بحار أنسنة القصيدة

"رحلة سريالية" وما تلاها لأديب كمال الدين

 

 

د. رسول محمد رسول - بغداد

 

لا يزال أديب كمال الدين الشاعر العراقي المقيم في أستراليا يكتب شعراً في رحلته الأدبية وارفة الظلال. ومنها ما كتبه تحت عنوان قصيدته (رحلة سريالية) (1) التي فيها يبدو الشاعر في حكي للحظة المجيء بعد غياب طويل فلم يجد لا أولاده ولا بناته ولا أحفاده، إنّما وجد "قصيدته الأخيرة" التي لم تكتمل وهي تنتظره. فالقصيدة هي بانتظار الشاعر بوصفها لحظته الإبداعية نافرة الوجود بحيث تستبدل كل ممكنات الحياة المادية لصالح المعاني الشعرية ما يعني أن القصيدة هي الموروث الحقيقي وأنها الولد أو البنت أو الحفيد المبذول ولذلك يقول الشاعر:

 

"فسارعتُ إلى تقبيلها ما بين عينيها

فهبطتْ من عينيها الحالمتين

دمعةُ طفل يتيم".

 

وبذلك صارت القصيدة مؤنسة؛ صارت طفلاً يتيم الحال، ليعود الشاعر ويقرأ لنا بيانه في العبور الجوهري في مشرعه الشعري هياماً:

 

"كثيراً ما أذكرُ أسماءَ البحارِ التي عبرتُها؛

بحر الحرف،

بحر النّقطة،

بحر الرّعب،

بحر اللعنة،

بحر الطّغاة،

بحر الكلابِ والثَّعالبِ والعناكب،

بحر الكناغر،

بحر الأجساد،

بحر الضَّحكِ الأسْوَد.

 

وعن بحر حياته يستأنف ليقول:

"لكنّي أنسى أن أذكرَ بحراً

محاه الجغرافيون من الخارطة،

أظنّهُ بحر حياتي."

 

الدور الكوني للشاعر

*******************

يمارس الشاعر دوره الكوني عندما يلفّ أمكنة العالم الذي نحن فيه فيودّع صوته/ قوله/ قصيدته/ شعره التي اختار لذلك ملفوظاً شعرياً هو "نجمة"، وشأنه أنه بدا مهووساً بسر الحياة لكن سرائره تتغافل عن أن الحياة هي داءٌ لا تشفيه النُّجوم فيقول:

 

"في كلِّ بلدٍ من بلدانِ العالم

أودعتُ نجمةً من نجماتي.

كنتُ مهووساً بسرِّ الحياة

ولم أعرف أنّ الحياة

داءٌ لا تشفيه النُّجوم."

 

الشاعر يطوي حالات الغربة واليأس فيعود إلى نجمته الأولى؛ يعود إلى "النقطة" وممارسة السعد بأنطولوجيتها ويؤنسنها حتى يُقبّل وحدته:

 

"أنتظر بشوق أنْ أدخلَ نقطتي

لأصافحَ وحشتي

وأقبّلَ وحدتي".

 

يصل الشاعر إلى معنى الجنون في الحياة أو جنون الشاعر في وجوده الحياتي فيقول:

 

"الشّعر جنونٌ جميل

أو جنونٌ مُطلق

أو جنونٌ سرياليّ

أو جنونٌ حروفيّ

أو جنونٌ نقطوي.".

 

هذه معاني الجنون في تجربة القصيدة لدى الشاعر أديب كمال الدين في قصيدته التي تعيش "الجنون الأخير" بمعنى "الجنون السعيد".

 

مضمون ثلاثي

*************

ثمة َدوام للنقطة وللحرف عندما يشتعل الشاعر عليهما ليستعيد بنيته التركيبية على نحو رائق، فالجنون السعيد سيتحوّل إلى لحظات أخرى كما كتبها صاحب الرحلة السريالية قائلاً:

 

"حرفي أحترق

قد يكون،

لكنّه اقتربَ حدّ الذهول

بسؤالٍ إبراهيميّ

ودمعٍ يعقوبيّ

وجمالٍ يوسفيّ

مِن الذي يقول للشيء كن فيكون". (2)

 

الأشياء عندما تحترق لدى الشاعر لا تتحوَّل إلى رماد إنما إلى بوتقة أخرى تقترب حدّ الذهول، قوامه السؤال المركّب الذي يتقّوم بثلاث لحظات مستوحاة من التركيبية القرآنية التي يعبر عنها في لغته الدينية. وقد سعى الشاعر لأن تكون بالسؤال الإبراهيمي، والدمع اليعقوبي، والجمال اليوسفي. وهي ثلاثية رائقة ركّبها الشاعر في نصّه الشعري كملاذٍ إبداعي؛ حيث يختاط الشعري بالمعرفي الديني في ظهوره القرآني ما يُحسب للشاعر اشتراكه الإبداعي.

******************************

(1) الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد السادس، أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2020، ص 152.

(2) الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد السادس، أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2020، ص 158.

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

نُشرت في جريدة (الصباح)، الأربعاء 2 كانون الأول/ ديسمبر 2020. ص 14.

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home