

"ما أجملكَ، إذن،

وأنتَ في طائرةِ الزمن

تتسامى بلطفِكَ النبويّ

وابتسامتكَ الإلهيّة،

تنظرُ إلى أعدائكَ السفهاء

بعيني المسيح الدامعتين

لتعبر المحيط

متماهياً مع زرقةِ الماءِ والسماء

ومع الغيم الذي يُسبّح

من خلالِ نبضك

بسمِ الله."

إذن فالأصدقاء بعد وقائع الخيانة المتكررة يتحوّلون إلى أعداء أو أعدقاء[76]، أما طائرة الزمن فهي هذه الحياة التي يركبها البشر، وهي أيضاً كوكب الأرض، وهي قلب الإنسان، وهذه أيضاً ليست المرّة الأولى التي يستخدم فيها الشاعر هذه الصورة للإشارة إلى مفهوم الحياة وكأنها رحلة سفر، وقصيدته (حوار)[77] تشهد بهذا، وفيها يقول:

" حين طرقتُ بوابةَ مقصورةِ الطيّار

قالَ الطيّارُ بهدوء:

ماذا تريد؟

هذه رحلةٌ مليئةٌ بالمحاذير

وستستمرُ دونما توقّف.

ولكنْ كيفَ دخلتَ هنا؟

قلتُ بصوتٍ مرتبكٍ: بالصدفة!"

لماذا الطائرة إذن وليس وسيلة أخرى من وسائل النقل المعروفة؟ ربما لأن فيها إشارة لمفهوم الصعود والتسامي، فثمّة من يركب طائرة الحياة حقاً، لكنها تبقى في مطارها الأرضي تدور وتدور على غير هدى، وثمّة من تقلع طائرته ولكنها تبقى معلّقة في السماء الدنيا، سماء الغازات والأبخرة، وثمّة من تقلع طائرته وتطير رويداً رويداً، وتتجاوز معارج السماء، وكأنه في رحلة إسرائية محمّدية على ظهر براق ليلي، يخترق السماء ويصعد به نحو أعلى درجات الجمال والبهاء. وهذا شأن من "يتسامى بلطفه النبوي" و بدمعه اليسوعي تاركاً الأعداء غارقين في طين أحقادهم وشرّهم.

في قصيدة (حوار) ذاتها هناك عبارة قال فيها الشاعر:

" هذه رحلةٌ مليئةٌ بالمحاذير" فما تراه يقصد بهذه المحاذير، هل هي هذا الشرّ البشري الذي سبّب له من الألم أقساه أم ماذا؟

الجواب يوجد في كلّ النّصوص الثلاثة التي تجاورت فيما بينها وتلاحمت من أجل الحكي عن رحلة أديب كمال الدّين السريالية مع الألم والعذاب ويقصد بالنّصوص: ("خسارات" و"الموكل بفضاء الله" و"حوار"):

 

 

 

 

الصورة رقم 4

          لاشكّ وأنّك لاحظت كم هي عجيبة ظاهرة التجاور الأدبي والشعري هذه في العديد من نصوص أديب كمال الدّين، وكأن الشاعر يريد أن يقدّم لك مفاتيح القراءة من النّص نفسه دون أن يكلفك عناء البحث عنها يميناً أو شمالاً، فيحقق بذلك التواصل التفاعلي البنّاء بينك وبينه وتعثر في نهاية المطاف على مفاتيح أخرى تخصّك أنت وحدك، كي تقرأ نفسك بنفسك، مادامت ماهية الألم البشري واحدة وإن اختلفت ملامحها أو مظاهرها الشكلية.

أمّا وقد تمّ تعميق ظاهرة التجاور في أكثر من مقام، تصعد الآن نقاط وقضايا لا تقلّ أهمية عن سابقاتها، ويُقصد بها تلك المتعلقة بالبنية الدرامية لكلّ هذه النّصوص المخصصة لإشكالية الألم، والتي هي قصائد غنيّة بل صاخبة بحركيتها التفاعلية المزدوجة بين الشاعر وواقعه المثخن جسده بطعنات الأحداث والصراعات والتناقضات، الشيء الذي أعطاها قيمة أكثر ثراء وقوة من خلال تقنية درامية اشتجرت فيها الذاتية، وتعقّدت فيها الأصوات، وارتبكت فيها الرؤى، والتبس فيها الشعر بالصراع والتطاحن الشرّي للإنسان وبالصّراعات اليوميّة الكونيّة بشكل عام، والتي لولا الرّحمة التي تفضل بها الله على الشاعر وأكرمه من خلالها بالسمو، لما كان هناك أمل ولا نور يضيء عتمة الألم في هذه النّصوص.

يبدو أن السؤال عن ماهية الألم هو في الحقيقة سؤال لا يقترن بالألم فحسب، ولكنه يحاول تحديد محتواه وطبيعته البشرية، لكن الجميل في هذا السؤال هو أن الإنسان غالباً ما لا يبحث عن الجواب لدى إنسان مثله، (بالرغم من أن معظم الألم البشري سببه البشر نفسه، أو ما يرتكبه هذا الأخير من شرّ في العالم)، ولكن عند اللّه باعتباره خالقه وخالق العالم والبشر المحيط به، لكن الذي يحدث هو أن الناس غالباً لا يصلون إلى هدفهم عبر طريق واحدة أو أسلوب واحد، فثمّة من ينتهي به الأمر إلى مخاصمة الله، وثمّة مَن يصل إلى درجة التجرّؤ على نكران الله، وإذا كان في الوجود والكون إشارة على وجود الله، فإن في الألم والشرّ غشاوة تغطّي أحياناً صورة الله وتحجبها عن الإنسان الغارق في ألمه وعذابه. أما عن أكبر الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها الإنسان، هو الاعتقاد بأن الألم هو فقط نوع من العقاب الإلهي، يكفي فقط التذكير بقصة سيدنا أيّوب (ع)، الذي نالته آلام لا تُعدّ ولا تُحصى بدون ذنب مسبق، ولكن أصحابه كانوا يحاولون أن يقنعوه بأنّ كلّ ما حلّ به هو لاشك عقاب إلهي لإثم كبير ربما قد يكون قد ارتكبه دون أن يعلم هؤلاء الأصحاب بأنهم بشكل أو بآخر كانوا يحاولون الدفاع أمام أنفسهم عن معنى الألم التأديبي، ظنا منهم بأنه لا سبيل إلى فهم معنى الألم إلا عبر اعتباره عقابا ، وذلك في نطاق عدالة الله الذي يجازي الخير بالخير والشر بالشرّ.

لكن إذا كان هذا هو أمر أيّوب فما بال عيسى (ع) الذي خانه أعز تلامذته، وما بال سيدنا محمد (ص) الذي عرف من الألم والحزن ما لا يستطيع قلب بشر على تحمّله أثناء تبشيره بدعوته السمحاء ؟

نبي الله عيسى صورة محببة لدى العديد من الشعراء، يلجأون إليها كلّما أرادوا التعبير الرمزي أو الصريح عن آلامهم، وقصائد أديب كمال الدّين لم تخلُ هي الأخرى من هذه الصور فهو قد سبق وقال في نص "الموكل بفضاء الله" دائما:

" تنظرُ إلى أعدائكَ السفهاء

بعيني المسيح الدامعتين

لتعبر المحيط

متماهياً مع زرقةِ الماءِ والسماء

ومع الغيم الذي يُسبّح

من خلالِ نبضك

بسمِ الله."

هذا المقطع من القصيدة مُربك جداً، لأنه يرمي بالناقد في شراك أسئلة عديدة ترغب في معرفة السبب الذي دفع بالشاعر إلى استخدام عبارة "أعدائك السفهاء" في موقف عيسوي تصاعدي لدرجة أن الأمر بدا وكأن فيه تناقضاً مع الروح المعراجية ذاتها، لكن الشاعر يسعف القارئ بالجواب في نص (خسارات)[78] نفسه ويقول:

"فارتبكتُ لأنني لم أهيىءْ نفْسي لدورِ الفادي

ولم أكن أتصوّر أنّ دورَ يهوذا

سَيُعاد عرضه في كلِّ مكانٍ بنجاحٍ ساحق"

ماذا يعني هذا؟ ماذا يعني أن الشاعر الواقف لم يكن مهيأ لدور الفادي؟ وماذا يعني أن دور يهوذا سَيُعاد عرضه في كلِّ مكانٍ بنجاحٍ ساحق؟

لا يمكن الجواب عن هذا السؤال إلا عبر قراءة ومقارنة تحقيقية بين كلتي التجربتين، تجربة عيسى (ع) وتجربة الشّاعر أديب كمال الدّين:

 

صورة يهوذا في التجربة العيسوية

          كل الكتابات اللاهوتية مسيحية كانت أم لا، تحدثت عن يهوذا وصوّرت كيف أنه كان من أكثر التلاميذ قربا إلى قلب يسوع، فقد اختاره هذا الأخير بعناية فائقة وأعطاه من نور شمسه أوهجه، وعلّمه كيف يتحدث بكلمة الله وينشرها بين الناس، بل كيف يشفي المرضى بإذن الله، كلّ هذا يعني أنه بين عيسى ويهوذا كانت قد توطدت علاقة صداقة حميمة مبنية على الثقة والمحبّة والإخلاص لدرجة أن عيسى عيّن يهوذا أميناً على صندوق مال كلّ التلاميذ، والقديس أغوسطينوس (13 نوفمبر 354 - 28 أغسطس 430)، يحكي بأن عيسى لم يتوانَ مرّة عن الاعتناء بصديقه ، فقد أنقذه من الموت أكثر من مرّة، وشفى أباه من الشلل وأمه من الجذام وجعل منه أقرب المقربين بعد بطرس.

لكنْ لمَ بعد كل هذا يخون يهوذا السيّدَ المسيحَ؟ وهل حقا خانه؟ أم أنّه ثمة معنى آخر لكل هذه الواقعة الأبدية الأثر في النفس البشرية الجمعاء؟

وهل كان اليهود حقّاً في حاجة إلى يهوذا الإسخريوطي كي يسلّمهم السيد المسيح بالرغم من أنهم كانوا يعرفونه جيداً ويستطيعون القبض عليه في أي وقت دون الحاجة لا إلى يهوذا و لا إلى غيره (لَقَدْ كُنتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَومٍ فِي سَاحَةِ الهَيكَلِ، وَلَمْ تُمسِكُونِي)؟[79]

ما تحكيه النّصوص الإنجيلية أن عيسى كان على علم بما سيحدث له: "أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي سَبَقَ الرُّوحُ الْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ عَنْ يَهُوذَا الَّذِي صَارَ دَلِيلًا لِلَّذِينَ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ، إِذْ كَانَ مَعْدُودًا بَيْنَنَا وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ فِي هذِهِ الْخِدْمَةِ"[80]، كما أن المسيح لم يُسَلَّم إلا في الوقت الذي حَدَّدَهُ هو بنفسه: "فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَدًا عَلَيْهِ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ"[81]

الخيانة شرّ لا يوازيه شرّ، وهي إن تمت على يد أقرب تلميذ لعيسى فهذا يعني أن وراءها مُدبّر هو القيّوم على الشر كلّه: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً)[82]، إنه إبليس الذي قاد يهوذا إلى الخيانة وبعد ذلك إلى الانتحار، وإبليس قبل كل هذا وذاك دخل إلى قلب يهوذا عبر باب المال وذلك كي يتسنّى له تنفيذ مخططه الأبدي الذي أراد له أن يستقر في الكون بأسره حتى يتمكن مما يلي من النتائج:

ـ تبرير قضية طرده من الجنّة أمام أهل النار بكل درجاتها وطوابقها وأمام أهل الملأ الأعلى بكل ملائكتهم ورسلهم.

ـ محاولة إدخال الشك حتى في قلوب مَنْ نجا مِن وساوسه مِن أهل الله ومخلصي عرشه المقربين باعتبار أن الله (حسب اعتقاده هو)، لم تكن لديه القدرة حتى على إنقاذ لا عيسى ولا يهوذا من بين مخالب شرّه، فتركهم لمصيرهما الأليم دون أيّ ردة فعل تذكر.

ـ وقبل كل هذا فإن خطابه هذا عبر هذه الجريمة الشنعاء موجّه بالأساس للبشرية جمعاء، وكأنه يريد أن يقول بأنه سوف لن يكفّ عن تحطيم كل ذرة إيمان بالله عبر الألم وعبر الشرّ الذي لن يكف عن زرعه في كل بقعة من بقاع العالم. لذا فعلى كلّ إنسان ألا ينسى بأن إبليس يعرف جيدا جميع الكتابات المقدسة ويعرف الكثير عن الملكوت الأعلى ويعلم أيضاً بأن الأجيال البشرية سوف لا تنفكّ ترجع إلى ماضي الأجداد وكتبهم كي تبحث فيها عن مفاتيح تعينها على مواجهة الحياة وفهم أمور دينهم ودنياهم، وهو يعلم أيضاً أنها ستجد في هذه الكتب قصص الأولين من الأنبياء وقصة الألم الأكبر الذي مني به عيسى وقصة يهوذا، ويعلم أن كل هذا سيخلّف لدى هذه الأجيال السؤال الوجودي الكبير: "لماذا سمح الله بكل هذا الألم ولم يفعل شيئا؟" ومن هنا تبدأ من جديد مهمته التي لم تنتهِ فصولها بعد حتى لحظة كتابة هذه الأسطر. إذ في السؤال عن سبب الألم ثمة مَن ستزّل قدمه فيهوى وثمّة مَن سيرتفع قلبه ويسمو فينجو.

لكن مهلا، ماذا لو يتم التفكير في خيانة يهوذا من وجهة نظر أخرى، ماذا لو تـَرفع عنه قبّعة التجريم وتـُلبسه رداء حرية الاختيار والإرادة باعتبار أنّه إذا كان الله قد سمح بكل هذا الألم فلاشك لحكمة ما، لا يستطيع كل الناس قراءتها بين سطور قصص من مضى من الأنبياء والرسل، وباعتبار أن إبليس نفسه ماهو إلا خادم أمين لربّ العزة والملكوت نفسه، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[83]

إن من يُفكّر في الأمر مليّاً يجد أن قضية عيسى ويهوذا هي ليست قضية لاهوتية فحسب بل هي قضية سياسية بالأساس، فلربما كان يهوذا يريد أن يبقى وفيّاً للحكومة الرومانية ولمجلس الهيئة القضائية العليا المهتمة بالتحقيق في قضايا أمن الدولة والقضايا السياسية والجنائية، لذا تجده قد اختار أن يسلّم لهم عيسى الذي كان بالنسبة للجميع آنذاك "معارضاً" للنظام السائد. إذن فالذي قام به يهوذا هو نابع من حرية إرادة وتفكير وتدبير، ولولاه لربما لم تكن لتقوم الديانة الكاثوليكية برمّتها، ولولاه لم تكن كنيسة ولا دولة فاتيكان ولا أيّ شيء مما تلا حادثة "الخيانة" هذه، إذ على ضوء نتائجها أصبح بالإمكان القول بأنها كواقعة (وإن كان في ظاهرها ألم كبير) باطنها لم يكن حابلاً سوى بالخير، مثلها مثل العديد من الوقائع التي حدثت فكانت بتبعاتها ولم تزل المحرّك الأساس لتاريخ البشرية كلها، وكتب الأدب والفلسفة على مرّ الأزمان شهدت بهذا فخلدت لأسماء ساهمت عبر مبدأ حرية اختيار تقرير المصير الفردي في تغيير مصير شعوب بأكملها، تكفي على سبيل المثال لا الحصر إلقاء نظرة على كتب تاريخ النبوة بدءاً من سيدنا آدم (ع) إلى سيدنا محمد (ص)، وعلى كتب الأدب العالمي كي تجد أسماء عديدة لشخصيات روايات ونصوص أدبية أصبحت "مخلّدة" لارتباطها بمفهوم تغيير التاريخ الجمعي عبر تغيير التاريخ الفردي.

صورة يهوذا في تجربة الشّاعر أديب كمال الدّين

          يبدو أن أديب كمال الدّين على علم مسبق بنظرية الخير الكامن في الشرّ الظاهر، إذ أنّه على الرغم من كلّ الألم الذي سبّبه له الأصدقاء وغيرهم من "الحروف" التي صادفها خلال مشوار حياته، إلا أنّه سعيد بألمه هذا، سعيد بدمعه ومستأنس بحزنه الوجودي. كيف ذلك؟ هذا المقطع هو الشاهد، ويقول فيه:

"إلى أصدقائي المنافقين

"أيّها الأعزاء

شكراً لأنّكم قدتموني بكراهيتكم المرّة

إلى نهرِ الحبِّ العذب

حتّى وصلتُ إلى عمقه الخطير

وأخرجتُ جواهر كلامه جوهرةً فأخرى."[84]

المقطع هو الثاني من تسعة مقاطع لنص كامل يحمل عنوان "برقيات سعيدة جدا"، وهو كما ترى عنوان يحتاج إلى وقفة قصيرة، علّ هذا يساعد على استكناه سبب سعادة الشاعر بكل آلامه وأحزانه:

العنوان يتكون من ثلاث حقول لغوية:

برقيات

جمع "برقية" وهي تنحدر من الجذر الأصلي لكلمة "برق"، وفيها إشارة لسرعة الإرسال وبالتالي الاستلام، ولمفهوم تسليط الضوء على حقيقة قد يكون فيها أيضاً نوع من الصعق والفجائية للرائي أو لمستلم البرقية.

سعيدة

وفيها تلميح لسعادة المرسل بمجرد تحققه من وصول فحوى الرسالة إلى أصحابها كل على حدة وباسمه.

جدّا

للمبالغة والتأكيد المبطن بنوع من السخرية وخاصة مِمّن قد لا يجد في فحوى الرسالة أيّ سعادة تُذكر اللهم نبرة مريرة من التهكّم كما هو الحال في مقطع "إلى أصدقائي المنافقين" الذي يمكن اعتباره مركز النّص بكامل مقاطعه التسعة باعتباره يحوي لبّ قضية الألم التي تبدو في ظاهرها شرّا، لكنّها في الباطن تحمل جوهرة السعادة التي عثر عليها الشاعر بعد مسار طويل وشاق من التجارب والدروس الحياتية، الشيء الذي يعني أن كل فعل يتحقق داخل حياة الإنسان يمكن النظر إليه من منظورين، إذ كل انقباض يحمل في طياته انبساطاً، ذلك أن الله عز وعلا يعلن عن نفسه من خلال صفاته المختلفة التي قد تبدو من المنظور البشري أنها متناقضة، لأن الإنسان غالباً ماينظر إلى الوقائع من الخارج فلا يأخذ منها سوى بالظاهر ونادراً ما يفكّر في القوة الكامنة التي تحركها، فهو بهذا ينظر إلى الغبار لا إلى الريح، وإلى الزبد لا إلى عمق البحر.

مقطع "إلى أصدقائي المنافقين":

في العنوان تناقض ظاهر لكنّه مدروس ومقصود، إذ كيف يمكن أن تعطى صفة "الصداقة" التي تنحدر من الصدق لمن يتسّم بالنفاق الذي هو خداع وكذب، فالإنسان إما صديق صادق وإما لا. إذن فكلمة "المنافقين" جرّدت كلمة "أصدقائي" من معناها الحقيقي ويصبح بذلك في هذا المقطع أكثر من برقية: برقية في العنوان نفسه وبرقية في نص المقطع. وعليه تجوز قراءة العنوان على مستويين: مستوى ظاهر وآخر كامن وفيه إشارة إلى عبارات سبق للشاعر استخدامها في نصوص تمّ تحليلها سابقا ويقصد بها عبارة "أعدقاء" و"أعدائك السفهاء" (انظر الصورة رقم 4).

بعد هذا يتجاوز الشاعر عتبة العنوان ويمعن في الكشف عن كذب الأصدقاء ونفاقهم لدرجة أنه يلقّبهم ب "الأعزاء" ويقدم لهم الشكر رغبة منه في السخرية المريرة من موقف "خيانتهم" "وكراهيتهم المُرّة". ومسألة الكشف هنا لها علاقة وطيدة بنص آخر تحدث فيه الشاعر بإسهاب عن آفة "الكذب" و"النفاق" كظاهرة لا تفارق الجنس البشري، ويقصد بهذا النّص قصيدة (وصايا) التي يقول الشاعر في مقطع منها:

" تذكّرْ،

أيّها الحرف،

تلك الحروف التي التقيتَها

في السيركِ أو الحلَبة،

في الجوقةِ أو الحديقة

أو على الصراط.

تذكّرْ وجعَها الأليم ومباهجها الزائلة.

تذكّرْ كيفَ كشفتَ بسرِّ العارفين

ولوعةِ المُحبّين

دموعَها،

ندمَها،

ارتباكَها،

أكاذيبها،

هلْوَسَتها،

وضياعَها الأبدي!"[85]

لكنْ علام الشكر؟ يقول الشاعر:

" شكراً لأنّكم قدتموني بكراهيتكم المُرّة

إلى نهرِ الحبِّ العذب

حتّى وصلتُ إلى عمقه الخطير

وأخرجتُ جواهر كلامه جوهرة فأخرى."

هنا مربط الفرس، لأنه من هذا المقطع الشديد الاختزال يصبح "الشرّ" معلّما كبيرا للشاعر، وهذا هو خيره الباطن، إذ لولا نفاق "الأصدقاء" ولولا ما أضمروه للشاعر من حقد وكراهية، لما تمكّن هو من الغوص في بحار الحرف والكلم، ولما قدم للإنسانية كلّها هذه التجربة الفريدة في الشعر العربي التي استحق عليها لقب (الحُروفيّ):

"ثمّ قال: ما اسمك؟

قلتُ: الحرف.

قالَ: بل الحُروفيّ والحرف جزءٌ منه.

ثمّ قالَ: ما اسمك؟

قلتُ: الحُروفيّ.

قالَ: بل الصُوفيّ والحُروفيّ جزءٌ منه.

ثمّ قالَ: ما اسمك؟

قلتُ: الصُوفيّ.

قالَ: بل العارف والصُوفيّ جزءٌ منه.

قلتُ: أنا العارف،

فَلَكَ الحمد ملء السماوات والأرض.

وبكيتُ على السجّادةِ الخضراء

حتّى اخضلّتْ روحي.

قال: ما لكَ تبكي كلّما خاطبتُك

حتّى تخضّل روحُك؟

قلتُ: أغثْني ثُمَّ أغثنْي.

قال: إنَّ لكَ عندي وِرْداً مِن نور:

سبحانَ الله

والحَمدُ لله

ولا إلهَ إلا الله

واللهُ أكبر.

فإنْ صادفَكَ ذئبٌ بشريٌّ أو ذئبٌ كَلْبيّ

فاقرأْه بوجهِه

فسيهربُ منك

يجرُّ هزيمتَه جَرّاً.

خُذْ هذا السرَّ مِنّي

جوهرةً تتلألأُ مِن عَرشي

حتّى تصلَ إلى مثواكَ بأقصى الأرض. "[86]

وفي الختام يبقى مقطع "إلى أصدقائي المنافقين" رسالة تصبّ فيها كل رسائل نص "برقيات سعيدة جداّ"، إذ من ظاهر الشرّ الذئبي البشري استطاع الشاعر أن يُبقي على مفهوم القلب الطفولي حيّاً بداخله، والذي لولا بياضه وطرواته لما استطاع أن يغوص به داخل بحر الكمال والبهاء والجمال[87]، ولعلّ هذا هو السبب الذي كان وراء تحول الألم إلى سعادة عبر وقفة مهمة تحققت للشاعر الواقف من خلال ما يمكن تسميته ب"الاستئناس بالألم والحزن": ذلك أنه داخل لباس أو قشرة محن الحياة، قوي بداخله الحنين للمحبوب فطلب الوصال وعرف ألا حزن في الدنيا كلّها يعادل الحزن على فراق المعشوق، لذا تجده أصبح هو نفسه عاشقاً جعل من هذا الألم خبزه وشرابه، وحينما اشتد عوده وقوي صلبه وقف صارخاً رامياً كلَّ ثوب وحجاب وفاتقاً لكلّ قشر، وكأنّه حبّة نمت فنقبت الحجر والأرض وخرجت كي ترى نور الشمس وتنعم بالقرب من الحبيب، وهذا غالباً ما لا يتمّ إلا إذا ابُتلي الإنسان وامُتحن إلى أن يتحقق له الوصول إلى مرحلة الكساء بكسوة الاتصاف والحصول بعدها على خلعة الاختيار عن جدارة واستحقاق، وهذا ما كانت إليه الإشارة في قوله تعالى منذ الأزل: "وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ"[88]

 

 

1.2         دلالة الصّليب

إن الحديث عن الصّلب والصّليب في كتابات أديب كمال الدّين لا يخرج أبداً عن نطاق ما سبقت مناقشته بشأن الألم وعلاقة هذا الأخير التوأمية بقضية الشرّ الكبرى، إذ الصّليب نفسه هو ألم عظيم ولكن غلبت عليه المحبة باعتباره يرمز إلى الخلاص والفداء والتحرير من الشرّ ذاته، أيْ ذاك الشرّ الذي ينفذ إلى أعماق جذور الألم الفردي كي ينتشر عبره داخل تاريخ الألم البشري الجمعي المتأصلة جذوره في الخطيئة والموت، لذا فلا خلاص يُمكنه أن يتحقق أبداً إلا إذا تمّ التغلّب على الخطيئة بطاعة الله إلى آخر لحظة في حياة الإنسان يتوّجُها بالموت، وعلى الموت بالقيامة، وهو المفهوم الذي أشار إليه الشاعر في أكثر من نصّ كهذا الذي يقول فيه:

"مَن أنتِ

حتّى أكتب إليكِ الياذتي المعاصرة؟!

اكشفي عن أنانيتك

حتّى أريكِ يُتمي

واكشفي لي عن بخلك

حتّى أريكِ نخلتي

واكشفي لي عن غموضكِ ومؤامراتك

حتّى أريكِ وضوحي وسذاجتي

واكشفي لي عن موتك

حتّى أريكِ قيامتي!"[89]

كما هو واضح في أبيات هذا الجزء من قصيدة "محاولة في الطيران" فإن الشاعر جرَد مجموعة من المصطلحات التي تنتمي إلى ما يُسمّى بالشيء ونقيضه، وذلك عبر وقفة تكاشفية بين الرّمز النبوي الكوني وبين النفس البشريّة "الفاسدة"[90] بسيطرة العُنصر الشرّي عليها:

الرمز النبوي الكوني                                                              النفس الفاسدة

اليُتم                                                                                  الأنانية

 

اليُتم الأنانية

 

اليُتم ضدّ الأنانية، هكذا يقول أديب كمال الدّين في هذا النّص ولربّما يبدو هذا القول غريبا، ولربّما يدفع أيضاً إلى التساؤل عن كيف يكون اليُتم مرادفا للإيثار؟

في اليُتم كرم رباني، يتفضّل به الخالق على أحبّائه من الخلق، ولعلّ يُتم محمد (ص) ويُتم عيسى وموسى (عليهما السلام) هو أكبر دليل على عظمة هذا النوع من الكرم.

إذ لم يكن اليُتم أبداً في حياة الأنبياء والأولياء وأهل الزهد والورع والتقوى من قبيل الصدفة والارتجال، وذلك لأنّه يقع عليهم الاختيار كي يجعلَ الله منهم نموذجَ الاقتداء الأصفى والأنقى للبشرية جمعاء. وفي يُتم النبي (ص) والعديد من رجال ونساء أهل بيته من بعده فلسفةٌ ربانية أراد بها الله أن يُكرم الأيتام بمقارنتهم بخير خلقه من البشر. وكي يكون سلطانه مطلقاً في التربية بلا تأثير من أب بشري يقتدي أويتشبه به. ولعلّ هذا هو السبب الرئيس في العناية الشديدة التي أولاها الله عزّ وجل لليتامى كما توضحه أكثر من آية في كتابه الحكيم.

أما عن علاقة اليُتم بالإيثار فإن ذلك مردّه إلى كون أن من اختير من الناس بالنبوة أوالولاية أو الصلاح والتقوى وقد ذاق ألم اليتم، لا يمكنه إلا أن يكون إنساناً ذا إيثار حقيقي ورحمة كبيرة بالناس أجمعين فما بالك باليتامى، مصداقا لقوله (ص): "مَن ضمّ يتيماً بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة".

