قراءة في المجلّد  الثاني  للأعمال الشعرية الكاملة:

المحسوس وتحرير الكائن

في نصوص الشاعر العراقي أديب كمال الدين

 

علاء حمد

 

 عندما نفصل المرسِل عن المرسَل إليه من الممكن جدا أن يكون الغائب هو المرسَل إليه، وهناك الغائب الدائم والغائب المؤقت، فالغائب الدائم هو غائب في جميع الأحوال ويحضر كمتلقٍّ للمرسلة، والغائب المؤقت هو غائب لأسباب معينة، كأن يكون لأسباب النصّ بالذات، فالنصّ يحتاج إلى هذا الغياب، فيكون الباث حاضرا نيابة عن الغائب، عن الغائب الدائم إذا لم يحضر، ويتدخل الباثّ مرة أخرى بحضوره عندما يكون النصّ الشعري قد غيّب المرسَل إليه.. فالشاعر ينوب عن الاثنين في حاجة ملحّة كمتلقٍ ثان يتلقى النصّ الشعري، فيصبح المرسِل؛ مرسِلا ومستقبلا، فالشاعر يستقبل نصّه بالقراءة البطيئة، وهذا يحدث مع معظم الشعراء عندما يكون المتلقي غائبا، وتكون الذات هي التي تتدخل بحالة الخلق، وتتدخل بحالة الغياب، وذلك لأنها تحتاج إلى حضور الغائب كعمل فعلي مع النصّ، وخصوصا عند الهدم والبناء..

 لسنا هنا بصدد تشريح النصّ الغائب، بقدر تواجد النصّ من خلال غيابه وإعادة حضوره كنصّ يفرض تقنياته وأدواته الشعرية، لذلك عندما نتكلم عن الرمزية والتي تلاحق الكائن النصّي، فهنا ككائن تواجد بحكم حضوره المحكم وغيابه الذي يشكل جوارا للنصّ الكائن بذاته..
إنّ علاقة المحسوس بالنصّ الكائن علاقة جدلية حاضرة، وفي نفس الوقت غياب النصّ يعني لنا غياب المحسوس، لذلك فرضية النصّ الشعري خارج المحسوس يقودنا إلى حالات من الميتافيزيقية، والتي تؤدي كحضور فعلي خارج المحسوس، وتؤدي جدلية الباث خارج الوعي المؤقت على تدجين الحالة النصية، كنصّ متحرر بالتمام ويؤدي فعله الوظيفي التأثيري بالمتقلي قبل كلّ شيء، وهذه المؤثرات تقلب طاولة المباشرة على الباثّ، ويؤدي الشاعر مهامه كمتلق أوّلي.. حيث يقودنا النصّ من خلال غيابه إلى عدة نصوص مجاورة، لا تظهر بالشكل المطلوب الذي يتمناه المتلقي عادة، لذلك عندما نميل إلى حالة الهدم والبناء، يكون الشاعر قد سبقنا بهذه المهمة من خلال التصنيف المعرفي للنص، وتكون حالة ”الإدراك والفهم” من الحالات التي يقصدها الشاعر في تمييز مدى عمق الحالة النصية من جهة، وتوجيه الحالة البلاغية وقوتها من جهة أخرى.. وعندما نناط بحالة اللغة التي تعتبر الشعرية وتمسكها بها من أولويات حبكة النصّ في حالتيه التكوينية؛ الكائن الحاضر، والكائن المتغيب، والذي تغيبه حركة الفعل ونشاطها في النصّ الشعري.

ومن الحالات الاستثنائية اليومية التي نمرّ بها، هي علاقة الذات بالمحسوس، وعلاقة الذات بالحالات الحسية المتشعبة بشكلها العادي اليومي.. ونحن مع علاقة الذات وثقافتها الآنية مع ثقافة المحسوس وثقافته المرحلية، حيث تطورات المحسوس في زمنية الشاعر بتغيير دائم، لذلك أكدنا ونؤكد تماما بأن: وراء كلّ نصّ ذات جديدة.. ووراء كل نصّ محسوس متجدد لا يتوقف في حالة من الحالات، وإلّا تشابهت الأسلوبية بين الشعراء وتكون الحالات الموضوعاتية حركة متشابهة، بينما الحركة الموضوعاتية تختلف حتى لدى الشاعر الواحد من خلال نصوصه التي يطرحها..