 

النخلة                                                                                البخل

 

النخلة البخل

 

النخل رمز إلهي وقد سبق لأديب كمال الدّين أن تطرق إليه في أكثر من نصّ من نصوص مجموعاته الشعرية، فهي "رمز الله، بل هي فاتحة قصيدته الغامضة. وهي صورة حرفه وبوّابة نقطته، وبيت نبيّه وسكينة مريمه" وهي لهذا كلّه، الكرم كلّه الذي مابعده كرم وقد يكون أمرا طريفا لو تلاحظ معي أيها القارئ هذه العلاقة الحرفية والضمنية بين كلمتي:

نخل/ وبخل لما فيهما من جناس لفظي غير تام ومن تضاد معنوي، إذ كرم النخلة لا يمكنه أن يكون سوى النقيض المطلق للصّفة البُخلية للنفس البشرية الجاحدة لآيات الله.

 

الوضوح والسذاجة                                                               الغموض والمؤامرات

 

الوضوح والسذاجة الغموض والمؤامرات

 

النفس البشرية الغامضة الآمرة الأمّارة المتآمرة لا يمكنها سوى أن تكون نقيضاً مطلقاً لكلّ ماهو واضح في الحرف والكلمة والرسالة العشقية العرفانية، لكن ماذا عن "السذاجة"؟ هذا مصطلح قلق ومقلق، ربما تكون له علاقة أكثر علاقة بالبراءة أو بالنوم في العسل وليس بـ "السذاجة" في حد ذاتها، مادام العارف يُوكل أمره للّه، ويعتبره سنده وحرزه وغمده الحامي له من أيّ شيء وإن كان شرّاً يُصيبه أو ألماً يعذبه، فما الشرّ إلا ظاهر وما العذاب في هذا الحال أو ذاك سوى باب باطنه فيه الرحمة. ولعلّ هذه "السذاجة" لها علاقة وطيدة أيضاً بمفهوم الارتباك، داء الشاعر الأكبر لذا تراه يقول:

"فارتبكتُ لأنني لم أهيىءْ نفْسي لدورِ الفادي

ولم أكنْ أتصوّر أنّ دورَ يهوذا

سَيُعاد عرضه في كلِّ مكانٍ بنجاحٍ ساحق"[91]

ومادام الشاعر قد أشار إلى "المسيح الفادي" وإلى "يهوذا" فإنّه يحقّ التساؤل عن الآتي: هل كان عيسى (ع) "ساذجاً" حينما ذهب إلى بستان "جتسيماني" وهو يعلم أن يهوذا سيأتي هناك كي يسلمه إلى رؤساء الكهنة والفريسيين؟ بل هل كان الشاعر "ساذجاً" أيضاً حينما ألقى بنفسه في نار الألم كي يحترق داخل بوثقتها وهو يعلم أنّ من سيلقيه فيها هم "أصدقاؤه الذين أعطاهم نورَ الأخضر وأحبّته الذين منحهم شمسَ الغيمة" وإن كان قد استخدم مجازاً مصطلح "صُدمت" في الأبيات التي سبقت هذا المقطع من نص "خسارات"؟[92]

الجواب سيكون هنا في معادلة الموت والقيامة:

 

 

 

 

 

القيامة                                                                               الموت

 

القيامة ≠ الموت

 

خساراتي لم تعد تُحْتَمل.

صرتُ أقلّبُ أسماءَ المدن

فأجدها متشابهةً كالموت

وأقلّبُ أسماءَ الأزمنة والأمطار

والجروح والصواعق والنساء

فأرتبك

لأنّ جسدي الذي قامَ من موته عشرات المرات

وقلبي الذي قاومَ العاصفةَ والدمَ والذهب

بكيا أمامي كطفلين يتيمين

واشتكيا لي من ضياعِ الحلم

بل صرخا من ضياعِ الحلم

وخرجا كمجنونين في الشوارع

فما الذي سأفعله سوى أن أعلن:

خساراتي لم تعدْ تُحْتَمل

لم تعدْ .. لم تعدْ تُحْتَمل.

هذا المقطع من قصيدة "خسارات" يُظهر أكثر من غيره كيف أنّه يُمكن القول باحتمال أن تكون نفس الشاعر أديب كمال الدّين من تلك الأنفس التي غلب عليها المعنى لما تحقق فيها من علو نسبة الروح الفادية وذلك تصديقاً لما قاله عيسى (ع): "لم يدخل ملكوت السموات من لم يولد مرتين" وفي قصيدة الشاعر إشارة إلى هذه الولادة التي تمت أكثر من مرّة وإلى الجسد الذي قام من موته عشرات المرّات. فما معنى هذا؟ ما معنى أن يقوم الجسد من موته؟

في هذا الجزء من نص "خسارات" توجد إشارات يجب تسليط الضوء عليها وتحديد قيمتها الفكرية، ويقصد بها: إشارة الجسد وإشارة القيامة

 

 

          I ) إشارة الجسد

 

في إشارة الجسد علاقة وثيقة بقاموس الأرض الذي تمّ التعبير عنه بمصطلحات مختلفة تبدو ظاهرياً ألا علاقة فيما بينها ويقصد بها: المدن / النساء / الذهب.

تتشابه المدن عند أديب كمال الدّين، ولا أثر فيها لمدينة خالية من الألم والشرّ البشري، وهو وإن كان تشابها فوضويَ الظاهر وعدميّ المعنى، فإن باطنه يحملُ كلّ المنطق وكلّ النظام بل كلّ المعنى. ولعلّ هذا ما سبرته أيضاً عين الناقدة الأسترالية د. هِثر تايلر جونسن، حينما قالت: "هكذا فإنّ أحزان ومباهج وألغاز عالمنا هي شبيهة بأحزانه ومباهجه وألغازه هو أي الشاعر. فنراه حاملاً ثقلا مساوياً، معطياً معنى لفوضانا- بعظمتها المتأصّلة- من خلال فضائه الشخصيّ الخاص به. هذه القصائد المكتوبة عن الحب والموت والقبول هي مواضيع كبيرة بحيث من الممكن تخطئتها في أحايين كثيرة كحافزٍ عاديّ بسبب عظمتها المتأصّلة. يسبر الشاعر هذه المواضيع النظرية عبر إحساس سحريّ دائريّ ممهداً الطريق إلى تركيب يدعم تطوّراً استداريّاً. هكذا فإنْ بدأنا مع طائر أبيض فنحن غالباً ما سننتهي مع طائر أبيض: فالعالم منطقيّ بشكل مطلق (رغم فوضاه) وهو لذلك مثلما ينبغي أن يكون"[93].

أما عن إشكالية النساء فالمرأة في كتابات أديب كمال الدّين تبقى قضية كبرى، ولا يقصد بها هنا المرأة الحرف أو النقطة، ولكن يقصد بها المرأة بمعناها "المادي" الخالي من كلّ رمزية عرفانية، أو صوفية. إذ أن أديب كمال الدّين، لا يكتب قصائده فقط لأهل العرفان وخرقة العشق، وإنما يكتبها لكلّ القراء على اختلاف مستويات التلقّي عندهم، وهو لهذا يعرف كم هي مهمة المرأة في حياة كلّ إنسان، كلّ على حسب تجاربه الشخصية وعلاقته مع الأنثى حبيبة كانت أو أما أو أختا أو صديقة. والشاعر قد تطرق إلى كل تمفصلات هذه العلاقة العجيبة للإنسان مع أنثاه، التي قد تكون مصدراً للعشق والمحبّة والسعادة تارة، ومصدراً للعذاب والشقاء والمرارة تارات عدّة، وللشّاعر بهذا الصدد مقاطع عديدة يذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

"اختارتْ حبيبتي المستنقع بدلاً من الفرات

فأطلقتُ النارَ على الفرات

وركضتُ مجنوناً لأرى أثرَ الرصاصة في الحروف."[94]

* * *

" عندكِ فقدتُ ريشَ روحي

وعندكِ فقدتُ عنقَ شبابي.

وهكذا بحثتُ عن روحي

فتشاغلتِ بحمرةِ شفتيك

وبحثتُ عن شبابي

فتشاغلتِ بالبحثِ عن حقيبتكِ الملأى بالمواعيد."[95]

هذه بعض صور من صور عديدة للمرأة التي تتلبّسها الخطيئة والخطأ وهي حاضرة في حياة العديد من الناس ولم يسلم منها الأنبياء والأولياء، وهي كغيرها من العديد من مظاهر الألم في حياة الإنسان خطأ يتكرر في كلّ مكان وزمان، خطأ أشار إليه الشاعر بطرق أخرى أكثر بلاغة حينما قال في نصوص أخرى ما يلي:

" رأى دمعتي

مَن يسوس الناسَ كما يسوس البغال

فأرادها نجمةً تزّين كتفيه العريضتين

وسنواته العجاف.

ورآها الطفلُ فأرادها لعبة

تسلّيه وقت المساء

ووقت الصباح.

وأرادتها المرأة

لتزّين بها

عقدها المتدلّي بين النهدين."[96]

وفي هذا البيت إشارة إلى نوع من النساء، ربما من ليست لهن القدرة على فهم المعنى الكامن للإله في قلب الرجل العارف، فهن بالتعرف إلى هذا الأخير، لا ينجذبن إلى الله في قلبه، ولكن يقعن في حب فكرة التباهي أمام الغير بمعرفتهن لمن عـُرف عنه التصوف ولبس خرقة العشق. لذا هنا أيضاً "ثمّة خطأ"، خطأ الكبر والغرور والرياء، وهي كلها صفات تتناقض تماماً مع العشق الأكبر ودرجاته العليا، ولو كان الأمر غير ذلك لما ضمّ الشاعر هذا النوع من النساء في مقطعه هذا، إلى الحاكم الطاغية الذي لا يفرّق بين أبناء الشعب والبغال وإلى الطفل الساذج الذي ليس له من دنياه سوى اللعب واللهو. هذا دون نسيان الحديث عن المرأة التي تغار من الإله في قلب العارف، فترى النار تستشيط في قلبها محاولة الدفع بهذا الأخير إلى رمي الخرقة من أجل اعتناق تراب جسدها الفاني:

" حاولتُ أن أدلّكِ على إشارةِ الكافِ الكبرى

لكنّ شيطانكِ كان قوياً

فحاول كسر ذراعي التي أشارتْ إلى الشمس."[97]

وهنا تجدر الإشارة ولو بشكل سريع إلى أن قضية هذا النوع من النساء تضم في ثناياها إشارة كبيرة تهمّ إشكالية الجذب والانجذاب، بل أحيانا الخطف والانمحاق. ألم تر كيف أن نساء زليخة قطّعن أيديهن ما إن رأين نور الله في وجه يوسف وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم؟!

هذا وجه آخر إذن من أوجه المرأة في قصائد الشّاعر، فماذا عن الذهب الذي ضمّه الشاعر إلى العوامل التي تزيد من حجم "الخسارات" في حياة الإنسان؟

يعتبرُ نصّ "محاولة في السحر"[98]، من أكثر القصائد التي تتحدّث عن زيف الذهب وزيف الأنثى والتراب والأرض، لكن بتقنية أدبية عالية المستوى تمّ الاعتماد فيها على عنصر الحوار من أجل استجلاء السبب الذي يجعل من الذهب والأنثى والتراب مجرد لهو ومتاع الغرور، لذا وجب التوقف عند هذا العنصر باعتبار أنّه لم تتمّ الإشارة إليه من قبل.

 

عنصر الحوار داخل قصيدة "محاولة في السحر"

بالرغم من أنّ معظمَ التعاريف الاصطلاحية اتفقت على أن الحوار هو تبادل الكلام بين شخصين أو أكثر باعتباره نمط تواصلٍ وتبادلٍ يتعاقب الأشخاص فيه على الإرسال والتلقّي، إلا أن أديب كمال الدّين في هذا النّص، سلّط الضوء على نوع آخر مُهمّ من الحوارات، ويقصد به هنا "المونولوج" أو الحوار الداخلي الذي لا يشترط مشاركة خارجية في الحوار، ولا تعاقباً في الإرسال والتلقي، بل يُلقى من طرفٍ واحد وإليه. ولربّما تبدو هذه الإشارة غامضة أو مناقضة للنّص الشعري ذاته باعتبار تعدد الأشخاص أو السحرة الأربعة الذين دخلوا في حوار مباشر مع الشاعر. أما عن العناصر الدالّة على أن الحوار هو داخلي بالأساس فيمكن عرضها كما يلي:

1) حضور الذات الحقيقية أو "أنا الشاعر" عبر شبكة من المعارف هدفها الرئيس هو تأسيس الفعل الوجودي لهذه الذات. وهذا ما عبّر عنه الشاعر عبر مجموعة من التقنيات السردية التي وردت في العنصر الحكائي الذي استهل به قصيدته، محاولاً بذلك تقاسم أحزانه أولاً مع نفسه ثم بعد ذلك مع المتلقّي، علّ هذا يحقق له نوعا من التنفيس والتخفيف عن آلامه. ويقصد بتقنيات السرد هنا كلّ الأدوات التي استخدمها الشاعر وهو يحكي لمتلقيه تفاصيل قصة تحوّل الدموع إلى أربعة سحرة، ويمكن حصر هذه الأدوات فيما يلي:

* تقسيم زمن السرد إلى مستويين أحدهما خارجي، ويقصد به زمن الشاعر وزمن القارئ والزمن التاريخي، والآخر داخلي، ويحوي زمن السرد أو ما يسمّى بزمن المادة الحكائية، وزمن الكتابة ثم زمن القراءة.

* استخدام تقنية الاسترجاع والاستذكار وذلك بغرض طيّ المسافة بينه وبين المتلقّي واختصار الأزمنة، حتى يتسنّى له أن يحكي وبمعجم لغوي بسيط ومختزل، كيف تحوّلت الدموع إلى سحرة وكيف دخل هؤلاء في حوار مباشر وشيّق معه.

* استخدام عنصر الزيادات أو المعلومات التكميلية عبر تقنية الوصف والمناورة السردية كي يتحقق للمتلقّي جمع أكثر التفاصيل عن الحدث في أقلّ وقت ممكن. كأن يعرف مثلا أين كانت الأنا السردية للشاعر، وكيف كانت وما هي الظروف التي كانت تعيشها قبل أن تتصلَ بالسّحَرة الأربعة وما إلى ذلك من التفاصيل الأخرى المتعلقة بعناصر الزمان والمكان والأشخاص والأحداث.

2) حضور الذات الشعرية، أو "أنا الشعر" وهي أنا الشاعر الافتراضية التي ظهرت في النّص وتلعبُ دور المخاطب/ أنت، في مقابل دور المتكلم الذي تلعبُه الذات الحقيقية التي تمّت الإشارة إليها سابقاً، ولذا فإن النّظرَ في عمق البنية الداخلية لهذا النّص سيُحيل إلى نتيجة مفادها أن المتكلم هو نفسه المخاطب وهذا ما يمكن التعبير عنه عبر المعادلة التالية:

أنت (المخاطب) = ذات الشاعر (الحقيقية)

أنا (المتكلم) = الذات الشعرية

أنا = أنت

المتكلم = المخاطب

وفي كل هذا توجد دلالات تجد مصداقيتها في كون الدمعات الأربع المتحولات إلى أربعة سحرة مصدرها الأساس هو الشاعر ولا أحد غيره، أليس هو القائل:

"وسقطتْ من عيني دمعتان

انقلبتا، بقدرةِ قادرٍ، إلى ساحرين

ثم سقطتْ دمعتان

فصارَ السحرةُ أربعة

تحلّقوا حولي بهدوء" ؟

لكنّ هذا لا يكفي، إذ يجب التساؤل عن الكيفية التي أدت إلى تحقيق فعل التحول هذا. ولعلّ الجواب يوجد في الأبيات التالية:

"في ظهيرةٍ تموزية

جلستُ تحت سنّ الشمس

فطحنني الحرُّ حتّى ابتلّتْ ثيابي

وقلبي وأصابعي"

المقطع فيه إشارة للانتصار على الموت عبر القيامة من عنصر الماء، فتراب الجسد ذاب تحت نور الشمس، ومنه قام الماء ومن الماء بعد ذلك خرجت الدّموع الواحدة تلو الأخرى، حتى ليبدو الإنسان وكأنه خلق من دمع وليس من طين. والماء كما الدّمع، شجرةُ حياة أبدية أشار إليها الشاعر عبر اسم تموز (في ظهيرة تموزية)، كرمز للجمال والحب (وسلّ قلبي مرآى الجمال). ولعلّ هذا يجد تأكيداً له في قصيدة "موقف الدمعة" التي يقول فيها الشاعر:

"أوقَفَني في موقفِ الدمعة

وقال: كم بكيتَ! وكم ستبكي!

فأنا خلقتُكَ من طين يا عبدي.

وكانت دمعتُكَ هي التي امتزجتْ

 بالترابِ ليكون طينا

أو سؤالاً جارحاً

أو ضياعاً خالصاً وعذاباً مُهينا.

نعم، فحينَ ولِدتَ بكيتَ

وحين ارتبكتَ،

وكم ارتبكتَ، بكيت.

وحين ضعتَ، وكم ضعتَ، بكيت.

وحين استوحشتَ أو ظُلِمتَ أو مَرضتَ بكيت.

أمِن دمعةٍ خَلَقتُكَ أم مِن طين؟"[99]

إذن يتحوّل الشاعر "بقدرة قادر" إلى أربع دمعات وتتحوّل الدّمعات إلى أربعة سَحَرة وهكذا يُصبح مجموع الأشخاص المتحركين داخل وجدان الشاعر خمسة. وهو بتقنية الاستدعاء الداخلي هذه يسلّط الضوء على ذروة الصّراع الذي بلغته الحال الشعرية جرّاء ما بدا لها من جمال الحق وبهائه بشكل قادها إلى البكاء (قلتُ لهم: أتعبتني الشمس). وليس هذا فحسب، بل فيه أيضاً إعادة إنتاج لصورة حاضرة في النّص الأول الذي تمّ الانطلاق منه والتي فيها يتحوّل الجسد والقلب هذه المرّة لا إلى أربع دمعات بل إلى طفلين يبكيان:

"لأنّ جسدي الذي قامَ من موته عشرات المرات

وقلبي الذي قاومَ العاصفةَ والدمَ والذهب

بكيا أمامي كطفلين يتيمين"

وفي كلتي الحالتين فإنّ ظاهرة التحوّل حاضرة كما الدموع حاضرة أيضاً، دون نسيان الإشارة إلى حضور مفهوم الانتصار على الموت عبر القيامة المتكررة.

هذا عن مستويات الحوار وتقنياته السردية، ماذا عن جانبه الأخلاقي؟

لا تبدو قصيدة "محاولة في السحر"، نصاً وجدانياً تنضح كأسه بألم الحرمان وفجيعة "ياربّ هل يرضيك هذا الظمأ والماءُ ينساب أمامي زلال"، ولكنّها كذلك لوحة نورانية حُفرتْ فوقها دروس عظيمة تنتمي إلى ما يمكن تسميته بأخلاقيات الحوار. إذ أن الشاعر هنا سطّر العديد من المبادئ التي توضح للمتلقّي كيف تمّت إدارة دفة هذا الحوار بينه وبين السَّحَرَة الأربعة ولعلّ أهمها:

1)    الابتعاد عن الأجواء الانفعالية:

إذ من عوامل نجاح أيّ حوار أن يتمّ في أجواء هادئة حتى يتمكّن الإنسان من الوقوف مع نفسه وقفة تأمّل وتفكير بعيداً عن أيّ عوامل تقيّد وعيه ولاشعوره وتفقده استقلاله الفكري، وقد عبّر الشاعر عن هذا المبدأ في هذا المقطع من النّص مستخدماً مصطلحي "بهدوء" و"خفيض":

" فصار السحرةُ أربعة

تحلّقوا حولي بهدوء.

(لِمَ تبكي؟) سألوني بصوتٍ خفيض"

2)     امتلاك الحرية الفكرية

لابدّ لكي يبدأ الحوار أن يمتلك أطرافه حرّية الفكر والتفكير التي ترافقها ثقة الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة، فلا ينسحق أمام الآخر لما قد يحسّ فيه من العظمة والقوة، فتتضاءل إزاء ذاك ثقته بنفسه وبالتالي بفكره وقابليته لأن يكون طرفاً للحوار فيتجّمد ويتحوّل إلى صدى للأفكار التي يتلقاها من الآخر. إذ في النّص عرض الشاعر مجموعة من القضايا التي تقضّ مضجعه، لكنه ركّز على قضية الحرمان باعتبارها المشكلة الأم التي تعترض كل عارف سيّار، في حين ألقت الشخصيات الأخرى منذ البداية بمفاتيحها الأولية وعرّفت بنفسها جغرافياً ثم بدأت في عرض منهجها في التفكير وانتقلت إلى مناقشة اقتراحاتها وحلولها لقضية السائل الأول (الشاعر):

"قلتُ لهم: أتعبتْني الشمس

وسلّ قلبي مرآى الجمال،

أنا المحروم حدّ اللعنة،

وعذّبني الجوع

والرغيفُ هنا مغموس بالدم

وأثقلني الفراتُ بالندم.

قالَ أوّلهم: أنا من الهند

أستطيع أن ألبسكَ ثيابَ الذهب.

وقالَ ثانيهم: أنا مِن اللامكان

أستطيع أن أطيرَ بكَ من غيمةٍ إلى غيمة.

وقال ثالثهم: أنا مِن عاد وثمود

أنا مَن يعطيكَ سرّ اللذة.

وقال رابعهم: أنا مِن الصين

أنا مَن يجعل الحلمَ بابَ اليقين.

قلتُ لهم: عجّلوا عجّلوا

فلقد دفنني الحرمان

كما يدفن الزلزال

جيشاً قوامه ألف فارس."

3)     استقلالية المتحاورين ومسؤولية كل واحد عن اختياراته

 

وهذا ما حدث بالفعل، فالشخصية الأولى اختارت عن طيب خاطر أن تجرّب كل الحلول المقترحة من الأطراف الأخرى وأن تتحمّل نتيجة هذا الاختيار حتى آخر مرحلة:

"في اليوم الثاني

جلستُ مرتدياً ثيابَ الذهب

وتحت قدمي غيمةٌ صغيرةٌ جميلة

وامرأةٌ أحلى من العسل

وأصابعُ كفّ تجعل الحلمَ – أيّ حلم –

بابَ اليقين.

(3)

لكنّ الشمس إذ توسّطت السماء،

ذابتْ خيوط الذهب

فبدتْ ثيابي مهلهلة.

وذابت الغيمةُ الصغيرةُ الجميلة

فبدتْ قدمي قبيحة.

وذابت امرأةُ العسل

فبدتْ شفتي مرّةً كالسمّ.

وذابتْ كفّ الحلم

حتّى تحوّلتْ إلى أصابع هيكلٍ عظمي.

فصرختُ: يادموعي يا إخوتي يا أصحابي

أين أنتم؟

أين أسراركم وإشاراتكم"

 

4)    تحديد وقفة للتأمل والتفكير

إذ يستحسن دائماً أن يُعطى لكلّ أطراف الحوار مهلة للتفكير في العروض والحلول، وهذا مبدأ طُبّق بشكل جيد في هذا النّص، إذ أعطيت للشخصية الأولى مهلة زمنية جرّبت فيها الحلول ونتائجها، ثم فرصة أخرى للتفكير مع عرض محاولة جديدة للقيام باختيار آخر يكون نابعاً من وحي نتائج الاختيار الأول، وهذا ما حدث داخل طيات هذا النّص، إذ بعد أن جرّب "الشاعر" النّعيم الزائف الذي أذابته شمس الحقّ، صرخ من جديد طالباً عون السّحرة الأربعة الذين أسعفوه مرّة أخرى عارضين عليه الثبات كحلّ نهائي:

"صمت السحرةُ الأربعة.

لكنّ رابعهم أشفقَ على قلبي المحطّم

كمرآة أعمى.

قال: أتريد الثبات لا الزوال؟

قلتُ: نعم.

قال: لا سبيل إلى ذاك المقال

إلاّ إذا تلمّستَ شيئاً من روحنا.

فأومأ الثلاثةُ بالايجاب.

ثم قام أولهم عارياً من كلّ شيء

قال: سنفعل

سنعطيكَ حروفنا أيّهذا المُعَذّب

ونعلّمكَ نقاطنا أيّهذا المحروم.

لكننا نخاف إن تعلّمتها

أن تسخرَ من الذهبِ وثيابِ الذهب

أن تسخرَ من البلدان

أن تسخرَ من الأثداءِ والسيقان

أن تسخرَ من الأحلام

فتكون مثلنا فارغاً

بارداً

ضائعاً

عارياً للأبد."

 

5)    التجرّد في الحوار

 

وهذا يعني التنزيه من قيد الكثرة والرسوم والعادات، مع إخلاص النية لله عز وجل والتجرد من كل أثر فيه تعصب أو كذب أو خداع، ولولا هذا المبدأ لما أخلصت الدّمعات الأربع في نصح الشاعر وإرشاده إلى الاختيار الصحيح، وعلامة هذا التجرّد توجد فيما قامت به الدّمعة الهندية أو "الساحر الهندي" من فعل: "ثم قام أولهم عارياً من كلّ شيء".

بعد هذا التحليل، يبدو أن أول تساؤل يخطر ببال المتلقّي هو الآتي: ما كان في الأخير اختيار الشاعر، هل اختار الذهب حقاً، أم أنه رمى الذهب والأنثى والبلدان وراء ظهره؟

الجواب يُوجد في قصائد عديدة أخرى تطرق فيها الشاعر إلى هذه القضية، ولعلّ أبلغ ما يمكن الاستشهاد به هو هذا المقطع من قصيدة "وحشة الرأس":

"في عليائي

في وحشتي وشحوبي

ورحيلي العظيم

سمعتُ صوتَ كلّ شيء

وأبصرتُ بالعينِ والأذنِ والقلبِ كلّ شيء

فسخرتُ من بريقِ الذهبِ والنحاس

من بريقِ الحرس

من بريقِ الأيام

من بريقِ الكلام. "[100]

 

II) إشارة القيامة

 

لا شك أن في الحديث عن القيامة حديث عن الجسد والروح، هذان الصديقان اللذان يعيشان معا العمر كلّه متّحدين في طبيعة ناسوتية واحدة، لا يفرق بينهما سوى الموت الذي لا جمع يتمُّ بعده إلا بوقوع القيامة. والقيامة في كتابات أديب كمال الدّين ليست دائما لصيقة بالمفهوم أو المحتوى الدّيني بل هي قيامات وقيامات، فمنها تلك التي ترمز إلى قيامة الجسد في مفهومها الإيروتيكي كتلك التي عبّر عنها في قصيدة "مأدبة السيدة"[101] ومنها تلك التي تعادل رفع حجاب الغفلة، أو تلك التي تعني الحياة بعد الرفع أو النوم الجسدي، وهذه الأخيرة لها صلة وطيدة بقيامة الأنبياء، وعيسى (ع) باكورتهم وإن كان قد قام قبله آخرون كالعزير وأهل الكهف (عليهم السلام)، ومنها تلك التي فيها إشارة إلى يوم الحساب الأكبر أو ما يسمّى بالقيامة الكبرى. والقيامة ترفع من قيمة الإنسان وتؤكد أن حياته لا تنتهي بموته وأن هناك حياة أخرى غير هذه، وأن الموت ما هو إلا جسر بين حياتين، وليست قصيدة "خسارات" هي الوحيدة التي تحدّث فيها أديب كمال الدّين عن "قيامة الجسد" بتكراره لصورها في أكثر من بيت، ولكن هناك قصائد أخرى تنتمي إلى دواوين أخرى، ربّما يُعدّ ديوان (جيم) أكثرها اعتناء بهذه القضية، مادام يضم بين دفّاته أكثر من نص يتحدّث عن القيامة في مختلف صورها، وقد وقع الاختيار على قصيدة "الرجل" وهي التي يقول فيها أديب كمال الدّين:

 

"(1)

لاسمِكَ نورُ الشمسِ إذا طلعتْ..

فجراً في أكوانِ الظلمةِ أو ألقُ الشاطئ

إذ يبزغُ في صرخاتِ البحّارةْ

وسْط بحارِ الظلمةْ.