يندمج المحسوس مع الكائن باعتبار الكائن قوة حسية ثانية، ومن خلال هذه القوة الحسية نلاحظ بأن حركة المحسوس حركة جزئية، وذلك باعتبار الكائن ينوب عن المحسوس من ناحية قوته الحسية وقوته التخييليه أيضا، فمكونات الشاعر العراقي أديب كمال الدين، حيث تكون المبتكرات الإرسالية والدلالية والاستقبالية، وهي متعددة الاتجاهات، ونقيسها من خلال النصوص التي تتعلق بذاكرة المتلقي من جهة، وفعل قول الكائن لدى الشاعر العراقي أديب كمال الدين من جهة أخرى؛ وذلك من خلال تعلقه بهذا المنجز المميز والذي يقودنا إلى مراحل من الإرسالية، كأن تكون إرسالية ذاتية وإرسالية دلالية استقبالية، ودلالية صادرة؛ وكذلك إرسالية الكائن التخييلي، والذي يشكل الدعم الأكبر في الاختلافات اللغوية، وحالات الخيال والتخييل في نصوص الشاعر كمال الدين.. ((إنّ الاختلاف هو السرّ الخالص، المجهول بامتياز والذي لا يمكّننا أن نقيم أية علاقة معه إلاّ تأمله كسرّ، من هنا فإنّ أية محاولة لمعرفة ما ينطوي عليه هي خطوة باتجاه المعلوم، خطوة باتجاه المغاير لكونه سرّا. – ص 16 – التفكيكية إرادة الاختلاف وسلطة العقل – عادل عبدالله))..
نعتبر الكائن أحد الكوامن غير المعلنة في أحايين كثيرة، وهنا يحدده سياق النص وتوجهاته في التصنيف التداولي لأبعاد النص، فلو دخلنا إلى قوة الفعل، علينا ألا نتخلى عن تداولية فعل الكلام، باعتباره الأنسب والأقرب في النصّ الشعري الحديث، وخصوصا إنّ فعل القول وعلاقته الكامنة مع الكائن والمحسوس يشكل حركة وظيفية مرتبطة بالباث وشروط الإنتاج اللغوي زمانيا ومكانيا.. وهناك بعض العلاقات الأخرى التي تهم التداولية الحجاجية، ونحن ندخل إلى إيجاد البرهنة النصية من خلال نصوص الشاعر أديب كمال الدين.

إنّ حركة احتواء النصّ، إما إرسالي أو استقبالي، وفي حالة الإرسال نكون على يقين من أن الحركة في المشهد الشعري، اعتمدت الاختلافات، والمفهوم الخاص للاختلاف، باعتبار أنّ اللغة تقتحم النصّ الشعري بمفاهيم الباث الخاصة، وليس بالمفاهيم العامة، لتكوّن لنا خاصية شعرية من لغة العقل التي يدجنها الشاعر في نصوصه الشعرية، ومنها لغة الكائن المخصخصة ولغة المتخيل، ولغة المحسوس، وهذه الاتجاهات الثلاثة، تقودنا إلى علاقات جدلية مابينها.. أما الاستقبالي، فالنصّ له مجاوراته، وهو يعيش مع عدة نصوص صغيرة، وتتبين هذه الخصوصية من خلال التناص مثلا ومن خلال ديمومة النصّ وتوزيعه بالشكل الذي تحتويه المعاني؛ حيث لا يمتثل النصّ أمام معنى واحد، ولا أمام اتجاه واحد، ولا ينفرد بحقيقة أحادية..

الكائنات التي تدور في فلك الذات عديدة، وتتعدد حسب العوالم العالقة في الذات، حيث حولها العديد من هذه العوالم، وتختار الذات عالما منها لكي تكون مهيأة لأسباب تقنية في فنّ كتابة النصّ الشعري، لذلك ومن خلال ما طرحه الشاعر العراقي أديب كمال الدين من نصوص نوعية نميل إلى باقة من هذه الكائنات:

كائن الحزن: ويقابله كائن الفرح والابتسامة التي تؤدي إلى البهجة؛ وفي نفس الوقت هناك ابتسامة الحزن أيضا؛ والشاعر يدير دفة الحزن من خلال كائناته المرئية وغير المرئية، وهي مشاعره التي يترجمها في النصّ الشعري وإن تعددت معانيه، فسوف تتعدد كائنات الشاعر أيضا ..

 

الكائن في البعد البصري

***************

يكون الكائن ضمن الثقافة البصرية حاضرا كمستوى من الاستقبال البصري ومدى قوة التخيل البصري نحو كائناته، لذلك تنشغل البصرية ضمن الخيال والتخيل وتدخلها بعلاقة مع الذات، فتصبح مرسَلة خارجية، وهذا ما تحتاجه الذات عادة عند الخلق النصّي، حيث منظور الشاعر تتخلله عدة اتجاهات وعدة عوامل سببية لإيجاد حالة الجنون الخلاق عندما يكون الشاعر خارج الوعي المنظم؛ حيث يمثل التصوير البصري الأحداث والأشياء والأصوات.. إنّ التفكير البصري للذات البصرية، يسبق التفكير الذاتي الداخلي، حيث يكون التفكير، تفكيراً ناطقاً وله أصواته المختلفة، ويتم دمج تلك الأصوات من خلال نقل الصورة، إن كانت صورة مباشرة أو صورة خلق بصري من خلال التخييل..

 

كائن الأشياء التخييلية:

**************
ما مدى التقارب مابين الأشياء المادية وإحالتها إلى التخييل؟.. من خلال هذه الإحالة تنشط الذات الخيالية والذات البصرية الخيالية أيضا، حيث تمدنا الأخيرة بوسائط مادية منظورة، بينما تمدنا الذات بوسائل غير مادية، باستيعاب الحالتين، تتكون لنا رؤى مخصخصة في المنظور الشعري، ما تحتاجه الشعرية في عملية الخلق النصي، وخلف الذات ومجاوراتها، فتتم لملمة الأجزاء أيضا، وهي ضرورية لعملية التصوير الذاتي للأشياء.

يمنح الباث للمتلقي الكائن الحقيقي أو يوهمه بكائناته الحقيقية، مثلا أبعاد المعنى، وهي تعتمد على حقائق يتم تدجينها من خلال التفكر والبعد البصري، ولكن ومن خلال تعدد الأحلام، والقدرات المانعة للحقيقة، نلاحظ يعكس تلك الأحلام حدس شعري، حيث يكون المتلقي مقذوفا معها ومع مملكة الخيال التي تتجانس فعليا مع الذات في الخلق القصائدي..

 

كائن المحسوس:

**********

من أهم كائنات المحسوس، الكائن الجمالي، والذي له درايته الحسية بين الذات والموضوع، ويكون المحسوس الجمالي له الأثر الفعال في توجيه الجملة الشعرية، التواصلية منها والمقطوعة، وكلما جزأنا الجملة، نحصل على قوة جمالية في الجملة الشعرية، حيث تقودنا إلى منظومة عنصر الدهشة، وجميع عناصر هذه المنظومة شرطها الأول أن تخضع للأثر العبقري، بقواعد غير منتمية للتقليد، وإنما تكون بؤرة حداثوية تقودنا إلى فلسفة اللغة وعبقرية الحدث الجمالي الخلاق.. ولا يهمنا نوعية الكائن المادي المتواجد في الطبيعة من القيمة الجمالية وخلقها أو تواجدها بشكلها الطبيعي، حيث يتم تغيير مواصفاتها الطبيعية إلى مواصفات جمالية..