 (2)

أتوجّسُ في الريبةْ

أشلاءً تبحثُ عن أشلاء..

وأنادي باسمك.

(3)

تتشرّبني الظلمة

والبحرُ بصدري يطغى

لم أضربْ بعد البحرْ

بعصايَ ولم أشربْ مِن ينبوعِ الحكمةْ.

صرخَ البحّارةُ في جَوفي: أينَ الربّانْ؟

فبكيتُ رأيتُ الناس عرايا حولي يبتسمونْ.

 (4)

أقمِ الساعة

سوركَ مِن حولي..

يا مَن باسمك يهتزُّ القاع

وتغوصُ الطعنةُ في الأعماقْ

وتشيحُ بنابيها اللعنةْ.

إمنحني رأساً آخر لا يرتابُ ولا

يشكو مِن هولِ الموجِ الوحشيّ.

امنحني عينينْ،

شفةً ويدينْ

وانزعْ ما في صدري مِن غلٍّ وعذاب.

أقمِ الساعةْ

سوركَ مِن حَولي..

يا مَنْ يتركني في الريبةِ..

أحيا وأموتُ وأبعثُ كي أُقْبَرَ وسْط نباح الأموات."[102]

مَن يكون "الرجل"؟ قد يبدو في النّص ألا شيء يدلّ عليه. لكن التأمّل في قاموسه اللغوي والنحوي، يقود إلى القول بأن هذا الرجل قد يكون وليّاً مقرّباً من أولياء الله أو نبيّاً، وإذا كان كذلك فعن أيّ نبي يتحدّث الشاعر؟ لا مفرّ، فكلّ الأنبياء يصحبهم النور والشمس والفجر، لكن هناك واحد فقط يمكن أن يعطى اسم الربّان، وواحد فقط لا أحد غيره أعطي السّور، فمن تراه يكون؟ إنه محمد (ص). كيف ذلك؟ الجواب يوجد في هذه السّورة القرآنية:

"فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ"[103] وسيتمّ الوقوف عندها في الآتي من الشرح والتحليل.

قصيدة "الرّجل" قصيدة محيّرة لمن اعتاد تحليل القصائد بدءاً من البيت الأول إلى البيت الأخير، لأنّ هذا النّص بالذات يُجبر القارئ على استكناه المعاني انطلاقا من آخر بيت :

"يا من يتركني أحيا وأموت وأبعث كي أقبر وسط نباح الأموات"؟

وهو بيت يمكن تقسيمه إلى قسمين:

/يا من يتركني في الريبة أحيا وأموت وأبعث/ وهو القسم الأول

/ كي أُقْبَرَ وسط نباح الأموات/ هو القسم الثاني.

في القسم الأوّل هناك تسلسل منطقي للحياة البيولوجية للإنسان، أيّ إنسان كيفما كان. أيْ أنّ المسار يبدأ بالحياة ثم الموت وبعد ذلك البعث. لكن لماذا الحديث مرّة أخرى عن موتٍ ثانٍ في القسم الثاني من البيت؟

الجواب عن هذا السؤال يوجد في القرآن والأحاديث النبوية وعلوم الفيزياء. وقبل المرور إلى هذه المصادر لابدّ من التصريح بأنه من الصعب الوقوف عند نصوص الشاعر أديب كمال الدّين دون إحالتها على النّص القرآني والنّص العلمي، وفي هذا تأكيد على أن الكلمة التي تكتب باسم الله لابدّ أن تكون كلمة علميّة تخاطبُ العقلَ والفؤاد معاً، ولا مجال فيها للأوهام والتأويلات المبنيّة على الظنّ والتخمين.

يقول الرسول (ص): "لا تقوم السّاعة وعلى ظهرها مؤمن" و"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"[104] وفي ذكر هذا الحديث إشارة إلى أن ما يحاول الشاعر نقله للقارئ متعلّق باللحظات التي تسبق قيام الساعة، ولكن أيّة لحظات وهو الذي قال في ديوان لاحق ما يلي:

"... الطائرة التي لا تكفّ

عن الطيران

منذ مليون عام

ستسقطُ عمّا قريب

وسط المحيط."[105]

الجواب في عبارة "عمّا قريب"، وهذه العبارة تجد صداها في قوله تعالى: "أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ"[106]

إن صيغة "أتى أمر الله" في الآية المذكورة فيها دلالة على أن كلّ ما يتعلق بالساعة قد كُتب وسطّر في الألواح، وقُضي في شأنه، لذا تجده يقول مباشرة بعد هذا الإعلان: "فلا تستعجلوه"، مفسّرا بعد ذلك لخلقه أدق التفاصيل عن هذا الأمر الذي قضي فيه منذ الأزل قائلا في آية أخرى: "يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ {6} تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ {7} قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ {8} أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ {9}"[107]، وهو الحدث الذي تنطلق معه وبه ملائكة كرام، مهمّتهم إماتة كلّ مؤمن سواء كان على ظهر الأرض أو بباطنها، كي لا يشهد من الرّادفة ولا من الرّاجفة شيئا، وفي هذا الكلام إشارة إلى ما ورد في سورة النازعات دائما حينما قال عز وعلا: "وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً {3} فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً {4} فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً {5}". أما ضمّ حتى من هو ببطن الأرض من المؤمنين إلى من هو على ظهرها ممن سيميتهم الملائكة "السابحون"، ففيه نداء على ما ورد في سورة النازعات نفسها، حينما قال ذو العزة و الجلال: "يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ {10} أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً {11}" وهذا ما أشار إليه أديب كمال الدّين في بيته: "كي أُقْبَرَ وسط نباح الأموات"، أي في القسم الثاني من البيت الأخير. إذن ففي القبر وسط الأموات مرّة أخرى بشارة للشاعر نفسه ختم بها قصيدته.

هل بهذه العبارات يمكن القول بأن قصيدة الشاعر قد وصلت إلى شاطئها الأخير دونما إيضاحات ولا شروحات من الشاعر؟ طبعاً لا، كل ما في الأمر، هو أن هذا النّص بالذات يبدأ من حيث ينتهي، إذ لابد من طرح سؤال آخر يريدُ معرفة ما الذي حدث بعد "القبر وسط نباح الأموات"؟

يقول الله في سورة النازعات: " فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ {13} فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ {14}" ويقول أديب كمال الدّين: " فجراً في أكوانِ الظلمةِ أو ألقُ الشاطئ/ إذ يبزغُ في صرخاتِ البحّارةْ/ وسْط بحارِ الظلمةْ" وهي أبيات تصور ما يقع قبل أن يُبعث الناس من جديد فوق الساهرة، أي أبيات فيها إشارة للظلام الذي سيعم الكون بعد عودته إلى العدم، وهو ظلام ينتج عن العديد من الأحداث الفيزيائية التي تبدأ بانصهار كل شيء في الكون، وتفكك الماء وعودته إلى أصله الغازي إلى درجة أنه هو نفسه يُسْجر ويصبح وقودا ومادة نارية، وتـَكوّن المادة السوداء المسؤولة عن طي السماوات (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)[108]

والمؤمنون من كل هذه الأحداث والتغيرات الفيزيائية والكيميائية الهائلة التي تذهل لها كل مرضع عمّا أرضعت، لن يروا شيئاً ولن يبعثوا إلا بعد أن تتحقق للكون عودته إلى العدم والظلام، حينئد يخلق الله أرضاً جديدة مسطحة (الساهرة)، كي يتم عليها الحساب" يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ"[109] عند ذاك تسطع شمس محمد (ص) وهي التي قال عنها أديب كمال الدّين في مطلع قصيدته: "لاسمِكَ نورُ الشمسِ إذا طلعتْ / فجراً في أكوانِ الظلمةِ"، ويبدأ الناس أو "البحّارة" كما سمّاهم الشاعر، في الصراخ، وآخرون في التدافع والهرولة نحو نور النبي وهي الصورة التي عبّر عنها الشاعر: ب" أشلاءً تبحثُ عن أشلاء"، وآخرون في "الابتسام" وفقا لصورة النّص الثانية: "رأيتُ الناس عرايا حولي يبتسمونْ"، وهؤلاء هم المؤمنون الذين يمشون بنور الله وسط عتمة الظلام في هذا اليوم الرهيب، والذين قال الله تعالى عنهم: "يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدّين فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)"[110] وبين المؤمنين وغيرهم من الناس يقام سور باطنه فيه الرحمة وظاهره فيه العذاب، وهذا السور هو خط الحماية بين الرسول وأهله، وبين الضالين من الناس وعنه قال تعالى:" يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)"[111] وهو السور ذاته الذي أتى ذكره في نص الشاعر لمرتين: "سوركَ مِن حولي..".

لم يبق بعد كل هذا سوى أن يبدأ الحساب وهو ما رمز إليه الشاعر مرتين من خلال عبارة "أقم الساعة"، وكأنه في عجلة من أمره.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1.3         دلالة الموت

الموت هو الوجه الآخر للحياة، وقد حاول الكثير من الفلاسفة والأدباء والحكماء فكّ طلسمه العجيب، لكن هيهات هيهات، فالفشل كان دائما النتيجة المحققة التي شرب من كأسها الجميع، فمن ذا يستطيع مسايفة الموت أو مغازلته؟ إنه باب مغلق لا يلجه إلا من خمدت النار الغريزية في جسده، باب ألقى الخالق بمفتاحه في بئر بدون قرار ولم يعطه حتى للموت نفسه! لكن هذا لم يمنع أهل الفكر وبخاصة الشعراء من محاولة الاقتراب على الأقل من معناه أو بالكاد محاذاته، وأديب كمال الدّين يُعدّ واحداً من أهمّ الشعراء الذين خَصّصُوا لإشكالية الموت نصوصاً عديدة تحدّثت عنه بشتى أشكاله وتجليّاته وتمظهراته العجيبة، ليس بهدف محاذاة معناه أومحاولة فك رموزه فقط، ولكن أيضاً بغرض فضح خواء العالم ولا مبالاته تجاه الغير من البشر. لذا تجد الشاعر وهو يتحدّث عن الموت في مواطن عديدة لا يستخدم اللون الأخضر فقط، ولكن يلجأ أيضاً إلى اللون الأسود والأحمر، ويكتب بالسكّين بدل القلم، لِمَ لا وهو الذي اختار لموته أسئلةً من طين، ومرايا تفضحُ أجساداً من قطن؟ لِمَ لا وهو الذي يناورُ في تدبيجِ مقالاتٍ تتسترُ في إخفاء هزائم الكلمات كي يخرج محتفلاً والناس سكارى يرتجفون؟ لِمَ لا وهو الذي أقام بقلبه لأنكيدو وكلكامش حفلاً ساهراً وأجلس فيه الأول على كرسي الاعتراف، وتقاسم فيه مع الثاني بعضاً من أسرار حاء الحياة وخيبات لا عدّ لها ولا حصر من ميم الموت؟ بل لِمَ لا وهو الذي صوّر كيف يتظاهر الموت بالنوم وهو يتقاسم مع الناس أسِرّتهم وكيف يستقبل العالم حدث الموت، بين أناس باكية وأخرى ضاحكة أو راقصة؟ إنه الموت الذي لا تقهره سوى القيامة. هو الموت ولا أحد غيره، يستطيع أن يلبس ألف رداء ورداء ويتقنّع بألف قناع وقناع، لكنه وحده قناع الكشف أو العري الذي يليق به، مادام الموت لا يحبّ إلا العراة ومادام العري هو وحده القادر على تسليط الضوء على ما في هذا العالم من ارتباك وعبث وتناقضات. قناع العري هذا الذي تجده حاضراً في نصوص تخترق سكينها حجب الظلام، كي تصرخ وتتأوه على ألسنة شخصيات تركتْ بموتها أكبر الأثر في نفْس الشاعر. فهاهي صورة مهنّد الأنصاري تزور بشمسها قلبه، وهاهو "جان دمّو" يداعب بسخريته السوداء والمريرة قلمه، وها هي عفيفة إسكندر توقظ بداخله شمعة الألم والأسى على رمز كبير من رموز الفن والأغنية العراقية جنى عليه الإهمال والجحود ونكران الجميل ولم يجد من يد رحيمة تواسيه في سنواته الأخيرة سوى يد الموت التي سقته كأس النجاة ورحلت به إلى حيث جنان العدل والرحمة والغفران، وها هي "سيلفيا بلاث" الحمامة التي ضلّت الطريق واتجهتْ صوب البحر العظيم، إلى غير ذلك من الشخصيات التي تحدث الشاعر عنها عبر واقعة الموت، لكن التوقف في هذا القسم لن يكون عند هذا الجانب العاري بسواده من الموت، بقدر ما سيكون عند المعنى النفسي للموت ذاته، عبر اختيار نصّ شعري يكون هو حجر الأساس وسط رحلة التحليل والتفكيك، ولعلّ أكثر النصوص خدمة لهذا الهدف، نص "ساحر"[112]، الذي يناقش فيه الشاعر إشكالية الموت عبر تجسيد قصصي، يُتصوّر من خلاله ما يمكن أن يتقاسمه الإنسان مع أخيه الإنسان وهو في طريقه نحو النهاية الطبيعية لكلّ جسد. ولربما هذا ما أعطى للنص ما بداخله من نفس وإيقاع تصاعدي بشكل يدعو إلى تقسيمه فوراً إلى مقاطع تتوافق كل واحدة منها مع المرحلة العمرية من التجربة الإنسانية في الحياة:

ـ مرحلة الطفولة

يقول أديب كمال الدّين:

"حين افترش الأرض

وأخذَ يعزفُ موسيقاه الشجيّة،

بدأ بعزفِ الطفولة

فتساقطتْ من حوله بالوناتُ الأعياد

والفراشاتُ الملوّنة."

استهل الشاعر هذا المقطع بتعبير "افترش الأرض" وفيه إشارة إلى التجرّد والعقلانية عبر ضمان الاتصال بالأرض أو بالحس الواقعي البعيد عن العاطفة والخيال الجارف. ولربّما هذا هو السبب في عدم اللجوء إلى تكرار فعل "افترش" في بقية أبيات وأجزاء النص، إذ في ذكره مرّة واحدة إعلان عن وضع ثابت وغير متزحزح. فشخصية "الساحر"ـ التي سيتمّ التوقف عندها بتفصيل في القادم من الأسطرـ بعد أن مرّت بأحوال وتجارب معراجية عديدة، اهتدت إلى أن مركز الاستقرار وثبات الإنسان يكمن في ارتباطه والتحامه بالأرض.

بعد أن حدد الشاعر أرضية الانطلاق، اتّجه إلى وصف أفعال "الساحر":

أخذ يعزف موسيقاه الشجية / بدأ بعزفِ الطفولة

هناك تجانس بين الفعل والمعنى. ففعل "أخذ" يتوافق مع فعل "بدأ"، إذ في الأول إعلان عن الثاني وتمهيد له. أما فعل "عزف" فيتوافق مع مصطلح "الموسيقى"، وكلمة "الطفولة" تنسجم تماماً مع المعنى الكامل للبيتين، إذا ما نُظر إليها من جهة اعتبارها المرحلة الأولى في حياة كل إنسان، لذا كان من الضروري اختيار الأفعال من جنس المعنى الذي تؤديه كلمة "الطفولة ": (أخذ وبدأ).

وإذا كانت النظرية الفيزيائية تقول أن لكل فعل ردّ فعل، فإنه لابد يكون لفعل عزف "الساحر" نتيجة مباشرة باعتبار أن شجن وحزن ما عُزِفَ اخترقَ ما بداخل طفولته فتساقط ما بها من مكنون وفقاً لقول الشاعر:

"فتساقطتْ من حوله بالوناتُ الأعياد

والفراشاتُ الملوّنة"

فعل "تساقط" سيتكرر في المقطع الموالي لمرتين. أما عن جنس ونوع الشيء المتساقط فله علاقة وطيدة "بالطفولة" وهو بالتالي منسجم مع مفهومها ومعناها: "بالونات الأعياد"، و"الفراشات الملونة". وكلّها عناصر كثيراً ما تتكرر وتتردد في العديد من قصائد الشاعر وليس في هذه فقط.

 

ـ مرحلة الشباب

يكمل الشاعر نص "ساحر" ويقول:

"وحينَ بدأَ بعزفِ الربيع

تساقطتْ من حوله الأثمارُ والأزهار.

وحينَ بدأَ بعزفِ الصيف

تساقطتْ من حوله صيحاتُ مراكبِ البحر

وملابسُ النساءِ وضحكاتهنّ ومراياهنّ الصغيرة."

يبدأ العزف من جديد، ولكن هذه المرّة عزف الربيع والصيف أو عزف الشباب فسقطت أشياء عدّة تُسردُ كما يلي:

ـ الأثمار والأزهار.

وفيها إشارة للفواكه حتى لكأنّ في الأمر حديث عن شجرة تطرح ثمارها في فصل الربيع وعزّ الشباب والطاقة والحيوية.

ـ صيحاتُ مراكبِ البحر وملابسُ النساءِ وضحكاتهنّ ومراياهنّ الصغيرة.

وفي هذا إشارة إلى مرحلة الأنثى وجسدها وفاكهتها ومراياها وضحكها. مرحلة الدنيا، والتعرّف إليها عبر التعرّف إلى رغبات الجسد ومفاتيحه، ولكن لِمَ قرن الشاعرُ البحر بالأنثى ولِمَ قرن الأنثى بالدنيا؟ ألأن البحر أزرق؟ أم لأنه ساذج؟ أم لأنه ملآن بعطر الرغبة المالح الناري؟ ربما لأن الأنثى أو الدنيا كالبحر تماماً كما يقول الشاعر نفسه ولكن في قصيدة أخرى بعنوان (هو أزرق وأنت زرقاء) والتي يقول فيها:

"أنتِ تشبهينَ البحر.

لاشكّ في ذلك!

لكنْ أيّ معنى يختفي خلف ذلك البحر؟

خلف تلك الزرقة العجيبة التي تبدأ

لكي لا تنتهي

أو تنتهي كي تبدأ من جديد،

خلفَ تلك المراكب الضائعة

والبحّارة الذين يرقصون أو يبكون

على سطحِ سفنهم المبحرةِ أبداً،

خلفَ تلك المدن التي تنتظرهم لتنساهم أبداً،

خلفَ ذاك البياض الذي لا أفهمه،

خلفَ ذاك السواد الذي لا أتقبّله،

خلفَ ذاك الاحمرارالهابط الصاعد،

خلفَ تلك التي تعجزُ عن وصفها الحروفُ والكلمات،

خلفَ ذكراكِ الحيّةِ الميّتة،

خلفَ ذكراكِ المقدّسة!" [113]

 

 

ـ مرحلة الكهولة والشيخوخة

يستمر الشاعر ويقول في النص ذاته "ساحر":

"وحينَ بدأ بعزفِ الخريف

اظلمّت السماءُ واكفهرّتْ

وأحاطتْ به عواصفُ البرقِ والألم."

ها قد تم الوصول إلى مرحلة الكهولة والشيخوخة، أيْ شتاء العمر وخريفه، ولم يعُد في حوزة العازف أي شيئ مبهج يتساقط منه. والشاعر للتعبير عن هذه الصورة، رفع من سرعة عزف "الساحر" ودخل في الإيقاع الخطير، واستخدم لأجل هذا وزني اِفعَلّ واِفعللّ (اظلمّت/ اكفهرّت) وكلمتي "العواصف" و"البرق" المؤذنتين بالوداع، وهي صورة تجد لها صدى قوياً في قصيدة أخرى عن الموت دائما: (في المطار الأخير) حيث يقول أديب كمال الدّين :

"حسناً نحن الآن في المطار

(أهو المطار الأخير؟)

السماءُ ملبّدةٌ بالغيوم

والشتاءُ هو الوقت.

حسناً أيّها الحرف:

هل حانَ وقتُ الوداع؟

لماذا أنتَ مرتبكٌ كلّ هذا الارتباك؟

لماذا؟" [114]

مرحلة الموت أو نهاية الطريق

يختم الشاعر نص "ساحر" ويقول:

"لكنّه حينَ عزفَ الموت

ذُهِلَ على الفور،

إذ أحاطتْ به مئاتُ الجثث

من كلِّ جانب

وبدأتْ ترقصُ رقصةَ العذابِ الكبرى.

ارتبك الموسيقيّ

بل أصابه الفزع،

ودمعتْ عيناه

بل أجهش في البكاء

وأخذ يعتذرُ بحرارةٍ إلى الجثث.

لكنّ الجثث لم تفهمْ

أيَّ كلمةٍ من كلماته

واستمرتْ ترقصُ وترقص!"

تحرّر الشاعر من صيغة "بدأ في العزف" وأبدلها ب "عزف الموت" مباشرة، إذ السرعة وصلت إلى ذروتها والعزف اخترق الأرض ودخل إلى دائرة الجحيم. أهي حقا دائرة الجحيم؟ أم هي دائرة العالم الأخروي بشكل عام؟ ربما نعم، لكن الشيء الأكيد هو أن العازف هو الآن محاط بمئات الجثث التي ترقص حوله رقصة العذاب الكبرى بشكل أثار خوفه وفطر قلبه .

لكن بغضّ النظر عن هذا العزف التصاعدي وعن قوته الاختراقية التي وصلت إلى عمق قلب الأرض فأفاقت الأجداث وأيقظتها من سباتها العميق، إلا أنه يجب التوقف عند صورة الساحر: لمَاذا اختار الشاعر لنصه عنوان "الساحر" وفي النص بأكمله حديث عن "العازف"؟ هذا ما ستتم مقاربته ومحاذاة معناه في القسم التالي:

العلاقة بين الساحر والعازف

يبدو أن الشاعر حريص جداً في اختيار مصطلحاته وانتقاء معانيها. وكلمة "الساحر" هنا ليس لها أية علاقة بمفهومها "الشعبي" الذي يغوص في عمق الرؤى التراثية والأسطورية لمختلف شعوب الإنسانية، وهو في المقابل شديد الصلة بعلوم النفس المعاصرة، فالساحر هنا هو ما يمكن الإشارة إليه بـ"الأنا الكوجيطي الديكارتي"، وهو عازف يفترش الأرض، وهذه الصورة هي مشابهة لمفهوم الحاوي الذي يجلس أرضاً ويبدأ في العزف على نايه إلى أن تُطل "الحية" برأسها من كيس عجائبه وتبدأ في الرقص تدريجياً، وحيّة الحاوي في رمزها الكوني هي "حياة" الإنسان. وهي هنا حياة العازف، التي خرجت وبدأت تُسقط كلّ ما في جبّتها قطعةً قطعة.

إذن فعازف النص حاوٍ، وحاويه ساحر، والساحر ممسك بناي، يمكن القول عنه أنه عصا الحكمة، والساحر في الأخير هو الشاعر وأنت وأنا أيها القارئ الكريم، ونايُك هو قدرتك على شحذ الأفكار وتقوية التركيز، وكلّما أصبحت بارعاً في ذلك كلّما أصبحت لك القدرة على تبصّر الأمور وتقييمها بشكل سليم ومفيد لحياتك اليومية وهذا ما تسميه علوم النفس "بالوعي المُتّقد والمُتيقظ" المرتبط بالأرض أو الواقع (انظر عبارة "حين افترش الأرض")، أما عزفك أو بالأحرى عزف ساحر نص أديب كمال الدّين فهو هواء يخرج من بين شفتيه، وذلك للتعبير دائماً عن درجة قوة التركيز واتجاهات اللحن في الفضاء، وهذا له علاقة بما يسمى ب "العقل الكوني"، إذ أن العازف حينما كان الهواء الخارج من فيه والمتصل بفتحات الناي يتجه نحو الأعلى فإنه كان يجذب نحوه البالونات والفراشات، وجميعُها عناصر هوائية، وحينما بدأت قوة التركيز أو الهواء تتجه نحو الأسفل جذبت الأنثى، أما حينما تغلغلت في النزول نحو أعماق الأرض، جذبت إليها الموت وأجداث الأموات.

هل هذا حقّا ما كان يريده العازف الساحر داخل النّص؟ هل كان حقاً ينوي إخراج الموتى من قبورهم؟

في النص إشارة إلى أن هذا الأمر لم يكن هو المقصود: (ذُهِلَ على الفور/ ارتبك الموسيقيّ/ بل أصابه الفزع/ ودمعتْ عيناه/ بل أجهش في البكاء/ وأخذ يعتذرُ بحرارةٍ إلى الجثث)، وهذا يعني أنه حدث خطأ ما، فبدل عزف الحياة، عُزف الموت ولعلّ هذا ما عبّر عنه الشاعر في قصيدة أخرى حينما قال في مقطع منها:

" في حضرةِ الموسيقى التي تندلق

لتكتب حاءَ الحياةِ وباء الحبّ

ينبغي أن أكتبَ شعراً

مليئاً بالبحرِ والطيور.

لكنني،

ولسببٍ غير واضحٍ أو مفهوم،

أكتبُ عن الموت.

ربّما لأنّ الموتَ هو نديمي الوحيد

أو صاحبي الذي يُحسنُ الرقصَ قربي

حين أنهارُ وسط الطريق[115]."

ولربما السبب في هذا، هو أنّ جوهر هذا الخطأ الذي ابتِلي به الإنسان بشكل عام، هو أن باب الموت لم يُخلق كي يُغلق أو يُتجاهل، فهو هناك دائماً مفتوح على مصراعيه كي يدخل منه كلّ من خمدت النار الغريزية في جسده الترابي دافعة بقوة ضاغطة الروح إلى الخارج مساعدة إياهاً بذلك على التحرر من سجن الجسد:

"وأخيراً

وباختصار سحريّ

ثمّة خطأ يشبهني تماماً

مثلما يشبه البحرُ نفسه

والموسيقى طائرَ الفجر،

خطأ

لا ينسى ولا يتسامحُ حدّ الموت

يفتحُ بابَ الموت

بهدوءٍ أسود

ويطير[116]."

 

 

 

 

 

الساحر الشجرة

 

كرّر الشاعر أديب كمال الدّين فعل "تساقط" أكثر من مرّة في نص "ساحر"، حتى ولكأن العازف هو في أصله شجرة تتساقط منها الثمار والأوراق، بل هو شجرة، وهذا الرأي يجد له مصداقية في استعمال الشاعر لحقول لغوية تدل عليه، ككلمة "الأثمار" مثلاً وكلمتي "الأزهار" و"الفراشات"، فما علاقة العازف إذن بمفهوم الشجرة؟

ـ الساحر في نصّ الشاعر مرتبط بالأرض (حين افترش الأرض)، الشجرة أيضاً ضاربة جذورها في عمق الأرض.

ـ الشجرة تتغذّى من المياه الكامنة في عمق الأرض ومن الشمس والهواء الضاربين في عمق السماء. الساحر أيضاً يحوي بداخله ومن حوله هذه العناصر الحياتية القيّمة. أوَ ليس الشاعر هو الذي قال هذا؟ أي أنه قد تساقطت من الساحر العازف البالونات والفراشات وفيهما إشارة للهواء والشمس، ومنه تساقطت أيضاً مراكب البحر، وفيها إشارة إلى عنصر الماء الذي يجد تأكيداً له في نص آخر ، قال فيه أديب كمال الدّين:

"كيف أنجو منه

وهوالذي غرقَ فيَّ

قبل أنْ أغرقَ فيه؟

غرقَ في أعماقي السحيقة

حتّى صرتُ كلّ ليلة

أموتُ غريقاً

فأحملُ جثّتي على خشبتي الطافية

هائماً دون أنْ يراني أحد،

هائماً للأبد[117]."

ـ الساحر إذ يحمل كل هذه العناصر بداخله فهو ينمو عبر مسار معراجيّ يتطور فيه فكره ونفسه وروحه، وعبر مراحل عمرية تبدأ بالطفولة وتنهي بالموت، والشجرة أيضاً لها طفولتها وربيعها وصيفها وشتاؤها وخريفها.