 

كائن الاختلاف:

*********
ليست اللغة وحدها تختلف على معانيها وعلى تنسيقها في موضوع (كائن الاختلاف)، فالشاعر يختلف مع ذاته أيضا، وتختلف اللغة مع اللغة في  تنوع اللغات الموظفة في الخلق الشعري.. فلغة واحدة نعتمدها في التعبيرات الشعرية، ستكون لغة جامدة، كما يطلق معظم الباحثين على هوية اللغة الشعرية ويكتفون بهذا المصطلح التقليدي.. إنّ اللغة من العوامل العبقرية وكيفية صنعها من جديد حسب حاجة الشاعر لها، وعندما نقول لغة الاحلام، فنحن في منطقة غير عادية، وذات غير مشخّصة، وذلك لأنّ الاحلام لا تستقر بطابع واحد، ولا تركن إلى زاوية ضيقة، فهي ذلك الفضاء الذي يسبح به اللامحدود، ولا نستطيع استحضارها إلا من خلال التأمل الذاتي..

الكائن النصّي:

********

هناك الكائن الممكن والكائن غير الممكن، فالضرورة بالكائن غير الممكن يخلقها الشاعر من خلال اللاوعي، بينما الضرورة الممكنة التي يخلقها الشاعر من خلال الممكنات المتواجدة أمامه؛ وهو ينحني كي يلتقط الأشياء الممكنة، وهي متواجدة من خلال حركة الوعي ومغامراته في قول الفعل المتفاعل والذي يؤدي إلى خلق بعض المعاني والقليل من التصورات المدفوعة نحو الممكنات، فعندما تتواجد الممكنات أمام بصرية الشاعر، فالتصورات ستكون ضعيفة، وخارج قوة الاندفاع في الخلق القصائدي.. وتهدد التصورات كلّ الممكنات المتواجدة، وفي حالة الاتكاء على التصورات ومساحة الخيال وحركة المتخيل في النصّ الشعري، فسوف نلاحظ أن هذه المجموعة ستخلف عناصر عبقرية في الكائن النصّي، حيث تقضي على الأعمال والعناصر المألوفة والتي لا تميل إليها القصائدية، وخصوصا في الشعر العربي الحديث والمعاصر..

كائنات الشاعر العراقي أديب كمال الدين لا نستطيع حصرها في مساحة ضيقة، فمجلداته الشعرية تُقرأ باتجاهات عديدة، والغور بمساحتها من عدة اتجاهات ممكنة، لذلك تحرير الكائن لدى الشاعر، كتحرير المحسوس والالتجاء إلى عمل اللغة وجماليتها في الخارطة الشعرية..

1
رأى دمعتي

مَن يسوسُ الناسَ كما يسوسُ البغال

فأرادها نجمةً تزّينُ كتفيه العريضتين

وسنواته العجاف.

ورآها الطفلُ فأرادها لعبةً

تسلّيه وقتَ المساء

ووقتَ الصباح.

وأرادتها المرأة

لتزّينَ بها

عقدَها المُتدلّي بين النهدين.

من قصيدة: دمعة مضيئة – ص 151 – الاعمال الشعرية.. المجلد الثاني.
من كائنات الشاعر والتي تؤدي مجالها القصدي عبر ”اللامفهوم“، كائن الأستطيقا، وكما ذكرتُ فإن (كائنات الشاعر كثيرة) ونحن نزورها حسب النصوص التي تدخل في فضاء التفكيك؛ ومن هنا نتجه إلى نزع الأشياء وتحويلها إلى الموضوعاتية، مع حركة الفعل النشيطة التي تؤدي إلى التلاعب بالمخيلة، وفي طبيعة الحال هي تلاعبات الباث للمنطوق الذي يرسمه عادة ونحن نبحث عن البرهان والمطلوب إثباته.. تنفتح الأستطيقا على الانزياحات التي يقصدها الشاعر وكذلك على حركة المحسوس لتكوّن كائنا مستقلا له الدهشة في العلاقات النصية، ومن خلال التجاوزات المكتوبة للنصّ الشعري ومفهومية التأويل وعلاقته بالمتلقي وعلاقته في الفعل النصّي التركيبي، نحصل على المفاهيم المفتوحة..

رأى دمعتي + مَن يسوسُ الناس كما يسوسُ البغال + فأرادها نجمةً تزيّن كتفيه العريضتين+ وسنواته العجاف.