ـ الساحر هو الإنسان، والشجرة هي أيضاً الإنسان والساحر معاً باعتبار أن كل إنسان يحمل بداخله شجرة تشبهه في التواصل مع السماء وتشبهه في مراحل النمو والتطور وذاك مصداقاً لما قاله الشاعر النمساوي "راينر ماريا ريلكه": "آه كم أشتهي بشوق وحرقة أن أنمو/ حينما أنظر إلى الخارج/ الشجرة التي بداخلي تنمو"، وهي الفكرة ذاتها التي عبّر عنها أديب كمال الدّين في نصّه "شجرة الثعابين" والتي يقول في مقطع منها مشيراً فيه إلى المحطة الأخيرة التي يصل إليها الإنسان الشجرة كخاتمة لطريق حياته الدنيوية المليئة بالمحطات والانتظارات والأحداث:

" فالتفّاح فاكهة الحبّ كما تقولُ الأسطورة.

لكنْ، على حين غرّة،

ضاعتْ حبيبتي

وقبلاتُ حبيبتي

ومواعيد حبيبتي.

فسقطتُ، واحسرتاه، من شجرةِ الحبّ.

* * *

كنتُ أتوّقع أن يكونَ سقوطي مدوّياً

لأنّ شجرةَ الحبّ عالية كالجنّة

لكنْ رغم مرور السنين

لم أصل إلى الأرض.

ربّما لأنني كنتُ سعيداً كما تقولُ الدعابة،

ربّما لأنني كنتُ سعيداً بما يكفي

لأسقطَ على شجرةٍ ثالثة

تُدعى: شجرة الموت.[118]"                                                                          

ها قد تم الوصول إلى نهاية الطريق، ولكنها ليس نهاية أبدية، بل بداية لطرق وسبل أخرى لا بد يتمّ التعرّف فيها على أوجه أخرى للموت عبر نصوص أخرى غير هذه التي تمّت الإشارة إليها في هذا الجزء اليسير، إذ الموت عند أديب كمال الدّين هو الحرف الأكبر الذي كتبَ من أجله قصائد بدت في ظاهرها حروفية، شاعرية ومليئة بالعذوبة واللذة المعرفية، لكنها في نهاية المطاف لم تستطع أبداً أن تخفي وجه الموت القابع بداخلها وهو يلبس رداء المحبّة حيناً ورداء الأخوّة أحياناً أخرى ورداء الصداقة أحايين ثالثة. فالموت آخراً وليس أخيراً يبدو هو خرقة المعرفة الحقيقية، فمن عرفه خرجت الدنيا من صدره ومن جهله أصبحت الدنيا جنته وأرض ميعاده ونعيمه.                         

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصلُ الرّابع

 

الصّوتُ الحروفي عند الشّاعر أديب كمال الدّين

قصيدة "مُحاولة في الموسيقى" نموذجاً

1.1         النّغم الحروفيّ

تتردّد الألفاظ وتتولّد منها معاني تخترق كلّ الحواس وتلج بعمق في روح المتلقّي. والقول بغير هذا لن يفضي إلاّ إلى تفريغ صوت الحرف العربي من معناه وتحويله إلى مجرد رمز أجوف لا شيء فيه. وجمالُ أيّ نصّ شعري يكمن في موسيقاه التي لا يمكنها أن تتحقق إلا إذا تموسقت الحروف، وعَزفتْ لحناً يسكن شغاف الكلمات، ويصلُ إلى القلب عَبْر ما يكونُ قد قام به الشاعر من توزيع للنغم الصوتي على وحدات زمانية وأخرى مكانية تنتظمُ بداخلها الوحدات الصوتية والتشكيلات الإيقاعية والدفقاتُ الشعورية المرهفة الإحساس بجمالية الكلمة والمعنى المرتبطِ بكل ما له صلة بما اتفق أهل النقد على تسميته بالدلالة الصوتية، أيْ ذاك العلم الذي اهتم به قدماء العرب كالفراهيدي في كتابه "العين" وسيبويه في مؤلفه "الكتاب" وابن جني في "الخصائص"، كما اهتم به أيضاً لغويو الغرب أمثال "جسبرسن Jesperson" و"هيمبولت Himpolt" و"فيردناند دي سوسير Ferdinand de Saussure" وإن كان هذا الأخير قد عارض النظرية التي تقول بالصلة بين الصوت والمعنى.

لكن الأمر الأهمّ في محاولة الوقوف عند موسيقية نصّ الشّاعر هو نهج طريق تُمكّن من الوصول إلى الصوت الحرفي كأصغر وحدة فيه، وذلك بغرض فهم الكلّي عبر الجزئي، وهذا العمل لن يتحقق إلا إذا تمّ تحديد المستوى الفونولوجي والفونيتيكي للصوت من خلال التركيز على طبيعة هذا الأخير وعلى خاصياته الفيزيائية والعضوية. وستكون قصيدة "محاولة في الموسيقى" هي عيّنة هذا البحث المجهري، وذلك لما اجتمع فيها من المقومات والمؤهلات التي تشهد باكتمال التجربة الشعرية عند أديب كمال الدّين وتمام استدارة بدرها عبر التحرر من القصائد الموزونة الخاضعة لقيود البحر الشعري وأوزانه المقفاة، خاصة تلك التي حوتها ولم تزلْ دفّات الدواوين الأولى للشاعر ك "تفاصيل" و"جيم" و"أخبار المعنى".

يقول الشاعر إذن في قصيدته "محاولة في الموسيقى":

 "(1)

الموسيقى تهبطُ تهبط

طيراً وعنقودَ عنبٍ وشلال ماء.

فيطيرُ قلبي مع الطير

لكنّ يدي لا تمسكه،

ويلامس العنقود شفاهي

لكنْ لا سكين حبّ تقطع فراغنا الجارح

والشلال يأتيني فأكون الماء لألقاه

لكني أصطدم بصخرته الكبيرة

وأغرق.

 

(2)

حتّى الحروف صارتْ تتعبني

فهي الوحيدة التي تزورني في وحشتي الكبرى

دون أن تحمل في يدها باقةَ شمس

أو حفنةَ قمر

أو قُبلات ريش.

(3)

الكلُّ يتبرقعُ بثيابِ غيره

إلاّي.

ولما لم أجدْ ما أتبرقع به

خرجتُ إلى الشارع عارياً..

عارياً تماماً!

(4)

الموسيقى تهبطُ بلاماتٍ عذبةٍ كشفاه الأطفال

وراءاتٍ تزقزقُ وسيناتٍ توسوس

وندى من نونات.

(5)

الموسيقى تجيء

فأقومُ من الموت إليها

لنلتقي طفلين يتيمين

يتحسران على أرجوحةِ العيد.

(6)

منذ أن تعرّفتُ إلى دمي

وجدته محاصراً بالطيور

ومنذ أن تعرّفتُ إلى قلبي

وجدته ممتلئاً بالأبجديات.

(7)

السعادةُ راقصةُ بالية

والحزنُ بدويّ يفترشُ الأرض

ليعزف على الربابة.

(8)

أعجبني موتي

وحين حاولتُ أن أكرره

جننت!

(9)

الموسيقى تهبطُ.. تهبط

والروح تضيعُ.. .. .. .. وتمّحي.

(10)

الموسيقى تذوبُ كما تذوبُ الفضة

وتنامُ كما ينامُ العشّاقُ الذين أتعبهم طول الفراق

ووطأة الهجر.

الموسيقى تتألّقُ فتحوّلُ الأحزانَ إلى حاء

وتحوّلُ الحاءَ إلى حرّية

ترقصُ كما يرقصُ الجنّي.

(11)

يا للجمال!

الموسيقى تتموسق

والحروف تتألق.

(12)

يفرحُ الثريّ بجواري الفنادق

ويفرحُ المغنّي بدنانير الملاهي

ويفرحُ زيرُ النساءِ بعشيقته الجديدة.

أما أنا فكالموسيقى

لا أفرح إلاّ بنفسي

ولا أندمج إلاّ بنقاطي وحروفي.

(13)

إلى متى يعذّبني نزيفُ الحروف:

احتجاجُ الحاءات

وضياعُ الراءات في ذكرى المدن الضائعة

ونفاقُ السينات

وانكفاءُ الباءاتِ حتّى الموت؟

يا إلهي..

إلى متى يعذّبني نزيفُ الحروف؟"[119]

 

منذ البداية يحتفل العنوان بثيمة الموسيقى ويتغنّى بسموها وعلوها، إذ أنها هي التي تهبط من الأعالي، وهي التي تقتضي من المتلقّي أن يقف في حضرتها وكأنه داخل معبد عليه أن يلتزم فيه بالصمت حتى يتمكّن من تلقّي مكنونات حروفها ورسائلها.

وكونُ الشاعر استخدم لفظ "تهبط" فهذا فيه دلالة على تفوق اللغة الموسيقية وحروفها، خاصة وأن للموسيقى قدرة على تحريك مخيّلة الإنسان وأحاسيسه الدفينة، مادامت تتوفر فيه القدرة على تحقيق نوع من الوعي التخيُّلي للموسيقى كشكل جمالي وإستيطيقي لا يتجزأ من منظومة الجمال الكوني للوجود ولموجده.

فهل توجد حقاً في هذا النص موسيقى؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل لموسيقاه معنى؟ وهل استطاعت الكلمات في القصيدة أن تؤدي هذا المعنى؟ هذا ما ستتم محاولة الاقتراب منه ووضع اليد على الحروف التي تُوُلِّدَ من خلال تمازجها ببعضها البعض خفقانا في قلب الشاعر والمتلقّي موصلة إيّاهما إلى تلك المسافة الفاصلة بين أخفض وأقوى صوتين حروفيين فوق درجات سلّم الموسيقى الحروفية، بشكل يمكن معه معاينة ارتعاش الأول وتنهدات الثاني عبر ما يكون قد حدث داخل القصيدة من التصعيد في صوت ونغم الحروف المكونة لكلماتها، دون إغفال المَواطن التي وقع فيها الهمس والتأوه عبر عزف الحروف لنغمة متساوقة تتحوّل إلى سلك كهربائي يحمل بداخله رسالة يتوحّد فيها الشكل بالمضمون، ونغم الصوت الانفجاري بنغم الصوت المهموس، والصوائت القصيرة بالصوائت الطويلة، وهو الأمر الذي يشير إليه هذا الرسم الكرافيكي والذي تمّ فيه تقصّي وإحصاء عدد المرات التي تكرر فيها كل حرف من أحرف الأبجدية بدءاً من الألف ووصولا إلى الياء، خاصة وأنه تم التوصل إلى أن تكرارَ الشاعر لنوع معين من الأصوات الحرفية فيه بلاغةٌ تزيد من تجلّي المعنى ومن جمالية الكلام وموسيقيته وفي هذا دليل على مدى قدرة أديب كمال الدّين على انتقاء الحرف الذي له جرس موسيقي معين دوناً عن الآخر[120]:

الصورة رقم 5

صوت الألف

          خصّص الشاعر للألف ديوانا كاملا أسماه بـ (مواقف الألف) وكتب عن هذا الحرف وتجلّياته في تجربة الشّاعر الحروفية العديد من النقاد، والألف هو الحرف الملك الذي تعوم في نوره وبهائه كل القصائد والدواوين التي كتبها الشاعر إلى اليوم، وهو في قصيدة "محاولة في الموسيقى" تكرر لمائة وأربعين مرّة وبمعدل 14% كأعلى نسبة مئوية مقارنة إياه ببقية الحروف، ناهيك على أنه ظهر بكل تجلّياته اللغوية والنحوية، فهو في النص تارات مهموزاً وتارات أخرى ليناً، لذا وجب التوقّف عند كل شكل من أشكال الألف في القصيدة واستشفاف معانيه الصوتية وآثاره على المعنى داخل النسق العام للأبيات.

ـ الألف مهموزاً:

ورد في النص بمعدل أربع وثلاثين مرّة، أيْ خمس وعشرين مرّة مفتوحاً، ستّ مرّات مكسوراً، مرّتين مرفوعاً، ومرّة بعلامة السكون. وكون علامة الفتح هي الغالبة في الألف المهموز فهذا يعني وجود نتوء في الطبيعة الصّوتية للنصّ، لذا فالصّورة هي صورة بروز وكأن الشاعر غارق في بحر الوقفة والوقوف بشكل يجعل من الألف هنا ليس حرفاً صوتياً فقط ولكن بصرياً يتصف بالحضور والعيانية. ولعلّ هذا ما يبرّر ارتباط هذا الألف بالأفعال الواردة بصيغة المتكلم وبضمير الأنا (فأكون / لألقاه / أصطدم / أغرق إلى غير ذلك من الأفعال). وكون الألف مهموزاً ومرتبطاً بهذا النوع من الصيغ الفعلية فهذا يعني حركية وطاقة نابعة من الأنا الأعلى نحو الخارج أو رغبة تواصلية قوية تحتكم إلى التفاعل والمشاركة والتأثير في الدائرة الوجودية للحياة.

الألف المهموز إذن هو دليل على أصالة الخطاب الشعري لدى أديب كمال الدّين وعلى أرضيته الصلبة التي ترتكز على الفطرة التوحيدية داخل الإنسان، إذ لولا انفجار هذا الصوت المهموز لما كان هناك هذا النداء الصارخ بين ثنايا أبيات القصيدة وفي أعماق الذات الشعرية، هذا النداء الذي يرغب في إثارة انتباه المتلقّي كي يشقّ له درب التحوّل الحاصل داخل السلّم الصوتي لقصيدة "محاولة في الموسيقى" ودعوته إلى التطور مع معانيها والغوص في بحار لآلئها ومكنوناتها العجيبة كما هو جليّ في هذه الصورة:

الصورة رقم 6

الألف ليّناً:

ذكِر في القصيدة لأزيد من تسعين مرّة، وفي وجوده دعم إضافي لصوت الهمزة الناتئ باعتباره يشكّل نوعاً من المدّ المفتوح داخل النص كلّه، وهذا الألف وقع في أواسط بعض الكلمات وأواخر كلمات أخرى مضفياً عليها امتداداً صوتياً في الزمان والمكان، وموسيقية ذات نفس عال مشرع على أعلى درجات الوحدانية عبر نغم تصاعدي يتغيّأ وضع حدّ لهذه الحالة من الوحشة الكبرى التي كانت تسبح فيها الذات الشاعرة في عالم يتبرقع فيه الكلّ بثياب غيره. إذن ففي امتداد صوت الألف الليّن، انفراج لسفينة الباء وتعميق لنون الأرض، واستقامة لألف القلم، ونزيف للحروف من عين الدواة، نزيفاً تبدو معه وكأنها نوتات تتموسق بشفاه مفتوحة لا مُطْبقة، وتهبط وكأنها "عنقود عنب وشلال ماء".         

صوت اللام

اللام هي الحرف الذي تكرر صوته مباشرة بعد الألف، بمعدّل 114مرّة، أي أنه يشكل ثاني أكبر نسبة مئوية في النص. واللام حسب تعريف اللغويين لها، حرف صامت مرقق الحركة وصوته أسناني لثوي مجهور، وفي الحركات يصبح هذا الحرف قويَّ الوضوح والسّمع وهو في الوقت ذاته صوت متوسط بين الشدة والرخاوة ومن أشكال حضوره في القصيدة يُذكر قول الشاعر:

"الموسيقى تهبطُ بلاماتٍ عذبةٍ كشفاه الأطفال

وراءاتٍ تزقزقُ وسيناتٍ توسوس

وندى من نونات.

(5)

الموسيقى تجيء

فأقومُ من الموتِ إليها

لنلتقي طفلين يتيمين

يتحسّران على أرجوحةِ العيد.

(6)

منذ أن تعرّفتُ إلى دمي

وجدته محاصراً بالطيور

ومنذ أن تعرّفتُ إلى قلبي

وجدته ممتلئاً بالأبجديات."

إذن فالكلمات التي ورد فيها حرف اللام هي كالتالي:

الموسيقى / بلامات / الأطفال / الموت / إليها / لنلتقي / طفلين /على / العيد / إلى / ممتلئاً

وكما يلاحظ فإن هذه اللامات الواردة هنا يمكن تقسيمها إلى ما يلي:

ـ لامات لصيقة بحروف الجرّ: 

وهي هنا وإن وردت بصيغ تستمدّ أصلها من خاصية الإلصاق في طريقة النطق بصوتها، إلا أنها جاءت بالشكل الذي حوّل خاصية الإلصاق والجمع هذه إلى صفات وخصائص أخرى يذكر منها:

ـ صفة الصيرورة (انظر: لنلتقي طفلين يتيمين)

ـ وصفة الايضاح والتبيين (يتحسّران على أرجوحةِ العيد / منذ أن تعرّفتُ إلى دمي / ومنذ أن تعرّفتُ إلى قلبي) إذ وردت اللام هنا من أجل إيضاح موضوع الحسرة، وماهية المُتعرّف إليه.

ـ لامات مرتبطة بأداة التعريف (ال)

وقد وردت أوّلاً للدلالة على موضوع ذهني معلوم لدى المخاطب، فهو بمجرّد قراءته للجملة التي تُحُدّث فيها عن "الموسيقى" يُدركُ مباشرة من هي التي تهبط ومن هي التي تجيء: (الموسيقى تهبط / الموسيقى تجيء). وثانياً لبيان الحقيقة الذاتية لنوع الشيء الذي يتحدّث عنه الشاعر، أيْ أنّه نوع طائر وآخر حروفي: (وجدته محاصراً بالطيور / ممتلئاً بالأبجديات).

ـ ثمّ لامات أصلية في بقية المصطلحات

وهي هنا بسيطة، مرنة ومتماسكة بشكل جعلها أكثر قدرة على التعبير عن معاني مختلفة تدور حول حركة وفعل الموسيقى داخل النص، وداخل ذات الشاعر والمتلقّي، وهو ما سيُحاول شرحه عبر الآتي من التفكيك ورسم الذبذبات والحركات الصوتية والفنية الجمالية التي أحدتثها لامات الموسيقى وسيناتها ونوناتها.

يقول الشاعر إذن:

"الموسيقى تهبطُ بلاماتٍ عذبةٍ كشفاه الأطفال"

الموسيقى علوية الحضور ليس في هذا المقطع فقط بل في كلّ القصيدة. وكون حرف اللاّم ورد بصيغة الجمع (لامات)، فإنّ الحركة الهبوطية فيها نوع من الزّخ المطري العذب كشفاه الأطفال. ناهيك على أن في عبارة "شفاه الأطفال" ذاتها حضور لحرف آخر يشبه في رسمه وحركيّته القُبلة، ويقصدُ بهذا الحرف حرف "الميم"، إذن فالموسيقى المعزوفة هنا هي عبارة عن صوت وذبذبات اللامات والميمات:

يكمل الشاعر ويقول:

"وراءاتٍ تزقزقُ وسيناتٍ توسوس

وندى من نونات."

الموسيقى هنا في هذا المقطع ليست راءات وسينات ونونات فقط[121]، ولكنها حروف تتحوّل إلى طيور وإلى ماء والدالّ على ذلك هو الفعلان (تُزقزق وتوسوس) ثم كلمة (ندى) التي تؤكد ما سبقت الإشارة إليه من زخّ مطري يتكوّن بَعده الندى. إذن فاللوحة تكتمل الآن تماماً، وترى العينُ فيها الطيورَ والمطرَ الحروفيين والأطفال. أيّ أن الإنسان هنا، هو في مقام جنّة الوحدانية لا الأحدية، ذلك أن الأحدية هي موطن الله الأحد، ولا أحد يمكنه رفع حجاب عزّتها أبداً، وهذا يعني أن الجنّة هنا هي دالّة على جمال الله الّذي بوجوده غنّت الحروف وسبّحت له أجمل التسابيح وترنّمت بأرقي الترانيم والصلوات التي تمّ رصدها وفقاً لما يلي من الرسومات:

 

الصورة رقم 7

ويقصد بهذه الصورة كلّ الحركات التشكيلية مع إضافة السكون والشدّة إليها، وكما ترى فهي تشبه في شكلها الطائر، فحركات الفتحة والكسرة هي الأجنحة، والضمة هي منبت الرأس، وقد تمّ الجمع بينهن في الرّسم التخطيطي بالأسهم المتجهة إلى الأسفل حتى تأخذ حركة الهبوط الحروفي شكلها الصحيح، أمّا رأس الطائر فهو دائرة السكون، ومنقاره هو الشَدّة. وهذا يعني أن هذا الطائر الحركي سيحمل في منقاره  عند نزوله كلَّ الحروف التي أشار إليها الشاعر محدثاً في لحظة هبوطه رقرقة نونية وزقزقة رائية ووسوسة سينية، وهذا ما عُبّر عنه بهذه الصورة:

الصورة رقم 8

كما ترى، فالصورة هي تعبير عن صيغة فردية لكلّ حرف نازل، لذا فما عليكَ سوى أن تستحضر أمام عينيك وداخل أذنيك الصورة الجماعية لهذا النزول، باعتبار أنّ الشاعر تحدّث عن الحروف بصيغتها الجمعية قائلا: (لامات، راءات، سينات، ونونات)، ناهيك عن الميمات التي تمّ استبطانها من حركة شفاه الأطفال وما قد تحدثه مع اللامات لحظة الهبوط من أصوات القُبَلْ (انظر في الصورة أعلاه صوت وذبذبة السين والنون والراء). إذن فالأمر فيه حقّا، أصوات طيور جنّة الوحدانية، وإلاّ لما كانت لتوجد في النص عبارات الشاعر التالية: (منذ أن تعرّفتُ إلى دمي / وجدتُه محاصراً بالطيور / ومنذ أن تعرّفتُ إلى قلبي/ وجدتُه ممتلئاً بالأبجديات)[122].

صوت النون

ذكر صوتُ النون في القصيدة 59 مرّة، وهذا الحرف في تجربة الشّاعر ككلّ له قيمة مميزة حيثُ خَصّص له ديواناً كاملاً أسماه (نون) مفتتحا إياه بنص "قاف"[123]. والنون عند أديب كمال الدّين هي التجلّي الأسمى للحقيقة المحمدية، هذه الحقيقة التي عبّر عنها في ديوان (نون) من خلال افتتاحه له ب (ن والقلم وما يسطرون)، ذلك أنّ محمداً (ص) هو أوّل التعيين النُقطي، أما نصف الدائرة ففيه إشارة إلى الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، لذا فإذا كان في الخلق علّة ظهور الله تعالى، فإن في محمدّ (ص) سبب ووسيلة لمعرفته.

ولعلّ هذا ما جعل النون حتى في نص "محاولة في الموسيقى" تظهر ليس فقط كحرف نفاذ، واختراق صميمي في المعاني، بل كاحتواء رحِميّ فيه احتضان واندماج.

والنّون في هذه القصيدة لها عدّة أوجه، فهي على مستوى الصورة الشائعة (ن) ذُكِرتْ لأكثر من أربعين مرّة، كما ظهرت لعشرات المرّات عبر حركة التنوين بكل أشكالها سواء المرفوعة أو المكسورة أو المفتوحة، لكن هناك حروف أخرى حضرت النونُ فيها وإن بشكل خفي كالياء التي ذُكِرتْ 59 مرّة، واللام التي هي في الأصل مركّبة من ألف ونون تتكون بدورها من زاي وراء، الشيء الذي يعني قوة إضافية لدى نطق حروف النص مادام الأمر يستدعي هواءً أكثر ينبعث من داخل الصدر إلى الفم ومنه إلى الخارج بشكل يجعل من مخارج النون واللام والياء تتقطّع وتتواتر الواحدة تلو الأخرى، مما ينعكس مباشرة على قوتها الإيقاعية والموسيقية، ولعلّ هذا ما يبررُ قول الشاعر:

"أما أنا فكالموسيقى

لا أفرح إلاّ بنفسي."

في هذا المقطع إشارة إلى العزف الموسيقي، وكل عزف حروفي فيه حضور للعازف ولطيوره الأبجدية المزقزقة فوق أغصان شجرة عنبه أو خمرته الحروفية (وعنقودَ عنبٍ / يلامس العنقود شفاهي)، والشجرة هي مجموع الشين والجيم والراء، وأصل الأشجار هو الانتصار على الأنانية، الذي هو أساس الأشجار كلّها بما فيها شجرة الحروف وموسيقى أصواتها الظاهرة والمستترة، أي شجرة خروج الأمر الإلهي إلى الوجود والكون.

 

صوت الحاء

تكرّر هذا الحرف في النص لأربع وثلاثين مرّة، وهو أيضاً عنوان لديوان شعري أصدره الشاعر سنة 2002[124]، وهو في نصوص الشّاعر بشكل عام رمز للحياة وانتصار على الموت: "ولئن كانت ميم الموت هي المستغاث منه، فإنّ حاء الحياة والحبّ هي المستغاث به. هذا يعني أنّ الشّعر الحروفيّ لا يستلهم القوى الإنجازيّة المكنوفة في الأساطير والأديان إلا ليشحنها بطاقات جديدة تزيده يقينا من أنّ الحروف كائنات حيّة ذات قدرة وجبروت، لذلك عكست في القصائد الحروفيّة الشروط التأسيسيّة لمفهوم "الحياة" من منظورها الصّوفيّ حيث "الحياة صفةٌ تُوجِب للموصوف بها أن يَعْلَم وأن يَقْدر." ولأنّ "للحروف حياتها الذّاتيّة.. فإنّ ذلك الرُّوح يذهب وتبقَى حياة الحرف معه.""[125]

وقصائد الشاعر عن الحاء كثيرة ولم ترد فقط في ديوان (حاء) بل في دواوين أخرى، كديوان (النقطة)، و(أربعون قصيدة عن الحرف) و(أقول الحرف وأعني أصابعي)، أما في هذه القصيدة فيقول عنها الشاعر:

 

"الموسيقى تتألّقُ فتحوّلُ الأحزانَ إلى حاء

وتحوّلُ الحاءَ إلى حرّية

ترقصُ كما يرقص الجنّي."

 

لا غرابة إذن في أن تتألّق الموسيقى وتُحوّل الحاء إلى حرية، أي تلك الحرية التي لا تتحقق إلا إذا كانت شجرة الصوت الحروفي مستورة بشجرات العلم والعمل والحال. وهذه الحرية ما هي إلا جنة الوحدانية والفردوس المغروس من سين النَّفَس وحاء الريح المنعكسين في الحواس الخمسة بشكل يدفعها إلى الحركة بوجود الله والخروج إلى ظواهر الأشياء المحسوسة، كي يتحقق في النهاية انفصال النفس عن الروح وانتشار السلام والرحمة في الإنسان.

كانت هذه إذن، محاولة الشاعر في الموسيقى، أي في الحديث عن السلام والرحمة عبر حروف تتألّق وتزقزق وترفرف مغرّدة فوق أشجار فردوس الحرية والوحدانية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1.2         عذاب الهجر ولذة الوصال في موسيقى الحروف

يقول الشاعر في نصه "محاولة في الموسيقى":

"الموسيقى تذوبُ كما تذوبُ الفضة

وتنامُ كما ينامُ العشّاقُ الذين أتعبهم طول الفراق

ووطأة الهجر"

إن الموسيقى الحروفية في هذه القصيدة حقيقة وقناع، وهي في الوقت ذاته تمارس لعبة خطيرة ليس من السهل إدراك منطقها المعرفي كدالّ ومدلول. فهي سيميائياً رمز يختلف في معناه تماماً عمّا تم الاعتياد عليه في علوم الدلالة، لأن نظامها يتأسس داخل أنظمة أخرى لها علاقة وطيدة بعلوم اللغة والتصوّف، فهي موسيقى مُتنزّلة (الموسيقى تهبط) باعتبارها الحرف الإلهي النابع عن الذات المطلقة بشكل يستجلب الفرح (لا أفرح إلا بنفسي): (لاحظ التركيب الحروفي لكلمتي "فرح / وحرف")، إلا أن هذا الفرح لا ينبع إلا من ألم واحتراق (إلى متى يعذّبني نزيفُ الحروف؟) تتعالى وتنفصل فيه حروف كالألف مثلاً، لكونها دالّة على عالم الجبروت، وتتصل فيه حروف أخرى كالباء مثلاً باعتبارها دالّة على عالم الشهادة والظاهر.[126] ثم يتحقق لحروف ثالثة أمر الذوبان في جوهر الحياة الحقيقي كما هو الحال بالنسبة لحرف "الحاء"، فيحدث التغشّي بالنورانية وتتحقق الحرية بشكل تتحوّل معه جنّة الوحدانية إلى كتاب مسطور، لذا فلا شيء يمكن تسميته إلا بالحرف، ولا مفهوم يمكنه أن يقع خارج التسمية، ولا علم يمكنه أن يُتحصّل بعيداً عن المفهوم، فكما أنه لا يمكن لأحد أن يتعرّف إلى الشعر إلا بعد علوم العروض والتصريف واللغة، فإن علم النغم والإيقاع لا يمكن الاقتراب منه خارج المعرفة بالأوزان الهوائية، وكلاهما قائم على الحرف، لذا يصبح نص "محاولة في الموسيقى"، كتاباً عن الشعر وعن الحرف، مادام هذا الأخير واقع في كلام الله لا يستكنهه إلا الشعر باعتباره كلاماً يحتاج إلى الترتيب والنظم، فكلام الإنسان ينبغي أن يكون مرتّباً وموزوناً ومساوياً لكل ما في العالم من نبات وحيوان وجماد، فالعالم إنسان بل حرف وجودي أبرزه نفَس الرحمن.

يكمل الشاعر ويقول:

" ولا أندمج إلاّ بنقاطي وحروفي."

وفي هذا القول دلالة على تحقق المعنى الكلّي للوجود الذي لا يمكنه أن يتم إلا عبر عملية اندماج ووصل بين النقطة والحروف، إذ النقطة أصل كلّ حرف ومعنى، وكل ما يقع عليه البصر أو يدركه اللبّ هو نقطة بين نقطتين ومعنى، وحرف بين حرفين، وما من فراغ قال الحلاج: (ما رأيت شيئا إلا ورأيتُ الله فيه).

الشيء الذي يعني أن هذا التجلّي الحروفي ما هو إلا تجلّ عبر النفس الإلهي، الذي هو برزخ تضمن مراتب وجودية يصل عددها إلى 28 مرتبة توازي كل حرف من حروف اللغة العربية بصوامتها Les consonnes وصوائتها Les voyelles الموازية لمراتب البرزخ الأعلى، وهو الأمر الذي يستدعي التوقّف قليلاً عند مستويات الصوائت في هذا النص محطّ الدراسة والتحليل بشقيها الطويل والقصير:

ـ الصوائت القصيرة والطويلة:

بلغت حركة الفتحة على طول نص "محاولة في الموسيقى" 422  حركة، أما الكسرة فتجاوزت 170 حركة. ولم تحض الضمة إلا بتكرار بلغ عدده  152 ضمة.

هذا بالنسبة للصوائت القصيرة، أما الطويلة، فقد بلغت الألف المدودة في النص 59 مدّا، ووصل مدّ الواو إلى 27 مدّا. أما الياء الممدودة فتكررت 50 مرّة في كلّ القصيدة. الأمر الذي يعني بأنّ حركة الحروف هنا قد غلبت عليها سمة فتح الشفاه وبالتالي الرفع من ذبذبة الصوت عبر حركة الفتحة ومدّ الألف الطويل، كما هو موضح في الصورة أسفله:

الصورة رقم 9 

أما بالنسبة للحروف الساكنة فقد بلغت في كافة النص 123 ساكنا، وهي وإن كانت لا تدخل في عداد الصوائت، إلا أن سكونها له تأثير لا يستهان به في حركة الصائت قصيراً كان أم طويلاً عبر فُجائية حبس الهواء الخارج أو الداخل من وإلى الحلق، مما يعطي للقصيدة، بل لكل صائت ختم به الشاعر كل بيت من أبيات نصّه إيقاعاً كروماتيكياً تصاعدياً خاصاً يشبه الرقص على السُّلم الحروفي الموسيقي، كما هو موضّح في الرسم التالي[127]:

الصورة رقم 10

إذن فشفاه القارئ وهو ينطق ليس فقط الصوائت والحروف الساكنة لهذا الجزء من النص بل للقصيدة كلّها، تتخذ سلوكاً مرتبطاً بتوتر عضلة اللسان، بحيث أنها تنضم مع الصوت الخلفي وتنكسر مع الصوت الأمامي مستوية في آخر المطاف أثناء نطق الصوت الذي يستوي فيه اللسان داخل قاع الفم، لذا فإنه يبدو وكأن الهواء يخرج بكامله من الفم على الرغم من وجود بعض السياقات التي تؤدي إلى وقوع خروج هذا الهواء من الأنف أيضاً من نحو ما يحدث في الحالة التي يكون فيها صوت المدّ متلوّاً بصامت أنفي ساكن (لاحظ كلّ حالات التنوين في القصيدة مثلا: عنقود عنبٍ وشلال ماءٍ).

هذا عن الجانب الصوتي والنطقي الإيقاعي للصوائت قصيرها وطويلها، أما من الناحية السيميائية العرفانية فإن مدّ الألف له دلالة عشقية وصالية خاصة، ذلك أنه عبر جنة الوحدانية التي سطّر حروفها الشاعر أديب كمال الدّين في هذا النص يسعى إلى تأكيد أنطولوجي لعلاقة الإنسان بالله وبالعالم عبر علاقة الألف باللام في (لا) التي تكررت في القصيدة بشكل لافت للانتباه (انظر: شلال / لا تمسكه / لا سكين / قُبلات / إلاّي / لامات / الملاهي / لا أفرح / لا أندمج / إلاّ /...).

ولا غرابة في الأمر مادام الألف يسري في الحروف كلها سريان التجلّي الإلهي في الكون، فهو قيوم الحروف، يتعلّق به كل شيء، ولا يتعلّق هو بشيء، يُظهِر الحروف ولا تُظهره. وهو لمَّا اقترن باللام في كلمة (لا) تحقق لكُلّ واحد مِنهما مَيْل وعشق، فكان اللامّ هو العاشق والألف هو المعشوق، وصار عشقُ اللام للألفِ هنا في النص، رمزا لعشق الشاعر لله.

أما مدّ الياء فهو في القصيدة الروح والذات، ولا نعيم يتحقق له إلا إذا ربطَ النفس والقلب بجنة الوحدانية، أو فردوس المحبة والسلام والمسرّة والحرية: (انظر العبارات التالية: شفاهي / وحشتي / دمي / قلبي / موتي / نفسي / نقاطي / حروفي...).

وفي الختام يبقى مدّ الواو في النص رمزاً معرفياً إلى الروحِ القدس الذي حملَ طيور الحروف وأصواتها إلى فردوس المحبة، أو المكان الذي اكتوى فيه الشاعر بنار العشق والشوق فصاح قائلا:

"يا للجمال!

الموسيقى تتموسق

والحروف تتألّق.

....

...

يا إلهي..

إلى متى يعذّبني نزيفُ الحروف."

ولا عجب في ختم أديب كمال الدّين لنصه بياء النداء (يا إلهي ..)، فهو الشاهدُ للواو وهو ينفصل عن بقية الحروف محدثاً انشطاراً في حركة اللسان بشكل جعل من الذات الشعرية حرفَ نداءٍ شاهداً للجمال، فحين يقول الشاعر (يا للجمال / يا إلهي ..)، فإن الأمر فيه إشارة إلى حدوث الذوبان في الجمال، والانصهار في جنان وحدانية الله، فيصبح الشاعر بهذا هو الشاهد والمُشاهَد، والمُنادي والمُنَادى.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1.3   التكرار سلطة كروماتيكية أم رجع صدى لغوي؟

تعددت المناهل التي غرف الشاعر من معينها كي يسطّر بنسغها نصوص قصائده الثرّة، إلا أن المعين القرآني يظل أنقاها وأصفاها وأكثرها غنى وتنوعاً. ولعلّ هذا ما يبرر لجوء الشاعر في نسج خيوط متون قصائده ليس فقط إلى مضمون النصّ القرآني وقصصه وعظاته، ولكن إلى تقنياته وأدواته البلاغية والبيانية، ولربما يكون التكرار واحداً من أكثر هذه الأدوات حضوراً في متن الشّاعر بشكل لافت للانتباه.

والتكرار في قصيدة "محاولة في الموسيقى" أنواع عدّة سيتم التركيز على أهمها، وهو لم يأتِ لأغراض إيقاعية موسيقية فقط، وإنما ليعكس موقفاً نفسياً وانفعالياً معيناً يؤدي إلى تجديد العلاقات اللغوية والدلالات الشعرية وإلى نمو البناء الشعري للنص بشكل كروماتيكي حيناً وتصاعدي قارّ أحايين أخرى، ممّا يدعو إلى التساؤل عن المعنى الحقيقي للتكرار في هذا النص: هل للكلمة أو البيت المُتكرر سلطة الابتداء، أم هل هو مجرد صدى يتردد على طول النص؟

تبدأ القصيدة ببيت تكرر في لفظه ومضمونه لمرات عديدة، فأصبح لازمة تظهر من حين لآخر بأشكال مختلفة ومضامين متطابقة مرّة، ويكمّل بعضها البعض الآخر مرّات أخرى، وهذا ما يمكن تأكيده عبر ما يلي من الأبيات:

الموسيقى تهبط تهبط (تكررت بشكل متطابق في المقطعين الأول والتاسع / أما في المقطع الرابع فذكرت لمرة واحدة مع الاكتفاء بذكر فعل "تهبط" لمرة واحدة فقط / "الموسيقى تهبط")

يتغير فعل "تهبط" على طول القصيدة ويصبح: تجيء / تذوب / تتألّق / تُحوّل / ترقص / تتموسق)، وفي هذا تأكيد لما تمّ تسميته بالتكرار الكروماتيكي النوع، وذلك لما تكوّن داخل البيت الواحد من أنصاف إيقاعات تفصل بينها أصوات حروف تتغيّر درجة درجة على طول الجزء الذي يتكرر:

الموسيقى تهبط تهبط

الموسيقى تهبط

الموسيقى تجيء

الموسيقى تذوب

الموسيقى تنام

الموسيقى تتألّق

الموسيقى تحوّل

الموسيقى ترقص

الموسيقى تتموسق

ونظرية الإيقاع الكروماتيكي هذه تجد لها صدى في المقطع السادس أيضا من القصيدة:

"منذ أن تعرّفتُ إلى دمي

وجدتُه محاصراً بالطيور

ومنذ أن تعرّفتُ إلى قلبي

وجدتُه ممتلئاً بالأبجديات."

المقطع إذن مكون من كلمات تتكرر شكلاً ومضموناً على طول المقطع، ولا يقع التغيير إلا في الكلمة الأخيرة، بحيث تصبح "دمي" "قلبي" و"طيور" "أبجديات"، مع الحفاظ على العلاقة الدلالية بين الكلمة الأصل والكلمة الجديدة، فالقلب له علاقة وطيدة بالدم، كما الطيور بالأبجديات.

أما المقطع العاشر من القصيدة فيمكن اعتباره نموذجاً مهماً لما يمكن تسميته بالتكرار الفعلي، لما وقع بداخله من تكرار لنفس الأفعال:

"الموسيقى تذوبُ كما تذوبُ الفضة

وتنامُ كما ينامُ العشّاقُ الذين أتعبهم طول الفراق

ووطأة الهجر

الموسيقى تتألّقُ فتحوّلُ الأحزانَ إلى حاء

وتحوّلُ الحاءَ إلى حرّية

ترقصُ كما يرقص الجنّي."

لكن تبقى الأبيات الحائية في هذا المقطع هي الأكثر إثارة للانتباه:

"الموسيقى تتألّقُ فتحوّلُ الأحزانَ إلى حاء

وتحوّلُ الحاءَ إلى حرّية"

وذلك لأنها مفتاح القصيدة كلّها، أي ذاك المفتاح الذي أعطى لموسيقى النص معنى حقيقياً تمتد جذور شجرته إلى عمق أعماق أرض الحرية الحقة: "جنة الوحدانية" بكل طيور أبجديتها وخمورها القلبية الحمراء المعتّقة النابعة من دوالي وعناقيد العنب العدني.

هكذا استطاع الشاعر عبر تقنية التكرار أن يحقق داخل النص مستوى فنياً يعتمد على الصدى والترديد لما يريد أن يؤكد عليه من معاني بعيداً عن أي نوع من النمطية الأسلوبية، مع إجراء بعض التغييرات البسيطة على المقاطع التي يقع فيها التكرار، وكأنّ الأمر فيه دعوة للرقص وإلى تذوق نفس الإحساس بالسعادة التي يعوم في بحارها الشاعر وهو يعزف مقطوعة العشق الأكبر. وليس هذا فحسب، فالإيقاعية التصاعدية الحاضرة في النص ليس لها فقط سلطة كروماتيكية تؤثر في النفس عبر موسيقى الحرف وتواشجاته، ولكن سلطة زمانية تلغي كل زمن له صلة بالماضي أو بالحاضر أو المستقبل، ليصبح الزمن الحقيقي هو الزمن الأبدي الذي ليس له أول ولا آخر، ولا بداية ولا انتهاء، باعتباره زمن الله وزمن حاء فردوسه، ذلك لأن النص الحقيقي هنا ليس ما نسجته قريحة الشاعر، وإنما ما استبصره الشاعر في عمق الذاكرة الجماعية للإنسان وفي عمق زمانها الذي هو صفوة وزبدة ما خزّنه كل إنسان في ذاكرته الصُلبية عن فردوس الحرية، وموسيقى طيوره الأبجدية: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ.)[128]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصلُ الخامس

إشارات الألوان عند أديب كمال الدّين

 

1.1    دولاب ألوان الشّاعر

          ـ سؤال في اللون

          إنّ اللون من الناحية العلمية ظاهرة ضوئية ظلّ تفسيرها غامضا لآلاف السنين، وقد اهتم بها في الماضي العديد من العلماء المسلمين كابن الهيثم والبيروني وابن سينا وغيرهم. أما ظاهرة استيعاب اللون والشعور به فربما يكون مردّه إلى عنصر الضوء الذي ينعكس على سطح الأشياء. وهذه هي الفكرة ذاتها التي كان قد عبّر عنها سابقا "إسحاق نيوتن" عبر اكتشافه لما يُسمّى اليوم بـ "طيف الضوء المرئي" والذي قسّمه إلى سبعة أجزاء أو ألوان. لكن، هل توجد حقّاً سبعة ألوان فقط في الكون كما حددها سابقاً "نيوتن"؟ طبعا لا. فنظريات الألوان ظلّت تتطوّر إلى أن جاء الرسام الفرنسي "كلود بوليه" وقدّم دولاباً جديداً للألوان سنة 1708، ثم  جاء بعده الأديب والعالم الألماني "يوهان جوته" فقدّم دائرة أخرى للألوان شرحها في كتابه نظرية الألوان (Theory of Colours,1810) والذي يعدّ أول دراسة منهجية للتأثيرات الوظائفية للّون بشكل عام، إلا أن الفرنسي "ميشيل أوجين" كان أول من قلب موازين القرص اللوني، فقال بوجود ألوان يزيد عددها على 14 ألف وليس سبعة ألوان فقط، تختلفُ كلها في قيمتها ودرجة لمعانها وكثافتها[129]. وإذ تمت الإشارة إلى هذا العدد الهائل من الألوان، فإن هذا لم يكن إلا بغرض الوصول إلى ما في ألوان الشاعر من جِدّة تنبع من كمونها تحت ستار الحجب، فوجب الكشف والسؤال عن معنى اللون بالنسبة لشاعر لا يهتم فقط بالحرف وناره وتنوره الكوني، ولكن بكيميائه أولاً وقبل كل شيء. فمن يدري، لربما تكتشف أيها القارئ أن الأسود في قصائد هذا الشاعر قد يكون علامة فرح، والأبيض إشارة حزن، والأحمر دلالة على شيء آخر لا عهد لك ولي به!

          ـ الباء كمنظار للكشف عن اللّون

يقول أديب كمال الدّين في قصيدته "أنثى المعنى":

"الباءُ لها شكلُ الأنثى،

شكلُ الحلم السريّ وضوضاء الأمطار.

الباءُ فنار.

(أخرجُ من شيخوخةِ رأسي

في المرآة

كي ألقي القبضَ على الشاعرِ فيّ

وأجلسه قربي منتصف الليل، أدفّئه

من بردِ شتاءٍ مقرور.)

تدخلُ في دائرةِ الفعلِ الباء.

///

الباءُ جمال وحشيّ

الباءُ: الليلُ بلا أحداق ونجوم.

الباءُ: فراش مكتظّ بالمعنى.

( أخرجُ من شيخوخة قلبي

وأحدّق في حرفِ الفجرِ وحرفِ الله

فأرى وجهي يتغضّن، والكلماتُ الحقّ

تتوعدني بالمحذور.)

///

الباءُ: البحرُ بعيد: سجّادةُ ألوان غامضة بالطير

الباءُ: الصحراءُ هنا تمتدُّ مفاجأةً للهارب

لا ليل سوى الليل الأعمى

والفجرُ بعيداً أقعى..

الأسودُ سيدّ دعوتنا"[130]

ليست هذه هي المرّة الأولى التي يتطرّق فيها الشاعر إلى المفهوم الكوني للأنثى، لكنه في هذا النص جعل من الباء دالا على الجانب الأنثوي من روح الوجود، بل جعل من هذا الحرف رديفاً لصفة الحلم السريّ وضوضاء الأمطار. فالباء مصباح كاشف، طاقة أنثوية مطلّة على المكنون في الغد وما بعد الغد. إنها نوع من الدخول أو الولوج في عملية التحوّل والتطوّر والاستعداد إلى استقبال حالة الامتلاء بنور ونار الروح القدس (أخرجُ من شيخوخةِ رأسي / في المرآة / كي ألقي القبضَ على الشاعر فيّ / وأجلسه قربي منتصف الليل، أدفّئه / من بردِ شتاءٍ مقرور.) إنها نوع من الصلاة هذه التي تدعو إليها الذات الشعرية عبر حرف الباء، صلاة يومية ومتواصلة، بل معراج نحو السماء عبر البحث عن الذبذبة الأنثوية التي تحرك الكون (تدخلُ في دائرةِ الفعلِ الباء).

إن الأمر لا يتعلّق بمجهود موجّه نحو الخارج ولكن نحو الداخل، نحو منجم النفس الذي تنصهر في داخله الصفة الذكرية وتتلاحم مع الروح الأنثوية لكل إنسان. والشاعر استعان بالباء هنا كي يكشف عن جزء يسير جداً من تجلّيات الوجود، أي ذاك الجزء الذي يخصّ ماهية الألوان. فهو، أي الشاعر يقول في هذا النص وفي نصوص أخرى بأنّ حرف الباء أظهر أن الأسود هو سيّد الألوان (الأسودُ سيّد دعوتنا)، والباء هنا إذ يقوم بدور الفنار فذلك لأن وجود الكون بأسره موقوف عليها، فما بالك باللون؟ وقد جُعلت النقطة تحتها لأن صدور الكون من الباء إنما يَظهَر في الجانب السفلي من مقام الباء، فتكون النقطةُ بين الباء وبين الكونِ هي عينُ التوحيد، أو الحاجزُ الذي يَمنع الكونَ من الشِّرْكِ ، فيبقَى التوحيدُ معصوماً في الخَلق والأشياء.

إذن إذا كان اللون الأسود هو سيّد الألوان حسب ما ورد في هذا الجزء من القصيدة، فهذا يعني أن دولاب الألوان المتعارف عليه سوف ينقلب رأساً على عقب، وبدلاً من أن يكون مؤلّفاً في ألوانه الأولية من الأحمر والأصفر والأزرق حسب ما اتفق عليه أهل اللون، فإن اللون الأولي الذي ستصدر عنه كل الألوان سيصبح هو الأسود، وهذا ما سيدفع المتلقّي إلى طرح السؤال التالي: لماذا الأسود هو أول لون في دولاب أديب كمال الدّين؟

يقول الشّاعر في النص نفسه دائما:

"الباءُ جمال وحشيّ / الباءُ: الليلُ بلا أحداقٍ ونجوم./ الباءُ: فِراشٌ مكتظّ بالمعنى

الباءُ: البحرُ بعيد: سجّادةُ ألوانٍ غامضة بالطير / لا ليل سوى الليل الأعمى."

مازال حرف الباء هنا يتحدث عن الجمال الوحشي، أي البدائي الذي ظهر أول ما كانت عملية التخليق، بكل ما فيها من قوة وعنف واختمار وانفجار، جمال أسود وكأنه ليل معتم لا أثر فيه للضوء، ولكنه مع ذلك فهو سجّادة من الألوان الغامضة، وغموضها هذا نابع من كونه لا يُعرف كيف ولماذا خرجت منه ألوان أخرى رغم كل هذا السواد والظلام العظيم. إنه حقاً سؤال كبير لا يمكن سبر أغواره إلا عبر الغوص في نصوص أخرى من دواوين شعرية أخرى.

 

ـ لماذا الأسود سيّد الألوان؟

في نصه "الغراب والحمامة"[131] يقول الشاعر:

"حين طارَ الغرابُ ولم يرجعْ

صرخَ الناسُ وسط سفينة نوح مرعوبين.

وحدي – وقد كنتُ طفلاً صغيراً-

رأيتُ جناحَ الغراب،

أعني رأيتُ سوادَ الجناح،

فرميتُ الغرابَ بحجر.

هل أصبتُه؟

لا أدري.

هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟

لا أدري.

لماذا كنتُ وحدي الذي رأى

سوادَ الغراب

ولم يره الناس؟

لا أدري.

2.

حين عادت الحمامةُ بغصنِ الزيتون

صرخَ الناسُ وسط السفينةِ فرحين.

لكنَّ الغراب سرعان ما عاد

ليصيحَ بي بصوتٍ أجشّ:

أيّهذا الشقيّ لِمَ رميتني بالحجر؟

اقترب الغرابُ منّي

وضربني على عيني

فظهرت الحروفُ على جبيني

عنيفةً، مليئةً بالغموضِ والأسرار.

ثُمَّ نقرَ جمجمتي

فانبثقَ الدمُ عنيفاً كشلال.

3.

نزلَ الناسُ من السفينةِ فرحين مسرورين،

يتقدّمهم نوح الوقور

وهو يتأمّلُ في هولِ ما قد جرى.

حاولتُ أنْ أوقفَ

شلالَ الدمِ الذي غطّى رأسي ووجهي.

فاقتربت الحمامةُ منّي

ووضعتْ على رأسي حفنةَ رماد:

حفنةً صغيرة،

مليئةً بالغموضِ والأسرار.

4.

هكذا أنا على هذه الحال

منذ ألف ألف عام:

الغرابُ ينقرُ جمجمتي

فينبثقُ الدمُ عنيفاً كشلال.

والحمامةُ تضعُ فوق جمجمتي،

دون جدوى،

حفنةَ رماد!"

أسئلة كثيرة تتدفق داخل الذهن بمجرد القراءة الأولية للنص: لماذا بدأ الشاعر عنوان قصيدته بالغراب وليس الحمامة؟ أي لمَ لمْ يقُل "الحمامة والغراب"؟ ثم إذا كان الشاعر قد صرّح بلون الغراب قائلاً بأنه أسود، فما كان لون الحمامة؟

لا شك أن هندسة الكلمات هنا ونظامها بل ترتيبها يمتلك معنى خاصاً ومحدداً. فكون الشاعر بدأ بالغراب لا الحمامة فذاك مردّه إلى رغبته في التأكيد على أسبقية اللون الأسود ثم بعد ذلك تأتي بقية الألوان الأخرى، لكن لماذا؟

لأنّ اللون الأسود هو لون التخمّر والتحلل البيولوجي والكيميائي للمادة، أي لون الولوج في النار أو الحرارة الخارجية التي تتفاعل كيميائيا مع الحرارة الداخلية لأي جسم، والمسؤولة عن كل أشكال "التعفن" البيولوجي، هذا الأخير الذي سيحّول بدوره أيَّ مادة حيّة إلى الأصل الذي كانت عليه في البدء. والشاعر إذ يشير إلى هذا المسار العجيب، فإنه يؤكّد على فكرة بدأ الإنسان مرحلة الوعي بذاته الداخلية، أي بمنجم نفسه، ذاك المنجم الذي سيستيقظ فيه وينتبه إلى نفسه كي يرى فجأة فوق مرآتها جناح الغراب الأسود، ومن هناك سيبدأ في التحلل والتفتت بهدف التخلص من كل الشوائب والعودة إلى منبع الروح. وهي الفكرة التي عبّر عنها أديب كمال الدّين في قصيدته "نوم" قائلا:

"لِمَ تنام؟

النومُ عادةُ السعداء والمُهرّجين

وأصحاب الملايين أيضا.

أما الشعراء فلا ينامون"[132]

والشاعر هنا لا يقصد بالنوم ما اعتاده الناس، وإنما تجده هنا قد أعطى لظاهرة النوم مفهوماً جديداً مرادفاً للغفلة أو الخروج والغياب من وعن الذات، أي عدم حضور النفس والروح حتى لحظة النوم العادي، إذن ففي ظهور الغراب فجأة وتعرّف الإنسان عليه، أو استيعاب الإنسان لما بداخله من سواد، استيقاظ من الغفلة ودخول إلى تنّور النفس، وحضور دائم وانتباه مُرَكّز للذات وهي في سيرها نحو التفتت والتحلل والتخلّص من كل الشوائب. وفي الحديث عن ظهور الغراب، لا يُقصد به أنه لم يكن موجوداً سابقاً، لكن الإنسان هو الذي لم ينتبه إلى وجوده، والشاعر أديب كمال الدّين قد تطرّق إلى هذه الفكرة وتوقّف عندها بشكل مركّز، حينما قال:

"وحدي – وقد كنتُ طفلاً صغيراً- / رأيتُ جناحَ الغراب، / أعني رأيتُ سوادَ الجناح".

فكون شخصية "الطفل" رأت سواد الجناح، فهذا يعني أن الغراب كان في حركة رفرفة دائمة وسط سديم الكون أو النفس، بل في حالة ذهاب وإياب سريعين ومستمرين (انظر عبارة: " لكنَّ الغراب سرعان ما عاد")، هذا يعني حركة الإنسان وتنقّله بين الوعي واللاّوعي مستمرة، وإلا ما كان الشاعر ليختم نص "الغراب والحمامة" بهذه الأبيات:

" هكذا أنا على هذه الحال / منذ ألف ألف عام:/ الغرابُ ينقرُ جمجمتي / فينبثقُ الدمُ عنيفاً كشلال./ والحمامةُ تضعُ فوق جمجمتي، / دون جدوى، / حفنةَ رماد!"

وهي خاتمة تجدها تكررت في نص آخر أسماه الشاعر في مجموعة أخرى ب "قصيدتي الأزليّة"، وهذا مقطع منه:

" وإذ كانت النارُ على إبراهيم برداً وسلاماً

فإنها لم تكنْ لي

سوى نارٍ من الألمِ والحقدِ والحرمان

اشْتَعَلتْ

ولم تزلْ تشتعل فيّ

في كلّ يوم

هكذا إلى يوم يُبعَثون!"[133]

محقّ إذن هو الشاعر إذ نعت قصيدته بـ"الأزليّة"، فأزليّ هو هذا المصير العجيب الذي ابتلي به آدم وذريته منذ أول لحظة من لحظات الخلق. لذا فما على الإنسان إلا أن يسعى جاهداً كي يخلص نفسه بنفسه من هذه الانتقالات المستمرة بين حالات الوعي واللاوعي، عليه أن يسعى إلى بناء جسده الكوكبي أولاً بشكل يسمح له بعد ذلك إلى وضع اللبنات الأساس لما يمكن تسميته بالجسم الخالد والأبدي، أي الروح. فالهدف إذن هو معرفة الطريق المؤدية إلى التحوّل من الوعي، إلى العقل، إلى القلب ثم بعدها إلى الروح.

إذن فالحرف الذي ذكره الشاعر منذ البداية في عنوان ديوانه الجديد يُقصد به "الإنسان" ولا أحد غيره، أي الإنسان في رحلته مع غراب نفسه. كيف ذلك؟ الجواب هنا في هذا المقطع من قصيدة أديب كمال الدّين الأزليّة والتي كان قد كتبها قبل صدور ديوان "الحرف والغراب" بسنين عدّة:

"حتّى إذا هدأت العاصفة

وقيل يا أرض ابلعي ماءك

هبط الكلّ من سفينةِ نوح

فرحين مُبَاركين

إلاّي.

وثانيةً صرختُ بنوح:

يا رجلاً صالحاً

يا رجلاً عادَ من طوفانه: الجلجلة.

قالَ نوح: مَن أنت؟

قلتُ: أنا الإنسان.

قالَ: مَن؟

قلتُ: أنا المؤمن الضال.

قالَ: مَن؟!