يحصل الاتصال بين المنطوق والمكتوب، حيث يحدث الاتصال بين المرسِل والمتلقي، وبينما نلاحظ أن العنونة التي رسمها الشاعر ( دمعة مضيئة) لها اتصالاتها مع جسد النصّ، شكّلت بوابة أولى للتعرّف على أحداث النصّ الشعري؛ فالشاعر يرسم تلك الدمعة المضيئة، وهي تميل إلى اللمعان إذا ما سقط الضوء عليها.. فالأفعال التي وظّفها الشاعر، أصبحت أفعالا منطوقة بالكتابة، حيث دارت المعاني حولها، وتأثير الدمعة التي لها خاصيتها بدعمها للنصّ الشعري، والذي أصبح ميزة للانتظار من قبل المتلقي..

ورآها الطفلُ فأرادها لعبةً + تسلّيه وقت المساء + ووقت الصباح.
وأرادتها المرأة + لتزيّن بها + عقدها المتدلّي بين النهدين.
للطفل لعبته وللمرأة تفكيرها، لذلك كانت الدمعة المضيئة مناسبة لكلا الطرفين، وحسب حاجة المرء إليها؛ وعندما ينتظر المتلقي تشكيل النصّ من خلال معانيه، فهو الآخر يشترك بخصوصية تفكيره أو لعبته المحببة؛ إذن نرسم طرفا ثالثا يشترك مع الطفل والمرأة من خلال البعد التخييلي الذي رسمه الشاعر، ليصبح لدينا نصّ مجاور للنصّ الأصلي، وهو كائن جديد يمتثل مع كائنات الشاعر العراقي أديب كمال الدين..
2

غيرَ أنَّ الله

رأى دمعتي في جوفِ الليل،

ليل أرضِ السواد،

فقال: خذْها نقطةً تُسمّي الشيءَ واللاشيء،

تُسمّي الوطنَ واللاوطن،

تُسمّي الرعبَ والطمأنينة.

من قصيدة: دمعة مضيئة – ص 151 – الاعمال الشعرية.. المجلد الثاني.
الدمعة ليس لها ثمن؛ لذلك عندما رآها الله، فهي تنتظر من يمنحها التعريف الأفضل، فتظهر أمام الآخرين بحلة جديدة، ومن خلال المحدود واللامحدود نلاحظ أن الشاعر يعيد تشكيل الكائن وتقاسيمه الجديدة.

غير أنّ الله + رأى دمعتي في جوف الليل: + ليل أرض السواد، + فقال: خذها نقطةً تُسمّي الشيء واللاشيء،+ تُسمّي الوطن واللاوطن، + تُسمّي الرعب والطمأنينة.

دجّن الشاعر أديب كمال الدين المحسوس الاقرب إلى كائنه الجزئي (الدمعة)؛ وبذلك تظهر المواصفات المعرفية التي ينتظرها المتلقي، وهي التي تقرّبنا من جسد النصّ الشعري؛ ومن خلال لفظ الجلالة (الله) نلاحظ أنّ النتائج هي الوضوح من العمل، والتزامن الفعلي مع نوايا الشاعر، فالدمعة المضيئة التي أطلقها، هي ليست تلك الدمعة التي في مشهدها المباشر، فهنا تحددها بعض الصراعات الطبقية، فعادة الدموع من نصيب القوى الضعيفة (الطبقة المعدمة) بينما القوى القوية لا تميل إلى هذه الجوانب وهي بعيدة عن هذه العلاقات التي تؤدي إلى حقائق المجتمع والمستغِل والمستغَل.. فحالات الاستغلال بيّنة ومن صفات القوى المهيمنة والتي تمتاز بالقوة والجبروت، لذلك ومن خلال التوافق الذهني أدخل دمعته المضيئة، وهي الأقرب إليه وتناسبه جيدا، لكي ييبيّن قوّة الاستغلال وبعض صفاتها..
عندما نميل إلى الشيء واللاشيء= الشيء والفراغ= الوطن واللاوطن = الوطن والغربة .. باعتبار الشاعر يعيش في الغربة ومن خلال بيئته الجديدة استطاع أن يوثق حركته اليومية في القصائدية.. وهذه قيمة سيميوطيقية مضافة لعلامات العمل، لتدجين وظهور العنونة، وكذلك للوقوف أمام حركة الدال والمدلول في النصّ الشعري.. لقد خلق الشاعر عالمه من خلال الوعي الجزئي، ونقول: بأن العالم خلق وعيه، على مستوى الإنتاج النصّي..