وتركني في المركبِ دهراً فدهراً

حتّى إذا غيّبَ الموتُ نوحاً

تحرّك المركب

تحرّك بي وحدي

لأواجه طوفانَ عمري

في موجٍ كالجبال

أنا الذي لا أعرفُ الملاحةَ ولا السباحة

وليس لديّ حمامة أو غراب."[134]

إذن فالإنسان الذي يعتبر نفسه اليوم حيّاً بعد حادثة الطوفان النّوحي، هو في حقيقة الأمر الواقع جسد ميت، منذ أن ذهب عنه نوح وتركه لمصيره الأسود. لكن كيف يمكن التصريح بهذا، هل يعقل القول بأنه لا وجود اليوم للحياة على سطح هذا الكوكب؟ والجواب الطامّة يوجد في هذه القصيدة، وليست ثمّة مساحيق أو ألوان في الكون بأسره يمكنها أن تزيّن أو تغطّي أو على الأقل تلطّف من صدمة مواجهة هذه الحقيقة المرّة:

"مرّتْ قرون طويلة

على فراقنا.

غرقَ مركبُ نوح ثانيةً في الطوفان

فصارعلى الناجين

أن يجرّبوا الصبر

من دون نبيّ.

واحترقت المدنُ العظيمة

خلف الجبال والزمن والأمطار

واحترقت الاحلامُ كلّها:

أحلامُ العصافير وأحلامُ الطغاة

ولم أزل انتظر

أن ألتقي بكِ يوماً

لأستعيد معك

قصةَ رحلتنا الأولى مع نوح،

مع الأمل،

مع الحمامةِ والغراب،

لأستعيد معك

ذكرى المدنِ العظيمةِ التي احترقتْ بعيداً

وأستعيد معكِ شيئاً من الحلم

على سريرنا الضيّق.

نعم

لم أزلْ أنتظرك

لأقولَ لكِ ما لم يقله أحدٌ من قبل

ولأشير إليك:

بإصبعي الوحيد الباقي حيّاً في كفّي

لم أزلْ أنتظرك

مستمتعاً بانتظارك

مثلما تنتظرُ شجرة وحيدة في الصحراء

صاعقةً أقبلتْ إليها من السماء

مليئةً بالنارِ والموت."[135]

لذا فسواد الموت الذي غرق فيه الإنسان بعد النبي الصالح المسالم نوح (ع)، هو أسود من سواد الاختمار الروحي والتحلّل الداخلي، بل هو أشدّ سواداً من الغراب نفسه. ألم تسمع الشاعر وهو يقول:

"حين مرّ الغرابُ من فوق رأس الموت

قال: أنا الغراب.

قال الموتُ: ثم ماذا؟

قال الغرابُ: أنا الغراب الأسود!

فضحك الموتُ وقال: أنتَ بالنسبة لي

أكثر بياضاً من الثلج!"؟[136]

نعم حتى بياض الثلج هنا لم يعد له معنى أمام سواد الموت، بل حتى السؤال عن حمامة نوح لم يعد يجدي بنفع مصداقاً لقول الشاعر نفسه:

"قال الطائر،

الطائرُ الذي ينامُ عشّه فوق الشجرة الوحيدة:

لا تسألْ عن اسمي

سواءً كان اسمي الغراب أو الحمامة

بل اسألْ عن سفينتك:

سفينتك التي غادرها نوح

منذ زمنٍ طويل

ونزلتْ منها الكائناتُ كلّها

فرحةً مستبشرة.

وبقيتَ أنتَ فيها وحيداً كالموت

تنتظرُ معجزةَ أن تبحر السفينة

لوحدها من جديد!"[137]

لكن وإن كان لا يحقّ السؤال عن حمامة نوح، فلربّما السؤال عن لونها قد يكون شفيعاً للتعرّف إلى ما تعنيه الحمامة في نصوص الشّاعر بشكل عام وفي قصيدة "الغراب والحمامة" بشكل خاص.

ـ اللون الأبيض

إن وصول الإنسان إلى اكتشاف منجم نفسه، هو في حقيقة الأمر ليس مجرد مسار ذهني أو ثقافي أو حتى تاريخي، ولكنه أولا وقبل كل شيء مسار جوانيّ مفعم بالتفاعلات والانفعالات والأحاسيس البشرية، التي لها قدرة قوية على توجيه الإنسان نحو مرحلة الاختمار وبالتالي التحلل، هذا الأخير الذي تليه مباشرة لحظة ولادة أو قيامة من الموت، بل انبجاس للنور وسط الظلام الدامس وكأنه حمامة نوح. هكذا إذن يتجلّى لك أن اللون الثاني الذي يأتي مباشرة بعد اللون الأسود هو الأبيض.

إذن فكون حمامة نوح بيضاء، ففي هذا ربما إشارة إلى أن السفينة هي رمز للجسد البشري، وماء الطوفان رمز لماء التخليق، إذ بدون ماء لا يمكن أن يحدث اختمار أو تحلل، وسواد الغراب هو رمز لسواد العدم وبداية الكون الغارق في ظلامه الرهيب. وما من فراغ قال الشاعر في ديوان (مواقف الألف):

"أوقَفَني في موقفِ الظلام

وقال: الظلامُ يحيطُ بك

مِن كلِّ صوبٍ يا عبدي.

فَعَلامَ الهرب؟

وَعَلامَ التعب؟

إنْ تصوّرتَ أنَّ للجسدِ شمساً

أو أنَّ للحلمِ ألَقاً

أو أنَّ للذهبِ روحاً

فأنتَ مِن الواهمين."[138]

لكن على الرغم ما قيل في حقّ اللون الأبيض باعتباره ثاني محطة يحطّ بها السالك رحاله وهو في طريقه إلى الخلاص، إلا أن الشاعر يظلّ يرى في الأسود طمأنينة الألوان كلّها. انظر كيف يمدح السواد وهو في مقام الحديث عن البياض:

"قال الطبيبُ الذي يرتدي قميصاً أبيض

وبنطلوناً أبيض

وحذاءً أبيض

- هل كانت طفولتكِ بيضاء؟

· (لا)

- هل كان شبابكِ أبيض ؟

· (لا)

- هل كانت شيخوختكِ بيضاء؟

· (لا)

- قال الطبيبُ: إذن ماذا تنتظرين؟

· قالت: (أنتظرُ الموتَ ليأتي ويأخذني

مرتدياً طفولةً سوداء

وشباباً أسود

وكهولةً سوداء.)

مدّ الطبيبُ يده ذات القفّاز الأبيض

إلى الضحية

فأبعدها الموتُ برفق

كان الموتُ يبكي على الضحيةِ بدموعٍ سود.

لكنّ الضحية نفسها

وجدتْ في الأسود،

في آخرِ المطاف،

طمأنينةَ الألوانِ كلّها."[139]

الموقف هنا رغم البياض الذي فيه موقف موت وعودة إلى سواد العدم والسديم الأوليّ. والنص فيه ثلاثة شخصيات، كلّها أساسية، والذات الشعرية هي محرّكها الوحيد وفق مخطط معين ومدروس جدا:

الشخصية الأولى

وهي الطبيب لكن حضوره في النص بهذا الشكل يستدعي الجواب عن أسئلة أخرى يمكن طرحها كما يلي:

لمَاذا الطبيب؟ لمَاذا اللون الأبيض؟ وما مقامه داخل نسيج متن النص الشعري؟

الطبيب هو القوة النفسية الداخلية لكل إنسان، هذا الأخير الذي بمجرد وعيه بما يحمل من آلام، تقطع نفسه بداخله مسافات هائلة من التحوّلات والتغيّرات كي تخرج من صحارى السواد وتنزل أخيراً في واحات البياض، فيصبح الإنسان طبيب نفسه، وذلك بهدف تقديم يد المساعدة والنجاة، وبالتالي شفاء جسده وروحه معاً من الحزن والارتباك، من الخوف والاحباط، ومن كل المشاعر السلبية كيفما كان نوعها ومصدرها.

أما اللون الأبيض فهو شاهد على هذا التحول من حالة إلى أخرى، وعلى ما يحدث داخل الإنسان من تطور، واتجاه نحو البساطة والنقاء.

أما مقامه ففيه إشارة للسلطة الروحية التي تساعد الإنسان في الاهتداء إلى معالجة نفسه بنفسه، مع تنقية روحه من الشوائب والتأكسدات التي طالتها. وهذه السلطة هي سلطة ملائكية خصّ بها الله كل إنسان، وغالباً ما تكون مصحوبة ببكاء الإنسان ودموعه الحرّى وهو في طريقه بعون هذا الملاك إلى أن يصير طبيب نفسه، وما من فراغ تجد الشاعر يقول ما يلي في موقف يتحدث فيه عن الدمع والبكاء، موقف لا يبدو أبداً من قبيل الصدفة، إنه أسماه ب"موقف البياض":

"أوقفني في موقفِ البياض

وقال: أدهشكَ البياضُ يا عبدي

أم أدهشكَ الحرمان؟

أدهشكَ المشهد

أم أدهشكَ اللون؟

أدهشكَ الدفء

أم أدهشكَ الإصبع؟

أدهشكَ الدمع

فكنتَ على سجّادتي تبكي؟"[140]

 

الشخصية الثانية

لا يُعرف عنها سوى أن الذات الشعرية تسميها "بالضحية" وتخاطبها بصيغة التأنيث (انظر حركة الجر تحت الكاف أو ضمير المخاطب)، وأن كلّ أجوبتها عن أسئلة الطبيب تنفي كل ما له أيّ صلة بالبياض.

ماذا يعني هذا؟ أو ما الذي يعنيه هذا الإلحاح في التمسك بالسواد؟ "(أنتظرُ الموتَ ليأتي ويأخذني / مرتدياً طفولةً سوداء / وشباباً أسود / وكهولةً سوداء).

إنه رغبة روح كل مؤمن في العودة إلى سواد البدء، إلى ظلمة السديم، أيْ إلى النقطة الأُمّ، وإلى مركز الكون السابح في ظلام عظيم:

"أنا نقطتك التي هي مركز الكون،

نقطتك السابحة في ظلام عظيم"[141]

 

          الشخصية الثالثة

هي الموت. وهي أعلى درجة من الشخصية الأولى، باعتبار أن هذه الأخيرة تنحّت وانسحبت وتركت لملـَك وسلطان الموت سلطة أخذ الروح والعودة بها إلى مركز الكون:

" مدّ الطبيبُ يده ذات القفّاز الأبيض

إلى الضحية

فأبعدها الموتُ برفق

كان الموتُ يبكي على الضحية بدموعٍ سود."

بقيت كلمة أخيرة لا بد من قولها في حقّ الذات الشعرية. إذ عبر هذا السفر في رحاب كلمات وبعض معاني قصيدة "ألوان" يتضح أن هذه الذات هي نفسها الطبيب والضحية، والأعجب في كل هذا، هي هذه السعادة والطمأنينة التي شعرت بها بعد أن أسلمت روحها لملك الموت، وكأنها عريس يموت عشقاً ويذوب من اللهف والحرقة من أجل لقاء عروسه نقطة الكون ومركزه:

"النقطة عروس

والحرف عرس

فما أسعدني أنا لابس البدلة البيضاء

وواضع الزهرة البيضاء في أعلى البدلة."[142]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2.1   ماذا بعد اللونين الأسود والأبيض؟

          ـ الإنسان الأحمر

يقول أديب كمال الدّين في قصيدة "الغراب والحمامة":

"اقترب الغرابُ منّي

وضربني على عيني

فظهرت الحروفُ على جبيني

عنيفةً، مليئةً بالغموضِ والأسرار.

ثُمَّ نقرَ جمجمتي

فانبثقَ الدمُ عنيفاً كشلال."

المقطع فيه تجل لعين الحرف ونبعه، وعليه فالغراب هنا لعب دور الكاشف عن هذا المكمون من العلم والمعرفة اللدنية داخل الإنسان. وإذ يقول أديب كمال الدّين، إنها "مليئة بالغموض والأسرار" فذلك لأنّ الإنسان لم يزل لم يصل إلى تلك المرحلة التي يصبح فيها عالماً وعارفاً بالعلوم الربانية، وهذا يعني أنه لم تزل بداخل منجمه النفسي، مفاوز وشعاب ووديان عليه أن يتكبّد عناء ووعثاء السفر فيها، علّه في الأخير يصل إلى شلاله الأحمر، فيغتسل به ويصبح إنسانا أحمر. وهذا التصريح مبني على هذه الصورة الموجودة  في أواخر أبيات المقطع أعلاه تتحدّث عن هذا:

"ثُمَّ نقرَ جمجمتي

فانبثقَ الدمُ عنيفاً كشلال"

إذن فصورة الانبثاق حسب وصف الشاعر لها، كانت عنيفة، وشدّة عنفها هذه جعلته يقول عن الدم السائل، أنه شلال هادر، لذا فصورة الشلال هذه تعني أن الإنسان مغطى بالدم الأحمر من قمّة رأسه حتى أخمص قدمه، وإن كان الشاعر يركز في القصيدة على الرأس والوجه:

"حاولتُ أنْ أوقفَ

شلالَ الدمِ الذي غطّى رأسي ووجهي"

ما معنى أن يتحول الإنسان من اللون الأسود إلى الأبيض، ليختم الرحلة بالوقوف عند اللون الأحمر أو عند ما يمكن تسميته مجازاً بالمرحلة الحمراء؟

غالبا ما يفضل أهل العلم والعرفان عدم الحديث عن هذه المرحلة، لكن الباحث إذ يجد نفسه أمام كتابات الشاعر الحروفي أديب كمال الدّين، لا يسعه سوى أن يشرع صدره كي يتهيأ لقبول المعرفة التي قدمها له الشاعر على مرّ دواوينه، داعيا إياه بلطف "ربّ اشرحْ لِي صَدْري وَيَسّرْ لي أمْرِي"[143] ومحبّة "أرسلتُ لكِ سينَ سليمان / حتّى تنشرح نونكِ وتكتمل."[144] وإذ ينشرح الصدر وتكتمل النون، يكتشف الباحث، أن الشاعر قد خصص العديد من قصائده لهذه المرحلة الحمراء في حياة الإنسان السالك، أيْ مرحلة الإزار الأحمر، مرحلة الدم، بل مرحلة النقطة الحمراء.

والوصول إلى هذه المرحلة الحمراء يعني أن الإنسان قد توصّل إلى حقيقته الروحية الإلهية التي كانت بداخل جسده الفيزيائي منذ البداية وهو غافل عنها. وهذا النوع الجديد من الحقيقة يمكن تسميته بالجسد الريشي، الذي تحدّث عنه أديب كمال الدّين في ديوان "الحرف والغراب" قائلاً في مقطع من قصيدة "بطاقة تهنئة":

 

 

"لا بأس.

هذه المرّة

لا تكتبْ عن الطائر.

أنتَ لستَ بطائر،

فهمتْ؟

ولا عن الجناح.

أنتَ لستَ جناحاً،

فهمتْ؟

ولا عن المنقار.

أنتَ لستَ منقاراً،

فهمتْ؟

ولا

ولا

ولا.

اكتبْ، فقط، عن الريش.

أنتَ ريشةٌ سقطتْ من جناحِ طائر."[145]

إذن فالوصول إلى هذا الجسد الريشي هو ضالة كل إنسان اليوم وغداً، وهذا ما دفع كبار أطباء علوم النفس المعاصرين بالاعتراف بأن سعادة الإنسان هي رهينة بوصوله إلى هذا الجسد، وعليه يصبح مفهوم السعادة روحانياً لا مادياً، أي مفهوماً لصيقاً بما هو سماوي معراجي.

السعادة هي سفر وهجرة، تبدأ بتحديد البيت الحقيقي لكل إنسان. تحديد لا يمكنه أن يتحقق إذا لم يطرح الإنسان أسئلته الفلسفية الوجودية الكبيرة: "من أين أتيتُ؟ وأين هو وطني الأنطولوجي الكينوني الذي عليّ أن أعود إليه؟"، هو فقط تحديدُ هدف الوصول كفيل بأن يضمن للإنسان تجنّب خطر الوقوف عند أول محطة من محطات هذا السفر العسير، أو الوقوع في شباك أنصاف أو أشباه الحلول، وهي الفكرة ذاتها التي عبّر عنها الشاعر أديب كمال الدّين في قصيدته "انسلال" التي يقول فيها:

"مثل كلّ مرّة

اختفى الطريقُ إلى البيت

وأنتِ معي.

فماذا سأقول؟

بل ماذا سأفعل

والظلامُ يحيطُ بي من كلِّ صوب

كما يحيطُ الصبيةُ العابثون بمجنون؟

وكيف لي

وسط ليلٍ يستقبلني بحجارةٍ من سجّيل

أنْ أقودكِ ثانيةً

لأعبر بكِ الشارعَ المظلم

إلى الغرفةِ المُعلّقةِ في الأعالي؟

أقودكِ كي لا أترككِ تنسلّين

وقت الفجر إلى الأبد.

أقودكِ كي أعاهدك

أنْ أبقى الليل كلّه،

أعني العمر كلّه

يقظاً مثل جمرة."[146]

على كل إنسان أن يحاول البقاء يقظا كجمرة حمراء، كي يضمن الوصول بروحه إلى "الغرفة المعلّقة في الأعالي"، عليه أن يحافظ على جسده الريشي الجمري اللون، ويحميه من فتنة كلّ من يعدُه بقيادته إلى بيت آخر لا علاقة له إطلاقاً ببيته الحقيقي، وذلك حتى لا يحدث له ما حدث ل "عوليس" الإغريقي، ملك "إيثاكا" مع الحورية "كاليبسو" التي حبسته بكهفها وحاولت لما يزيد عن سبع سنوات فتنته وإغواءه وسحره لتحول دون عودته إلى بيته الأصلي ووطنه الأم، هذا الوطن الذي لا محيد عنه لكل إنسان على وجه هذه البسيطة مصداقاً لقول الشاعر في نصه "موقف البيت":

"يا عبدي

لا بيت لكَ إلا بيتي،

فادخلْه مطمئناً

وقلْ: سلامٌ سأستغفرُ ربّي.

وقلْ: الحمدُ للهِ الذي آواني

بعد تَشرّدٍ وضياع

وَجَعلَ حرفي ونقطتي جدرانَ بيتي."[147]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1.3          أديب كمال الدّين الرسام النّـُقـْطيّ

 

هل وقفت يوماً أمام نص شعري فقرأته بأذنيك وسمعت أحرفه بعينيك، وشعرت بعد ذلك كأنك أمام لوحة فنية تنبض بالحياة وتتمتع بألوان قوية الاختراق بشكل يفوق كل خيال وتصور؟!

قد يبدو السؤال غريباً، لكنه على غرابته يستند إلى أرضية شديدة الارتباط بإشكالية الشعر والرسم وما يجمع بينهما من وطيد العلاقة الضاربة بجذورها في أعماق تاريخ الإبداع البشري. إذ كلما كان للشاعر أوالرسام بصيرة نفّاذة قادرة على التقاط ما تراه حولها في الكون من تجلّ للفعل ولونه، ولحركة الأجسام بكافة أنواعها وأجناسها، كلّما تحوّل نص الشاعر إلى لوحة، وأصبحت لوحة الفنان قصيدة. وأديب كمال الدّين شاعر ريشته الحرف ولونه النقطة، لذا فهو رسّام نُقْطيّ. لأنّ معظم نصوصه أثبتت أنه في فعله الكتابي يتحرك داخل النقطة. منها يخرج وإليها يعود، وفيها يقف ويدور ويدور، فيخرج من يده اللون الأسود (خرجت النقطةُ من الباب / كانتْ عسلاً أسود) ومن الأسود الأبيض (كانت النقطة نوراً يلفّ كلّ شيء / نوراً خرج لينير سواد طفولتي / فحاول قتله كلُّ ظلام الأرض). ومن الأبيض الأحمر، الذي هو اللون الحقيقي للنقطة: "كانت النقطةُ دمَ الجمال / دمَ المراهقة / دمَ اللذة / دمَ السكاكين / دمَ الدموع / دمَ الخرافة / دمَ الطائر المذبوح / كانت النقطةُ دمي)[148]. وهو في هذا يُرسّخ مفهوماً جديداً للكتابة والرسم انطلاقا من النقطة لا لكي يتحدّث فقط عمّا يحكم حياة الناس من عبث وتناقض وهوس وألم وأفراح، تنتمي كلّها إلى عالم من أحلام يعتقد كلّ إنسان أنها حقيقته وضالته المطلقة، ولكن لكي يتحدث أيضا عمّا في هذا التناقض والعبث الظاهري من تناسق وكمال مطلق يصعب الوصول إلى كنه الحكمة فيه. وهو في هذا رسّام يخلط الألوان خلطاً حروفياً بصرياً مع الفصل بين اللون الموضوعي واللون الضوئي، وبين حركتهما التفاعلية التي هي: حياة الناس فوق هذا الكوكب العجيب السابح في ظلام عظيم. والشاعر إذ يقوم بهذه العملية الشديدة الصعوبة، لا يكتفي بالشعرية في مفهومها الأدبي، ولكن يلجأ إلى الشعرية بمفهومها العلمي أيضا: كي يقلب كل الموازين التي سبق لمنظري الأدب أن حدّدوها جاعلين من الشعر مجرّد فنّ إنساني لا علاقة له بالعلوم الحقّة وخاصة منها علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات.

والشاعر في رسمه لقصائده "العلمية" يرتكز على مفهوم "التضاد اللوني"، فكلّ بيت مضيء بمعنى ما، يقابله بيت آخر غارق في الظل والظلمة، وهو في هذا يدعو القارئ إلى تفتيت لون المعنى أو الفكرة المراد إيصالها، تفتيتاً عقلياً وبصرياً حتى يقع انسجام المعنى الحقيقي بداخل العقل، وفي هذا المقطع مثال تطبيقي لهذه الأطروحة:

"قالَ الشحّاذ: ما معنى الرغيف؟

فهبطتْ بهدوءٍ من عينيه دمعةٌ حرّى.

قالَ الشرطيّ: ما معنى المظاهرة؟

وملأ بثقةٍ مسدسَه الكبير بالطلقات.

قالَ النهر: ما معنى الماء؟

فارتبكَ بشدّةٍ وكادَ قلبُه أنْ يتوقّف.

قالَ الغراب: ما معنى الحمامة؟

وضحكَ بخبثٍ ضحكةً صفراء.

قالَ الحرف: ما معنى النقطة؟

ومسح بألمٍ صورتَها من كتابِ الوجود.

قالَ الموت: ما معنى الحياة؟

وغسلَ بلا مبالاةٍ يديه الضخمتين من الدم!"[149]

والقول بهذا الطرح يُذكّر باسم فنان ذكره الشاعر أديب كمال الدّين في أكثر من نصّ، ويُقصد به "فان كوخ". فما علاقة هذا الأخير بأديب كمال الدّين؟

والجواب بسيط ومعقّد معاً: إنها النقطة هذا السرّ العظيم الذي يجمع بين فنان من القرن التاسع عشر (1853 ـ 1890) وآخر معاصر. فـ"فان كوخ" كما تقول الدراسات النقدية الفنية كان يرسم بالنقطة، وكل لوحاته تشهد بذلك، ومن النقطة كان يعطي للوجود الغائص في تراكُبيّاته المتداخلة معنى جمالياً منقطع النظير، معنى مفعما بالضوء والحياة. ولربّما هذا هو السبب الذي دفع بالشاعر أديب كمال الدّين أن يدرج النص الذي ذكر فيه "فان كوخ" في ديوان "النقطة" والذي يقول فيه:

"هل سمعتَ بميكائيل أنجلو؟

هل سمعتَ بفان كوخ؟

///

هل سمعتَ بما لا ينبغي أن تسمع؟

لكنني كنتُ أضحك حتّى أبكي

وأبكي حتّى أموت

ثم أولد كي أبكي ثم أموت."[150]

وهناك نص آخر يحمل اسم "فان كوخ" كعنوان له، ويقول فيه الشاعر:

"لأجلِ أن أشمّ خفايا حرفكِ البضّة

فإنني مستعد أن أهديك أذني

كما فعل فان كوخ"[151]

وعليه فإذا كان "فان كوخ"، قد جعل من خفايا الليل وحلكته لوحة مضيئة منيرة ومشرقة أسماها "الليلة المضيئة بالنجوم" (1898)، فإن أديب كمال الدّين، أخرج من سواد السديم، أبجدية من نور تقيم معرضها في الهواء الطلق كلّ ربيع، بل أبجدية أصلها النقطة وكاشفها الباء، كما يشير هنا الشاعر في نصّ "ذات ربيع":

" ذات ربيع

أقامت الحروفُ معرضاً في الهواء الطلق.

رسمت الباءُ امرأةً عارية

تبيع البيضَ في السوق.

ورسمت الحاءُ دماً يتدفّق

وجلاّدين يتقاتلون كالوحوش.

ولثغت الراءُ باسمها

فتساقطتْ طفولةُ الفراتِ من كأسها

وسطعتْ ألوان العيدِ البعيدِ في عينيها

لتضحك أفلامُ الغرامِ والانتقام

في جيوبها التي مزّقها الدهر.

وتألّقت السين في مشهدِ الطين والماء.

ولوّنت النقطةُ مشهدَ الارتباك

حيث يعزّي الأنبياءُ والأولياءُ والشعراء

بعضهم بعضاً

بمناسبةِ حضورِ مشهدِ الجنازة

ممتلئاً برفيفِ أجنحةِ الملائكة

وصيحاتِ الأتباعِ والخاطئين، والمخلصين والمرتدّين.

وحده الألف

كان يراقبُ المشهدَ من شرفته العالية

مذهولاً

إذ أنفق العمر كلّه

يتأمّلُ في مشهدِ المرأةِ العارية

والدمِ المتدفّقِ وصيحاتِ الجلاّدين

والفراتِ الطفل

وأفلامِ الغرامِ والانتقام

ومشهدِ الارتباك

مزدحماً بالأنبياءِ والملائكةِ والخاطئين والمرتدّين.

وحده الألف

كان يراقبُ المشهدَ المضحكَ المُبكي.

لكنّه في ربيعٍ عجيب

سقطَ من شرفته العالية.

( قيل إنّ رفيفَ الملائكة

شجّعه على الطيران

وقيل إنّ الشيطانَ أغراه)

فلما سقطَ على الأرض

وانفصلت الهمزةُ عن رأسه الشريف

أفاقَ وصاحَ: لِمَ؟

            وكيف؟

            ومّم؟

           وعلامَ؟

           وإلامَ؟!

غير أنّ الحروف

لم تأبه كثيراً لأسئلته الكبرى

ولا لدموعه الحرّى

وبقيت تقيمُ معرضها في الهواء الطلق

كلّ ربيع."[152]

إذن فالحروف هنا ترسم ولها الريشة والألوان، والباء في عريها ترمز إلى الكشف ورفع الحجاب كي تُظهر العالم كما هو عليه: مليئا بالارتباك والازدحام والفوضى، مليئا بمشاهد "الدم" و"الغرام" و"الانتقام"، ومليئاً بالجلاّدين، بالأنبياءِ والملائكةِ والخاطئين والمرتدّين. إلا أن كلّ هذا لم يمنع الشاعر بنعته لهذا العالم أو المشهد ب"المضحك المبكي"، ولا من طرح أسئلته الوجودية الكبيرة: "لِمَ؟ / وكيف؟/ ومّم / وعلامَ؟ / وإلامَ؟!". أسئلة وإن كان العالمُ من حوله وبمختلف حروفه يقابلها بالتجاهل والإهمال، إلا أن الشاعر يقدم الجواب عنها في نصّ فلسفي رياضيّ أسماه ب "مثلثات" ويقول فيه:

"(1)

على مائدةِ الخوف

أرى مثلثَ السُلْطة:

رأسه إلى الأعلى،

ومثلثَ الرغبة:

رأسه إلى الأسفل،

ومثلثَ القوّة:

رأسه إلى اليمين،

ومثلثَ العبثِ والسأم:

رأسه إلى اليسار.

(2)

وحين أمدُّ يدي

لأرى مثلثَ السرِّ،

أعني مثلثَ الحرف،

فإنَّ المثلث يدورُ على نفسه كالمجنون،

يدورُ، يدورُ، يدور

ليريني في الأعلى طفولتي الحافية،

وفي الأسفل صباي الغارقَ في النهر،

وفي اليمين شبابي المحاصرَ بالشظايا والدخان،

وفي اليسار شيخوختي التي تشبه

مسافراً سعيداً

في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جهنم،

القطار الطويل السريع الذي لا يتوقّف

في أيِّ محطّةٍ أبداً

رغم احتجاج الركّابِ ودموعهم وصيحاتهم!"[153]

يبدو كأنّ عالماً رياضياً جبرياً هو الذي كتب هذا النص وليس بشاعر، وتبدو أيضاً أمراً منطقياً حيرةُ الناقد د. صالح الرزوق وهو يتساءل ويقترح في الوقت ذاته جواباً عن جدوى اختيار موضوعة "المثلثات":

"ولا أستطيع أن أجزم لماذا اختار الشاعر رمز المثلث. ولكن هذا لا يخلو من إشارة واضحة لفلسفة اللامعقول. وهي فلسفة لا تبرير لها، ولا يمكننا رؤيتها إلا بعيون بيكاسو وغيره من السرياليين. لا سيما أن الأشكال المنتظمة لم تعد مجدية مادامت لا تعكس الحقائق المشوهة للمعاني والأفكار."[154] ويبدو أن المضي قـُدماً في إكمال ما اقترحه الناقد من جواب عن سؤاله مسألة مشروعة أيضا. إذ لا شك أن الأمر فيه "إشارة واضحة لفلسفة اللامعقول"، ولكن، هل ما هو لا معقول، لا معقول حقا؟ أم أن الأمر فيه وَهْم لشيء اسمه اللامعقولية والسريالية الغير المبررة؟

للجواب عن هذا السؤال سيتمّ تلبية دعوة الشاعر الضمنية في نصه، أي دعوته القارئ لرسم ما ذكره حرفياً في الأبيات الأولى من قصيدته "مثلثات"، وعليه فإن مائدة الخوف ستأخذ شكل الدائرة[155] وبداخلها سيتمّ رسم المثلثات، وسيُكتشف أنّ الشاعر كان محقّاً حينما قال:

" وحين أمدُّ يدي

لأرى مثلثَ السرِّ،

أعني مثلثَ الحرف،

فإنَّ المثلث يدورُ على نفسه كالمجنون،

يدورُ، يدورُ، يدور"

فبصريا كل المثلثات تدور ولا تستطيع العين التركيز على مثلث واحد بعينه، فما بالك بمثلث السرّ أو مثلث الحرف. إذن فالصورة عبثية على الأقل ظاهرياً. لكن ماذا لو تمّ تدقيق النظر أكثر فأكثر؟ النتيجة ستكون ظهور بنتاغون خماسي، ومربّعات بعضها يحضن بعضاً، وتشكُّل مثلثات أخرى عديدة داخل الدائرة وأكثر من مستطيل واحد. وهي أشكال هندسية كلّها لها صفة النسبة الذهبية الرياضية الشهيرة، لكن سيتم التركيز على "المستطيل الذهبي" باعتباره من أكثر الأشكال الهندسية أهميّة وإراحة للبصر، وسيتمّ تجسيد كل هذا عبر الرسم التالي:

 

الصورة رقم: 11

 

ما معنى أن يظهر "المستطيل الذهبي" في قصيدة "مثلثات"؟ الجواب أن الأمر برمّته فيه تجلّ لجمال مطلق ودقة في الصنع والتدبير الإلهيين. أي أن الطفولة الحافية والصبا الغارق في النهر، والشباب المحاصر بالشظايا والدخان، وشيخوخة المسافر السعيد في القطار السريع، قطار الجنة الذاهب إلى جهنم، كلّ هذا ما هو إلا تجلّ لكمالية الخلق ومطلقية جماله في تصريف شؤون عباده بالرغم من صراخهم وبكائهم واحتجاجاتهم التي لا تنتهي.

إذن فأديب كمال الدّين وهو في رحلته مع النقطة والحرف، رسم حياة الناس عبر حياته أيضاً، وأعاد معهم وبهم طرح أسئلتهم وأسئلته الوجودية الكبيرة، وأجاب عنها بريشة هدفها الأول والأخير رسم كل معاني الجمال الإلهي، بكل ألوانه، الوحشي منها الغارق في سواد السديم، والمشرق منها العائم في بحار النورانية والبهاء والتناسق البديع.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة

وماذا يمكن أن يقال في خاتمة هذا السفر؟ وقد طاف القلم وطوّفكم معي، بل رقص ودار بكم وبي ألف رقصة ودورة مدخلاً إياكم معي في فيافي لا قبل لي بها. فهل انتهى السفر حقاً؟ إنه تساؤل لا يمكن الإجابة عليه إلا عبر الإقرار، بأن كلّ دراسة ما إن تنتهي حتى تصبح محطة انطلاق لبحوث ودراسات أخرى لا حدّ لها ولا حصر، فما بالك بمجال يتعلق بتجربة جمالية جديدة ومعاصرة لشاعر صوفي جعل من الحرف والنقطة والموقف قلماً وحبراً بل خرقة وعصا.

ثم ماذا يمكن أن يُقال عمّا تكون قد قدّمته هذه الدراسة من جديد؟ على أية حال لم يكن هذا الطموح وارداً، ولربما يكون نقاد آخرون أكثر أهلية ودراية بما يحمله هذا الكتاب بين دفّتيه من إضافات قد تكون جديدة حقا وفعلا، خاصّة وأنني حاولت قدر الإمكان أن ألغي نفسي حتى يتيسّر أمر الغوص في أعماق نصوص الشاعر أديب كمال الدّين، واكتشاف العلاقة الوطيدة بينها وبين علوم أخرى كالكيمياء والرياضيات وعلوم النفس والفلسفة واللغة والدّين والفقه. وهذا يعني أن الأمر لم يكن ليخلو أبدا من صعوبات ومخاطرات، وفي بعض الأحيان ارتباكات أمام بعض المكاشفات الشعرية التي كانت تبدو في ظاهرها حمّالة لصور لفظية وعقلية غريبة جداّ مصداقا لقول الشاعر نفسه: "إنّك لتتكلّم بكلامٍ غريب / فلا تُفهَم ولا يُستجابُ لك / كلامك الغريب لا يفهمه أحدٌ سواي / ولا يفهمه إلا مَن كانَ غريباً مثلك.[156]"

وكون هذا الكتاب قد ركزّ كل طاقاته للحديث عن الجمال والكمال الإلهيين عبر التجربة الحروفية المواقفية للشاعر أديب كمال الدّين، فإن هذا لم يكن فيه أية نيّة لإلغاء جمال باقي الموجودات، كلّ ما في الأمر هو أن الموجود الحقيقي صاحب الجمال المطلق، له آيات تشير إلى علمه وكماله وعظيم صنعه وتلك هي حقيقته، ولو تمّ النظر إلى جمال الموجودات في معزل عنه فلن يُرى سوى العدم، فحتى اللغة واللون في نصوص الشّاعر لا يحتفلان سوى بهذا الجمال، وقد تمّت معاينة ذلك في جميع فصول هذا الكتاب وخاصة في الفصلين الرابع والخامس منه.

فالحمد لله الذي جعل الجمال حرماً تحجّ إليه قلوب الأدباء، والحمد لله الذي تجلّى باسمه الجميل فسحر الألباب وقادها إلى بحر محبّته، فلم تخف الألم ولا الموت ولكن حرقة البين والفوت، فنادت ما لنا والجمال؟ فالجمال يورث العشق، والعشق يجلب الهجر، والهجر يوصل إلى القبر، والقبر إلى النشر، والنشر إلى الحشر، والحشر إلى الصراخ طلبا للغوث من الحق الذي ما إن يسمع النداء حتى يرفع الحجاب، فيحصل المراد وينعم الفؤاد، ويصرخ الإنسان ناقداً كان أم باحثاً، قارئاً أم مجرد عابر سبيل أو متجوّل في صفحات هذا الكتاب، فيقول بأعلى صوته مع الشاعر:

" إلهي،

أحببتكَ أكثر مما أحبّكَ الأنبياءُ والأولياء.

فهم أحبّوك

لأنّكَ أرسلتهم بمعجزاتِ النارِ والنور.

أما أنا فأحببتك

لأنّكَ أوّلي وآخري

وظاهري وباطني،

لأنّكَ سقفي الوحيد الذي يقيني

من المطرِوالجوعِ والصواعق،

من الوحشةِ وانزلاقِ الأرضِ والذاكرة.

ولأنّكَ الوحيد الذي يستمع

 

 

 

إلى دموعي كلّ ليلة

دون أن يتعب

من أنين حرفي

وتوسّلِ نقطتي!"[157]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أديب كمال الدين

 

شاعر، ومترجم، وصحفي.

* مواليد 1953 – بابل – العراق.

* بكالوريوس اقتصاد - كلية الإدارة والاقتصاد - جامعة بغداد 1976.

* بكالوريوس أدب انكليزي – كلية اللغات – جامعة بغداد 1999.

* دبلوم الترجمة الفورية - المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا - أديلايد - أستراليا 2005.

* أصدر المجاميع الشعرية الآتية:

- تفاصيل - مطبعة الغري الحديثة – النجف 1976 .

- ديوان عربي – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1981 .

- جيم – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1989.

- نون - دار الجاحظ – بغداد 1993.

- أخبارالمعنى - دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1996.

- النقطة (الطبعة الأولى) – بغداد 1999.

- النقطة (الطبعة الثانية) - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- عمّان – بيروت 2001.

- حاء – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عمّان- بيروت 2002.

- ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة - دار أزمنة للنشر والتوزيع - عمّان – الأردن 2006.

- شجرة الحروف - دار أزمنة للنشر والتوزيع - عمّان – الأردن 2007.

- أبوّة Fatherhood - (بالإنكليزية) دار سيفيو- أديلايد- أستراليا 2009.

- أربعون قصيدة عن الحرف - دار أزمنة للنشر والتوزيع - عمّان- الأردن 2009

- أربعون قصيدة عن الحرف- Quaranta poesie sulla lettera (بالإيطالية: ترجمة: د. أسماء غريب)- منشورات نووفا إيبسا إيديتوره - إيطاليا 2011.

- أقول الحرف وأعني أصابعي - الدار العربية للعلوم ناشرون - بيروت – لبنان 2011.

- مواقف الألف - الدار العربية للعلوم ناشرون - بيروت - لبنان 2012.

- ثمّة خطأ Something Wrong - (بالإنكليزية) دار ومطبعة Salmat - أديلايد – أستراليا 2012.

 - الحرف والغراب - الدار العربية للعلوم ناشرون - بيروت - لبنان 2013.

* كتب صدرت عن تجربته:

"- الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدّين الشعرية" - إعداد وتقديم الناقد د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 2007. والنقّاد المشاركون هم: أ. د. مصطفى الكيلاني، أ. د. عبد العزيز المقالح، أ. د. بشرى موسى صالح ، أ. د. عبد الإله الصائغ، أ. د. حاتم الصكر، د. ناظم عودة، د. حسن ناظم، أ. د. عبد الواحد محمد، د. عدنان الظاهر، عبد الرزاق الربيعي، صباح الأنباري، علي الفواز، وديع العبيدي، عيسى حسن الياسري، د. خليل إبراهيم المشايخي، زهير الجبوري، د. محمود جابر عباس، د. صالح زامل حسين، هادي الربيعي، فيصل عبد الحسن، د. إسماعيل نوري الربيعي، نجاة العدواني، د. حسين سرمك حسن، رياض عبد الواحد، واثق الدايني، ريسان الخزعلي، أ. د. محمد صابرعبيد، د. عيسى الصباغ، عدنان الصائغ، يوسف الحيدري، ركن الدّين يونس، معين جعفر محمد، ود. مقداد رحيم.

- "الحرف والطيف: عالم أديب كمال الدّين الشِعريّ (مقاربة تأويليّة)" – أ. د. مصطفى الكيلاني (نشر اليكتروني) 2010.

- (الاجتماعي والمعرفي في شعر أديب كمال الدّين) – د. صالح الرزوق- منشورات ألف لحرية الكشف في الإنسان"– دمشق وقبرص 2011.

- (أضفْ نوناً: قراءة في "نون" أديب كمال الدّين) – د. حياة الخياري - الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت - لبنان 2012.

* فاز بجائزة الإبداع الكبرى للشعر، العراق - بغداد 1999.

* شهادات جامعية:

- د. حياة الخياري: (الرموز الحَرْفية في الشعر العربي المعاصر) رسالة دكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سوسة، الجمهورية التونسية 2011. تناولت الرسالة أعمال أدونيس، أديب كمال الدّين، أحمد الشهاوي.

* محاضرات عن تجربته:

- واثق الدايني: (فلسفة المعنى بين النظم والتنظير- دراسة في مجموعة "أخبار المعنى" لأديب كمال الدّين–( محاضرة أُلقيت في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ببغداد 2 - تشرين أول – أكتوبر 1996.

- زهير الجبوري: (قراءة في "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة") محاضرة أُلقيت في قاعة نقابة الفنانين بمحافظة بابل-العراق 16 آذار- مارس 2007.

- عبد الأمير خليل مراد، جبّار الكوّاز، عباس السلامي– (قراءة في مجموعة "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة")- محاضرة أُلقيت في نقابة الفنانين بمحافظة بابل- العراق 2007.

- زهير الجبوري: (شعرية الحروف: قراءة في شعر أديب كمال الدّين) - محاضرة أُلقيت في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ببغداد - 27 تشرين أول- أكتوبر 2007.

- مازن المعموري- (صناعة الكتاب الثقافي: كتاب "الحروفي" أنموذجاً) – محاضرة أُلقيت في الاتحاد العام الأدباء والكتاب ببغداد- 30 كانون الثاني 2008.

- مالك مسلماوي- قراءة في (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) - محاضرة أُلقيت بدار بابل للثقافة والفنون والإعلام بمحافظة بابل، 14مايس 2011.

 

* أمسيات خاصة ومهرجانات:

- أمسية خاصة بمناسبة صدور مجموعة تفاصيل - محافظة بابل – 1976.

- مهرجان الأمة الشعري- فندق الرشيد - بغداد 1984.

- مهرجان المربد – (عدّة دورات).

- ربيع الشعر: ملتقى الشعر العراقي الفرنسي – بغداد – القصر العباسي 2000.

- أمسية خاصة بمناسبة صدور مجموعة (النقطة) - اتحاد الكتاب والصحفيين العراقيين (المنفى) - الأردن – عمّان - نيسان 2002.

- مهرجان الشعر العربي – بيت الشعر الأردني- الأردن – عمّان 2002.

- ملتقى الشعر الأسترالي– مدينة تاونسفيل - أستراليا 2003.

- ضيف أمسية في جمعية الشعر- أديلايد - أستراليا - كانون أول 2004.

- ضيف أمسية Gallery de la Catessen - أديلايد – أستراليا – آب 2006.

- حفل توقيع صدور ترجمة (أربعون قصيدة عن الحرف) إلى اللغة الإيطالية - بالرمو - إيطاليا برفقة المترجمة د. أسماء غريب والشاعر الإيطالي فينشينسو بومار والناقد الإيطالي ماريو مونكادا دي مونفورته الذي قدّم قراءة نقدية للمجموعة. الاحتفالية من تقديم الكاتب الإيطالي فينشينسو بريستد جاكُمو 10 آذار 2012.

- أمسية خاصة في قاعة جامعة لاهاي- هولندا. تقديم الروائي محمود النجار، والشاعر مهدي النفّري الذي قدّم قراءة نقدية بعنوان (الحلم في شعر أديب كمال الدّين) 17 آذار 2012.

- حفل توقيع صدور مجموعة: (ثمّة خطأ)، اتحاد كتّب ولاية جنوب أستراليا - أديلايد- أستراليا. تقديم الناقدتين الأستراليتين: د. آن ماري سمث ود. هِثر جونسون 12 تشرين أول– أكتوبر 2012.

* أنطولوجيات:

- معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين- مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري- جمع وترتيب: هيئة المعجم– المجلد الأول- الطبعة الأولى- 1995- مطابع دار القبس للصحافة والطباعة والنشر- الكويت.

- مختارات من الشعر العراقي المعاصر– إعداد: أ. د. محمد صابر عبيد – اتحاد الكتاب العرب- دمشق – سوريا.

- بلد آخر Another Country - (بالإنكليزية)- تحريرTom Keneally, Rosie Scoot - منشورات مجلة Southerly - سدني – أستراليا 2004.

- أنطولوجيا الأدب العربي المهجري المعاصر- إعداد: لطفي حداد - دار صادر- بيروت، لبنان 2004.

- أنطولوجيا للشعر العراقي المعاصر- (بالإسبانية): إعداد وترجمة Esteban Castroman منشورات Clase Turista - بوينس آيرس- الأرجنتين.

- العراق - (بالإنكليزية) - أنطولوجيا للشعر العراقي المعاصر - إعداد وترجمة سهيل نجم وصادق محمود وحيدر الكعبي – منشورات أتلانتا ريفيو – ربيع وصيف 2007 – الولايات المتحدة.

- على شواطئ دجلة -(بالإسبانية)- أنطولوجيا للشعر العراقي المعاصر – إعداد وترجمة عبدالهادي سعدون- بمشاركة محسن الرملي والمستعرب الإسباني أغناثيو غوتيريث – منشورات البيرو إي لارانا – كاراكاس- فنزويلا- آب 2007.

- أفضل القصائد الأسترالية لعام 2007 (بالإنكليزية) - The Best Australian Poems 2007 – إعداد وتقديم الشاعر والكاتب الأسترالي : بيتر روز Peter Rose – ملبورن، أستراليا- تشرين أول - أكتوبر 2007.

- الثقافة هي- Culture is (بالإنكليزية)- إعداد: الناقدة الأسترالية: د. آن ماري سيمث.

Anne-Marie Smith - منشورات ويكفيلد برس، أديلايد- أستراليا- تشرين أول- أكتوبر 2008.

- عراقيون غرباء آخرون (أنطولوجيا الشعر العراقي الجديد) (بالإسبانية)، إعداد وترجمة: عبدالهادي سعدون، دار كوسموبويتيكا، قرطبة، إسبانيا، 2009

- لوحة أوروك Uruk A Portrait of - مختارات من الأدب العراقي (بالإنكليزية) - ترجمة: خلود المطلبي - دار هرست وهوك للنشر، بريطانيا 2011.

- ديوان الحلة: أنطولوجيا الشعر البابلي المعاصر، اعداد: د. سعد الحداد، منشورات دار بابل للثقافات والفنون والإعلام، مطبعة الضياء، النجف، العراق 2012.

- أفضل القصائد الأسترالية لعام 2012 (بالإنكليزية) The Best Australian Poems 2012 – إعداد وتقديم الكاتب الأسترالي: جون ترانتر Jone Tranter ملبورن، أستراليا - تشرين أول - أكتوبر 2012.

* مسرحيات:

- (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)- مسرحية راقصة مُعدّة من قصائد مجموعة: ( ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)- إعداد: ذو الفقار خضر. قام بأدائها الفنانان ذو الفقار خضر وميثم كريم الشاكري اللذان جسّدا شخصيتي المسرحية: الحرف والنقطة. أخرجها ذو الفقار خضر على خشبة نادي الفنانين بمحافظة بابل، العراق 21 نيسان – أبريل 2007.

- (الحقائب السود) سيناريو مسرحية بونتومايم ذات فصل واحد مُعدّة من نصوص الشاعر أديب كمال الدّين - إعداد: علي العبادي 30- 5- 2009.

 

* كُتبت عنه مجموعة كبيرة من الدراسات والأبحاث والمقالات النقدية، شارك في كتابتها نقّاد وأدباء وشعراء من مختلف الأجيال والاتجاهات الأدبية والنقدية: أ. د. عبد العزيز المقالح، فوزي كريم، البروفيسور عبد الإله الصائغ، د. عدنان الظاهر، د. حسن ناظم، أ. د. بشرى موسى صالح، عيسى حسن الياسري، د. ناظم عودة، أ. د. مصطفى الكيلاني، عدنان الصائغ، د. أحمد الشيخ، نجاة العدواني، فيصل عبد الحسن، د . حسين سرمك حسن، وديع شامخ، أ. د. عبد الواحد محمد، مهدي شاكر العبيدي، د. رياض الأسدي، علي الفواز، رعد كريم، خضير ميري، واثق الدايني، عباس عبد جاسم، فاروق يوسف، أ. د. حاتم الصكر، عبد الجبار البصري، ناجح المعموري، إسماعيل إبراهيم عبد، أ. د. محمد صابر عبيد، يوسف الحيدري، معين جعفر محمد، د. عيسى الصباغ، هادي الزيادي، د. إسماعيل نوري الربيعي، حمزة مصطفى، أ. د. جلال الخياط، محمد الجزائري، سامي مهدي، علي جبارعطية، هشام العيسى، د. صالح زامل حسين، أمير الحلاج، ركن الدّين يونس، بشير حاجم، ريسان الخزعلي، هادي الربيعي، د . قيس كاظم الجنابي، عبد الأمير خليل مراد، رياض عبد الواحد، جمال جاسم أمين، فائز ناصر الكنعاني، حسن النواب، د. محمود جابر عباس، علاء فاضل، شذى أحمد، وسام هاشم، علي عبد الحسين مخيف، عبد الستار إبراهيم، فؤاد العبودي، فاضل عباس الكعبي، عبد العال مأمون، عبد المعز شاكر، زهير الجبوري، د. مقداد رحيم، صباح الأنباري، وديع العبيدي، ساطع الجميلي، عبد الرزاق الربيعي، عبد اللطيف الحرز، علي الإمارة، د. خليل إبراهيم المشايخي، مالكة عسال، جمال حافظ واعي، شوقي مسلماني، عدنان حسين أحمد، نصر جميل شعث، علي حسين عبيد، حسب الله يحيى، سوف عبيد، صالح محمود، فاروق سلّوم، صلاح زنكنة، عادل الشرقي، مازن المعموري، فرات إسبر، محمد العشري، مسلم جاسم الحلي، حمزة كوتي، نور الحق إبراهيم، كريم الثوري، د. ضياء نجم الأسدي، محمد غازي الأخرس, د. أمل الشرع، د. صفاء عبيد الحفيظ، خالص مسور، وجدان عبد العزيز، جود أكولينا، ذياب شاهين، د. آن ماري سمث، د. صالح الرزوق، رشا فاضل، د. حياة الخياري، شاكر مجيد سيفو، د. عبد المطلب محمود، د. أسماء غريب، أسامة الشحماني، صباح القلازين، سمير عبد الرحيم أغا، محمد يوب، محمد علي سلامة، أمجد نجم الزيدي، مالك مسلماوي، راسم المدهون، د. رسول بلاوي، غزلان هاشمي, ماريو مونكادا دي مونفورته, مهدي النفّري، قزحيا ساسين، علوان حسين، شاكر حسن راضي، صباح محسن كاظم، د. هِثر تايلر جونسون، أ. د. فاضل عبود التميمي، أ. د. نجمة إدريس، صالح الطائي.

 

* ترجم إلى العربية قصصاً وقصائد ومقالات لجيمس ثيربر، وليم كارلوس وليمز، آن سرايلير، والاس ستيفنز، إيلدر أولسن، أودن، كاثلين راين، اليزابيث ريديل، جيمس ريفز، غراهام غرين، وليم سارويان، دون خوان مانويل، إيفا دافي، فلادمير سانجي، مارك توين، موري بيل، إيغرا لويس روبرتس، أدولف ديغاسينسكي، جاكوب رونوسكي، روست هيلز، ألن باتن وعدد من شعراء كوريا واليابان وأستراليا ونيوزيلندا والصين وغانا.

* أعدّ للإذاعة العراقية العديد من البرامج: "أهلاً وسهلاً"، "شعراء من العراق"، "البرنامج المفتوح"، "ثلث ساعة مع..."، "حرف وخمس شخصيات".

* عمل في الصحافة منذ عام 1975 وشارك في تأسيس مجلة (أسفار).

* عضو نقابة الصحفيين العراقيين، والعرب، والعالمية.

* عضو اتحاد الأدباء في العراق، وعضو اتحاد الأدباء العرب.

* عضو جمعية المترجمين العراقيين.

* عضو اتحاد الكتاب الأستراليين – ولاية جنوب أستراليا، وعضو جمعية الشعراء في أديلايد.

* تُرجمت قصائده إلى الإنكليزية والإيطالية والفرنسية والألمانية والإسبانية والكردية والفارسية.

* يقيم في أستراليا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

د.أسماء غريب

 

 

 

ناقدة، ومترجمة، وشاعرة مقيمة في إيطاليا.

ـ حصلت سنة 2006 في إيطاليا على لقب أوّل امرأة عربية تتخرّج بمرتبة الشرف الأولى من جامعة الدراسات الشرقية الإسلامية. وقد كانت أطروحة إجازتها باللّغة الإيطالية حول "أسرار الحروف النورانية بالقرآن الكريم"؛

ـ حصلت سنة 2008 ومن الجامعة ذاتها، على شهادة الماجستير الدولية للدراسات العليا بمرتبة الشرف الأولى، تخصّص: دراسات حول البلدان العربية والإفريقية. وكانت أطروحة الماجستير حول "إسراء ومعراج الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام"؛

ـ في بدايات سنة 2012 حصلت بروما على دبلوم في التحرير الأدبي والصحفي من "ستيلوس" مؤسسة علوم التحرير الأدبي والصحفي باللغة الإيطالية؛

ـ نالت في يومه الخميس 8 شعبان 1433 الموافق ل 28 حزيران 2012، بروما بجامعة "المعرفة/La Sapienza" قسم الدراسات الشرقية: تخصّص (حضارات وثقافات دول إفريقيا وآسيا) شهادة الدكتوراه بدرجة امتياز وبمرتبة الشرف الأولى عن أطروحتها الموسومة ب (الحداثة في المغرب، من التاريخ إلى الأدب: محمد بنيس أنموذجا للدراسة والتحليل)؛

ـ شاركت في العديد من الأنشطة الثقافية الخاصّة بحوار الأديان بأهمّ المؤسسات التعليمية بمدينة إقامتها؛

ـ نالت جائزة الشعر العالمي بجزيرة سردينيا الإيطالية عن قصيدتها "السلطعون الناسك" عام 2009، وذلك في إطار فعاليات مهرجان أكتوبر للشعر العالمي بمدينة "ساسّري".

 

إصدارات:

 

ـ "خرج ولم يعد" (مجموعة قصصية)، مطبعة الحقّ، أسفي ـ المغرب، 2006؛

ـ "بدونك" (ديوان شعري) باللغتين العربية والإيطالية، كليبسيدرا، إيطاليا، 2009؛

ـ "أربعون قصيدة عن الحرف" للشاعر أديب كمال الدين (ترجمة إلى اللغة الإيطالية)، دار نووفا إيبسا إيديتوره، إيطاليا، 2011؛

ـ "مقام الخمسة عشرة سجدة" (ديوان شعري) باللّغتين العربية والإيطالية، دار نووفا إيبسا إيديتوره، إيطاليا، 2013.

 

مشاركات في إصدارات وأنطولوجيات:

 

ـ "صقلّيات" للكاتبة الإيطالية "ما رينلاّ فيومه"، وهو معجم خاص بسير ذاتية ل 333 امرأة من أهم نساء صقلية وقد ساهمت فيه أسماء غريب بدراستها باللغة الإيطالية حول الأديبة الصقلية الراحلة "آنيي ميسّينا" والتي كانت تُقيم بمصر وتُصدر قصصها فيها باسم "جميلة غالي". صدر هذا المعجم عن دار النشر الإيطالية، إيمانويله روميو سنة 2005؛

ـ "حكايات الهواء، التراب، الماء والنار"، للكاتبتين الإيطاليّتين "سيلفانا فيرناندس" و"إيليونوراه كيافيتّا"، دار روبّتّينو، إيطاليا، 2007 (وهو الكتاب الّذي ساهمت فيه الأديبة بترجمة الجزء الخاص بالمساهمات العربية لأديبات من مناطق مختلفة من العالم العربي)؛

ـ "رؤى نقدية في شعر حسن حجازي"، دار أنهار، الإمارات العربية المتحدة، 2013، وقد شاركت فيه أسماء غريب بدراسة نقدية تحت عنوان: شموع وأبيات تضيء مسيرة الشاعر حسن حجازي؛

ـ "شمعدان النجم"، قصيدة شاركت بها في أنطولوجيا الشعر العربي، التي أعدّها الشاعر والروائي منير مزيد؛

ـ "وجهان وامرأة واحدة".، نصّ قصصي شاركت به في أنطولوجيا القصة المغربية القصيرة وكانت من إعداد الكاتب والقاص سعيد بوكرامي.