نذهب مع مبدأ المعني، باعتبارنا مازلنا في العنونة مع تحرير الكائن وانطلاقته المبدئية من الداخل المعني وإلى الداخل المعني، وهي تخصّ المبدأ الآني في التصوير الشعري ومحمولات المعاني والتأويلات التي يقصدها الشاعر في نزهته الشعرية، يقول جون ر. سورل في كتابه: بحث في فلسفة اللغة ((كلّ مايمكن أن يُعني يمكن أن يقال))؛ يقول يمكن أن يُقال، وهنا ليس وجوبا، وإنما من الممكن أن يُقال؛ وهي خاصية ”مبدأ قابلية التعبير”، نعتبر المبدأ المعني من المبادئ التي نحيلها إلى القول الشعري، باعتبار التعبير جزءاً من الكائن وتقاسيمه في الديمومة النصّية.. والمعني من البنية النصّية التي يبنيها وينتقل بها بصور شعرية تسكن النصّ وتحولاته، حيث أنّ التحولات من نصيب هذه الصور الجزئية والتي تمتدّ على بعضها من حالة إلى أخرى، ومن بنية إلى بنية جديدة..

1.

حينَ أفاقَ الطفلُ من نومه،

وجدَ اللقلق

قد ألقى إليه بكيسٍ من الحروف.

رقصَ الطفلُ فرحاً،

قال: أريدُ الحاء:

حاء الحنينِ والحُبِّ والحلم. 

مدَّ يده

فأخرجَ أو فخرجتْ له

- وا أسفاه – 

حاء الحرمانِ والحقدِ والحرب.            

ارتبكَ الطفل،

قال: أريدُ الباء،

باء الكونِ والبسملة.

مدَّ يده

فأخرجَ أو فخرجتْ له

باء البرابرة. 

من قصيدة: كيس الحروف – ص 160 – الاعمال الشعرية.. المجلد الثاني.
ما يطرحه الشاعر، هو إنجاز فعلي وقضائي، فهو يرى كائناته في الطبيعية، ويراسلها من خلال ماتضمّنه فعل القول، ومن هنا يظهر لنا المرسِل الاسترسالي، والمرسِل إليه التصنيفي، فاللغة التي نحن بصددها لغة التقاطع والمقطوع؛ فعندما يضع نقطة في نهاية كلّ مشهد، فهو يميل إلى معاني ضمنية جديدة، ومع كلّ معنى يظهر كائن جديد، فالمرسِل، كائن تربّع من خلال الحدث النصّي، والمرسَل إليه يميل إلى التقاطعات المختلفة، ففي هذه الخاصية لا يتوقف الشاعر عند شخصية واحدة تنتظره، بل هناك جمع، تختلف معاييرهم في التلقي والتصنيف والذوق وتحويل القول المدفوع نحوهم عبر القصائدية..
حين أفاقَ الطفلُ من نومه، + وجد اللقلق + قد ألقى إليه بكيس من الحروف.
رقص الطفلُ فرحا، + قال: أريد الحاء: + حاء الحنين والحبّ والحلم.
مدّ يده + فأخرج أو فخرجتْ له + -وا أسفاه – + حاء الحرمانِ والحقد والحرب.
نحن هنا في منطقة مابعد الكائن، فالأحلام التي نرتديها هي إما أن تكون لها علاقة بالواقع، أو خارجة عن قانون الواقعية، وفي الحالتين، الشعرية تخرج من مباشرتها الواقعية.. فالكائن الذي اعتنى الشاعر به، واقع البراءة وانتظار الطفولة، الطفولة التي ستكبر وتصبح لنا بتراتيب ناضجة، وأطلقوا عليها (طفولة المستقبل)، ولكن طفولة الحياة، تبقى طفولة، فنحن نعوم على مساحتها، ونعتني بأدواتها المعيشية.. فالبراءة كانت نائمة، وعندما أفاقت من نومها (الطفل)، سخّر الشاعر له طائر اللقلق، والمعروف عن هذا الطائر عبر الروايات والأساطير، وهو من الطيور المهاجرة، ويبتعد عن الماء عند هجرته من بلد إلى آخر.. ( ).. طائر اللقلق والمعروف عنه بانه يحمل الأطفال الرضع في كيس من الخام(الأساطير اليونانية والمصرية)، لذلك وبدلا من الطفل الرضيع المحمول بكيس، استبدله الشاعر بكيس الحروف، وهنا رمز بمعنى الحياة..
رقص الطفلُ فرحاً، + قال: أريدُ الحاء: + حاءَ الحنينِ والحبِّ والحلم. = مدّ يده + فأخرجَ أو فخرجتْ له +  وا أسفاه  + حاء الحرمانِ والحقد والحرب.
المشهدان اللذان يظهران أمامنا، يمتدان على بعضهما لتكملة المعنى خارج الكيس، وذلك من خلال التأويل الذي اعتمد العفوية النصية في الكتابة، وهذا يقودنا إلى اللامحدود، فالمشهد الشعري لدى الشاعر العراقي أديب كمال الدين من المشاهد الامتدادية والتي تؤدي إلى حركة الفعل الانتقالية.. إنّ الفعل (أفاق) من الأفعال الانتقالية الدالة على النهوض والاستقرار، هذا إذا جعلنا أن محور النصّ الأول كمدخل أولي لبقية النصوص الامتدادية والتي تعود دلالتها للنصّ الأول كمفتتح أولي لبقية النصوص التي اعتمدها الشاعر.. بينما الفعل (رقص)، والذي دلّ على الفرح والبهجة، وهو يتعامل مع أريحية نفسية للطفل.. المتلقي..

ارتبك الطفلُ، + قال: أريدُ الباء، + باءَ الكونِ والبسملة.
مدّ يده + فأخرجَ أو فخرجتْ له + باء البرابرة.
في جميع المشاهد المعتمدة، هي تدلّ على الخيبة وسقوط التأمل النفسي للبراءة، هي براءة الطفل، عندما نكون مع عفوية التأويل، فعائدية المشهد يعود إلى الإنسان المنتكس والذي لا يتلقى سوى الخيبات من عنف الحياة الملتهبة معه ومع الآخرين..

عملان واجهانا في النصّ الشعري الذي نحن مع تفكيكه:
الأوّل: تقاطعي.. وهو اختلاف الهوية المنسوبة للتفكير الذهني الذي طرحه الشاعر علينا من خلال كيس الحروف.. فتجانس العنوان مع المطالع الأولى للنصّ.

الثاني: قيمة القول الشعري.. والذي يحمل المعاني المختلفة من خلال التخيل وحركته في النصّ الشعري، وهنا قد يلقي الباث بعض الجمل الدالة والتي تقودنا كنصّ متقطع متداول إلى النصوص الأخرى، لذلك تمتد المعاني مع امتداد القول الشعري الذي يرسمه الشاعر عادة..
2
دمعتْ عينا الطفل،

وعادَ إلى النوم

فحلمَ أنّ اللقلق

جاءَ وحملهُ إلى الغيوم.

هناكَ رأى غيومَ الحاء

ورديةً مليئةً بالحُبّ

ورأى غيومَ الباء

بِيضاً كثيابِ العيد.

بكى الطفلُ ثانيةً في الحلم

ثُمَّ أفاق

فوجدَ كفّه مليئةً بالدم.

من قصيدة: كيس الحروف– ص 161 – الاعمال الشعرية.. المجلد الثاني
قد تظهر بعض المعاني كفرضية عامة، وتأسيس خاص من خلال المشهد الذهني الخاص بالشاعر، إلا أن تتحول الفرضية إلى حدث واقعي من خلال إيجاد معنى المعنى، والمعنى الذي يتبناه الشاعر عادة، والاهمّ من ذلك علاقات المعاني الفرضية والتي تتحوّل إلى أسلوب معرفي، قد يميل البعض إلى الشكل، والبعض الآخر إلى الجوهر.. في العلوم الشعرية لا نستطيع أن نفصل قصدية الشاعر عن الجوهر والشكل، فالكائن متواجد في الشكل ومتواجد في الجوهر، لذلك لست مع الشكل الذي يتمم الجوهر كمعنى، وإنما مع الكائن الذي يتواجد في الاتجاهين، فمركزية الكائن هي التي تتحكّم، كعنصر معرفي يقودنا إلى واقعه، كما هو حال قصيدة (كيس الحروف)، ومركزية الطفل كدال في النصّ الأوّل..
دمعتْ عينا الطفل، + وعادَ إلى النوم + فحلمَ أنّ اللقلق + جاءَ وحمله إلى الغيوم.