 

ترجمات إلى اللغة الإيطالية والعربيّة

 

ـ " مدائن يسكنها البحر " (ديوان شعري) للشاعر والدكتور المغربي محمد نجيب زغلول.

ـ "الضفة المعاكسة" للشاعر الإيطالي فابيانو ألبورغيتّي (ديوان شعري يتحدث عن تجربة وويلات ومحن الهجرة السرية إلى إيطاليا)؛

.ـ "العودة حق: من شباب فلسطين إلى شباب العالم"، والكتاب هو عبارة عن مجموعة من القصص الفائزة في مسابقة القصة القصيرة لعام 2011 التي أقامتها "جمعية القلم الخيرية" بالمخيمات الفلسطينية في سوريا؛

ـ "سيرة الطائر الوحشي" (ديوان شعري) للشاعر العراقي خالد خشان؛

ـ "همسات من البحر الآخر"، وهي ترجمة لـ 14 نصاً شعرياً لنخبة مختارة من شعراء مجلة نوستالجيا؛

ـ "طينجيتانوس" للفنان والكاتب المسرحي المغربي الزبير بن بوشتى؛

ـ "فجر العصافير الطليقة"، (مجموعة قصصية) للكاتب الفلسطيني: نضال حمد؛

ـ "تحت سماء دافئة"، (مجموعة قصصية)، للكاتب والمترجم التونسي: إبراهيم درغوثي؛

ـ "أقدام بيضاء"، (عمل مسرحي) للكاتب المسرحي المغربي الزبير بن بوشتى.

 

دراسات نقدية ومقالات متفرّقة:

 

ـ "العبودية والرّق بين الماضي والحاضر"، عن جامعة الدّراسات والأبحاث، فرع كلّية العلوم السياسية/ قسم الدراسات التاريخية باللغة الإيطالية؛

ـ "قمر الفرجار وقواربه" (مقاربة نقدية) حول ديوان "قمر أم حبّة إسبرين"، للشاعر الفلسطيني محمّد حلمي الرّيشة، نُشرت بجريدة الأيام الجزائرية، الأربعاء 27 نيسان 2011؛

ـ قراءة في ديوان "للأزهار رائحة الحزن" للشاعر المغربي إبراهيم القهوايج؛

ـ "النّوتي المبحر نحو ثدي الكون"، دراسة عن ديوان "لا أدري إلى أين يأخذني هذا الأفق؟" للشاعر حمزة كوتي؛

ـ الإمبراطورة والشاعر، دراسة خاصّة بديوان الشاعر أديب كمال الدين "(أربعون قصيدة عن الحرف)

ـ إشارات الألوان: قراءة فـي ديوان «(الحرف والغراب) لأديب كمال الدين؛

ـ الرّوح القدس أو اليد العالمة في أشعار أديب كمال الدين؛

ـ عندما ينتصر الشعر قراءة في ديوان (التي في خاطري) للشاعر المصري حسن حجازي؛

ـ أبروتسو قلب إيطالي ينبض بالفن والفكر والجمال؛

ـ غوص في بحار الجسد والرّوح؛

ـ الواقعيّة في الأدب الإيطالي؛

ـ أبناء الشمس والصّفصاف بين التاريخ والأدب: لمحات من الأدب الكردي.

مواقع الأديبة د. أسماء غريب:

http://asmaaegherib.wordpress.com

http://asmgherib.wordpress.com

 

 

                                                            



[1]  وهو نص ينتمي إلى قصائد الشاعر الجديدة التي لم يتم نشرها ورقيا بعد. ويمكن تصفحها حاليا على موقع الشاعر في باب (قصائد جديدة). www.adeebk.com

[2]  اطّلع على ما كتبه الدكتور مقداد رحيم بشأن فرادة التجربة الأدبية للشاعر أديب كمال الدّين في المقدمة التي افتتح بها كتاب الحروفي: مجموعة من النقاد، (الحروفي)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان 2007، ص 9.

[3]  عبد الرؤوف برجاوي، فصول في علم الجمال، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1981، ص 105.

[4]  أبو يزيد البسطامي، المجموعة الصوفية الكاملة، تحقيق وتقديم: قاسم محمد عباس، دار المدى، دمشق 2004، ص 48.

[5]  أديب كمال الدّين، نون، مطبعة الجاحظ، ط1، بغداد 1993 ص 64.

[6]  صحيح: أخرجه مسلم (91) في الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، من حديث ابن مسعود ـ ض ـ وقد أخرجه أبو أمامة وابن عمر، وجابر، وأبوسعيد، كما في صحيح الجامع (1741 – 1743).

[7]  عماد زكي البارودي، أسماء الله وصفاته العليا من كتاب ابن قيم، المكتبة التوفيقية، ط1، القاهرة 2000، ص 141.

[8]  رواه مسلم في باب قوله عليه الصلاة والسلام:"إن الله لا ينام". رقم الحديث (189).

[9]  القرآن الكريم، سورة النور، آية 35.

[10]  الدراسة النقدية المعنية بالأمر في هذا المقام هي التي وسمتها الناقدة بالصّورة الفنّيّة عند شكسبير وما تنبئنا به (Shakespeare’s imagery and what it tell us). وقد صدرت سنة 1935 بإنكلترا عن جامعة كامبريدج.

[11]  وقد تلا هذه الدراسة بحثان على قدر عال من الأهمية: الأول ل "إدوارد آرمسترونج" (Edward Armstrog) وفيه تم التركيز على الخيال باعتباره مرادفا للصورة الفنية وهو الكتاب الموسوم بخيال شكسبير (Shakespeare’s imagination)، أما الثاني فهو ل "وولفجانج كليمن"(Clemen Wolfgang) ويحمل عنوان تطور الصّورة عند شكسبير (The development of Shakespeare’s imagery)، وهي الدّراسة التي قادت الناقد إلى تتبع تطور وظائف الصورة عند "شكسبير" وفقاً للتطور العام لرواياته الدرامية من خلال دراسته للوحدة العضويّة في الأعمال الشكسبيرية

[12]  رولان بارث، لذة النّص، ترجمة محمد خي البقاعي، المجلس الأعلى للثقافة 1998، ص 19.

[13]  أديب كمال الدّين، أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2011،. ص 65.

[14]  د. عبد الإله الصائغ، "أديب كمال الدّين ومشاغله العتيدة"، من كتاب الحروفي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2007، ص 63ـ 71.

[15]  انظر قسم حوارات على موقع الشاعر وخاصة الأجزاء التي يتحدث فيها عن بدايات تجربته الحروفية.

[16]  أديب كمال الدّين، "محاولة في البهجة" من ديوان النقطة، الطبعة الأولى ـ بغداد 1999، الطبعة الثانية ـ عمان ـ بيروت ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر2001 وهي النسخة التي أخذت منها هذه الأبيات. ص 91.

[17]  أديب كمال الدّين، (جزء مقتطف من نص "وصول المعنى")، ديوان أخبار المعنى، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1996، ص 79.

[18]  من حوار الدكتور شاكر نوري للشاعر: جريدة القدس العربي اللندنية 9 – 10 - 1999

[19]  من حوار علي الإسكندري للشاعر: نشر في صحيفة الاتحاد الكردستانية بتاريخ 09/10/2009.

[20]  قصيدة "قاف"، من ديوان نون، مطبعة الجاحظ ، بغداد 1993، ص 4.

[21]  أديب كمال الدّين، "الحاء والألف" من ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2011، ص 67.

[22] أديب كمال الدّين، مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان، 2012.

[23]  مقتبس ومتصرف فيه، (انظر حوار علي الإسكندري للشاعر: نشر في صحيفة الاتحاد الكردستانية بتاريخ 09/10/2009)

 

[24]  أديب كمال الدّين، "غروب النقطة"، من ديوان شجرة الحروف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2007، ص 110.

[25]  أديب كمال الدّين، "نوم" من ديوان الحرف والغراب، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013 ص 29.

[26]  أديب كمال الدّين، "محاولة في دم النقطة" من ديوان النقطة، الطبعة الأولى ـ بغداد 1999، الطبعة الثانية ـ عمان ـ بيروت ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001 وهي النسخة التي أخذت منها هذه الأبيات. ص 17.

[27]  يقول ابن منظور في لسان العرب (باب: ربع): "والشتاء كله ربيع عند العرب من أَجل النَّدى، قال: والمطر عندهم ربيع متى جاء، والجمع أَرْبِعةٌ ورِباعٌ."

[28]  راجع عبارة (باب المدرسة) التي وردت في بداية هذه القصيدة محط الدراسة وعبارة (كان يلتمع أملا كعيد طفل يتيم) من قصيدة "محاولة في البهجة" الواردة داخل متن هذا التحليل نفسه، ثم عبارة (طيور طفولتي) من قصيدة "غروب النقطة".

[29]  تأمل جيدا هذه العبارة، ففيها جواب عمّا تم طرحه من تساؤل حول سبب تطرق الشاعر إلى لون الصور أو لون القصائد التي أصبحت فراشا يسافر نحو النور ويحيا به وفيه.

[30]  أديب كمال الدّين، "النبي الصغير"، من ديوان تفاصيل، النجف، مطبعة الغري الحديثة 1976، ص 56.

[31]  أديب كمال الدّين، "موقف الماء" من مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان 2012، ص 69.

Marie Bonaparte, Edgar Poe: Etude psychanqlitique (Paris: Denoël et Steel, 1933), P. 367 [32].

[33]  لتعميق هذا المفهوم الأمومي عند الشعراء عامّة اطّلع أيضاً على على:

Pierre Saintyves, Corpus du folklore des eaux en France et dans les colonies françaises (Paris: E: Nourry, 1934), P.54 

[34]  لاستخراج نسبة التدفق والجريان المائي في قصائد الشّاعر، تمّ اللجوء إلى عملية حساب كل المصطلحات الدالة على عنصر الماء بكل أشكاله وألوانه وحالاته في كل نصوص الدواوين الشعرية بدءا من ديوان تفاصيل وصولا إلى ديوان مواقف الألف.

[35]  من حوار الشاعر أحمد رجب، نُشر في مجلة ريم الالكترونية الثقافية العدد الأول سبتمبر 2006، وكذلك في صحيفة الحقائق اللندنية بتأريخ الأول من أيلول – سبتمبر 2006

[36]  مقتطف من حوار: عبد الكريم كيلاني، الشاعر أديب كمال الدّين والحروفية الشعرية، جريدة الزمان اللندنية بتأريخ 30 -11- 2004 العدد 1978.

[37]  أديب كمال الدّين، مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012 ص 11.

[38]  مقطع من الحوار الذي أجراه عذاب الركابي ونُشر في صحيفة الزمان اللندنية بتاريخ 19 تشرين الثاني- نوفمبر 2011.

[39] أديب كمال الدّين، مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2012 ص 64.

[40]  محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّري، المواقف، تحقيق آرثر يوحنا أربري، مكتبة المتنبي، القاهرة، 1935 ص 93.

[41]  أديب كمال الدّين، مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012، ص 79 .

[42]  أديب كمال الدّين، مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012، ص 90.

[43]  أديب كمال الدّين، "غزال أكل قلبه النمر"، من ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت، لبنان 2011، ص 27.

[44]  أديب كمال الدّين، "امرأة بشعر أخضر" من ديوان ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2006، ص 97.

[45]  الرقم بين قوسين يشير إلى عدد المرّات التي ذكر فيه المصطلح داخل النّص.

[46]  أديب كمال الدّين، "غزل حروفي" من ديوان حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2002، ص 73.

[47]  القرآن الكريم، سورة النمل، آية 12.

[48]  القرآن الكريم، سورة الأعراف، آية 108.

[49]  القرآن الكريم، سورة الصّافاّت، آية 45./46/47

[50]  أديب كمال الدّين، "محاولة في العزلة"، من ديوان النقطة، صدرت بطبعتين : ( الأولى 1999) – بغداد. (الطبعة الثانية 2001) - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، بيروت، ص 52.

[51]  أديب كمال الدّين، "رسالة الحرف إلى حبيبته النقطة"، من ديوان شجرة الحروف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2007. ص 92.

[52] أديب كمال الدّين، "خطاب الألف" من ديوان نون، مطبعة الجاحظ، بغداد 1993، ص 57.

[53] Albert Camus, Le mythe de Sisyphe, éditions Gallimard, collection “Folio”, 1942.

هناك للبحث نفسه نسخة صدرت باللغة العربية سنة 1983 ببيروت عن منشورات دار مكتبة الحياة وقد ترجمها من الفرنسية الأستاذ أنيس زكي حسن.

[54] ألبير كامو، الموت السعيد، ترجمة عايدة مطرجي إدريس، دار الآداب، 1971.

[55]  تمت إضافة العبارة الموجودة بين قوسين وذلك كي يستقيم المعنى بعد أن تمّ الجمع بين مقطعين مختلفين من المقالة ذاتها.

[56]  د. ضياء نجم الأسدي، (المشروع الشعري لأديب كمال الدّين/تشابيه لواقعة الخلق). نُشرتْ في موقع الشاعر وموقعي "ندوة" و"أدب فن".

[57]  القرآن الكريم، سورة النور- آية 35 (هذه آية افتتح بها الشاعر أديب كمال الدّين ديوانه مواقف الألف.وهو الديوان الذي تم افتتاحه بآيتين هذه وآية أخرى (84) من سورة يوسف.

[58]  أديب كمال الدّين، قصيدة "موقف الباب"، ديوان مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان 2012، ص 65.

[59] بسام قطوس، سيمياء العنوان، وزارة الثقافة، عمّان، الأردن، 2001، ص 33.

[60]  محمد مفتاح: دينامية النّص تنظير وإنجاز، المركز الثقافي العربي، بيروت ، لبنان، ط2، 1990، ص 72.

[61]  عبد الله محمد الغذامي: الخطيئة والتكفير، النادي الأدبي الثقافي، جدة، المملكة العربية السعودية، ط1، 1985، ص 261

[62]  شارل بودلير، سأم باريس، ترجمة بشير السباعي، دار آفاق للنشر والتوزيع، مصر 2007، ص 108.

[63]  يرجى الاطلاع على الدراسة التي قدمها "رومان جاكبسون" عن الوظيفة الإيحائية الشعرية بشكل عام في كتابه:

 Roman Jakobson (1896-1982), Essais de linguistique générale, Paris: Editions de Minuit, 1963.

[64]  Dominique Viseux, L’initiation chevaleresque dans la légende Arthurienne, Dery-Livres,Paris, 1980

كما يمكن الاطلاع على النسخة الإيطالية التي صدرت عن دار "إيديتزيونه ميديترّانييه" بروما سنة 2004 ، ص 179.

[65]  أديب كمال الدّين جيم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1989

[66]  أديب كمال الدّين، ما قبل الحرف...ما بعد النقطة، أزمنة للنشر والتوزيع - عمّان – الأردن، 2006.

[67]  "مطر أسود...مطر أحمر" من الديوان ذاته، ص 26.

[68]  البيت الحادي عشر، من الجزء الأول من القصيدة ذاتها: (وتساءلَ الشيوخُ منّا/ عن الموت الجديد وَجِلين).

[69]  عبد الرزاق الربيعي، دلالات الألوان في مجموعة ما قبل الحرف...ما بعد النقطة، والحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدّين الشعرية - إعداد وتقديم د. مقداد رحيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت2007، ص 105- 114.

[70]  أديب كمال الدّين، "مثلثات"، من ديوان الحرف والغراب، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، بيروت 2013، ص 12.

[71] أديب كمال الدّين، "خسارات" من ديوان حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، بيروت 2002، ص .5

[72]  انظر: "وصف" من ديوان شجرة الحروف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2007، ص 7.

[73]  أديب كمال الدّين، "أعماق"، من ديوان أربعون قصيدة عن الحرف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2009، ص 54.

[74]  انظر: "سرقة"، بديوان حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، بيروت 2002، ص 58

[75] أديب كمال الدّين، "الموكل بفضاء الله" من ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان .2011. ص 62

[76] تأمّل هذا المقطع من قصيدة "لم يعد مطلع الأغنية مبهجا" من ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2011، ص 73. والذي يقول فيه الشاعر: " تعبتُ من أكوابِ الشاي والقهوة / ومن الشمسِ التي لم تعدني بشيء./ تعبتُ من المحطّاتِ والمحيطاتِ والطائرات,/ ومن المطرِ والصحو والغيوم,/ ومن الشوارع الفارغةِ والمكتظّة,/ ومن الأعدقاء وأشباهِ الأعدقاء"

[77] أديب كمال الدّين، "حوار" من ديوان، أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2011، ص 81.

[78]  انظر الصورة رقم 4

[79] إنجيل متى الإصحاح 26: 56.

[80]  سفر أعمال الرسل 1: 16، 17

[81]  إنجيل يوحنا 7: 30

[82]  سورة الإسراء، آية 64.

[83]  سورة إبراهيم، آية 22.

[84]  أديب كمال الدّين، "برقيات سعيدة جدا" من ديوان حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عمان - بيروت 2002، ص 76.

[85]  أديب كمال الدّين، "وصايا" من ديوان أربعون قصيدة عن الحرف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2009، ص 68.

[86]  أديب كمال الدّين، "موقف الاسم" من ديوان مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان 2012، ص 28.

[87]  انظر مقطع : "إلى الجمال" من قصيدة (برقيات سعيدة جدا).

[88]  سورة النمل، آية 62.

[89]  أديب كمال الدّين، "محاولة في الطيران" من ديوان النقطة، صدر بطبعتين: ( الأولى 1999) – بغداد.(الطبعة الثانية 2001) - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، بيروت، ص 22.

[90]  قد يكون هذا المقطع في النّص موجّه لامرأة ما، لكن هذا ليس بذي قيمة معينة، إذ ما يهم هو فحوى المضمون في كونيته الخاصة بفساد النفس البشرية دونما أدنى تمييز بين الذكر والأنثى.

[91]  خسارات" من ديوان حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، بيروت 2002، ص .5

[92]  مقتبس من نص "خسارات".

[93]  د. هِثر تايلر جونسن، "قراءة في مجموعة ثمّة خطأ للشاعر أديب كمال الدّين / إحساس بالسحريّ". المقالة كُتبت باللغة الإنجليزية، وترجمها الشاعر إلى اللغة العربية، وقد قرأت الناقدة مقالتها في حفل توقيع مجموعته الشعرية ثمّة خطأ الذي أُقيم في اتحاد كتّاب جنوب أستراليا في 12 أكتوبر- تشرين أول 2012. كما نشرتها في مجلة Rochford Street Review الأسترالية بتاريخ 12 نوفمبر- تشرين الثاني2012

[94]  أديب كمال الدّين، "مقطع من قصيدة قاف" مقتطف من ديوان نون، مطبعة الجاحظ، بغداد 1993،. ص 4.

[95]  أديب كمال الدّين، "مقطع من جنة الفراغ" مقتطف من ديوان نون، مطبعة الجاحظ ، بغداد 1993، ص 34

[96]  أديب كمال الدّين، "دمعة مضيئة" من ديوان حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عمّان- بيروت 2002، ص 38.

[97]  من القصيدة نفسها.

[98]  انظر القصيدة في ديوان النقطة، الطبعة الثانية ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر- عمان – بيروت، ص 10- 13

وهي منشورة أيضاً على الموقع الرسمي للشاعر في قسم "الأعمال الشعرية".

 

[99]  أديب كمال الدّين، "موقف الدمعة" من ديوان مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان 2012، ص 82

[100]  أديب كمال الدّين، "وحشة الرأس"، من ديوان حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، بيروت 2002، ص 12.

[101]  أديب كمال الدّين، "مأدبة السيدة" من ديوان جيم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1989، ص 49

[102]  أديب كمال الدّين، "الرجل" من ديوان جيم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1989، ص 85

[103]  القرآن الكريم، سورة الحديد، آية 13.

[104] انظر صحيح مسلم في كتاب "الفتن وأشراط الساعة" باب "قرب الساعة".

[105]  أديب كمال الدّين، "حوار" من ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2011، ص 81.

[106]  القرآن الكريم، سورة النحل، آية 1.

[107]  القرآن الكريم، سورة النازعات، الآيات: 6/9.

[108] القرآن الكريم، سورة الأنبياء، آية 104

[109]  القرآن الكريم، سورة إبراهيم، آية 48

[110]  القرآن الكريم، سورة الحديد، آية 12

[111]  نفس السورة، آية 13.

[112]  أديب كمال الدّين، "ساحر"، من ديوان ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2006، ص 50.

[113]  أديب كمال الدّين، "هو أزرق وأنت زرقاء"، من ديوان ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2006، ص 14.

 

[114]  أديب كمال الدّين، "في المطار الأخير"، من ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2011، ص 77

 

[115]  أديب كمال الدّين، "تناص مع الموت"، من ديوان أربعون قصيدة عن الحرف، دار ازمنة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2009، ص 22.

[116]  أديب كمال الدّين، "ثمة خطأ"، من ديوان، أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2011، ص 7. هذه القصيدة ترجمها الشاعر إلى اللغة الإنجليزية، وصدرت سنة 2012 بأستراليا عن دار " Salmat press" ضمن مجموعة شعرية تحمل عنوان القصيدة ذاتها.

[117]  أديب كمال الدّين، "إشارة البحر" من ديوان لم يصدر بعد ورقيا. يمكن الاطلاع على القصيدة في باب "قصائد جديدة" في موقع الشاعر الرسمي.

[118]  أديب كمال الدّين، "شجرة الثعابين" من ديوان شجرة الحروف دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن2007، ص 23

[119]  أديب كمال الدّين، من ديوان النقطة،صدرت بطبعتين: ( الأولى 1999) – بغداد. ( الطبعة الثانية 2001 ) - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، بيروت، ص 26.

[120] لن يتمّ جرد كلّ أصوات الحروف والتطرق لكلّ منها بإسهاب وتفصيل، ولكن سيتمّ التركيز على نماذج منها واختيار تلك التي أولى الشاعر لها عناية خاصة دفعته إلى اختيار بعضها عنوانا لبعض دواوينه الشعرية.

[121]  ذكر حرف الرّاء في النّص كله لـ 16 مرّة، أما السّين فلِـ 21 مرّة، والميم لِـ 54 مرّة.

[122]  كل الصّور التوثيقية الخاصة بهذا الجزء من القصيدة تستند على عملية رصد الذبذبات الحروفية عبر آلة تسجيل وتحديد الموجات الصوتية للحروف المعنية بالدرس.

[123]  أديب كمال الدّين، نون، مطبعة الجاحظ، بغداد، 1993

[124]  أديب كمال الدّين، حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عمان - بيروت 2002

[125] د. حياة الخياري، " حآ " أديب كمال الدّين : مقاربة صوفيّة براغماتيّة، مجلة الأقلام - دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد - العدد الثالث - تموز، آب، أيلول 2011

[126]  تكررت الباء في هذا النص لأربعين مرّة.

[127] اتُخذ كنموذج للتحليل العلاقة الهوائية بين الصوائت والسكون: البيتان الأولان من القصيدة. أما الجزء الأول من النص فقد اخْتير لتحليل موسيقية الصائت عند آخر كل بيت شعري: تهبطُ/ ماءٍ/ الطيرِ/ تمسكهُ/ شفاهي/ الجارح/ لألقاهُ/ الكبيرةِ/ أغرقُ

[128]  القرآن الكريم، سورة الأعراف، آية 172.

[129] Michel Eugène Chevreul, René-Henri Digeon, Des couleurs et de leurs applications aux arts industriels à l'aide des cercles chromatiques, Paris, J.B Baillières et Fils, Libraires de l’Acadèmie Imperiale de Médecine,1864. P.15.

[130]  أديب كمال الدّين، "أنثى المعنى" من ديوان أخبار المعنى، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1996، ص 21.

 

 

[131]  أديب كمال الدّين، "الغراب والحمامة"، من ديوان الحرف والغراب، منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013، ص 9.

[132]  أديب كمال الدّين، "الغراب والحمامة"، من ديوان الحرف والغراب، منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013، ص 9.

[133] أديب كمال الدّين، "قصيدتي الأزلية" من ديوان شجرة الحروف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2007، ص 19

[134]  القصيدة نفسها.

[135]  أديب كمال الدّين، "شجرة وحيدة"، من ديوان ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2006، ص 5

[136]  أديب كمال الدّين، "الغراب" من ديوان حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، عمّان- بيروت 2002، ص 121.

[137]  أديب كمال الدّين، "قصيدتان"، من ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2011، ص 52

[138]  أديب كمال الدّين، "موقف الظلام"، من ديوان مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان2012 ، ص21.

[139]  أديب كمال الدّين، "ألوان" من ديوان ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان الأردن 2006، ص 131.

[140]  أديب كمال الدّين، "موقف البياض" من ديوان مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان 2011، ص 76.

[141]  أديب كمال الدّين، "موقف الظلام" من ديوان مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان 2012، ص 21.

[142] أديب كمال الدّين، "ملك الحروف" من ديوان حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، بيروت 2002، ص16.

[143]  سورة طه، آية ، 25/26.

[144]  مقطع من قصيدة "خطاب الألف" من ديوان نون، بغداد، مطبعة الجاحظ 1993، ص 57.

[145]  أديب كمال الدّين، "بطاقة تهنئة"، من ديوان الحرف والغراب، منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013، ص 35.

 

[146]  أديب كمال الدّين، "انسلال" من ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2011، ص 42.

[147] أديب كمال الدّين، "موقف البيت" من ديوان مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012، ص 91.

[148]  أديب كمال الدّين، "محاولة في دم النقطة"، من ديوان النقطة، صدرت بطبعتين : (الأولى 1999) – بغداد (الطبعة الثانية 2001) - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- عمّان، بيروت، ص 17.

[149]  أديب كمال الدّين، " قال الحرف: ما معنى النقطة؟"، من ديوان الحرف والغراب، منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013، ص 75.

[150]  أديب كمال الدّين، "محاولة في القهقهة"، من ديوان النقطة، صدرت بطبعتين: (الأولى 1999) – بغداد (الطبعة الثانية 2001) - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، بيروت، ص 80.

[151]  أديب كمال الدّين، "غزل على طريقة فان كوخ"، من ديوان حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، بيروت 2002 ص 98.

[152]  أديب كمال الدّين، "ذات ربيع"، من ديوان أربعون قصيدة عن الحرف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2009، ص 93.

[153]  أديب كمال الدّين، "مثلثات"، من ديوان الحرف والغراب، منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013، ص 12.

 [154]د. صالح الرزوق، "كيف نفهم التكرار في شعر أديب كمال الدّين؟"، مواقع صوت الحرية والنور والمثقف 1- 11 – 2012

[155]  قد يتساءل القارئ عن كيف تم التوصل إلى أن شكل مائدة الخوف دائريا، والجواب هو كالتالي:

ـ من الناحية الرياضية، يمكن رسم المثلثات كما ذكرها الشاعر في نصه دون دائرة، وحينما سيكتمل الشكل ستجد أن الدائرة تشكلت من تلقاء نفسها، يكفيك فقط للتأكد من ذلك الوصل بين رؤوس المثلثات الأربعة.

ـ أما من الناحية اللغوية، فإن ابن منظور يقول في لسان العرب، إن المائدة لا تسمى كذلك حتى يكون عليها طعام، وإلا فإنها خوان. ويقول أيضا بأن المائدة هي: الدائرة من الأرض.

[156]  أديب كمال الدّين، "موقف الكلام"، من ديوان مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2012، ص 38.

[157]  أديب كمال الدّين، "أنين حرفي وتوسل نقطتي"، من ديوان أربعون قصيدة عن الحرف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2009، ص 71.

الصور التوضيحية

 

  1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

 انتهى

نصّ الكتاب كاملاً  بهيئة بي دي أف مع الصور التوضيحية

 

http://asmaaegherib.files.wordpress.com/2013/07/tajalliyat-formato-difaf.pdf

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home