إنّ قول المفاهيم قصديا، هي النفخة المطلقة التي يطلقها الشاعر في وجود الممكنات في الذات العاملة، ومن الممكنات المتواجدة أمام رؤية الشاعر، بأنّ اللقلق يحمل الأطفال الرضع، ومن خلال هذه الأسطورة، وظف الشاعر أديب كمال الدين خصوصيته الشعرية، ليكون تارة داخل الأحلام، وتارة خارجها..

هناكَ رأى غيومَ الحاء + ورديةً مليئةً بالحبّ + ورأى غيومَ الباء + بِيضاً كثياب العيد.

بكى الطفلُ ثانيةً في الحلم + ثمّ أفاق + فوجدَ كفّه مليئةً بالدم.
من الناحية الأبستمولوجية تختلف بنية النصّ عن بنية اللغة؛ وذلك من ناحية المفاهيم أو خصوصية النصّ الهادفة، وعندما انتقل الطفل إلى عالم آخر فقد اختلفت الخصوصية، واختلفت المفاهيم، فعالم الأحلام الطفولية تبشر بالبهجة، وأما العالم الواقعي، يبشر بحقن الدماء والحروب المتواصلة..

 إن خصوصية المفاهيم التي انتمى إليها الشاعر العراقي أديب كمال الدين، اتكأت على مفاهيم بيئته التي ترعرع بها، وهنا لا أقصد مكان الولادة، وإنما انتماء الشاعر لبلده العراق.. الإنتاج هنا، إنتاج بنية نصية، ترافق النصّ الشعري، وتتحوّل من بنية إلى بنية أخرى، كما جرت التحولات النصّية في القصيدة الواحدة..

3

منذ ذلك اليوم

قرّرَ الطفلُ ألّا ينام.

لكنّ اللقلق لم يأتِ.

وقرّرَ الطفلُ ألّا يمدَّ يده

في كيسِ الحروف.

فمرَّ زمنٌ قصير

ثُمَّ اختفى كيسُ الحروفِ إلى الأبد.

 من قصيدة: كيس الحروف– ص 161 – الاعمال الشعرية.. المجلد الثاني.
لم ينقطع المعنى عندما يوفر الشاعر أدواته الممكنة وهو يقودنا نحو لغة الديالكتيك من جهة ولغة العنوان من جهة أخرى؛ لذلك نلاحظ أنّ الشاعر لم يتخلَّ عن الدال والمدلول، وبقي يواكب الفكرة التي تخللتها الزمنية، زمنية الطفل وقراره الأخير، مع اختفاء الأشياء. وعادة الأشياء لا تختفي، ولكن عند التحولات التي سلكها الشاعر من بنية إلى أخرى، فقد أوجد للشيء اللاشيء، ومن خلال هذه البرهنة الاستدلالية أوجز البنية المجرّدة؛ وجعل كلّ شيء ممكنا.. فالكائن الذي أولده في النصّ الأول، تراجع، وانفلت بشكل نهائي عن البنية الأولى، لكي يوصلنا الشاعر إلى اللانهاية من خلال قصيدته (كيس الحروف)، فاختفاء الكيس، يعني اختفاء الكتابة، لأن الكتابة واحدة من أصل 28 حرفا تواجدت في كيس الحروف، فأنهى كلّ شيء بنقطة.. حيث جعلها دلالة تدلنا على ذوبان الأشياء ونهاية استقرارها. إنّ قصيدة كيس الحروف أوجدت لنا عالمين.. عالم الأحلام التي نقلتنا بأريحية واستجابة مليئة بالحب.. والعالم الطبيعي الذي نعيشه مع الصراع الطبقي والصراع من أجل معيشة لها استقرارها.

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home